الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 10:38 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة ابراهيم على ابراهيم المحامى(ابراهيم على ابراهيم المحامى)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-30-2007, 09:24 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......مهداة الى ضحايا التعذيب في السودان (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)

    الفصل الرابع:::::


    مرت الآن خمس سنوات على تلك الأحداث، لم اعد ذلك الصبي، وكنت على موعد آخر مع القدر، قدر من نوع آخر، أن أسافر إلى الخرطوم لدراسة الجامعة إذ لا توجد جامعة في مدينتي. لم انتبه إلى حقيقة مغادرة الضاحية إلا عندما أذيع قرار قبولي في المذياع الحكومي الوحيد. كنت أقاوم هذه الحقيقة المرعبة لشهرين، وكانت الخرطوم تمثل لي عالماً مجهولاً ومخيفاً. الآن تحاصرني الفكرة وتخيفني أكثر، وتلاحقني العيون الكثيرة التي جاءت لوداعي.

    لم يعد ممكناً لذلك السهم الذي انطلق فجأة من أعماقي أن يعود إلى قلب أحداث الضاحية المتكررة، ومع ذلك لا سبيل لنسيان مذاق وطعم الحياة فيها أبدا. أدركت أنني لا اسكن الضاحية فقط، وإنما تسكنني هي كذلك. كان ذلك كفيلا بأن يصيبني بالتوتر.

    فرحة عارمة اجتاحت البيت عندما أقبل يوم سفري، وقفتُ انظر إلى منزلنا وأشجار الليمون واللارنج المثمرة المزروعة خلف الصالون الجديد، ودعت الجميع كأنني لن أعود أبدا. كنت انظر إلى الناس والأشياء بدهشة صبي يسافر لأول مرة خارج إطار مدينته وقريته.

    وددتُ إلقاء نظرة على أبي الذي وقف بعيداً خلف الجمهرة، وان تلتقي أعيننا في لحظة درامية ما، شيء أشبه بما أشاهده في السينما الغربية، عندما تحين لحظة الوداع يبتسمون ثم ينظرون إلى بعضهم تلك النظرة المعبرة، ثم يلوحون بالوداع وينصرفون. كان الجو مفعماً بالمشاعر وكانت العاطفة مشحونة وصامتة على وشك الانفجار.

    كانت أمي تعلم حقيقة هذا الأمر فاستعدت لهذا اليوم منذ أيام حين زارت الضاحية تلك العرافة. طلبت أمي من العرافة أن تقرأ لي طالع أيامي القادمة. رمت العرافة بأحجارها و أصدافها على الأرض، وسهت قليلا وسرحت بأفكارها في الأفق البعيد.
    قالت العرافة وهي تكب بوجهها على الأرض وتنظر إلى أصدافها وأحجارها الساكنة:
    "إن أيامك مليئة بالعقبات والعراقيل. ستمر عليكم أيام يكثر فيها المطر الأسود، و أن مصيرك معلّق بدلو ثبت في إحدى الكهوف التي تكثر في قاع بحيرة "بجيقا" العميقة، وان روحك صدفة ملقية بالقرب من الجرف فوق رمال الشاطئ ".
    شعرت برعشة وخوف، وطلبتُ منها أن تدع مستقبلي وشأنه و أن تقرأ لي حكمة الماضي حتى أستطيع أن أحدق في مستقبلي بطريقة أثق فيها، لأرى لماذا ينهار حظي ويتفرق مثل كومة قش.
    قالت العرافة:
    " إني أراك تطاردك كلاب الضاحية، فتنجو منها، ثم تمر بحائط عال وأنت تعدو، وتحاول أن تقفز فوق الحائط مرارا وتعجز، حتى إذا ما نجحت في ذلك وتجاوزته وتركته خلفك، تمر ببركة ماء آسن تعبرها بعد جهد مضني، يا بني انك لن تستطيع قضاء أمر من أول وهلة أبدا، هذا هو قدرك". ثم قرأت " لقد خلقنا الإنسان في كبد" واستعاذت بالله وانتفضت كأنها جان عربيد.
    بعد أن فرغت العرافة من قراءة طالعي، نقدتها ثمناً بخساً، ملاليم معدودات دستها أمي المتوجسة في كفي كي اجزيها ثمن تطفلها على مستقبلي.

