الحنجرة الذهبية...عبد العزيز محمد داؤود...( أبوداؤود)

Quote: عبد العزيز محمد داود إمبراطور الطرب وعملاق الأداء ورقـة عمل بمناسبة الذكري العشرين لرحيله مقدمة من عادل الصديق محمد أحمد منتدى السودان الثقافـي جدة 11 أغسطس 2003م يعتبر الفنان عبدالعزيز محمد داود من الجيل الذي ساهم – بل من المؤسسين الرواد – في نقل إرث الحقيبة بكل ما يحمله من أصالة، من القالب النمطي المعروف الذي يتعمد الكورس في المصاحبة، إلى قالب المصاحبة الأوركسترالية . كان عليه رحمة الله يتمتع بقدر عالٍ من الذكاء الوقاد، والبديهة الحاضرة، وروح السخرية المرحة، التي تجعل لديه القدرة على قلب المواقف0 كما كان يمثل الشخصية السودانية في تلك الحقبة بكل ما تحمله من شهامة وصفات نبيلة، وقد ساعده ذلك الذكاء وتلك الروح المرحه في الولوج إلى قلوب الناس على تنوع قبائلهم، فالتف حوله الجميع .. في زمن كان يسود فيه الإنحياز القبلي والتعصب العرقي .. ذلك الموروث الإستعماري بكل ما فيه من قبح .. كان من الممكن لغير أبوادوؤد أن يتهاوى وينهار ونكون قد فقدنا فرصة الفوز بهذا الصوت العبقري والأداء الرائع. ولكنه صمد وناضل في وجه ذلك المد بنفس أبية وقلب أخضر متسامح وإصرار على إيصال رسالة الفنان وأداء الواجب تجاه الموهبة التي حباه بها الخالق . هذا الكفاح وهذا الصمود يعتبران من بطولات عبدالعزيز حيث أنه ساهم في تثبيت وتعميم هذه الموهبة الفذة التي كما قلنا أسست لنقلة كبيرة في مسيرة الأغنية السودانية قالباً وشكلاً ومستوى . ولاننسى موقفه الشهير عندما وقع في خصومة مع أحد الشوايقة حملتهم إلى مركز البوليس ووجد أن المحقق شايقي وضابط المخفر شايقي .. سؤل عن إسمه فأجاب .. وعن قبيلته فسارع قائلاً " أنا عب شايقية " تفادياً للتحامل عليه فكان موقفاً ينم عن ذكاء وسرعة بديهة . كذلك موقفه في نيجيريا التي ذهب إليها برفقة الفنانة عائشة الفلاتية وإبراهيم الكاشف لإحياء حفلات ، وقد لاحظ أن حفلات الفلاتية تكون غاصة بالجمهور بينما يكون المسرح خاوياً أثناء وصلاته الغنائية ، عندها طلب من متعهد الحفلات أن يبدل إسمه في حملات الدعاية من " عبدالعزيز داود " إلى "عبدالعزيز التكروني" لإستقطاب الجمهور النجيري المتعصب لعرقيته بغرض مضاهاة النجـاح الذي حققته عائشة الفلاتية فكان أن حقق نجاحاً ليس أدل عليه من نفاذ التذاكر قبل يومين من الحفل . وغيرها من المواقف التي تدلل على الذكاء الحاد وإهتمامه بقراءة مستمعيه واستقراء ما يرغبونه وما يخاطب مشاعرهم .. وهذا يعتبر نوعاً من الإلتزام الفني تجاه المستمع الذي يعتبر المساهم الأول في الإرتقاء أو الإنحدار بمستوى الفن وهو موضوع قد نفرد له الحديث في مجال آخر . إن المتتبع لفن أبي داود يمكن أن يلاحظ أنه خلال مسيرته الفنية قد مر بعدة مراحل ففي بداياته الأولى كان يتغنى بالحقيبة الصرفة – وانتقل إلى نوع جديد من الغناء الخفيف الذي يعتمد التلوين الصوتي والتطريب العالي بجانب الكلمة الملتزمة التي تغوص في المعاني السامية والعميقة وتمجيد المحبوبة .. أماً وأختاً ورفيقة. تأثر بتيار الرمزية الذي كان سائداً في فترة الإستعمار وتغنى بأغنيات خالدة حملت معاني خفية لتمجيد الوطن وبث روح الكفاح والمقاومة