س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 10:32 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة سودانيز أون لاين دوت كم
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-04-2006, 00:41 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18727

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد (Re: بكرى ابوبكر)

    المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد

    كان ذلك مشهداً ميلودرامياً, في يوم 5/1/2004 اجتمع القاتل والمقتول, أو الجلاَّد والضحية، وذلك للاحتفاء بالخيبات المُتراكمة. إذ عقد مجلس وزراء الإنقاذ ما أسماه بـ”الجلسة التاريخية“ برئاسة الفريق عمر البشير, أمَّها كل الحُكام الذين مرُّوا على كراسي السُلطَة في فترة ما بعد الاستقلال, عدا الذين قضوا نَحبهم.. والحُضور هم السادة: أحمد الميرغني, الصادق المهدي, جعفر نميري, الجزولي دفع الله.. كذلك حضرها لفيفٌ من الذين طافوا على وزارات مُختلفة.. وحول الحدث، قال الأخير، رئيس وزراء حكومة انتفاضة أبريل/نيسان 1985: «إن هذا اليوم جمع كل حكام السودان، منذ الاستقلال, من جاء عن طريق صندوق الاقتراع, ومن جاء عن طريق ثورة شعبية, ومن جاء بواسطة دبابة, ومن أسر هذا، ومن سجن هذا، ومن أطلَق سراح هذا, اجتماعهم كلهم في صعيد واحد لا يحدث إلا في السودان, إنها ظاهرة سودانية خالصة».. وقال الصادق المهدي: «إن هذا الاجتماع التاريخي يعكس ثقافة الموَدَة والمحبة السودانيَّة المعروفة»، ولم ينس المهدي أن يستلهم من الثقافة الشعبية السودانيَّة تشبيهاً للمناسبة، فقال: «إن البشير قال كلاماً طيباً, ”سمَك بياض ما فيهو شوك“», والكلام الطيب الذي قاله المذكور «يجب الاعتراف الكامل بفضل الآخرين».

    نيابة عن الوزراء، تحدَّث حسين أبوصالح، صاحب الرقم القِياسي في الاستوزار، وقال: «إنها فرصةٌ تاريخيَّة, وإن التغيير من نظامٍ إلى نظام في السودان كان يتم دائماً بالعُنف, عبود انقلب عسكرياً على النظام الديمقراطي, والشعبُ ثار على عبود وانتزعه بالقوَة مِن كُرسِي الحُكم, وزحف نميري بالدبَّابات من خور عمر, وأزيح من السُلطَة بانتفاضة شعبية عارمة, وجاءَت الإنقاذ بالدبَّابة, ورَغمَ كلِّ ذلك ما سادت سياسة الفُجور في الخُصومة، بل على عكسها تماماً سَادَ التسامح».. وأضاف: «إن الاعتراف بجهد الآخرين، ونسيان المرارات السابِقة، هو الذي يدفعُ السودان للأمام».. أما الميرغني، فقد ظلَّ -كالعهد به- صامتاً، فلم ينبس بِبِنتِ شفة.. وبالطبع، لم تَشمَل المُناسبة الترابي، لأنه كان مُعتقلاً، رَغمَ أنه نالَ لقب ”الرجل الوحيد الذي حكم السُودان مِن وراء الستار“ لفترة من الزمن.

    مِن المُؤكد أن أفراد الشعب السُوداني، الذين حكمهم المُجتمعون -طوعاً أو كرهاً- لو أنَّ أحداً استفتاهم في وقائع تلك التراجيديا السياسيَّة، لامتزج الغَضَب بالسُخرية في آرائهم, ذلك لأنَّ ”الفَشَل“ هو القاسمُ المُشتركُ الأعظم بين المُجتمعين.. ليسَ هذا فحسب، فبَعضُهُم مارس فيهم أسوأ أنواع الساديَّة السياسيَّة, وحوَّلوهم إلى ”فئران معامل“.. وآخرين أغرقوهم في بُحُورٍ مِن الظلمات.. وجَميعُهُم ذهبُوا غير مأسُوف عليهم, فلم يذرف أحدٌ عليهِم دمعة واحدة.. وبالتالي، فمِن باب الإنصاف أن نقول إن تلك المُناسبة لا تعنيهم في كبير شيء, أو في مُجاراة مع من أقتبس المثل الشعبي أعلاه, يمكن القول بذات الثقافة أنه «مُولد وصاحبو غايب».

