الى الذين تسللوا الى جامعة فاس المغربية -نداء عاجل

Quote: عبد الله الطيب الشاعر الفلاح (3 – 3 ) ============================ أرشفة الكترونية (أحمد محي الدين) أتاحت لنا أشعار البروفيسور عبد الله الطيب ، رحمه الله ، الإشارة بإيجاز إلى بعض ما يمكن أن يكشف عنه علم اللغة الحديث، مما يتصل بالثقافة وباللهجات الاجتماعية والجغرافية. فالشاعر في كثير من أوصافه لجمال محبوبته يلفتنا إلى اختلاف القيم الجمالية عند أهل الريف والحضر، ويحضرني في هذا المقام كلام للجاحظ وصف فيه المرأة في كتاب له مجهول عنوانه ( النساء ) بأنها أجمل مخلوقات الكون في نص بالغ الدلالة فضلها فيه على الشمس ثم قال بعده ( .. ولكن الشاعر والواصف إذا أرادا القول في الجارية شبهوها بأحسن ما يجدونه، وقد شبهها بعضهم بالشمس وأن كانت بهية فأنها هي شيء واحد، وفي وجه الجارية الحسناء وخلقها ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب ). وهل عند الفلاح أجمل من النيل والريف وأحب من خضرواته وثماره وزروعه التي تعهدها بالرعاية والصبر حتى انشقت عنها قاع الأرض فانبتت من كل زوج بهيج..؟! كما يحضرني قول المادح حاج الماحي وهو يتغزل بجمال حوريات الجنة فيصفهن بأنهن ناهدات ولوجههن دائرة أجمل من البدر وتزيد، وهن لا يضفرن شعرهنّ ولا يمشطنها بهماد كما تفعل نساء الريف بل يتركنها مسبلة على قوامهن الفارع وتكاد أردافهن تقعد بهن لثقلها يقول: ننبشوبن نهد قايمات على المشهاد *** دارة وجوهن على القمر تتراد ما ضفرنو تسعة وما مشطن بهماد *** سابلات شعورن واكفالن قعاد وللشعراء فرط إعجاب بمن يعشقون، فما لنساء الحور والمشاط والمشهاد الذي هو خدمة المنزل عند نساء الريف، وأبى شاعرنا الفلاح إلا أن يجعل محبوبته من الحور العين وان كان شعرها قصيراً فوق الكتف فلا خير أن تجعلها مفاتن جسدها من زمرة حور الجنان، لأن الريف يعد جنة من جنات الأرض، ولو نظرنا في لغة الشاعر نجدها اللغة الفصحى الممتزجة بلغة أهل الريف الأصلية من غير نشاز في العمل الفني من حيث الجرس اللفظي والوزن الكلامي وذلك كما في بعض المسميات الريفية التي وقفنا عندها من قبل كما نجد في أسلوبه بعض الألفاظ التي أسقطتها الحضارة ولم تعد تستخدم عند أهل الريف مثل كلمة ( يُثر) في قوله: والليالي يخبأن ببعد الأعاجيب وربما القوى يثر. وهي كلمة عربية الأصول معناها يزحزح ومثل كلمة ( الوجع ) التي معناها الألم الشديد ولكن شاعرنا استخدمها بمعناها الريفي المحلي الذي هو ( الغيظ الشديد ) أو الغيرة الشديدة وذلك كقوله : وتبخترت بالخيلاء التي تزيد في قلب النساء الوجع . وقوله (كردفال ) يعني كردفان بالنون هكذا يقلب أهل الريف النون لاما كقوله: إني احبك يالميس محبة مثل الخريف ( بكردفال ) المعشب. وكذلك قوله في البرتقال يقول: وجميل ذلك الوادي وفيه ( البرتكان ) (( قلب اللام نونا )). وقد تدفعه سليقته الريفية إلى استخدام بعض المعاني غير العربية ألفاظاً عربية كما نجده في كلمة ( مزروقة) بمعنى مزلوقة وهي كلمة تعبر عن لغة أهل الريف السوداني لا الحضر، كما في قوله يصف الاساريع التي هي زمن أنواع اليرقات التي توجد في الزروع يقول: مثل الاساريع التي تنساب بين الرياض مزروقة ، وهكذا يمزج الشاعر بين لفته الشعرية الفصحى ولغة أهل الريف المحلية من غير تنافر في الأداء الفني، وربما يمكننا الزعم بأن المسميات المحلية والألفاظ الريفية التي مزجها الشاعر في لغته الفصحى لدليل على أن العربية قادرة على أن تستوعب الاجنبي في الألفاظ والمعاني استعارها العرب من لغات أجنبية مثل كلمة القنطار كما في الآية ( القناطير المقنطرة ). ومثل كلمة (الون) في قول الأعشى ( بالون يضرب لي يهز الاصبعا ) ولولا ضيق المساحة المتاحة لمثل هذه المقالات لتوسعنا، ولكن أحيل القاريء إلى كتابنا ( حياة عبد الله الطيب بين الريف والحضر ) الذي سيصدر قريباً إن شاء الله، وانك لتجد فيه ما يشبع فضولك عن حياة هذا الرجل الذي ملأ الدنيا بعلمه وفنه ولم يبق ما لقائل أن يزعن بأنه لا يصدر في فنه إلا من العصر الجاهلي ولغته، فقد رأيناه كيف يصدر في شعره عن حياة أهله الفلاحين وبيئتهم الريفية الأصلية، كان لسان حاله يقول: (( على الشباب السوداني اللاهث إلى حياة الحضر العصرية التي هي نتاج الثقافة الأوربية الحديثة أن يقتفي آثار أهل الريف قبل أن تعف عليها رمال الأيام وتضيع كثير في الذوات التي يمكن ان ينهض بها هذا السودان ويكون سلة غذاء العالم الكبيرة بحق وبها يحافظون على تراثهم وأصالتهم الحية التي معدنها الأصيل في حياة الريف لا الخضر))