كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وتحرك البص وئيداً متمهلاً في سيره والكل مشدود إلى مقعده إما ينظر أمامه أو يتابع من خلال نوافذ البص يميناً أو يساراً، في حين أخذت أنا أتفحص في هذه الوجوه السمراء التي غبت عنها زمناً طويلاً في بلاد الله أتنقل من مكان إلى مكان وأقابل أناساً لهم سحنات ريانه مليئة بالحياة المتدفقة فأخذت دون ترتيب أقارن بين أولئك الناس وهؤلاء الذين أراهم في هذا البص فأحس بفارق كبير بين من يصنع الحياة وعمارتها وبين من يقف على هامشها متفرجاً بلا دور يذكر فأحس بألم يعتصر قلبي.. هذه الوجوه الصامتة الضامرة متى تعي أن وجودها أعظم من أن تقف متفرجة من مولدها وحتى مماتها دون أن يكون لها دور.. أنظر إلى ذلك الرجل ذي العمامة الكبيرة المتسخة مع نظراته الفضولية البلهاء فاحس أن الزمن عند أمثاله لا يعني شيئاً ذا بال وإنما يستهلك في التحديق في الناس وملاحقتهم بعيون متطفلة وبعقل خاو ووجدان أكثر خواءً فلا يعي معنى لحياته.. جاءها جاهلاً وسيخرج منها فارغ الفؤاد.. انتظم البص في سرعته وزاد منها بعد أن خرج من الخرطوم بحري وأخذ الطريق العام.. اهتزازاته الخفيفة الرتيبة بدت كأنها تهدهد النفوس وتدفعك للظن بأنها قد غفيت لولا حركة الرؤوس والأيادي.. لاحظت أن الركاب كلهم ساهمون في دنيا ذواتهم لا يتكلمون مع بعضهم.. حتى أولئك الذين ظننت أن لهم علاقة ما تربطهم لا أجدهم يتحدثون معاً.. فهذا الجفاء لم أكن أعهده في هؤلاء الناس الذين لا يجدون دفء الحياة إلا في بعضهم.. لعل هذا ما افتقدته في الغربة فعدت أنشده في هؤلاء البشر البسطاء ولكن البص رغم سرعته المريحة وجوه الاصطناعي البارد الذي يتناقض تماما مع جو الخارج اللافح إلا أن ذلك لم يعد مستساغاً عندي.. فأحسست بالملل.. وسرحت الذاكرة في أيام مضت من أيام السكة حديد وعنفوانها وقطاراتها التي كانت تجوب البلاد طولاً وعرضاً.. وتذكرت (الاكسبرس) ثم (مشترك) بور تسودان وكريمة وزحمة الناس في هذه القطارات.. تبدأ القصة بعراك في درجات القطار الثانية والثالثة والرابعة بل بعضها قد يكون أحياناً في الأولى والنوم.. وينتهي هذا العراك إلى نوع من التسوية الودية في قبول الأخر بطريقة غير مباشرة وفيها الكثير من الصبر واللامبالاة وتجاوز المخالفات في الحالات التي كان يجب أن يتم فيه الحجز.. ثم يتحرك القطار وتبدأ النفوس في الهدوء ثم الانشراح ثم (الونسة) والضحكات العالية وينتهي الأمر بالمشاركة في تناول وجبات الفطور والغداء والعشاء من (الزوادات) التي في الكراتين فتكفي الكل مهما كان العدد.. وتنشأ مودة وحميمية بين الركاب.. ويعالجون طول المسافات بدفء المشاركة فيصبح السفر بالقطار ممتعاً.. أما هذا البص فرغم راحته وسرعته إلا أن المسافة التي قطعها في زمن وجيز كانت مملة خالية من دفء وجداني خلقته قطارات السكة حديد يوماً.. تجاوزنا محطات ومحطات أعرفها جميعاً.. فهي كما هي لم يتغير فيها شيء ولم يلحقها التطور وإنما على العكس تراجعت إلى الوراء واضمحلت وباتت خاوية حتى من الكلاب الضالة.. أشجار النيم الضخمة اليانعة ماتت يبس عودها وتساقطت أطرافها وتحجرت سيقانها. (القطاطي) ذات الطابع المميز نال منها الزمن والإهمال، فتهدمت من أعلى ومن أسفل ووقفت شاهدة على فشل حاضرها ونجاح ماضيها.. أشعر بحنين إلى ذلك الماضي وأنا على باب إحدى عربات القطار أو أطل من إحدى شبابيكها فارداً وجهي وصدري لريح مليء بالغبار يشتد كلما اشتد القطار في سرعته فأجد متعة بالغة وقد تغبر وجهي ورأسي وصدري وملابسي, ولا يهم لعل هذا كان جزءاً من متعة السفر بالقطار.. وعندما يتحرك القطار من الدامر متجهاً إلى عطبره أظل مسمراً في سلم العربة جسمي كله خارجها لأرى شركة الأسمنت وهي تتوسد منتصف المسافة بين عطبره والدامر.. ورغم أن منظر شركة أسمنت عطبره قد شاهدته آلاف المرات إلا أنه كان يبعث في مشاعر مليئة بالشوق والحنين إلى هذا المكان وإلى مدينة عطبره التي صارت على الأبواب وبدأ صهريج الماء الأسمنتي في تلك الربوة العالية جنوب الفكي مدني يعانق الأفق إعلاناً بأن عطبره قاب قوسين أو أدنى.. وما هي إلا دقائق معدودة حتى يدخل بنا القطار كوبري نهر عطبره فنفقد الحاجة لمتابعة الصهريج الأسمنتي جنوب حلة الفكي مدني.. ولهذا الصهريج قصة سمعتها من أحد كبار موظفي حسابات السكة حديد. قال لي هذا الصديق إن هذا الصهريج بناه مهندس مصري دخل في تحد مع مهندسين إنجليز اعترضوا على فكرته في أن الصهريج لا يمكن تشييده من الأسمنت والخرسانة وإنما من الحديد الصلب فقط ولكنه ناقش مقومات اعتراضهم ودلل على خطئها بمنطق نال استحسان الرؤساء الإنجليز فمنحوه فرصة إقامة مشروعه فكان هذا الصهريج العملاق الذي عن طريقه انتهت طلمبات الأبيار من عطبره وحلت محلها مواسير المياه في وقت كانت فيه كثير من الحواضر لا تعرفها..
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:35 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:37 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:39 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:41 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:43 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:44 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:46 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:48 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:49 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:51 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:53 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:54 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:56 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:57 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 12:59 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:01 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:02 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:03 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:05 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:06 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:09 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:11 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:12 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:13 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:15 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:17 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:19 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:21 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:23 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:24 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:25 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:26 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:28 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-22-05, 01:31 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 02-24-05, 03:09 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 03-18-05, 12:26 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | Amin Elsayed | 02-24-05, 04:23 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | Tumadir | 02-25-05, 06:35 AM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | AlRa7mabi | 02-25-05, 09:16 AM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | adel alsaed | 02-28-05, 02:11 AM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 03-18-05, 01:06 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | تراث | 03-22-05, 03:01 PM |
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد | صلاح الدين عبدالله محمد | 03-23-05, 03:20 AM |
|
|
|