جلال الدين داود كما هو واضح فإنني أكتب إسم المدينة هكذا : ( أتبرا ) بينما يكتبها البعض ( عطبرة ). و لكنني منذ بواكير أيامي في هذه المدينة الشامخة ، لم أسمع إسمها منطوقا بغير ( أتبرا ) .. سمعت بهذه التسمية من والدي يرحمه الله و من زملائه بورش أتبرا و المحطة العتيقة العريقة و سوقها الكبير وسوق القيقر .. و سمعت الإسم من سكان الأحياء القديمة في ( القيقر ) و ( السودنة ) و ( أمبكول ) و ( زقلونا ) و محطة ( حاج الريح ) و من سكان ( الداخلة ) .. و حتى من سكان القرى المتاخمة ( أم الطيور و العكد و كنور و الطليح وصولاً لدامر المجذوب و التميراب ). يقول البعض أن أصل الكلمة ( أتى براه ). و لكن لا يُعْقل أن يكون الإسم مكون من كلمتين ( الأولى فصحى و الثانية عامية ) .. فالأجدر أن يكون الإسم ( أتى وحده ) .. أو ( جا براهُ ) ... الموسوعة البريطانية تقول أن النهر الأتبراوي يُطلق عليه عند إنعتاقه من البحيرة في مرتفعات إثيوبيا نهر سيتيت ونهر آخر إسمه ( أنقريب ) .. Angareb and Satīt (Takazē) ) لم أجد تفسيراً للكلمة غير إلصاقها قسراً بكلمة ( التتبير ) .. لأن النهر قديما يقال أنه كان ينثر على شاطئيه رملاً مخلوطاً بنترات الذهب الذي كان البعض ( يغربلونه ) لإستخراج ذرات الأصفر الرنان كما كان عليه الحال في أمريكا عند بداياتها ( How the west was won ) و لكن بداوة السكان الأوائل و الحياة الرعوية التي تأصلتْ فيهم جعلتهم ينشغلون عن مجاراة النهر في سخائه و أنكفأوا يغلبهم طبعهم الذي تسوده القناعة.. و ربما كان العنقريب أخذ إسمه من هذا النهر و أتى به الأثيوبيون عندما كانت مملكة أكسوم ممتدة من البحر الأحمر حتى تخوم موريتانيا. ليس هذا هو بيت القصيد ... فالأسم له دلالات نبعتْ من سكان هذه المدينة الباسلة. هذه المدينة الوطن. مدينة جسّدتْ معنى السودان الواحد ... و البيت الواحد . مدينة ذابت فيها كل الأعراق فأندلقت من بوتقته ملحمة لوَّنتْ صفحاتها بلون النيل و طمْيه فأنعكس على أرواح سكان المدينة و تحكّمتْ في بشرتهم.
صور كثيرة كانت تعج بها عطبرة ، تصلح أن تكون بوسترات على شوارع ( الهاى ويي HighWay ) و كملصقات في قلب المدن الكبيرة ، و مانشيتات يومية للصحف و المجلات ، و بعض صورها الحياتية كان سينافس ( أجعص ) فيديو كليب لفناني (الراي) و البوب و كل هؤلاء الفتيات المتلولوات كالصارقيل المتخندق في جداول جناين السودنة تحت أشجار الزونيا و العوير و ورد الحمير. كل منحى من مناحي الحياة في تلكم المدينة كان يذخر بإيقاع صاخب و ينبض بالحياة التي تغذي شرايين السودان بأريحية لا مَنٌ فيها و لا أذى. الساسة المحنكون ، و العمال بألوانهم السياسية ، و النقابيون المتمرسون ، و المعلمون من الرعيل الأول و الثاني ، و الأطباء الجهابذة ، و التجار ذوى الأريحية ، كل هؤلاء كانوا يزحمون المدينة بإيقاع متفرد ، لا تحس فيه بالبرجوازي أو السندكالي أو التكنوقراطي أو الأغبش.