    لكِن مِن الواضِح أنَّ المُجتمعين استندوا في تفسير الظَاهرة إلى السائد في الثقافَة السياسيَّة السودانيَّة، فيما يُسمَّى بـ”التسامُح السياسي“ السُوداني.. وهي الظاهرة التي ذاع صيتها، ويحلو للكثيرين اعتبارها إحدى العلامات الإيجابِيَّة في السُلوك السِياسي السُوداني، ويقولون إنَّها تميِّزه عمَّن سِواه مِن الشُعوبِ والأمَمِ.. لكِن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ”هل الأمر كذلك حقيقةً؟“..

    إنَّ مُجرَياتِ الواقِع تشيرُ إلى أنَّ ذلك المفهوم هو في حقيقته نوع من أنواع التحايُلِ الذي ابتدعه السياسيُّون السُودانيون، لتبرير اغتِصَابهم الحقوق الأساسية للمُواطن، وهو أيضاً كهفٌ احتموا به لإخفاء عجزهم وفشلهم وخيبتهم.. وبالنظر لحقيقة ما يجري بين النخب في دهاليز السِياسة السودانيَّة, في ظلِّ أي نظامٍ سياسي, فإنَّ الظاهرة تجري على عكس ما أطلق عليها.. لكنَّ المُفارقة أنَّ الظاهرة نفسها بصورة عامة، تتقاطع تماماً مع المعنى المنهجي للسياسة, والذي اتفق على أنه تَسييرٌ لشُئون الناس بشفافية كاملة، على قاعدة الحقوق والواجبات, تخضع فيه السُلطة التنفيذِيَّة في النظام الديمقراطي لمُراقبَة ومُساءلَة السُلطَة التشريعيَّة, وتختصُّ فيه سُلطة قضائِيَّة مُستقلة بمبدأ المُحاسبة.. وبالتالي، ليس لمفهومِ ”التسامُح السياسي“ السُوداني موقع في إطار هذه المنظومة.. بَيْدَ أنَّ البشريَّة عرفت ما يُسمى بـ”التسامح الاجتماعي“, وصنوِّه الآخر المُسمَّى بـ”التسامح الديني“, وكليهما معنِيٌ بتهذيبِ النفوس, وكسر العصبيَّة، وتكريس القِيَم والمبادئ التي تسمُو بالفرد والجماعة، وصولاً لمُجتمَع الفَضيلَة، وإن كان حُلماً عصيَّاً. وعليه، لم يكن غريباً أن تسُود ظواهر التسامُح الاجتماعي والديني في أوروبا والغرب, وتنتفي ظاهرة ما يُسمى بـ”التسامح السياسي“, تلك البدعة التي أوهمنا بها أنفسنا لزمن في السُودان.

    ونوردُ في ذلك مثلاً ببريطانيا، الدولة التي تزلفنا بنظامها السياسي ”ديمقراطية وستمنستر“ ولم نصطلِ بنِيرانِ نِضالاتها التي أوصلتها لتلك الدرجة مِن الاستِقرار والمثالية, فهِي -كما هو معروف- ترسَّخت بقيمٍ ومُثل ومبادئ، امتدَّت عَبرَ مئات السنين, في حين أننا توهَّمنا أن الاقتباس وحده يُمكنُ أن يُحقِّق استقراراً.. واختزلت النخبة السياسيَّة السودانيَّة التجربة برمَّتها في الاهتمامِ المُوسمي بالذين ”يُصوِّتونَ بأقدامهم“، على حدِّ تعبير المثل الإنجليزي الشائع, الأمر الذي يُفسِّر حالة الكساح التي عَصَفَت بها لثلاث مرات.

    حينما طار رأسُ الملك تشارلز الأول في العام 1649، وُلِدَت الجُمهوريَّة البِريطانِيَّة على يد كرومويل, وكان أهمُّ شيء فعله تعبيد الطريقِ نَحوَ الملكِيَّة الدُستوريَّة، وإشاعة ”التسامُح الديني“, وعلى إثرِ ذلك، تقاطر اليهودُ نحو بريطانيا، بعد أن طردوا منها لنحو ثلاث قرون.. ويُذكرُ أن إسهامات الفَيلسوف جون لوك الفكريَّة، كانت سبباً مُباشراً في ذلك التحوُّل التاريخي لبريطانيا, بعد أن استلهم كرومويل أقواله، وحوَّلها إلى أفعال, وخاصَّة كتابه الثاني ”رسالة عن التسامح الديني“، والذي مَهَّدَ له بكتابه الأول ”بحثان عن الحكومة“، وفيهما أعلنَ رفضه لدَعاوَى المُلوك في الحَقِّ الإلهي, ونادَى بنظريَّة ”فصل السلطات“، مُرسياً بذلك قواعد الديمقراطيَّة السياسيَّة.