من خلال مخاطبة المحبوبة من أشهرها أغنية فلق الصباح التي أعطاها بعداً جديداً من خلال أدائه لها. وفي مرحلة متقدمة من مسيرته تناول الكلمة العربية الفصحى من خلال السلم الخماسي وقد نجح أيما نجاح ( عروس الروض .. أجراس المعبد .. ورائعة الخليل نسمات الشمال .. .... إلخ . ومن العوامل التي ساعدت "أبو داود" على الريادة في تناول الكلمة الفصيحة والتفوق فيها تجويده للقرآن الكريم بحكم النشأة الدينية والصوفية التي نشأ فيها ، فقد كانت مدينة بربر التي ترعرع فيها مركز الطريقة القادرية بالسـودان .. وغربهـا في كدباس كان يقيم الشيخ الجعلي شيخ الطريقة القادرية، وفي هذا الوسط نشأ عليه رحمة الله متشبعاً ومشاركاً .. قارئاً ومنشداً .. ولاشك أن لذلك أكبر الأثر في تهذيب مخارج الحروف عنده فضلاً عن أن إجادته لفن المديح وتشبعه به أضافت بعداً روحانياً على طريقته الفذة في الأداء وأسلوبه التطريبي ورخامة صوته .. كما أن إحتكاكه وملازمته لرجال أفذاذ في مجال الأدب أمثال الشاعر الفذ سيد عبدالعزيز ورصيفه صالح عبد السيد أبو صلاح والعبادي وعتيق .. وفيما بعد الأديب الراحـل البروفيسور على المك والراحل خالد الكد وغيرهم .. كان له الأثر في إثراء خلفيته الثقافية ووضعه في مستوى مسئولية وإلتزام بخط غنائي مشذب الأطراف والحدود . في هذا المجال لا بد أن أذكر أنني وحتى أمد قريب كنت لا أميل إلى ترديد أغنيات عبدالعزيز رغم أن إمكانياتي الصوتية قد تتيح لي ذلك .. وقد سئلت عن ذلك كثيراً وكانت إجابتي عن قناعة أن غناء عبدالعزيز داؤود هو غذاء أي مطرب ينشد النجاح في أعماله الخاصة .. ولكن تناوله يجب أن يكون عن طريق الإستماع الجيد والمتعمق والغوص في جماله ومحاولة شحن الروح الإبداعية من هذا المعين الثر. غناء أبو داود لا يجيده إلا أبوداود وأية محاولة لترديده مهما كانت ناجحة في التقليد فهي مجرد تطاول .. لشئ هام جداً وهو أن أبا داود يتغني بالكلمة وهو متشبع بها ، متعمق في معانيها ، ليس غناءً فقط وإنما مجموعة أحاسيس تتوحد صوتاً وكلمةً ولحناً وأداءً لتشكل طرباً مجسماً .. كائناً حياً .. ونشوة تعتمر الوجدان .. عبدالعزيز عندي من الغناء السوداني.. هو بمنزلة أم كلثوم من الغناء المصري .. قمة لا يدانيها سحاب ونجم لا يطاله شهاب... لذا فليتقاصر فني المتواضع عن محاولة الترديد وليكن إعجابي به وتبجيلي له دافعاً للنهل من نبعه الفني الفياض من خلال الإستماع له فقط .. أقصد الإستماع وليس السمع .. الإستماع التحليلي الذى هو مادة تدرس في معاهد الموسيقى ولها أصول وقواعد وتقاس الدرجات فيها بمدى الإستفادة الملموسة من خلال التفاعل الأكاديمي مع التحصيل العلمي تجاه المحصلة الإنتاجية تأليفاً وعزفاً وأداءً .. ذلك ما يجب أن يكون هو الهدف لكل من ينشد تطوير مقدراته في مجال فن الغناء مستفيداً من تجربة الأفذاذ من هم في مثل قامة عبدالعزيز داود وإبراهيم الكاشف . الرؤية الأكاديمية لفن عبدالعزيز محمد داؤود =========================== ان ظهور أبي داود كصوت باريتـون (من تصنيف الأصوات الرجالية الغليظـة) هو نوع من التحدي الذي واكب الصحوة الغنائية الموسيقية التي شملت أوروبا بعد فترة ما يسمى في تاريخ الموسيقى بـ عصر