الحزن فى الاغنية السودانية -الجزء الاول - الدموع التى تبلل اغانى الحقيبة وتطفئ نار العشاق

Quote: كان الليل قد تجاوز منتصفه حينما انتهيت من قراءتي لرواية ( طيور الشوك ) للكاتبة الأسترالية كولين مكلو ، فارتميت على سريري قرب الشباك ، أصيخ السمع إلى مطر الصيف الهادر ، الصاخب ، المتقطع ، و أنا أدقق في كلمات الاقتباس الواردة في الصفحة الأولى من الرواية ذات الأجزاء الثلاثة ، الذي اعتمدته الكاتبة كعنوان لروايتها من أسطورة قديمة ، التي تقول : ( أن هناك عصفورا يغني مرة واحدة في حياته ، و غناءه أعذب من غناء كل مخلوقات الأرض . فمنذ اللحظة التي يهجر فيها عشه ، يطير باحثا عن غصن شائك و لا يرتاح حتى يجده ، عندئذ يغرز في صدره أحد شوكة و أكثرها طولا و هو يتابع غناءه بين الأغصان الوحشية .و إذ هو يلفظ أنفاسه يرتفع فوق ننزعة في غناء يفوق شدو السنونو و الشحرور روعة .أغنية فائقة ثمنها الحياة .و يجمد الكون ليسمعه ، و يبتسم الله في سمواته ، لأن الأفضل لا يبلغ إلا بألم كبير …أو هذا على الأقل ما تقوله الأسطورة ) .غطيت وجهي بالكتاب ، و أنا لا أعرف كيف أنجو من أساطير انتحار الطيور التي ملئت ذهني بالارتباك ، و أنا أحاول أن أجد معنى لذلك ، و الغاية التي تربط الكائن الحي بين الحياة و الموت ، خاصة و أن الأمر يتعلق بالطيور التي تجلب البهجة للإنسان في تغريدها ، و كمال شكلها ، و زهو ألوانها ، فلم أكن استوعب هذه الأساطير إلا من باب الفهم الرمزي ، الذي يربط الكائن الجميل بالطبيعة ، فأطلقت العنان لذهني أن يجول في عالم الطيور ، و يكتشف أسرارها ، و عذوبة ألحانها ، و يسرح في بساتين ، و حدائق ، و غابات ، و واحات ، ، و فسحات بيوت مزهوة بالأشجار ، ثم رحت استعرض أشياء كثيرة ، و استنبط ما قرأته عن طائر التم الذي يلقب بطائر الأشجان ، طائر الموت ، التم التعيس ، أو طائر الترقب و التوجس ، و هو طائر جميل ، أبيض اللون ، أحمر المنقار ، طويل العنق ، و قد قيل عنه ، أن له حويصلة كبيرة ، و هو طائر ماء شبيه بالإوز أطول منه عنقا كما ورد في المنجد ، و البعض يحاول أن يؤكد أنه الإوز ، التم ، البجع ، و يسمى طائر الفردوس ، و أسطورته ، تقول : ( أنه يحلق إلى أعلى بقدر ما يستطيع ، ثم يطلق أحلى أغنياته أو بالأحرى يغني أغنيته الأخيرة الحزينة قبيل انتحاره ، ثم يسقط ميتا ، و هو في الفضاء ) . نهضت من سريري ، و وضعت الكتاب على الطاولة ، و ذهني يتابع عالم الطيور العجيب ، ثم وقفت قرب الشباك ، إذ صار الطقس هادئا ، رقيقا ، رائعا ، دافئا ، و أنا أتأمل ألق السماء الأزرق الرائق ، أتأمل نجومها التي انسلت خافتة ببريقها من خلف سحب تلاشت في لحظة ساحرة ، إذ كان صمت شامل يلفني ، و يدهش عيني نجم خر إلى الأرض من السماء البعيدة ، ناثرا ضياءه على وجه الدنيا ، كنت أيضا أتأمل بياض الملك البهي ، الساطع الذي شرع يفصلني عن عالم نوراني بهيج ، و يقودني إلى طائر الجميل ، ففي صيف عام 1982 تسللت مفرزتنا ليلا إلى قرية مهجورة قرب باكرمان ، تطل على سهل يمتد إلى عقرة متجاوزة خفية ربايا الحكومة ، فاستقرينا في واديها الذي يشقه جدول صغير ، تنتشر على جانبيه أشجار الفواكه .