    كانت أختي التي تكبرني بربيعين تقف بقربي وهي تبكي، و كان أخي قد انشغل بحمل حقيبتي للسيارة بالخارج، وأبناء خالاتي تجمعوا بالخارج لوداعي. كنت أحبهم جميعاً دون أن يشعر بي أحد، وبحبهم وصلت إلى نفسي وتعرفت عليها. كسر هذا الصمت صوت أمي وهي تدعو لي بسلامة السفر وسلامة الرجوع غانماً.

    لم يستدع سفري مرافقة أحد من أهلي لي ضمن المودعين في المحطة رغم أنها رحلتي الأولى خارج الضاحية. كان وداعاً قصيراً وسريعاً. كان أبي لا يزال بعيداً يرقب الزحام الصغير الذي بدأ في التجمع عند الباب الرئيسي للمنزل، لم يحتضنني أو يقبلني، بل اكتفى بمراقبتي محتفظاً بعواطفه ومشاعره لنفسه كما هي عادته دائماً، لا يعبر عنها مهما بلغت أهمية الحدث. كان والدي مشغولا لدرجة كبيرة بهموم تنظيم المزارعين والعمال في المشروع الكبير، وكان يقضي جل وقته في إدارة أمورهم، ولكنه في نفس الوقت كان حريصاً على إكمال تعليمنا الجامعي، رغم انه لا ينتبه كثيرا لدروسنا.

    في ذلك الصباح عندما نهضت واقفا معلناً ساعة الوداع كان وجه أمي يختلط بمشاعر عديدة وملونة، احتضنتني وركعت على الأرض من خلفي تأخذ حفنة من التراب الذي تطأ عليه قدماي في خطواتي الأخيرة لرحلتي الأولى. كان ذلك تقليد قديم حافظت عليه العائلة عله يوازن قلب الأم، ويضمن عودة الابن المسافر.

    موقف البصات الكبيرة يقع في أقصى غرب مدينة مدني، وكان عبارة عن ساحة ترابية كبيرة تقع في محاذاة الترعة الرئيسية لمشروع الجزيرة، تم تشييدها وردمها بالتراب الأحمر. تاريخ المحطة يقول أنها لم تستقر في مكان واحد قط. ....فبعد أن كانت تجاور المستشفى في وسط المدينة، تم نقلها إلى السوق الصغير الواقع بين أحياء المزاد والحلة الجديدة والمنطقة الصناعية، ثم تم نقلها أخيرا إلي المكان الحالي الذي يقع في أقصى غرب المدينة ويلاصق تخوم الزراعة والمقبرة الكبيرة.

    كانت الرحلة من مدني إلى الخرطوم تستغرق ثلاث إلى أربع ساعات – رغم قرب المسافة- وذلك لوعورة الشارع وضيقه وخطورته لكثرة الحوادث التي تقع فيه. وكان سائقو البصات الكسالى يفرضون على الركاب توقف إجباري في مدينة الكاملين التي تنتصف الطريق وذلك في سبيل وجبة مجانية يمنحها لهم أصحاب المطاعم الشاحبة التي تراصت على جانبي الطريق.