النهضة الثانية التي سادت فيها الأصوات الحادة والمائعة - حد التطرف - لدرجة ظهور فئة تسمى بالمغنيين الخصيان وهم فئة أصابها الهوس بحدة الأصوات وليونتها لدرجة أن الرجل منهم يطمس معالمه الذكورية ليرفع نسبة الهرمونات الأنثوية والتي بدورها تتسبب في الميوعة العامة ومن ضمنها ليونة الصوت وحدته .. لهذه الدرجة !! هذا المـد أو التوجه كان له بعض الأثر نسبياً في محيط الغناء في السودان (نقله المستعمر أيضاً) فظهرت فئة من المغنيين ذوي الحناجر النسائية - على المستوى الإعلامي - وغيرهم من المطربين المغمورين وفناني الحيرة والحواري .. وقد وجدت هذه الظواهر مقاومة شديدة من المجتمع وصلت حد التصفية الجسدية .. ولكن هذا لم يمنع قطاعاً كبيراً من أن يميل إليها وإن كان على إستحياء في بعض الأحيان . ظهر صوت مثل عبدالعزيز في خضم هذا الصراع ليكون المنقذ والملجأ لكثير من الباحثين عن الغناء الرصين الذي يعيد أمجاد كرومة وسرور .. فكان أن إلتف الناس حوله وكون جمهوراً عريضاً في فترة قياسية . ومن الطرائف التي تحكى في هذا المجال أن أبا داود لو كان أول ظهور له على شاشة التلفزيون لما وجد هذا القبول الجامح نسبة لسحنته الممعنة في السمرة وملامحه الضخمة التي لا تمت إلى الهيئة المتعارف عليها للمغني من رشاقة أو " شكل سياحي بتعبير بلدي " .. وحدث ذات مرة أن إحدى النساء في إحدى الحفلات كانت متشوقة – شأنها شأن الكثير من المعجبات من الجنس اللطيف – لرؤية عبد العزيز داود الذي ملأ صيته الأسماع .. فلما أطل عليهم قالت المرأة ( هو ياهو ده أبو داؤود ؟؟ أنا ما كنت قايلاهو أسود ! " .. وكان أن سمعها عبدالعزيز فرد عليها ببديهته الحاضرة " كنتي قايلاني بطاطس ؟؟ " هكذا كان يتعامل مع المواقف المحرجة محولاً إياها إلى طرفة وما أكثر طرائفه ... نقول .. إن صوت أبو داؤود القوي الطيع .. الذي هو أشبه باللدائن المستحدثة التي هي غاية في الصلابة وغاية في المرونة .. وفي نفس الوقت قابلة للتمدد والتشكيل والتلوين .. وأداءه المتمكن المنمق ، وتطريبه الراقي، وذوبانه في الكلمة والنغم .. كل هذه العوامل كانت شفيعه في القبول الجامح المنقطع النظير فضلاً عما ذكرنا من تعطش العامة إلى هذه الطبقة من الأصوات في ذلك الزمان . كان صوت عبد العزيز داود هو فاتحة الطريق لظهور عدد من المغنيين الذين ساروا على دربه والتزموا بمقاييسه ومواصفات فنه .. مجارين له تارة .. و منافسين تارة مما كان له الأثر في خلق نهضة غنائية وتيار صحوة أعاد للطرب أمجاده وللأغنية دورها الإجتماعي والمعنوي . تمتد المساحة الصوتية لصوت عبدالعزيز عبر ثلاث مناطق صوتية (حسب تصنيف الصوت البشري كصوت موسيقي) وهي الباص والباريتون والتينور- أول وهو بهذا التمدد يعتبر صوتاً متفرداً ، صاحب ذلك مقدرة عالية جداً على التطريب( Vibration ) والتنغيم والترنيم واستعمال المحسنات الصوتية من إفصاح وصدح وغنة .. هذا بجانب تحكمه التام بديناميكية الأداء من علو وانخفاض تدرجي ومفاجئ وتقطيع ووصل .. أو ما يعرف في المصطلحات الموسيقية بالـVocal Dynamics ومنها : كريشيندو (الإرتفاع التدريجي في الصوت) وديمينيندو (الإنخفاض التدريجي في الصوت) وفورتيسمو(النبر القوي للنغم) وبيانيسمو (النبرالهامس) وليغاتو (وصل النغم) وإستاكاتو(التنغيم المتقطع) وهي من محسنات النغم والتي تعتبر من المقومات الفاعلة في الأداء القياسي المؤثر . أيضاً إمتاز أبو داؤود باستخدام المرادفات اللغوية – حين الإعادة – لبعض من كلمات أغانيه .. والوقف الإيقاعي عند أجزاء بعض الكلمات مما يعطي الإيحاء بمعنى آخر لا يقل روعة عن التركيب الأصلي للقصيدة . لم تترك كل هذه الموهبة بضخامتها الهائلة لعبدالعزيز فرصة أن يتفرغ للتلحين أو الكتابة الشعرية أو إجادة العزف - رغم أنه لديه بعض المحاولات في التلحين - فهو لم يكن في حاجة إلى ذلك فقد توفرت له كل العوامل من شعر جيد إضافة إلى جل موروث الحقيبة الذي كان معشوقاً من خلال صوت أبي داود – إضافة إلى أن ملازمته لرفيق عمره العازف الماهر والملحن البارع برعي محمد دفع الله الذي كان يصاحبه بالعزف على العود بصورة دائمة .. شكل معه ثنائياً مبدعاً متناغماً لدرجة التوحد .. دون إغفال للأدوار والتخصصية كلٌ في مجاله .. هذا مغني مطرب .. وذاك عازف ملحن مما أتاح الفرصة لكليهما لإبراز موهبته من خلال الآخر وكل منهما كان يسابق رفيقه في التفوق والإبداع مما خلق منافسة داخلية شريفة وبريئة ساهمت في الإرتقاء بصحة وعافية المولود الفني لهما وأصبحت معه أعمالهما الفنية نماذجاً وإرثاً غنائياً سودانياً خالصاً وأعلاماً إبداعية ترتفع عالية تشق عنان السماء شموخاً وعطراً وعواطفاً جياشة. هذا قليل من كثير يمكن التحدث فيه عن هذا العملاق الراحل المقيم .. ولا شك أن معلوماتي المتواضعة هي أقل بكثير ممن عرفوا أبا داود عن قرب وأتاح لهم الزمان معايشة هذا المبدع لفترات زمنية أحسبها أشبه بدرر الأيام . وقد أتيحت لي فرصة لقائه في مهرجان تكريم الراحل إبراهيم الكاشف في مسرح الجزيرة بواد مدني .. وكنت حينها ضمن كورال طلبة معهد الموسيقى المشاركين في المهرجان .. وكان موقفاً مهيباً بث في نفسي الفرح بلقائه ومخاطبته والإستماع إلى نصائحه التي غالباً ما تأتي في قالب دعابي محبب إلى الكل . وأذكر هنا في هذا الإطار أنه سبق وأن داعب الراحل إبراهيم موسى أبّا – وكان حينها متقدماً لإجازة صوته من لجنة الأصوات والنصوص – قائلاً " يا غرباوي يابن الذّين .. نحن قعدنا في الإذاعة دي لما صلّعنا ما وصلنا لي نتيجة .. إنت جايينا مصلّع عايز تصل لي شنو؟؟ " وكان في هذا إشارة إلى إجحاف إدارة الأجهزة الإعلامية والقائمين على وزارة الإعلام وتقصيرهم في تقييم الفنانين الرواد .. وأحسب أن أبا داود لم يصب ثراءً من فنه الراقي المميز .. وكانت ثروته التي كونها هي حب الناس وتقديرهم له على المستويين الرسمي والشعبي دون أن يترجم ذلك إلى إستثمار مادي حقيقي لموهبته بالمفهوم التجاري .. إستثماراً يكون عائده سنداً لأسرته التي كثيراً ما حرمت منه بسبب مشاركاته العديدة خارج العاصمة دون أن يكون لهذا الحرمان التعويض الذي يناسبه ويخفف منه . رحم الله أبا داود بقدر ما قدم لفنه ولوطنه - فقد كان علماً ونجماً .. وسودانياً أصيلاً ( ود بلد .. وفنجري ) دخل تاريخ السودان الثقافي الحديث من أوسـع أبوابه .. وسطر إسمه في سجل المبدعين بأحرفٍ من نور ... بأحرفٍ من نور . ******** عادل الصديق محمد أحمد * جدة – 11/8/2003م