|
Re: من قصص وحكاوي كتاب محمود عبد العزيز مع سبقِ الإصرارِ والترصّد . (Re: حبيب نورة)
|
كانت أليزا ساحرةٌ تجمّل مساءات الخرطوم، أنيقةٌ وناشطة في مجالِ العمل العام، تعرّف عليها عمر في إحدى الوِرش التي كان تقيمها إحدى الجمعيات الخيرية، تحاورا، وأختلفا، وبعد ذلك تآلفت أرواحهما . دعاها لإحتساء فنجان قهوة في شارع النيل ليكملا ما أنقطع من حديث . كان صوت محمود عبد العزيز هو الشاهد الوحيد على هذا التلاقِ _ والإنسانُ رابعهما . أليزا مهووسةٌ بمحمود ولا تقبل فيه كلمة، وعندما يغني ( في مدينة جوبا أرح ودينا ) كانت تنس نفسها وترقص على طريقة المجانين، على مسرحِ أغنياته أحبّت وبكت وضحكت، وعلى صداها تناست خيباتها العاطفية، ولم يكن قلبها يعرف سوى محمود . لم تكن تعترف بتلك السحابة القاتمة التي كانت تحجب شمس المستقبل، ولا تعترف بما يخطّط له السياسيون، كانت جنوبية تتحدّث العربية بلكنةِ حسناوات الخرطوم . تشاهدها كل صباح وهي تخرج من منزلها في أركويت وتأخذ الحافلة التي تقلّها إلى مقرِ عملها في قلب الخرطوم، كانت سعيدة ومقبلة على الحياة، تضع السماعة على أذنيها لتنس الضجيج والصراخ وكل شئ إلا محمود . ولكن !! تمّ التصويت على الإنفصال وكان ينبغي عليها أن تغادر مدينتها التي ولدت فيها قبل عشرين عاماً ونيِف، لم تكن تفهم لِمَ ! . ولكن يجب عليها أن تبدأ في الإعداد النفسي لهذه الرحلة الطويلة _ رحلة اللاعودة . لم تكن تحسّ بغربةٍ في الخرطوم، وشأنها كشأن بنتٍ من الشمال، لا تجيد إلا العربية، وقليلٌ من الإنجليزية، ولم تتحدث لغة أجدادها في حياتها، ولا تفهم إلا بعض الكلمات . والآن ينبغي عليها أن تعدُّ العدّة لهذه الغربة القادمة _ غربة الجسد واللغة والذات . ستترك أصدقاءها وصديقاتها وتبدأ في الترتيب لصداقاتٍ جديدة . ورحلت أليزا بعد أن أرتحل معها كل الجنوب . ودّعها عمر وأمل وفاطمة وعم علي الخفير الذي كان يبكي في صمتٍ على فراقها، لم يعد هنالك سوى الدموع . كانوا يبكون على مآسٍ لم يصنعوها . هاتفتهم منذ وصولها إلى مطار جوبا، ولم تنقطع إتصالاتها حتى الآن . كانت دائماً ما تكون مرِحة مُفعمة بالفرح والذكريات والمواقف والألم _ ألمُ فراق الأصدقاء القسري كان ما يشغل بالها . لماذا يبتعد الأصدقاء دوماً ؟ . في يومٍ بائسٍ دميم، رنّ هاتف عمر، لم يجب عندما عرف أنها أليزا، فهاتفت أمل التي لم تجب أيضاً، فعاودت الإتصال مرة أخرى، وبعد عدة محاولات أتاها صوت عمر من الجانب الآخر، كئيباً كسيراً مثقلاً بالأحزان . أرتجّ قلب أليزا بين ضلوعها وكاد أن يغمى عليها : في شنو يا عمر ؟ النيت مقطوع ليه تلاتة يوم، وعايزة أعرف أخبار محمود . لم يجب . صمتٌ ثقيلٌ موحشٌ . لم تخرج الكلمات من لسان عمر، أليزا في المدينة البعيدة خائفة وجِلة، وعمر لم يغادر كهف صمته بعد، أليزا شعرت بأن الأمور لا تسير على ما يرام، ولكنها لم تزل تتشبّث بالأمل، فهي لن تصدّق، كيف تصدّق ؟ هي تعرف شئٌ واحدٌ _ الحوت لا يموت . وأخيراً غالب عمر دموعه، وخرج صوته محشرجاً ميّتاً مؤلماً : ( الوداع يا نشوة الروح الوداع ) . مضت برهة من الصمت الكامل . وبعد قليل دوت صرخةٌ هائلة يصمّ صداها الآذان _ وأنقطع الخط . لم تزل أليزا تتذكر وقع هذا الخبر المؤلم، برغم مرور كل هذه الأيام، لم يستطيع أحد أن يقنعها بأن تخلع هذا اللون الأسود الذي ترتديه حداداً على محمود . شكراً أليزا ( الأسود يليقُ بكِ ) . شكراً
|
|
|
|
|
|
|
|
|