تمددنا على الأرض متعبين ، مرهقين ، بعد أن نظمنا الحراسات على سفح الجبل ، و منافذ القرية خشية من هجوم مباغت من الجيش ، أما أنا فوضعت ( عليجتي ) تحت رأسي مطروحا على أوراق صنوبر التي جمعتها من أشجارها ، مأخوذا بجلالة القمر المهيب ، المتألق في السماء الزرقاء ، منسرحا إلى وجوه أهل القرية الحزينة ، و عيونهم الباكية على بيوتهم التي شيدوها بالطين و الحجر و جذوع الأشجار ، و هم يرونها تنهار ، و تداس بآلة الحرب الشرسة ، و يطردون عنها عنوة بقوة سلاح الدكتاتورية ، كنت أخاطب نفسي : ( إنهم سيعودن يوما إلى بيوتهم فرحين ) ، هكذا كنت أشعر بالفخر لوجودي في القرية ، و أغفو هادئا على الأرض ، و نسيم الوادي وجهي . أنهضني من نومي في صباح باكر صياح ديك ، و هو يصفق بجناحيه ، كنت أتصور في بادئ الأمر أن أهل القرية قد عادوا إليها ، فرفعت جسمي قليلا ، و أنا أتلفت ، لم أر سوى البيشمركة لا زالوا نائمين ، أيقنت أنني كنت أحلم ، لكن راودني سؤال : ( من أين جاء هذا الديك إلى قرية هجر أهلها ، و خربت بيوتها ؟! ) ، فكان صوته يتردد في الوادي ، و يختلط مع أصوات تغريد ، و رنين ، و سجع ، و هديل طيور ، و خرير الجدول ، خالقة جلبة الصباح المنعش ، كانت تلك لحظة متوحدة مع أزهى الألوان : حمرة الصباح ، خضرة الأشجار ، زرقة الجدول ، رمادية صخور البيوت ، صفرة الأعشاب ، سواد عيون الفراشات ، سواد صراصر الأشجار ، الفسفورية العيون في ظلام الليل . كان كل شئ هادئا في صمت الأرض الأبدي ، فلا لعلعة رصاص ، و لا هدير طائرات ، و لا انفجار قنابل ، و لم يباغتنا الجيش ، فكنت أراقب الأشياء ، و أمتع عيني بشجرة توت التي تتدلى منها ثمار التين الناضجة ، و على حين غرة حط طائر جميل على غصن الشجرة ، و راح يشدو لحنا رائعا ، كان صغير الحجم يشبه العصفور ، رقيق المنقار ، طويل ، أسود الذنب ، أسود الجناحين ، مختلطا بالبياض ، أبيض الصدر ، و على رأسه ريشتان صغيرتان ، منتصبتان ، كان يواصل غنائه ، و يصفق بجناحيه بنشاط ، و يهز رأسه بمرح ، و يقفز برشاقة ليرقص في الهواء تحت ثمرة التين ، و ينقرها ، و يتغذى منها ، ثم يعود إلى الغصن ، و يتابع غنائه منتشيا ، مرحا ، و قد استمر يرقص تحت ثمرة التين ، و يقفز إلى غصنها ، و يغني ، حتى طار ، و اصطدم بجذع شجرة صفصاف ، و سقط على الأرض دون حراك ، فأسرعت إليه ، وجدته مرتعشا ، موصوصا ، ثم همد فارشا جناحيه الصغيرين على الأرض . أوصدت الشباك ، و عدت إلى سريري مكتئبا ، لأغفو في عباءة الليل ، و أغوص في لغز الطبيعة ، و لغز أساطير الطيور المنتحرة ، إلا أن الاكتئاب قد غادرني حينما تذكرت أن أهل القرية قد عادوا إلى بيوتهم ، و شرعوا حياة جديدة آمنة بعد أن انهارت الدكتاتورية في كردستان .