الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 06:29 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة ابراهيم على ابراهيم المحامى(ابراهيم على ابراهيم المحامى)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-23-2007, 07:58 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)

    (2)


    خرجت حشرة صغيرة من بين أضلاع الصندوق الخشبي القابع في أحد أركان الغرفة التي كنت أنام فيها مع إخوتي الصغار. كان شكلها غريب كأنها منبطحة على الأرض، وكانت تبدو جذلة رغم وحشة الليل التي أحس بها، اقتسم الأحمر والأسود تلوين جسدها القشري اللامع الذي تحمله ست روافع تجعل متابعة حركتها أمراً مشوشاً وصعباً. رأسها وعنقها اتشحا بالسواد، في حين كسا اللون الأحمر ظهرها المقوس. خرجت الحشرة تجري في نشوة غريبة دون ما هدف واضح بالغرفة. فجأة توقفت عن الجري والحركة، وتسمرت أرجلها الست عند قدمي فأر صغير دقيق الحجم، قابع على قطعة خبز يقضمها في زاوية الغرفة. انتبه الفأر إلى وجود هذه الحشرة العجيبة فتسمّر في مكانه أيضا، واخذ جسمه يرتجف من الخوف. ودون أن يدري، صعد الفأر إلي أعلى قطعة الخبز التي كان يقضمها علّها تعصمه من هذه الحشرة المفترسة الصغيرة. كنت على هذه الحال أياماً أتابع حركة الحشرات والفئران التي تشتد ليلا عندما ينام شقيقاي اللذان يقتسمان الغرفة معي. كنت انتظر كل ليلة يقظاً لأتابع هذا الصراع الصامت، وأنا لم ابلغ السادسة من عمري بعد. في البدء تخرج الحشرات الملونة، ثم تعقبها الفئران الصغيرة الحجم، ثم تبدأ المعركة، ولكن دون صدامات تذكر، وبعدها يكون النوم قد غلبني في سريري الصغير المجاور لباب الغرفة التي تقع في أقصى فناء منزلنا الصغير.

    شعور غريب ينتابني في هذه الحالات التي تداهمني أحياناً في وقت ما بعد منتصف الليل في هذه الغرفة، تهويمات، وأحلام فظيعة، ومطاردات لا تنتهي. اشعر بأنني على حافة ما، على وشك فعل ما، ثم أرى توهجاً لأضواء بيضاء وزرقاء وخضراء تخرج من بين الحيطان والسقف، يتجمع الإشعاع في وسط الغرفة الصغيرة، ثم يتحول إلى ضوء هوائي أو سراب خفيف مصوب إلى عيني. يدخل الشعاع عبر عيني إلى مخي مباشرة، اشعر بأن الهواء يملأني من كل ثقب ومسام في جسمي، ثم أصير خفيفاً لدرجة الطفو في الهواء. وتمر لحظة أدرك فيها أنني لا زلت على فراشي، ثم فجأة تنكتم أنفاسي وأصبح مخنوقاً إلى حد الموت. صرخة حادة تقطع أوصال الليل وصمت الظلام، انتصبت معها واقفاً أمام زر النور، و إذا بالغرفة يملأها الضوء من كل جانب، لأرى أمي تقف أمام باب الغرفة، حينها أدرك أن تلك الصرخة كانت تطلع مني أنا.

    لم يكن ثمة شيء يميز منزلنا عن بقية بيوت الضاحية إلا ديوان جدي الملتصق به. كان منزلنا يتكون من غرفة كبيرة وأخرى صغيرة تستخدم لغرض الطبخ نهارا، ولمأوانا مساءً، وتقع الغرفتان في فناء كبير اقتطعه لنا جدي من أرضه الشاسعة، وكان والدي قد خصص جزءا منه لزراعة الخضار وأشجار الفواكه. باب السور الذي يطل شمالا كبير يسع لدخول سيارة صغيرة الحجم، تم طلاءه باللون الفضي الذي يشبه الألمنيوم، وفي قمة أقسامه الثلاثة تتربع حلقات وأقواس متداخلة. أشجار النيم الضخمة الخضراء تكثر في فناء الدار، كانت تصطف طولياً بصورة صنعت لنا ملعبا ظليلا لكرة القدم التي كنا نصنعها من الجوارب القديمة بعد أن نحشوها بالقطن وخرق القماش.أشجار الليمون والجوافة والمانجو اتخذت مكاناً قصياً من الدار.

    في وسط هذه الدار الواسعة يقع الديوان ذي الأقواس الكبيرة والأعمدة الإنجليزية المفتولة، تم بناءه من الطوب الأحمر وتم تكحيله بالاسمنت بصورة هندسية رائعة تأخذ شكل خطوط تتبع مجرى البناء لتبينه للناظرين. الصالون الكبير تتقدمه فرندة ذات أعمدة طويلة مفتولة ونوافذ مقوسة بصورة جعلت المارة يخلطون بينه وبين المسجد الصغير الذي يقع في أقصى غرب الضاحية. وكانت غرفة جدي قد ألحقت به، وكان بداخلها دولاب خشبي إنجليزي الصنع يضع فيه جدي ملابسه البيضاء وعباءاته الملونة التي يلفها بورق السوليفان، وكانت عصاته المرصعة بالعاج تتدلى من أعلاه ، وفي الجانب الآخر من الحائط علقت مرآة كبيرة نحتت من خشب الأبنوس الداكن اللون على هيئة نسر ضخم. لكل من هذه الأشياء قصص مختلفة وتاريخ طويل كان يحلو لجدي ترديدها لزوراه.