    عند وصولنا للمحطة اشتريت تذكرة، وصررتُ باقي أوراقي النقدية وحشرتها في حقيبتي اليدوية في حرص غير مدرب. تناولت الشاي الأخير مع أصدقائي و أقراني: حسن عمر، وسيف الدين، ومحمد صديق، الذين جاءوا إلى وداعي، نشئنا سوياً، واخضرت بيننا السنون. وحدتنا كرة القدم وقوت شوكتنا قضايا الضاحية الكثيرة. وقفنا سويا سداً منيعاً ضد اتحاد كرة القدم الخاص بالمدينة لرفضه ضم فريق الضاحية ليلعب ضمن دوري المدينة. كان رفض الاتحاد يجسد هذا الوضع الغريب الذي فرضته حقيقة أن الضاحية تلاصق مدينة مدني من الناحية الجنوبية الشرقية في محاذاة النيل الأزرق ومع ذلك لا يعتبرها اتحاد الكرة جزءا من المدينة، كما أن الضاحية ظلت دوماً ترفض الذوبان في المدينة ، فهي تعيش في حالة وسطى بين المدينة والقرية. كان الرفض متبادلاً.

    اذكر ذات عصر جاءني حسن عمر ليزورني في المنزل، كنت استذكر دروسي استعداداً لامتحانات الثانوية القادمة، وكان حسن يكبرني قليلا، ويتمتع بقوة بدنية هائلة رغم نحافته الظاهرة للعيان، وكانت قواه تتركز في يديه وقبضته الحديدية وساقيه النحيفتين، وقلبه الحار الذي لا يخشى أحدا، و اشتهر بأنه عداء الضاحية، لا ينافسه أحد ولا يسبقه في الركض كائن من كان بالضاحية. كنا نسميه "كلب الحر"، و رجل المهمات الصعبة خاصة إذا استدعى الأمر بعض المواجهة واستعمال الأيدي والعنف. اشتركنا سوياً في إدارة نادي كرة القدم الذي يحمل اسم "الغابة" تيمناً بغابة الضاحية الكبيرة التي اشتهرت بها الضاحية، حيث كانت كظل يستظل به أهل المدينة في أوقات الحر الشديد بإقامة الرحلات والحفلات الترفيهية. كنا نقوم بالتطوع لمساعدة ضباط الغابات في شتل الأشجار الجديدة قبيل الخريف، وكنا نقوم بحراستها من اعتداءات الحيوانات والبشر أحياناً. كثيرا ما أنفقنا الأيام سوياً داخل الغابة أثناء العطلات أو في جنائن المانجو الموازية لها على النيل. ترعرعنا فيها و أكلنا من ثمرها وخيراتها، واستظلينا بظلها من هجير الصيف واستنشقنا هوائها النقي.

    "جلس حسن عمر في ذلك اليوم واطرق برأسه على الأرض وقال أنه يطلب مساعدتي وكل الشباب في أمر جلل.
    قلت:
    - ابشر اليوم قبل غد، ما الأمر؟
    قال:
    - يجب أن نتوحد ونعمل معا لأيام قد تطول، إن الأمر معقد هذه المرة يا راشد.
    قلت:
    - ادخل في الموضوع مباشرة يا حسن.
    قال وهو ينظر إلى أعلى مغاضباً:
    - شيخ الأمين احضر مهندسين من وزارة الزراعة ووفدين من اتحاد الخضر والفواكه بالمدينة، جاءوا هذا الصباح في عربات كثيرة ودخلوا الغابة وعملوا معاينات ومسوحات وامضوا وقتاً طويلا هناك. ناس الضاحية يقولون إن الحكومة تنوي قطع الغابة وإزالتها من الوجود لتعمل في مكانها مشروعاً لزراعة الموز بغرض التصدير.

    دفع بنا حب الضاحية و بيئتها إلى الوقوف ضد قيام مشروع الموز فيها منذ أن كان الأمر مجرد فكرة. تكاتفنا وعملنا سويا في تنظيم الأهالي في صف واحد ضد المتآمرين مع حكومة الولاية ووزير الزراعة الذين كانوا يرغبون في إزالة الغابة التي تطوق الضاحية من اجل إقامة مشروع الموز. قلنا للوزير في الاجتماع الذي عقد داخل المسجد "إن الغابة هي روح الضاحية واسمها، وخصوبة الحياة فيها، وسر الوجود لأهلها، وتلطف جوها، وإزالتها تعني موت الضاحية، مما يفقدنا جميعاً مبرر وجودنا." قام وزير الزراعة باتهامنا بالفلسفة الرعناء وانصرف غاضباً، ولكننا نجحنا في إيقاف عملية إزالة الغابة ومنع قيام مشروع الموز في النهاية."

    ودعتُ أصدقائي وصعدت إلى الباص الذي أوشك على التحرك. جلستُ على مقعدي داخل الباص بعد أن سويّت من حالي وتأكدت أن حقيبتي قد استقرت في مكان آمن في الرف الذي يعلو المقعد. ما أن تحرك الباص حتى تعلّق بصري بطفل رضيع كبير الحجم والرأس في المقعد الذي يجاورني من ناحية اليمين. كان الطفل يمسك بثدي أمه بيديه الاثنين كأنه خائف من انفلات الثدي من بين أصابعه الصغيرة، و أمه نائمة يتدلى رأسها ناحية جارها. وكان يخرج أصواتاً غريبة من حركة المص المُلح التي يقوم بها. بدأت أراقبه، وتخيلت أن رأس الطفل يكبر مع كل مصة يقوم بها في الوقت الذي يصغر فيه جسد الأم. كان الطفل يحتلب اللبن إحتلاباً عنيفاً يبدو واضحاً من حركة يديه القلقتين وعضلات وجهه العصبي، يتمايل رأسه الضخم فيهتز جسد الأم النحيل اهتزازا خفيفاً. لم يعد هنالك من لبن يكفي هذا الحجم المتنامي لجسد الطفل. أثار فيَ مشهد الطفل المعلق على صدر أمه أحاسيس غامضة بأحداث قديمة تبدو الآن كضباب:

    " في خريف كل عام وبداية موسم اللقاح تكثر ذرات الغبار الأخضر الذي تفرزه أشجار الليمون والمانجو و السنط و النيم التي يكثر نموها في بيوت الضاحية ، وفي الغابة والمزارع التي تحيط بها من كل صوب. في موسم اللقاح هذا وبداية الإزهار تنضح الأشجار غبيرات من مادة خضراء طيارة تملأ المكان والفراغ. حدثت ولادتي في ذلك الخريف المبكر من ذلك العام الذي شهد صعود جحافل أول دكتاتورية عسكرية لسدة الحكم في السودان، وعقب الموت الجماعي لأشجار الليمون التي كانت تحتل جزءاً كبيراً من بيتنا. كان لهذه الحادثة اثر مخيف على نفوس أفراد عائلتي.
    قالت حليمة التي كانت تبيع الفطور لتلاميذ المدرسة الأولية:
    "إن الموت الجماعي لأشجار الليمون لهو نذير شؤم بالموت المبكر لأفراد تلك العائلة".

    "كان عمري لم يتجاوز الشهرين عندما تسربت ذرات الغبار الأخضر إلى مسام جسدي الصغير. ملأ الغبار الأخضر رئتي وكياني، فارتعدت نفسي الطفلة من هول تأثيره. ترنح جسدي تحت وطأة هذا المرض الغريب، وأبت نفسي كل شيء، وخاصمتُ ثدي أمي خصاماً أبديا. نحل جسمي من الجوع والمرض، واصفر لوني، وانكمش جلدي من كثرة البكاء. وفقدت أمي رجاء الحياة فيّ، وأعياها الذهاب إلى الأطباء بحثاً عن استشفائي. أحسستُ بفقاقيع هوائية شفافة تحوم حول قلبي الغض، وضغط غير محبب على جانبي الأيسر، تطير الفقاقيع وتحلق داخل القفص الصدري الصغير، تعروني رعشة كلما لامست سطح قلبي فقاعة. ترنحتُ ثم ترنحتُ ، و هوّمتُ حتى رأيتُ نهايتي الدانية. ظن الجميع أنني قد فارقت الحياة، إلا جدتي التي حملتني ووضعتني على حجرها و تولتني بالرعاية، لم تصدق قصة موتي، كما لم تصدق أكذوبة الموت المبكر، كذبت كل ظنون الناس وبدأت تغني لي و أنا قابع في حجرها. غنت أغنية لا زال صدى كلماتها المبهمة يلامس أذني كنسمة صيفية رقيقة ....( توتو .....توتو .... قالوا متوا...توتو....ـوتو....قالوا انتو متوا...) طربت لحلاوة صوت جدتي، وتبسمت لأغنيتها ابتسامة العائد من موته الأول. وهكذا بدأت جدتي إرضاعي تفاصيل حياتي المبكرة".

    انتزعتُ نفسي انتزاعاً من تلك المشاهد، و أشحت بوجهي إلى الناحية الأخرى من نافذة الباص. كان وجه المدينة يطل من النافذة مسرعاً نحو الوراء، رحتُ أتخيل أصوات الطيور وهي تأوي إلى أغصانها، غثاء الماعز العائدة من المرعى، وخوار الأبقار، رائحة الغروب الممزوجة بأريج زهر الليمون ورائحة المانجو، وروث البهائم وزفير النهر. واختلطت الذكريات بالواقع.

    النيل يمارس لعبة الظهور والاختفاء بين الأشجار التي تبدو مسرعة للوراء بفعل حركة الباص، كان ينبعث منه شعاع الثقة والخلود. القرى هنا بين النيل والمشروع الكبير ظاهرة الفقر والعناء، والباص لا يبالي بالمطبات والحفر، يشق الفضاء المفتوح و يتقدم ناحية الشمال في سباق مع النيل. مدينة الحصاحيصا تقبع عند المنحنى، هنا يرتبك النيل قليلا مع الباص، وتصبح صورة السباق أكثر غموضاً.

    سرحتُ بخيالي وأفكاري بعيداً استعيد بعض تفاصيل ما حدث:
    " استعيد تفاصيل واقعة الفيضان، وثمة غيوم وظلال كثيفة تحوم حول تجاويف الذاكرة، تفصل بينها حيطان وجدران ، تتشابك مع صور مموهة ، وإيحاءات خرافية تثير في النفس خوف غريب. رمال خشنة تداعب أرجلي، مفتوحة على خضم من المياه المنحدرة من الأعالي، من آفاق بعيدة، لا ترسى على بر. ينحدر النيل الأزرق بغليانه وعنفوانه المعروف، لا يأبه بشيء، أمواجه تتقاطع، ورياحه تتعالى و أصوات حذرة تصدر من جوفه. لا اختزال في مسيرته من مرتفعات الحبشة، يمر على كل ذرة من تراب الأرض، يشهد على كل شيء بتعال غريب. يشهد على الزمان في الضاحية، ويصافح عبر امتداده الطويل وجوهاً و أشخاصاً منها، يحفظ ملامحها، ويحتضن أركانها الثلاثة، وحدائقها بروائحها العبقة المميزة بزهر الليمون و نكهة المانجو. تلامس مياهه أحضان فتياتنا الغضة وهن يرتمين بين أحضانه، ليعمدهن بطميه الطاهر. كنت أحاول استعادة صوره البعيدة، من زمن الطفولة، وأناجيه: كنا في كل صيف في زمان الصبا نصغي إلى همس الجنيات الجميلات اللاتي يسكن في قاع "بجيقا" ، نغوص في أعماق ذاكرتنا الطفولية بحثاً عن أسرارك و حقائقك التي تكتنز بها حكاوي المساطيل والمروجين التي لا تنتهي، ونقرأ الرسائل المنسوبة للغرقى الذين لا يعودون إلينا. أصغى وابحث عن حقائق لا توجد، وعن صوت لا يجئ، لن أصبح أسيراً لميتافيزيقيا الخرافة والقوى الغريبة التي تسكن قاعك. ولكن أيها الوحش المفترس الأليف، الصاخب صيفاً، والهادي شتاءً، ها أنت تبدو هزيلا ومكسورا عند دخولك بوابات “بجيقا"، كأنك مكبلا بهذه الأبواب الحديدية الضخمة، محاصراً بغرفها العالية، تعلو مياهك صافية شفافة عند الدخول إليها، وعند الخروج تزول مفاتن بهجتك و ألقك، وقد تجدد عنفوانك وشبابك وقوتك. تمور مياهك وتفور عند منعطف "بجيقا"، و أنت تغادرها لتنفتح على منافذ الحياة من جديد مثل صبي خرج من الحبس واكتشف بهجة الحياة فجأة بعد حرمان طويل. لا تأبه بالصيادين ولا بشباكهم المنثورة والمشرعة في قاعك، تتعارض خيوطها الطويلة المثقلة أطرافها بقطع الحديد، كما لا تأبه بأحلامهم التي تدور مثل "شيمك"، و أمواجك العاتية."