    ولأنه لا يعرفُ الصبابة إلاَّ مَن يُعانيها, ما كانَ لجون لوك أن يطرق ذلك الموضوع الحيوي الذي غيَّر تاريخ بريطانيا السِياسي، لولا أنه شخصياً كان أحد ضحايا التعصُّب الديني, والذي أجبَرَهُ على الهُروبِ إلى هولندا, وقد أسَّس نظرته في التسامُحِ الديني على قاعدة حتميَّة الانتقال من التسامُح بين مُعتنقي الديانة الواحدة, إلى التسامُح مَع مُعتنقي الديانات المُختلفة.. «يجب أن لا نَستبعد إنساناً أياً كان عمله أو وظيفته لأنه وثَنيٌ أو مُسلمٌ أو يهودي».. ومِن المعروف أن أفكار لوك أثرت بعدئذٍ في تفجِير الثورة الفرنسية، التي مهَّدت لإعلان حقوقِ الإنسان, وانداحت أيضاً على أقطارٍ أخرى، فحرَّرتها مِن الاستعمار، مثلما حدث في أمريكا اللاتينية.. وفى أوروبا، كان أثرُها العظيم في ازدهار حركة التنوير، بظهُور فلاسفة كبار، اقتدوا بأفكار لوك.. وعليه، فإن ”التسامُح الديني“ يُعدُّ ركناً أساسياً في ترسيخ النظام السياسي، في حين أننا، ذراً للرماد في العيون, اعتقدنا بأن ما يُسمَّى بـ”التسامُح السياسي“ هو الذي يؤدي إلى بِناء أمَّة مُتناقضة ومُتباينة في ثقافاتها وأعراقها ودياناتها.. وظلَّ المُصطلحُ يَنحَرُ في رِقابِ تلك التناقضات، بدلاً عن إثرائها, أو حتى توفير المناخِ الملائم لها، والذي يحققُ الوُحدَة في إطار التنوُّع, وذلك ما تؤكده مجريات الأحداث التي حملت النقيضين معاً في أحشائها.

    تعرَّض السودان القديم، المؤسَّس على دُويلات وممالك ومشيخات للفتحِ الإسلامي, إثر حملَة عبدالله بن أبى السَّرح, والتي نجحت في إخضاع أهالي بلاد النوبة، وانتهت بـ”معاهدة البُقطِ“ في العام 651 ميلادية, وكانت عبارة عن هدنة أمان، أو مُعاهدة عدم اعتداء, ونصَّت على أن: «يدفع أهالي النوبَة نحو أربعمائة من أواسط رقيقهم كل عامٍ ويتسلمون مُقابلها مواد غذائية وملابس وخمراً, إلى جانب التصريح للتجار المسلمين بدخول أراضي النُوبة مُجتازينَ غير مُقيمين, وسُمِحَ للنوبة بالتجوُّل في مصر بنفس الأسُس على أن تَحتفظ كلُّ جماعة بدينها».