    كان الديوان يتوسط مملكة جدي. وكانت بيوت أولاده وبناته تحيط به من كل النواحي، منازل خالاتي وأخوالي تقع ناحية الغرب والجنوب والجنوب الغربي للديوان، أما منزلنا فيجاور الديوان من ناحية الشرق، كانت جميع المنازل تحتفظ بباب صغير "نفاج" لها يطل على الديوان.

    كان جدي طويل القامة، قمحي اللون، عريض الكتفين، ذو وجه حاد الفكين، وكان يبدو ناعم الجلد لأنه لم يسبق له أن عمل بالزراعة أو تربية المواشي، رغم انه يمتلك مزرعة كبيرة بالضاحية تنتج المانجو والجوافة والموز والليمون، فكان يبدو كشجرة مانجو كبيرة طويلة القامة، وارفة الظلال، تنم أوراقها العريضة عن ري جيد وارض خصبة المنبت. وكان دائماً يرتدي نظارة طبية سميكة يثبتها بسلسلة لامعة على رقبته. ورغم انه كان مبتسماً وحميماً إلا انه لم يسبق له أن عانق أي شخص، أو على الأقل لم أره يفعل ذلك. تراه دائماً يمد يده الطويلة لتحية ضيفه وكأنه لا يريد الالتصاق به.

    في ذلك اليوم من الخريف وقف جدي بملابسه البيضاء وعباءته المقصبة وعصاه اللامعة يشرف على ملابسي وهندامي استعدادا للذهاب للمدرسة الابتدائية لتسجيلي في الفصل الدراسي الأول. كانت الدراسة قد بدأت قبل شهر تقريباً، وأنا لا زلت بالبيت لأن ناظر المدرسة قد رفض قبولي بحجة صغر سني مما اغضب جدي العائد لتوه من رحلة تجارية طويلة في غرب السودان. لم أكن قد بلغت سن الدراسة بعد، إلا أن جدي كان يرى غير ذلك لسببين، أولهما أنني طفل ذكي، والثاني هو أن ناظر المدرسة لا يرفض له رجاءا.

    قال جدي دلالة على بدء التحرك:
    - هل انتم جاهزون؟
    أجابت أمي وهي تتأكد من هندامي:
    - دقيقة واحدة أسوي له أزرار قميصه.

    تبسمتُ وأنا انظر إلى جدي، رغم أنني كنت خائفاً ومرعوباً من فكرة أن أصبح تلميذاً في مدرسة لها نظام ومدرسين وناظر طويل القامة. كان جدي يراقب أمي مقطباً جبينه كالذي يقبل على موضوع مهم للغاية، وكان ممتعضاً لتأخيرنا عن الموعد. وكانت أمي منهمكة بإصلاح حالي ولا تعيره اهتماماً. كانت تبدو كعصفور صغير، كتفاها مرتفعان إلى رأسها، وكوعاها ظاهران كجناحين، ينعكس ضوء سنها الذهبية على حذائي الجديد.

    قالت أمي موجهة حديثها لي وهي منحنية تجاهي:
    - سوف تذهب إلى المدرسة الأولية اليوم، وسوف تصبح تلميذاً يا ولدي لأول مرة، فكن مهذباً وهادئاً.

    كانت حقيقة بدء الدراسة منذ شهر ونيف تربك أمي قليلا، ولكن رغبتها في هزيمة ذلك الناظر النحيل الطويل الذي رفض تسجيلي مستخفاً بها، وإيمانها أنه لن يرفض لها طلباً الآن في حضور والدها، ثبتا قلبها في هذا الموقف.

    كان والدي مشغولا بأمور تنظيم المزارعين، وكان كثير السفر والتجوال في قرى المشروع الكبير، وبين الضاحية والخرطوم للضغط على الإدارة لإعطاء المزارعين حقوقهم المسلوبة لوقت طويل. لم يجد وقتاً للذهاب معي لتسجيلي في المدرسة.

    لم تكن أمي تجيد التجاوب مع أسئلتي، وكانت دائماً تقول ما يجري في خاطرها نحوي دون فهم لسؤالي أو استفساري. كان مشهد أمي وجدي وهما في ثوب الخروج معي كفيل بأن يجلب لي فكرة واحدة: وهي أنني بصدد مقابلة أناس غرباء. كان مجرد التفكير في هذا من شأنه أن يثير الرعب في نفسي ويضعف ركبتيّ.

    كانت المدرسة الأولية بالضاحية التي تم بناءها في زمن الإنجليز، عبارة عن مباني صفراء مسورة بأشجار الكتر الشوكي التي يكسوها الغبار، فتبدو كأنها عطشى. في داخل فناء المدرسة انتشرت أشجار النيم و السيسبان ذات الأزهار الحمراء والصفراء، تلقي ظلا خفيفاً مفرقاً على الأرض. وكانت مباني الفصول تصطف في صفين متقابلين دون شكل هندسي ظاهر. كانت مكاتب المدرسين مقرونة مع الصف الشمالي من المباني الذي كان يتميز بفرندات دون الصف الجنوبي.

    حين ولجنا سور المدرسة، دلف جدي مباشرة نحو اليمين إلى مكتب الناظر الذي كان يقع في ناصية المبنى الشمالي. انتظرت مع أمي في الكنبة التي تقبع خارج مكتبه مباشرة. لم يطل الوقت حتى خرج إلينا الناظر ينعكس ضوء ابتسامته على إطار نظارته اللامعة، ودعانا إلى الدخول مرحباً. رفضت أمي أن تدخل، خجلا أم كبرياء، لا ادري، واكتفت بأن ربتت على كتفي ودعتني مشجعة للدخول وحدي.

    افتتح جدي الحديث مستعيداً ما قاله من قبل للناظر ومستفسراً عن إمكانية قبولي لهذا العام الدراسي الذي بدأ منذ أكثر من شهر.
    تظاهر الناظر بعدم المتابعة، وقال:
    "دعني أوجه له بعض الأسئلة، إن أجاب عليها، هذا يعني انه مستعد وهذا هو الأهم."

    قام الناظر بتوجيه بعض الأسئلة العادية لي، فأجبت على جزء منها. عندما لا أجد إجابة كنت استنجد بالنظر باتجاه جدي الجالس على الكرسي. فما كان من الناظر إلا أن ينتقل إلى السؤال الذي يليه برفق شديد ملحوظ. بعد أن فرغ الناظر من توجيه الأسئلة هلل لمستوى ذكائي وبدت عليه علامات الرضا. عندها هب جدي واقفاً وقال:
    "على بركة الله إذن".
    وهكذا انتهى الأمر بانصراف جدي دون أن يحدثني بشيء. في هذه اللحظات أخذني الناظر ليرشدني لمبنى الصف الأول. بكيتُ بكاءً شديداً بخوف وحرقة، في الوقت الذي كان جدي و أمي في طريق عودتهما إلى المنزل لأول مرة بدوني بعد أن تركاني خلفهما أواجه مصيري وحدي.
    *******

    عندما زار الضاحية إمبراطور بلاد الحبشة بصحبة الرئيس، خرجنا من المدرسة جميعاً في أزهى ملابسنا لتحية الزائرين. كان تقليداً أن تستضيف الضاحية كبار الضيوف الذين يزورون المشروع الزراعي الكبير الذي ينتج الأقطان والفول السوداني. تحرك الموكب المهيب من إدارة المشروع نحو الضاحية، تتقدمه السيارات السوداء والموترسايكلات التي يقودها رجال الشرطة في ملابسهم البيضاء كطيور الرهوْ. كنا نبدو كالحمائم الزرقاء في زينا المدرسي، قصاراً لا تتعدى قاماتنا قامة ذلك الإمبراطور القصير الواقف على ظهر السيارة ماداً يده لتحيتنا. كنا صغاراً أمام الضيوف الكبار، واحتشدت حناجرنا باللحن المرحاب نغني جذلين:

    "إلى ضيوفنا الكرام نهدي
    أزاهر الحب والورود"

    تعلو الموسيقى وتنخفض تتبعها أصواتنا الغضة في هارموني مميز وضعه معلم الرياضة والموسيقى، وتدربنا عليها أياماً وليالي حتى يليق اللحن بضخامة الموقف وعظمته. فجأة توقف الموكب المهيب، وحدثت فوضى وجلبة لم تكن في حسبان رجال الأمن الذين لم يعبئوا بنا أو يكترثوا لابتساماتنا البيضاء. كنا لا نخيف الرؤساء في شيء.

    فجأة انبرى سليمان المجنون من بين الجمهور وهو يلملم أسماله بيد وماداً يده الأخرى نحو الضيوف. تقدم وحيا الضيفين الكبيرين في أيديهما رغم أنف رجال الأمن، وتسلل كخيط ضوء خفيف، مخلفاً وراءه ابتسامة كبيرة ضجت لها أركان الضاحية في ذلك اليوم المشهود.

    أما كيف فقد سليمان عقله، فتختلف الروايات في تفسير ذلك، فلا أحد يستطيع أن يحدد على وجه الدقة كيف حدث ذلك. ما تزال الظروف التي أحاطت بجنونه غامضة جداً، وهناك تناقضات في إفادات الشهود، وتفاصيل غير معقولة حول الأيام التي قضاها نوماً قبل استيقاظه الأخير، كما لا يوجد تأكيد على الساعة والمكان اللتين حدث فهما ما حدث. ولكن تتفق جميع الروايات حول شيء واحد هو أن ما حدث كان فجأة وبسرعة دون سابق إنذار، وأن الزمان ذات خريف صاخب قبل أكثر من ثلاثين عاماً، زمان الإخصاب البشري والحيواني والنباتي في الضاحية، زمان يترقب فيه الكل بتفاؤل للغد الآتي.

    تقول إحدى الروايات إن التقليد السائد في الضاحية كان يلزم بأن تمر زفة العريس بترعة "حفص" في طريقها للنيل لتبريك العريس بعد أن يلقي بأغصان النخيل في مياهه حتى يبعد الشياطين عن حياته الزوجية. في ذلك المساء كان سليمان عريساً يزفه أهله لعروسه "الروضة" على صهوة جواد ابيض مزين ومحفل بالحرير الأحمر القاني حسب عرف أهل الضاحية.

    وكانت ترعة حفص القريبة من النيل الأزرق في ذلك العام مليئة بماء الخريف، وكانت تنضح بفائضها على النيل كزجاجة عطر مكسورة. عندما اقتربت الزفة منها، فجأة جفل جواد سليمان وكبا كبوته الأخيرة. صهل الجواد وهو يقفز عالياً، وأسقط سليمان على الأرض مغشياً عليه. وعندما اقتربوا منه وجدوه ملقياً على بيت نمل كبير، وكان الوقت قد اقترب من الغروب، فلم يتحرك ولم يفق، و ظن الناس انه قد كسر عنقه ومات.

    إلا أن بعض الروايات تقول أن سليمان دخن حشيشة البنقو السودانية المشهورة مع أصدقاء له قبل يوم واحد لزواجه، وعندما انصرف الأصدقاء نام سليمان استعداداً ليوم عرسه، إلا انه لم يفق من نومته تلك، واستمر نائماً لأيام ولم يستيقظ إلا وقد ذهب عقله وكل شيء معه، وتلاشت أحلامه.

    ورغم أنه لم يكن بإمكان أي شخص أن يجزم بصحة أية رواية، إلا أن ما يهم في الأمر أن سليمان عندما استيقظ من غيبوبته كان قد فقد كل شيء، عقله وعروسه، وفشلت محاولات الأطباء والشيوخ في علاجه، وعندما فقد أهله الأمل في شفائه تركوه وشأنه يهيم في الطرقات لا تفارق وجهه الابتسامة، فأصبح معلماً من معالم الضاحية.

    عند إعلان جنونه في الصباح التالي لم يبد أهل الضاحية اهتماماً علنياً بالحادثة، رغم أنهم ابدوا اندهاشاً سرى في أوساط الرجال حول قدرة هذا المجنون الجديد على تحريك الأحداث في الضاحية. لم يتعرّف سليمان على نفسه تماماً، ورغم ذلك فقد كان رواحه وغدوه، واختفائه وظهوره يعني استمرار الحياة في الضاحية. كان يجوب الطرقات، ويتعقب ماضيه مغتبطاً، ويحلم بعروسته الروضة. لا احد يعرف عن حياته الأولى شيئاً، ولكن من المرجح أنها كانت عادية مثل بقية أهل الضاحية. ولم يكتشف احد قدراته الخارقة إلا حين اكتشف الناس انه قد فقد عقله.

    وبفعل ذلك القدر تيسرت لسليمان معرفة أدق أسرار الضاحية، فعرف أخيارها وأشرارها، وعرف أسيادها وعبيدها، أغنياها وفقراءها، محسنيها وشحاذيها، شريفها و وضيعها، الزانيات والزانين، والحشاشون وأبناء الحرام، وهذه حالة لا تتوفر لشخص غيره.

    *******

    عادة ما يكون النصف الثاني من الخريف من اشد الفترات صخباً وهياجاً وترقباً في الضاحية، حافلا بالفيضانات وبالهزات الاجتماعية. في تلك الليلة من ليالي الخريف المشهودة في عام 1988م كانت السحب تتحرك وتتجمع في سماء الضاحية، داكن لونها، تزيد الظلام عتمة. اشتدت الرياح السوداء الباردة تهب من كل صوب تحمل معها ذرات الغبار الرملية التي تتغلغل في كل شيء وتدخل في مسام الجلد. ولمعت بروق كثيرة واختفت ملامح الضاحية تحت وطأة الغبار الكثيف.

    لم تكن الضاحية هادئة كعادتها وقت العشاء. كان الناس يؤدون الصلاة في المسجد الصغير الذي لا تزينه أية مئذنة، وتكاد نوافذه القصيرة أن تلامس رمل الأرض. وكان ثمة رجال آخرون منشغلون بإحضار مشروب العرق الكحولي من تلك المنازل التي تراصت حول محالج القطن الخاصة بالمشروع الزراعي الكبير. وكانت أصوات الحيوانات تتعالى متقاطعة، بين ثغاء وخوار وعواء، وأمست الضاحية مفتوحة على نوافذ الغيم والسحب، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الطوفان.

    فجأة شق صوتُ حلك الغبار والظلام، يعوي كأنه ذئب جريح. لم يتعرفوا عليه في أول الأمر، ولكن الصراخ المتكرر كان يلحُّ على آذان المصلين داخل المسجد الصغير فيخرجهم من خشوعهم وإنصاتهم للإمام وهو يقود الصلاة. اخترق صوت سليمان وقار المكان. أصاخ أحد المصلين السمع وقد الصق أذنه بزجاج نافذة المسجد المصبوغة بغبار العاصفة السوداء، وقال:
    - صراخ شديد....
    "الحقوا ....يا أبو مروءة ...يا ناس ...يا ناس....."
    تعالت الأصوات من خارج المسجد. أنهى المصلون صلاتهم على عجل، و أصاخوا السمع جماعة، وفُتحت أبواب المسجد لتصل إليه نهايات كلمات محبوسة، أطلقها سليمان فاحتشدت حروفها في آذان المصلين مع ذرات الغبار الكثيف:
    " البحر ....يا ناس الـ ...بـ ...حـ.....ر البحر زاد .... و دفق..."
    عندما اكتملت الكلمات كانت جميع أبواب الضاحية مفتوحة ومشرعة للريح والرمل والمياه والعويل.
    - معقول البحر زاد. تقاطعت الأصوات.
    - لا ، يقولون فاض ودفق.
    عندما اخترق سليمان وقار المكان بظهوره كأنه صاروخ منطلق، كان الجميع مأخوذين بالمفاجأة. كان يمهر الأرض بقدمين حافيتين لا يكاد يظهر لهما اثر وقد تسربلت ثيابه وتغطى جسده بالطين. التف الجميع حوله وشبكة من الألغاز برزت أمامهم. لم تكن هناك حقيقة واحدة غير سليمان نفسه الذي كان قابعاً ومطروحاً على الأرض، ممزوجاًُ بأعبائه وشروده الأبدي، يسوي سرواله الممزق محاولا أن يواري سوءته. كان يجيب على أسئلتهم اللاهثة بإجابات بعيدة عما يتوقعون.

    أصغت له الآذان، بينما ألقى هو كلماته كالحجارة. أوضح لهم انه وحده قد شهد بداية الفيضان، شهد المياه وهي تمور وتمور وتفور وتفور وتنفلت من بين ضفاف النيل إلى أن سالت أودية باتجاه ترعة "حفص" التي تحيط بها أشجار الحراز. قال انه "لم يعر الأمر في الأول اهتماماً، بل وجده أمراً مقبولا في مثل هذه الأيام من الخريف، ولكنه حين امتلأت ترعة حفص راح يجري ويعدو على طول مجرى النيل شرقاً وغرباً ...إلى أن أصبح الأمر بالنسبة له مؤكد ولابد واقع". الكل كان يعلم أن جريان المياه بصورة عكسية في ترعة حفص يعني أن فيضانا قد حدث.

    قال سليمان أنه صعد إلى أعلى المبنى فوق بحيرة "بجيقا" واخذ يتصنت، فسمع الأصوات الهادرة من مصادرها السحيقة التي لا يستطيع تحديد مكانها، وأحياناً خيّل إليه أنها تخرج من أذنيه، جرى وصرخ وجرى. و هاهو قابع في وسطهم ينظرون إليه ككلب جاء بصيد خائب. لم يفق أحد من دهشته إلا عندما أضاف مرة أخرى:
    " البحر جاءكم ...... يا ناس".
    و انهمرت عليه الأسئلة تجلده كرذاذ لذيذ.
    كان سليمان يضيف أحياناً تفصيلات أخرى غير مفهومة ولا تهم التحقيق في شيء. فعندما سألوه عن سبب خروجه في تلك الليلة قال انه خرج كي يوقف البحر عند حده، وقال إن الأحباش قد فكوا التروس وحرروا قيوده.
    قال صوت رجل غاضب من حقيقة الأمر:
    - وهل تقوى أنت على إيقافه ؟
    أومأ سليمان برأسه مرات عديدة. وقال انه يعرف مفاتيح البحر والمياه العالية، ولكن جنيّات البحر منعته من الوصول إليها.
    - أين هو هذا المفتاح ؟ قال صوت هازئاً.
    - "تحت بجيقا تحرسه الجنيات". قال سليمان وهو يبتسم.

    هوّم سليمان بوجهه بعيداً عنهم، إلا انه لم يغب عن وعيه المحدود مطلقاً، بل ظل يسمع ما يقولون، ويرى ما حوله من جلبة لا يخطئها مجنون، ومع ذلك بقي ساكناً في مكانه وطعم الغبار المختلط بنشوة غريبة ينعشا فمه. ثم راح المصلون في باحة المسجد يتحدثون عن الفيضان الذي حدث في الأربعينات، وكيف هدد الضاحية بالزوال، وتصاعدت الأصوات هنا وهناك، وبدا الخوف يتزايد من أن تصدق الأسطورة ويعيد النيل فيضانه بعد مرور أربعين سنة على الفيضان الماضي. كان الخوف يسيطر على الجميع من أن يعيد التاريخ نفسه.

    تعالت أصوات أخرى من شمال وشرق الضاحية في محاذاة النيل حذرت من الفيضان القادم ومن الغرق والدمار، أجفل الجميع وتفرقوا في كل اتجاه نحو منازلهم وتركوا سليمان قابعاً في باحة المسجد الصغير. لم يكن أحد مستعداً لمواجهة الإدانة في حقيقة الأمر، فلم يكلف أحدهم نفسه لينظر وراءه ليرى ابتسامة سليمان اللاذعة.

    أسرع الجميع نحو آفاق مليئة بالسحب والخوف وقد ملأ الرعب نفوسهم، وزادت دموعهم الطين بلة. وكانت تنتظرهم مفاجأة أخرى فقد غدت السماء سوداء بالسحب ناشرة رائحة المطر، وغطى الضاحية ظلام دامس، وبعد دقائق راحت الأمطار تثقب ما تبقى في الضاحية من ارض جافة لم يصلها الفيضان.

    لم يشعر سليمان بأهمية ظهوره في تلك الآفاق المليئة بالمياه والعطن، فهو لا يشعر بأدنى قدر من الهلع في داخله، فهذا كان أمراً محتوماً في نظره، فمن شهد الفيضان الأول في الأربعينات لابد أن يشهد الفيضان الثاني، هكذا حدثته أمه.

    في ذلك اليوم المشحون نهض واقفاً بحزم، كأي رجل مهم في الضاحية، نظر إلى من تبقى حوله نظرة الصوفي الورع العارف ببواطن الأمور والعالم بالقوى الغيبية، واخذ يصافحهم في أيديهم الواحد تلو الآخر وهو يمشي بعيداً منهم. أعطاهم ظهره وهو يلملم أسماله، وتوارى عن الأنظار.

    منذ سنوات كان لسان سليمان قد التوى في زاوية من فمه، لا يستخدمه أبدا، على الرغم من هول الكارثة ووابل الأسئلة التي أمطروه بها، حيث اكتفى بإجابة واحدة سمعها منه الجميع بوضوح شديد : "البحر زاد..... يا ناس". منذ ذلك اليوم ازداد نشاط سليمان في الضاحية، وأخذت ضحكاته تسمع في كل مكان. كان أحياناً يتجول في الأمكنة مفككاً ومهزوماً، و أحياناً يجوب الطرقات على الأقدام كمن يتعقب شيئاً، يسير خلف كل من يصادفه، ويلوذ بين الحيطان والظلال كلما أحس بوجوده شخص ما.

    وحينما حاصروه في تلك الليلة، كانت أمامه مجموعة من الأسئلة المفككة، عجز أن يكتشف ما بينها من روابط. وفي المقابلات التالية معه كانت الصورة تتضح له مشهداً فمشهدا، فيعود إلى ذلك المكان وذلك الزمان، إلى ترعة "حفص" والي بحيرة "بجيقا"، حيث تبدو المشاهد بالنسبة له ذات زوايا حادة وقاسية غير واضحة المعالم.

    وفي الصباح غمر الماء اغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وبيوت الضاحية من الناحية الشمالية والشرقية، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء. وفي المساء غرقت بيوت الضاحية، وتساقطت حيطان وجدران، وخرّت عزائم الرجال، وحلّ الخراب محل العمار، واختفت الأشجار، وتحولت الضاحية إلى مربط للقوارب. وصدق خبر سليمان.

    قالت جدتي:
    - إن مثل هذا الفيضان لم يحدث منذ أربعين عاماً.
    وقال جدي محذراً:
    - لا تعبروا ذلك الجسر الذي تعمل على بنائه آليات وزارة الري مستعينة بعدد كبير من المساجين تحرسهم بنادق شرطة السجون.

    كانت أصوات الرجال مهمومة وعالية، تسمعها هنا وهناك، وأضواء الكشافات تنطلق من القوارب التي انتشرت على سطح الماء.
    أضاف جدي بحزن عميق:
    - قيل أن الفكي الصديق مات غرقاً، و ربما غرق ثلاثة أو أربعة آخرون في الليلة الماضية.

    في اليوم السابع اجتازت المياه الجسر الترابي العالي من ناحية الغابة في الشرق، كما دفقت المياه من ناحية جناين المانجو في الشمال، وغمرت الضاحية حتى وصلت شجرة الدوم المجاورة للمسجد الكبير. أما من ناحية "بجيقا" العالية فلم يجد الماء طريقه إلا عبر الخيران والمجاري التي غمرت مياهها حي الديم الذي انهارت منازله بسهولة مذهلة.

    خرج الناس من بيوتهم متفقدين ما حل بمنازلهم ومزارعهم وماشيتهم، كانت المنازل مدمرة وغائصة في الماء، وجيف الحيوانات تراكمت على شاطئ الضاحية. وهرعنا إلى بعض المنازل التي بدأت في الانهيار نحمل الأثاثات المنزلية على سيارات النقل، والكارو وظهور الحمير، وعلى أكتافنا أيضا. نقلنا كل شيء إلى الجانب الغربي والجنوبي من الضاحية. انهارت مئات من المنازل، وغاصت في الماء مئات أخرى، و حوّل الفيضان مكونات الضاحية إلى شيء واحد: هو الماء.

    لم ينتبه احد وسط هذه الفوضى إلى غياب سليمان، فلم يظهر على مسرح الأحداث بعد تلك الليلة التي لا تشبه الليالي. و في المساء التالي تجمع حشد كبير من الناس في ساحة المسجد يتحدثون عنه وعن اختفائه المثير. اتفق الجميع بشكل تراجيدي على أن أقدار سليمان المجنون كلها تشير إلى ربطه ربطاً محكما بهذا اليوم الهادر، وقد آمن الجميع بأنه قضى نحبه غرقاً.
    قال رجل:
    - إنه رجل مبروك، فقد تحاشى وداعنا.
    - أنا اعلم انه مجنون إلا انه في الحقيقة قد تغير ولم يكن طبيعياً في الأيام الأخيرة، فقد اعتزل الناس ومتابعتهم ومصافحتهم في أياديهم، كما عودنا. قال رجل ثاني.
    - كان قد رفض أن يزور تلك المنازل التي لم تستطع مقاومة المياه ثم انهارت وتهدمت. قال رجل ثالث.

    و في الأيام التالية امتلأ جو الضاحية بالسخرية والتندر من قصة اختفائه، مثلما امتلأ بالغيوم وبخار الماء والرطوبة. وعندما انتصف نهار اليوم التالي، تأكد الناس من أن غياب سليمان ليس مجرد إشاعة، و إنما حقيقة ماثلة كالمياه المتدفقة في كل مكان في الضاحية. وعلى عادة أهل الضاحية في ملء أوقات فراغهم بالسوالف و الحكايات، انتشرت فيها إشاعات وتفسيرات عدة وخرافات وخزعبلات حول غيابه فقالوا ساخرين انه ذهب إلى مرتفعات الحبشة ليوقف انهمار المياه نحو الضاحية. وأكد العم يوسف نور صاحب الدكان القديم في وسط الضاحية، والذي اشتهر أيضاً بمحاولات ناجحة في معالجة الأمراض التي يسببها الجان واللوثة:
    "انه ذهب للقاء هام للجن يعقد في قاع بحيرة "بجيقا" في أوقات الفيضان، حيث يلتقي بنفس الجن الذين سلبوا عقله وصادروا عروسه في يوم زفافه، في مثل هذا اليوم قبل سنوات طويلة"، و قال انه سيعود حال ما ينتهي الأمر، ولا داعي للقلق، ولكنه أشار إلى أن سليمان ربما فضل عدم الحديث عن هذا الاجتماع الهام، وطواه سراً في قلبه إلى يوم الدين.


    أما جفّال المسطول فقد ذكر:
    "أن سليمان قد رأي شبيه أو قرين لعروسه "الروضة" تخرج مع الجن الذي طلع من قاع "بجيقا" إلى البر في لحظة فوران وغليان المياه التي سبقت الطوفان، وقد قرر سليمان أن يداهمهم ليظفر بعروسه الهاربة من قبل أن تفر منه مرة أخرى".

    بعد أن أفاق الناس من هول الكارثة، و أخذت المياه في الانحسار قليلا عن منازل الضاحية، ظهر سليمان فجأة دون مقدمات. أسبوعين كاملين من الصخب الممزوج بالشك مر على غيابه. كان الوقت صباحاً، وكان شيخ مالك الجزار، شيخ جزاري الضاحية قد فرغ لتوه من الذبيح. وكانت الخراف ما زالت معلقة في الهواء على شعاب السنط، تتأرجح في المسلخ البلدي وقد بدت وكأنها نصف عارية. كان شيخ مالك يشرب الشاي في ذلك الصباح العطن، وكنت اشتري منه لحماً. رأيت سليمان جالساً أمام الجزارة صامتاً ومولياً ظهره لعم مالك، ونظراته مثبتة ناحية النيل. كان كمن يحاول استعادة ما حدث على طريقته الخاصة، وهو يبتسم. أو ربما كان يحاول إعادة تفاصيل تلك الأيام ليطبعها على شريط حتى لا ينساها أو يعفو عليها الزمن.
    جلست بجواره وأنا أتنحنح بصوت عال علّه ينتبه إلى وجودي، ولكن صوت عم مالك قاطعني قائلا وقد بدأ محرجاً قليلا:
    "انه ليس من المناسب أن اعمل في مثل هذا اليوم، ولكن لابد من إطعام أهل الضاحية، لا بد لأهلها المنهكين أن يأكلوا شيئاً حتى يقووا على مقاومة هذا المارد، فقد ظلوا يعملون طيلة أيام الفيضان".

    وأضاف بنفس نبرة الأسى:
    " لقد ظلوا يعملون في ردم المياه والبرك، وبناء الجسور والسدود، وتقديم يد العون للمحتاج، وتقويم المنازل والحيطان التي بدأت في الغوص داخل الأرض المرتوية".

    كنت أتمنى أن يصمت عم مالك الجزار للحظات قليلة حتى يتيح الفرصة لسليمان الذي ظهر وكأنه مليء بالكلام والحديث. لم ينتبه سليمان إلى وجودي، ولم يشعر بقلقي وخوفي وتلهفي لسماع صوته، فقد واصل سهوه وشروده ناحية النيل وهو يخفي بيده اليسرى ضحكة خفيفة تنفلت منه بين الفينة والأخرى.

    لم يكن سليمان يسمعني أو يعير وجودي اهتماماً،بل تناول كوب شاي الحليب مني وهو يسألني مزيد من السكّر بابتسامته التي طالما عهدناها فيه. تقدمتُ منه وأعطيته السكرية ليضيف ما يريد من السكر. أدخل كفة يده كلها داخل السكرية وملأها سكراً، إلا أنها احتبست داخل السكرية ولم يستطع إخراجها منها. كان يحاول وانأ أراقبه، وكلما رفع يده ارتفعت السكرية معها. شدني هذا الموقف أكثر إلى سليمان لأنني تيقنت انه سيطلب مساعدتي، نظر إلي وهو يبتسم ابتسامة من يطلب معروفاً أو خدمة لإنقاذه من موقف محرج. تقدمت منه وانأ اهمس شيئاً لا ادري كنهه الآن بعد كل هذه السنوات، ولكن اعتقد أنها كانت كلمات لتهدئته وإقناعه ببساطة الأمر. شرحتُ له بحركة من يدي كيف يفرغ السكر من قبضة يده ثم يمد أصابعه ويسحب يده إلى أعلى، ثم أقنعته بعد محاولة فاشلة بأنه يستحيل عليه أن يخرج يده وهي مليئة بالسكر من عنق تلك السكرية. عندما خرجت يده أخذ يتمتم بعبارات من الشكر. منذ ذلك اليوم نمت بيننا علاقة حميمة وصامتة.


    *******
    في ذات ليلة شتوية عاصفة بعد خريفين من تلك الأحداث حلمت: "أنني اجري في ممر طويل يكسو جدرانه التراب والغبار من كل جانب. كنت خائفاً ومرعوباً اجري للأمام ثم أعود للخلف، كمن يسعى بين الصفا و المروة. اخفي في جيب سروالي شيئاً ما، شيء لا اعرف كنهه بالضبط. وكانت مجموعة من الناس تطاردني، وتريد اخذ هذا الشيء مني عنوة، وكان هذا ما كان يخيفني أكثر. فجأة انهارت الحيطان التي تحيط بالممر، ثم ظهرت فتاة صغيرة، قصيرة القامة، صفراء، فاقع لونها. كانت تربط ضفائرها بشريط احمر قاني، وتجري نحوي تحاول إدراكي، وعندما اقتربت مني فتحت يديها لاحتضاني، وكنت أريد ذلك وارغب في تقبيلها، لكنني كنت ارتجف من الخوف. كنت موقناً انه لا يجوز لي تقبيلها، ولا يجوز لي أن ألمس أية فتاة على هذا النحو، وعندما احتضنتني وبدأت في دعك جسمها عليّ ، شعرت بفقاقيع دافئة أسفل رجلي. وحين نظرت إليها كانت ملامح وجهها قد اختفت حتى صار مسطحاً لا اثر فيه لامرأة، و رأيت سكيناً تلمع في يدها، تصوبها نحوي وهي تركض، وحاولت الصراخ و أنا اجري باتجاه الناحية الأخرى، إلا أن الصوت أبى أن يخرج من حلقومي، وبحثت في جيوبي لأستبين ما فقدته، و لأستبين ما كان في جيوبي، وعندما أخرجت يدي كانتا ملطختا بالدماء."

    في تلك السنة أقامت العائلة رحلة ترفيهية وغداء في حديقة المانجو التي تمتلكها الأسرة بالضاحية. في تلك الرحلة التقيت للمرة الثانية باحدي قريباتي ، وكانت فرصة أن نتحدث لوقت طويل، وظهر بيننا انجذاب غير منكر. كان اسمها أمينة وكانت تبدو كثمرة ناضجة ملقية على جدول مياه مهمل.

    كانت خطانا أنا و أمينة تتحسس بدايات الحياة دون طقوس أو نواميس. كنت احمل لها أحلاماً وأفراحاً ورؤى وردية، ليس من بينها رغيف خبز أو شرائح لحم. وكانت هي تمثل مستقبل الذاكرة العائلية، معتقة بتباريك الأسرة الكبيرة، و تمنيات قلبي الغض. لعل أمينة كانت تنتظر مني وضع عتبات الحياة أمامها لتسير عليها مطمئنة. وكنت ارتبك من بياض وجهها، كلما وقفت أمامي، ارتباك ماء النيل الأزرق حين يرتطم بصخرة ملساء. تختفي الكلمات التي أعددتها للقاء، وتتبخر دواوين الشعر التي كتبتها فيها، فقط كنت أحافظ على ابتسامتي، وأنا واقف أمامها كتلميذ نسى حفظ النشيد.

    ألقيت عليها التحية، وتبادلنا أطراف الحديث، ثم انسحبنا بهدوء مخلفين وراءنا حفيف أوراق الأشجار الخشنة. كانت متوهجة كشعلة تكللها البراءة من كل اتجاه. قصدنا ناحية النيل الذي بدا كصفحة رقيقة تحرسها الرمال البيضاء، وبدأنا نلهو في المياه، أصابعي تتابعها محذرة وهي تغوص بساقيها في المياه الشفافة التي تغسل الرمال، وكانت تبدو كمن تحرر من أسره. كان قلبي يزداد نبضاً، لا ادري إن كان وجلا أم خوفاً من دنو اللحظة القادمة ؟. قامت بالكشف عن ساقيها وهي تقفز فوق المياه، اقتربت منها و مسكتها كمنقذ مدعي، وضممتها إلىْ. انفرط وجدانها حد البكاء.
    قلت:
    "اشتقت لك يا أمينة".
    توهجت خدودها بحرارة جسدي المتصاعدة في تلك اللحظة المسروقة. انزلقت ضاحكة من قبضتي كسمكة لامعة لزجة، وذهبت بعيداً في الماء كما لو كانت تلاحق أطيافاً من السعادة والبهجة. وكانت وديعة تنعكس ضحكاتها وابتسامتها وتجلجل على سطح الماء. تغرف الماء بكفيها المرتبكتين وترشه علي قميصي المبتل، وتدعوني إلى مشاركتها امتلاك اللحظة المائية معها. قلت لها وأنا اقترب منها:
    - سأحبك إلى الأبد يا أمينة.
    - تعال اشرب معي ماءا . قالت، وهي تسقيني من كفها شربة ماء، وجسدها يتوثب من العطش، وهمست في أذني بلا كلمات، وهي تواصل لعبها، تجذبني نحوها بقسوة حينا، وبحنان دافق أحيانا أخرى. كانت تتجاهل كلماتي وعطشي المتنامي لها، ونحن في عرض النيل.

    عندما مسكتُ بتلابيب اللحظة، أزحت أزرار قميصها العليا، وتساقطت حبات عرقي المختلطة بالماء على صدرها، عملت أصابعي برقة بطول عنقها، وانزلقت إلى أسفل، وساد الصمت بيننا وأنا افعل ذلك باضطراب ظاهر. لم يتحرر لسانها عن أي كلمة قبول أو رفض. وغرقنا في لجة النيل الأزرق، وتوغلنا في مغامرة اكتشاف حبق الجسدين الشابين. فجأة نهضت من أعلى الرمال المبتلة واقفة منتبهة ، حذرتني من خطورة اللحظات المسروقة، ونادت بأوان ساعة العودة. خرجنا من الماء و نحن نأتلق، وعجنتُ قليلا من الرمل المبتل القي به ناحيتها وأنا أطاردها نحو الشاطئ، وحقول المانجو تزغرد لدهشتنا وفرحتنا.

    بعد تلك الرحلة سكنت أمينة ذاكرتي ومخيلتي، وساحت لها عظام ظهري، ومعها عرفت معنى آخر للمرأة.

    في تلك الليلة كانت أمينة تزورني في منامي وتستلقي بجانبي في سريري الصغير، وكانت تحدثني بغنج وفرح صبياني لا يخفى، وكنت ألمسها وهي تتمايل، تارة أراها في وسط الماء، وتارة بجواري في الفراش، كانت نافرة حتى في الأحلام، وكان جسدها معجون بالماء وتبدو لزوجتها ولجة فخذيها الاملسين. وأنا أهم بمتابعتها في نفورها داهمتني عاصفة دافئة حملتني إلى أعلى، وعندما توقف صعودي إلى أعلى ووصلت إلى لحظة لا شيء بعدها إلا السقوط، انفجر الماء الدافئ بين فخذي، وصحوتُ على بلل في لباسي وفرشتي.

    بعد هذا الحلم تم عزلي من أخوتي الصغار و تم تحويلي لأنام في ديوان جدي مع أبناء خالاتي الكبار.
    *******
                  

العنوان الكاتب Date
الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 07:54 PM
  Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 07:58 PM
    Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 08:08 PM
    Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 08:09 PM
      Re: الحيـــــطان ......مهداة الى ضحايا التعذيب في السودان ابراهيم على ابراهيم المحامى04-30-07, 09:24 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de