    قبل أن استعد للسفر كنت قد تعلمت السباحة و أجدتها، هزمت فكرة الغرق ونزعتها من داخلي. سبحتُ في ذلك اليوم الأخير سباحة استمرت عصر كل اليوم. حاولتُ أن أتوحد مع الماء، وأحسستُ أنني انبثق من مركز النبع لتتدفق روحي وأفيض فوق كل الأشياء، تغلبتُ على الخوف..... ألقيتُ بنفسي إلى الماء وتغلبتُ على كل الأشياء: الأحجار، الشيمة، جذوع الأشجار المتناثرة حولي، ورحتُ انشد واغني كي تسمعني جنيات البحر، مستلهماً أسطورة أبو زعبل. غطستُ إلى القاع، وطفوتُ كورقة مانجو، وسبحتُ بنشوة غريبة. هكذا هزمتُ الغرق.

    بعد ثلاث ساعات من السير توقف الباص عند محطة "سوبا" العسكرية للتفتيش وغاب وجه الضاحية من ذاكرتي فجأة دون إشارة أو وداع. الخرطوم تنصب لنا شراك الشك في بوابات الدخول. وقرية "سوبا" الكائنة الآن ليست بها أية آثار تدل على أنها كانت آخر معاقل الحضارة النوبية في أواسط السودان. من هنا بدأ فعل التخريب، خربّها تحالف العبدلاب والفونج قبل عدة قرون، و الآن أصبحت "سوبا" بوابة للخرطوم من الناحية الجنوبية، منها تبدأ رحلة الشك في القادم من الريف. مزارعها شاحبة يكسوها الغبار، لم تعرف الاخضرار، ولم تشهد موسماً للإزهار منذ أن سكنها الهوس و الإرهاب، أصبحت كوخاً تخرج منه وطاويط الليل لتمتص دماء الأبرياء، وملجئاً لتدريب المجاهدين العرب الهاربين من ويلات حكوماتهم العربية الإسلامية. وكانت الحكومة الإسلامية الجديدة قد أعلنت الجهاد الإسلامي لتوها ضد شعب الجنوب المسيحي.

    صعد الباص شاب صغير صارم القسمات، حرقت وجهه أشعة الشمس الحارة فزادته سوادا على سواد. أمرنا الجندي الشاب بالنزول من الباص والوقوف صفاً واحدا أمام أحد الخيام العسكرية التي نصبت في العراء. كان هناك عدد من العساكر يجوبون داخل البصات الأخرى التي اصطفت خلفنا وأمامنا يبحثون في حقائبهم عن دليل للإدانة بعدم الوطنية أو عدم التدين، ويفتشون في قلوب الأطفال عن شرور مستقبلية قد تكون كامنة فيهم. زاد دخان البصات حرارة الجو فأصبحت تتصاعد على الأرض وكأنها سراب.