أن تكون من أبناء عطبرة ، هو إحساس بالإنتماء إلى جيل النضال. أن تعيش في أي حى من أحياء أتبرة ، فهو شعور بأنك تتحدث بكل لهجات السودان. حلفاويين ، و سكوت و محس و دناقلة و شوايقة و رباطاب و جعليين و تعايشة و نوبة و فور و جنوبيين و بجا. فتحنا أعيننا على هذا الزخم المعجون بحب المدينة الوطن. تستقبل القطارات منذ أن كانت القطارات تنفث دخانها ، من الجنوب و الشمال و الشرق ، و ترتاح على صدرها ، لتنفثه مرة أخرى منطلقة في كل الإتجاهات. توقيت تضبط به ساعة يدك ، و نظافة يندر أن نجدها الآن. تستقبل نسمات الفجر الأولى بصفارات نداءها للعمال ، الذين يأتون من فجاجها العميقة على ( عجلاتهم ) ماركة ( الرالي ) من دكان الطير الأبيض و المشتراة بالتقسيط المريح. فتبتلعهم ورشة المرمة و العمرة في جوفها ، يعملون في تناغم و صمت لا يرفعون روؤسهم حتى إنطلاقة الصفارة التي تؤذن بإنتهاء العمل ، فيخرجون منطلقين في إتجاهات المدينة ، ثم تهدأ المدينة ، و تعاود زخمها مع العصريات ، فتمتليء ميادين الدافوري و كرة الشراب ، و تمتليء ميادين الأميرية و عطبرة الحكومية ، و يلعلع الراديو في نادي الأمل و الشاطيء و الأمير و النسر ، و يلعب معك الكوشتينة بكل تواضع كباتن أمثال اللبودي و عبد الله موسى و شوقي عبد العزيز و البربري . و في المساء ، تنساب عبر المايكروفونات أصوات حسن خليفة العطبراوي و فرقة دانا ، و أحيانا تحملها الرياح بعيدة ، لتأتيك أصوات المدائح و النوبة ، لتمضي و تسمع أصوات زغاريد يحملها لك النيل عبر صفحته الرقراقة من أم الطيور غرب النيل. و رغم حواديت أبو جنزير ، لم تنفك المدينة تتسامر في بار ساكوتلس ، و قهوة ود البيه و السينما الوطنية و الجمهورية. مع أولى نسمات الخريف ، تتعانق رائحة الورش مع الكتاحة الطوكرية التي لا تبخل على عطبرة بهذا العطر الملون ، فكنا صغارا نصحو و نحن نسخر من بعضنا البعض بسبب قناع الوجه المعمول بالكتاحة قسرا ليلا و نحن نيام. السباحة في النيل كانت من الممنوعات ، و لكن كنا نتحايل على الأهل بالذهاب بعيدا للسباحة في الأتبراوي ، ثم أهدتنا المدينة حوض سباحة كفانا شر مشوار يومي للنهر العنيد. الأبرول الأزرق ، و الجلابية أم لياقة ، و البنطلون الكاكي و القميص الأبيض ، و السروال و الصديري ، و العجلة و الفورد و الأوبل و اللاندروفر ، و السودنة و القيقر ، و زقلونا و أم بكول و الداخلة و شارع الرى ، و الفكي مدني و الحصايا ، و محطة حاج الريح و البولمنات ، و حسن خليفة و محمد عوارة ، و محمد المهدي الحاكم العسكري و محمد الحسن عبد الله ، و طلسم ناظر الحكومية و حريقة ناظر الصناعية ، و محمود أمين ناظر الثانوية و الوجيه حسن عربي و المقرن و المكتبة القبطية و مدارس الأقباط و الكمبوني و الأب روفائيلو. دبورة و قرناص و مصنع الأسمنت و ميدان المولد و صالح عبد الله صاحب أول بوتيك في عطبرة و محطة السكة حديد و حى العمال و المسكيت و العمدة السرور السافلاوي و دار الرياضة و المدرسة الأمريكية الأنجيلية و روضتها. إختار من شئت إن كنت من عطبرة ، فكل إسم من هذا سيذكرك بشيء ، ربما قد خانتني الذاكرة عن ذكر بعض الأعلام ، و لكن قصدت أن أستفز ذاكرة أهل عطبرة . كنا نتوغل قليلا في حى آخر ، حتى يبتدرنا أحد الرجال بأسماءنا و يسألنا لماذا نحن هنا. الكل يعرف الكل ، أسرة متماسكة. تجد في بار ساكوتلس المهندس و الطبيب و العامل و المعلم و التاجر ، يرتشفون كاسات مترعة من المنكر ، الشري أبو رحط و أبو كديس و أبو الزفت ، ثم أتى بعد إندثار موجة الشري العرقي أبو حمار. و تتوثق عرى الصداقة في الإندايات ، و لهم فيها مآرب أخرى ، فكل خرفان العيد للزبائن من ستات الإندايات ، مدعومة بالمشق ، مما يجعلها مكتنزة شحما يبشر برزق وفير من شحم الكركار و لحم الربيت. كثيرة هي الأسماء التي تغيرت ، فالمنضرة صارت الديوان ، ثم الصالون ، ثم هول. و العيدية التي كنا ننتظرها من الأهل و الجيران إنكمشت حتى إنعدمت. تذكرني الآن المطارات بعطبرة ، رغم البون الشاسع و المقارنة التي لا مجال لها ، و لكن وجه الشبه هو في نقطة إلتقاء القطارات من الخرطوم و بورتسودان و حلفا و كريمة ، كلها تلتقي في عطبرة ، مركز للصيانة و تبديل السائقين و العطشجية و بوليس السكة حديد ، ثم طاقم الإستناتور ( البوفيه ) و تغيير رأس القطار البخاري و التأكد من صلاحية عربات الركاب و تغيير الكمسارية و المفتش. كل هذه تذكرني بها المطارات. لم نسمع يوما عن قطار تأخر عن موعده. حتى التأخير المنسوب لقطر كريمة كان بسبب شفقته على كل الركاب في المحطات الكبيرة و الصغيرة و السندات ، حيث يقف لينزل هذا و يركب ذاك و يشحن عفش هذا و ينزل عفش ذاك ( حنين كأهلنا الشوايقة ) ، ثم يواصل رحلته الطويلة ليعرج مع إلتواء النيل حتى مروي العظيمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة