الى الذين تسللوا الى جامعة فاس المغربية -نداء عاجل

Quote: شكرا أخي عمر على هذا البوح الأنيق الراقي.. استمتعت كثيرا بهذا السرد اللذيذ الذي يجمع الى جمال الأسلوب ورشاقة الكلمة ودقة العبارة وحسن التصوير، المعلومة الجغرافية والتاريخية النادرة، يقدمها في طبق من الذكريات الدفينة التي تثير فينا كوامن أيام لنا سلفت، ونوادر أصدقاء واخوة تفلتوا من جمعنا كما ينفلت طيف على الأهوال طراق على حد قول تأبط شرا، وأجمل ما استوقغني خلال هذا السرد الأدبي الرائع، تلك الاشارة الذكية الى مشتهيات النفس وغلبة الواقع، بين المطاعم الشعبية في السويقة والأسواق الشعبية الأخرى، والمحلات الراقية في شارع محمد الخامس ذات الكراسي الفخمة وثلاجات العرض الضخمة النظيفة، والثريات الكريستالية، ففي حين كانت الأسماك المقلية في المحلات الشعبية باسنانها البارزة الى الأمام مدخلا غير مشجع لنا في ذلكم الزمن، خاصة وكنا لم نتذوق بعد المعقودة والحريرة أو لم نستسغ طعم البقدونس المخلوط بالبصارة، فان رؤية الكباب المشوي في المحلات الفخمة كان مما يثير كوامن شهيتنا، وقد تجرأ صديقنا محمد نجم الدين في أول ايامنا بالرباط بالدخول الى أحد المطاعم الراقية والجلوس على طاولاتها ذات النقش المغربي الأصيل ليطلب أغلى ما يقدمه المطعم، فاذا بالنادل يرتدى بذلة فاخرة، قال صديقنا (ظننت في البداية أنه وزير الخارجية) وقدم له الطعام المغربي الفاخر في أوعية ذات مواقد تجعل الطعام فوقها يغلى باستمرار وما كاد ينتهي من وجبته الدسمة الا والنادل ذو البذلة الفخمة يقدم له الفاتورة في مغلف جلدي فاخر، وهنا وقف صاحبنا كالطود الشامخ قائلا (ما عندى حتى فرنك واحد وافعلوا ما شئتم فالآن وبعد هذه الوجبة النادرة أنا مستعد لتحمل كل شيء) وهنا نظر أصحاب المطعم الى بعضهم البعض، اسمعوه بعض الكلمات القبيحة ثم أطلقوا سراحه بعد أن تعهد لهم بدفع الفاتورة حين تتيسر الأحوال. وهذه الواقعة تذكرني بواقعة أخرى تتعلق بالتعامل مع المحلات الراقية، زميلتنا هند، كانت حين تعود من عطلتها في السودان تنزل في فندق فاس، وهو من أفخم الفنادق بالمدينة وكانت تقام فيه المؤتمرات الدولية وثمن اقامة يوم واحد فيه يفوق منحة عام كامل ، المهم زميلتنا كانت تقيم فيه فور وصولها الى المدينة لعدة أيام ، ثم تدعوننا اليه لنتناول كاسا من القهوة، بعد ذلك تعود الى الحي الجامعي بعد أن تكون قد تزودت بجرعات من الفخامة تكفيها لتحمل شظف الحي الجامعي. ولعل الأخ عمر غلام الله قدر له أن تكون بدايته ارستقراطية اذ صادف وصوله المسيرة الخضراء، فعاش أياما خضراء في أغادير ومراكش، وقدم لنا وصفا جميلا اشبه بالوصف الذي قدمته مليكة أفقير في روايتها (السجينة) في مقدمة كتابها حين تحدثت عن القصور الملكية وقبل ان ينقلب الحال لتعيش عشرين عاما في منفى وسط الصحراء المغربية وفي عزلة تامة عن دنيا البشر لتخرج بعدها بطريقة اسطورية، لكن الذي قدر له أن يعيش في المغرب، سيمر عليه ما وصفته من جحيم المنفى كشريط سينمائي وسيتوقف عند وصفها للحظة خروجها من السجن عبر نفق خددته وأخوتها لتعانق قطرات الندى الصباحية على الأعشاب البرية، وزخات المطر على مزارع الفول والرياح الشتوية الباردة التي تحمل عطر المندرين ونكهة البرتقال، بدايتنا نحن مع الرباط كانت معانقة حقيقية لحياة البوليتاريا، مع سندوتشات الزبدة في حي مولاى يعقوب على ساحل المحيط، لم نكن قد عرفنا الوجه الآخر من الحياة المخملية لبلاد الأطلس، ولكننا عرفنا حياة أخرى على ضفاف نهر سبو، وعند مداخل باب الفتوح وبوجلود ، حياة تريك الجمال مجسدا في كل لحظة تعيشها، فخرجنا ونحن مشبعين بهذا الجمال حتى (غازلنا الناس في الشوارع) كما يقول الدكتور بشرى الفاضل، بعد ذلك لم يكن مهما لنا انتقادات فاطمة المرنيسى اللازعة لحياة المجتمع المغربي، أو وصف مليكة افقير.. ورد في آخر مداخلة للأخ عمر غلام الله قبل أن يدركه الصباح ويسكت عن الكلام المباح، أن كمال شرف من كسلا، والصحيح أنه من دنقلا منطقة القدار، وكان من أوائل الطلبة الذين كانوا في استقبالنا بالرباط عند ذهابنا الى المغرب أول مرة، وقد اصدر عدة دواوين شعرية منها ديوانه (لمسة وفاء ) الذي أهداه الى المغرب وفاء وتقديرا لما منحه لنا من زمن جميل رائق. استوقفنى أيضا حديث الأخ عمر عن اختلاف اللهجات العربية في المصطلحات، وضرب مثلا لذلك باللبن، وكيف أن المغربي صاحب المقهى ضحك منهم حين طلبوا (شاي باللبن) وقد تعجب كيف يكون الشاي باللبن، وهذه العبارة نفسها كانت مدار مناقشات عديدة بيني وبين الأخوة السعوديين الذين كانوا يعيبون علينا استخدام اللبن بدل الحليب، وكنت أقول لهم ان الحليب ليس اسما للبن، بل هو وصف لعملية استخراج الحليب، أما اللبن فهو الاسم الصحيح الذي ذكره الله تعالى بقوله" "وإنََ لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" وقوله: "مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه , وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهارمن عسل مصفَي" واللبن كما جاء في المعاجم العربية "سائل ابيض يكون في إناث الادميين والحيوان " وهو ما يطلق عليه الناس اسم ( الحليب ) لكن في العديد من البلدان يطلق عليه ( اللبن الخاثر ) أو ( اللبن الرائب ) أو ( اللبن الزبادي ) تمييزا له عن الحليب، قال صاحب لسان العرب: " اللَّبَنُ: معروف اسم جنس. الليث: اللَّبَنُ خُلاصُ الجَسَدِ ومُسْتَخْلَصُه من بين الفرث والدم، وهو كالعَرق يجري في العُروق، والجمع أَلْبان، والطائفة القليلة لَبَنةٌ. وفي الحديث: أَن خديجة، رضوان الله عليها، بَكَتْ فقال لها النبي، صلى الله عليه وسلم: ما يُبْكِيكِ؟ فقالت: دَرَّت لَبَنةُ القاسم فذَكَرْتُه؛ وفي رواية: لُبَيْنةُ القاسم، فقال لها: أَما تَرْضَيْنَ أَن تَكْفُلَهُ سارة في الجنة؟ قالت: لوَدِدْتُ أَني علمت ذلك، فغضبَ النبي، صلى الله عليه وسلم، ومَدَّ إصْبَعَه فقال: إن شئتِ دَعَوْتُ الله أَن يُرِيَك ذاك، فقالت: بَلى أُصَدِّقُ الله ورسوله؛ اللَّبَنَةُ: الطائفة من اللَّبَنِ، واللُّبَيْنَةُ تصغيرها. وفي الحديث: إن لَبَنَ الفحل يُحَرِّمُ؛ يريد بالفحل الرجلَ تكون له امرأَة ولدت منه ولداً ولها لَبَنٌ، فكل من أَرضعته من الأَطفال بهذا فهو محرَّم على الزوج" على ذلك فان اصطلاحنا نحن في السودان للبن هو الفصيح. ما زلت أخى عمر مستمتعا بهذا السرد اللذيذ والبوح العميق.. ====== سيف الدين عيسى مختار