    نزلنا حسب التعليمات التي أملاها علينا الجندي. وقفنا في طابور طويل تصحبنا حقائبنا استعداداً للتفتيش الشخصي الذي سيقوم به رجال الأمن. خيام متناثرة، ورجال ملتحون ومسلحون، غابت عنهم الابتسامة منذ أزمان سحيقة. أمرونا بالوقوف قروناً طويلة في هذا الجو الحار الذي يزيده لهيباَ هدير ماكينات البصات المتراصة والأبخرة التي تخرج منها، حرارة يفور لها المخ. وكان هناك صبية صغار متسخي الثياب يحملون صفائح من الماء البارد، يتبعهم سرب من الذباب الذي يكثر هذه الأيام. كان الباعة يرددون: "برِّد ...برِّد ...جوفك " عبارات سليمة في موقف غير سليم. كانت أصوات تتصاعد الصبية يعرضون علينا الماء للبيع ونحن عنهم مُعرضين.
    قلت في سري:

    "ربما أرادوا بهذه الإجراءات أن يشعرونا بأننا لا ننتمي إلى هذه المدينة النخبوية التي تسمى "العاصمة المثلثة"."

    مرت لحظات من الترقب والاغتراب وعدم الانتماء كأنها أجيال من الانتظار. كل المتاعب بدأت من "سوبا" هكذا يقول التاريخ، منذ أن استكانت لفعل التخريب والهزيمة. اعتنقت "سوبا" الآن التطرف و أصبحت مأوى له، يأتيها من كل حدب وصوب.

    اقترب منا جنديان، أحدهما بدأ بالتفتيش والآخر اكتفى بمراقبتنا خوف أن نفلت منهم. كان الجندي يفتش في كل ما نحمله من متاع وكتب و أوراق والآخر يقوم بتوجيه الأسئلة. عندما أتى دوري، انهمك الجندي في تفتيش حقيبتي الصغيرة، تغوص يداه المدربتان في أعماق الحقيبة، كأنه يبحث عن شيء معين. كان يبحث عن دليل إدانة يواجه به هذا الريفي القادم إلى الخرطوم!

    وحين لم يعثر على ضالته و"دليل الإدانة"، سألني عن بطاقتي الشخصية وهو يبحث في جيوبي.
    ناولته بطاقتي الجديدة التي استخرجتها لإثبات شخصيتي عند امتحان الشهادة الثانوية قبل شهور قليلة. أخذها مني وبدأ يقرأ بصوت عال ليملي على زميله الآخر الذي كان يدوّن بياناتها:
    الاسم: راشد عبد الرحيم حمد الله.
    المهنة: طالب.
    تاريخ الميلاد: 15/10/1972.
    مكان السكن: الضاحية/ مركز مدني شرق.

    سألني الجندي الذي كان يدون البيانات:
    - لماذا أنت ذاهب للخرطوم؟
    - للدراسة الجامعية. أجبت وأنا أريه خطاب قبولي.
    - أي كلية ؟
    - لدراسة الآداب.
    - ماذا يعمل والدك؟
    - مزارعاً بالمشروع الكبير. قلت.

    بعد أن انتهت عملية التفتيش صعدتُ للباص مرة أخرى، وما أن اكتمل عددنا حتى بدأ الباص يشق الطريق عبر مزارع متآكلة وشاحبة وأسوار مغبرة ، وبدأنا نقترب.

    وما انقشعت ظلال الأشجار القصيرة حتى لاحت لنا الخرطوم من قريب ينبعث منها غبار السنين. ارتبك قلبي قليلا وأنا أترجل من الباص لألج فيها لأول مرة. كانت المدينة تئن من قبضة العسكر الإسلاميين، وترزح من ثقل أوزارهم.
                  

العنوان الكاتب Date
الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 07:54 PM
  Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 07:58 PM
    Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 08:08 PM
    Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها ابراهيم على ابراهيم المحامى04-23-07, 08:09 PM
      Re: الحيـــــطان ......مهداة الى ضحايا التعذيب في السودان ابراهيم على ابراهيم المحامى04-30-07, 09:24 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de