    تلك المُعاهدة الفريدة، التي سبقت أفكار جون لوك بأكثر من ألف عام, صَمَدَت في وجه كلِّ المُتغيرات السياسيَّة والاجتماعيَّة لأكثر من سَبَعَة قرونٍ بالنسبة لمملكة ”المَقرَّة“، والتي انهارت في القرنِ الرابع عشر, وأكثر من ثمانية قرونٍ بالنسبة لمملكة ”عَلوَة“، التي أصبحت دُوَيلة يحكمها المُسلمُون في مطلَع القَرن السَّادس عشر, رغم أنها تبدو للرائي وكأنها حالة مُؤقَّتة، أملَتها ضروراتُ الغزو. غير أنَّ المُهم في كلِّ ذلك، أنَّ تلك الفترة الطويلَة نسبِياً, شهدت تعايُشاً إسلامياً مسيحياً على قاعدة ”التسامُح الديني“ التي وفرتها مُعاهدة ”البُقطِ“, ولم يُنتهك إلاَّ بسُقوطِ مملكة ”عَلوَة“ في وسَطِ السُودان, والتي تحالَف في إسقاطها حِلفُ قبيلتي ”الفونج“ بقيادة ”عمارة دُنقس“، و”العَبْدِلاَّب“ بقيادة ”عبدالله جَمَّاع“، وذلك بدمارٍ صارَ مَضرَباً للأمثال في الثقافة الشعبيَّة السائدَة، والمعروف بـ”خَرَاب سُوبا“, وقامت على أنقاضها مملكة ”الفونج“، ناعية حالَة استثنائية في التعايُش الإسلامي المَسيحي، الناتج عن المُعاهدة.. «إن الحديث عن ”خَرَاب سُوبا“ قد يحمل في تَضاعيفِه إشارة إلى العُنف، لا ضد الدولة فحسْب, بَل ضد المسيحيِّين الذين بقَوا على أنقاض تلك الدولة, لاختفاء المسيحية بذلك الشكل الدرامي, ثمَّ عَبرَ الذوبان التَدرِيجي، والانتهاء القَسْرِي.. ولعل روح التَسامُح وسعة الأفق، التي عُرِفَ بها المُسلمُون الأوائل, قد تَلاشَت كثيراً بين حنايا المجموعات التي وفدت إلى بلاد السُودان»..

    كان ظهور دولَة ”الفونج“ التي امتدَّت لما يُناهز الثلاثة قرون، ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر, هو أولُ مُحاولة لتأسيسِ دولة ثيوقراطيَّة في تاريخ السُودان، قبل تأطير كيانه السياسي والإداري، بعد الفتح التركي المصري العام 1821.؟ ولعلَّ ذلك - بالتطوُّرات المذكورة- كان بداية ازدواج المفاهيم, فَقَد انحَسَر ”التسامُح الديني“ بين المِلتين، الإسلامية والمسيحية, وتزامن ذلك مع مدِّ السَّلاطين لجسورهم، مع طبقة الفقهاء والمُتصوِّفة، الذين كان لهُم تأثير عظيم في المُجتمع. غير أنَّ بعضهم ما لَبث أن أصبح مشغولاً بالدنيا أكثر من انشغاله بالآخرة, وتمَّ استغلالهم في توطيد أركان المملكة بفتاوى تتناسبُ ومقامات السَّلاطين, وكان ذلك في التقدير أولى بدايات ”تديُّن السياسة“ (الفقهاء)، و”تسييس الدين“ (السلاطين).. ولا غرو أن كان ذلك سبباً أيضاً في نهايتها.. «يُمكنُ اعتبار دولة الفونج أنموذجاً لقيام دولة دينيه متأثرة بسماحة التَصوُّف, ومع ذلك تَدهوَرَت مع تدهوُر التَصوُّف ومُفارقَة السلاطين الأواخِر لسيرة آبائهم الذين كانوا يتمسكون بالدين, والنهج الصُوفي منه على وجه الخصوص»..

    وفى خِضَم ازدواج المفاهيم، وإزاء التغيُّراتِ الجذريَّة التي حدثت في بنية المٌجتمع، فقد أدَّى الضَعفُ الذي اعترى المملَكة، إلى بروز مُصطلح ”التسامُح السياسي“, ولم يكن ثمَّة مناص أمام السَّلاطين سوى التمسُّك بأهدابه، حفاظاً على سُلطَتهم.. «برزت أرستقراطية عسكرية محلية عن طريق التراكُم البدائي, ثم انتقلت إلى التجارة الخارِجية, ومع بروز تميَُزِها الاقتصادي، رَأَت ضرورة تميزها الاجتماعي, وتمثلَ ذلك في تبنيها لتَعاليم الإسلام في أنماط سُلوكها الظاهري, كأحد أشكال تميزها عن العامة, فقاموا بِتشجيع العُلماء وكانت خدماتُ العُلماء الفقهية مطلوبة بصفة خاصة لاستكمال البناء القانوني لمُجتمعات المُدن ومراكز التجارة, فقام نفرٌ من العُلماء باجتهادات بارزة لإيجاد تشريعات تناسب المجتمع السناري»..

    ذلك ما كان مِن أمر الحُكمِ الوطني, أمَّا الحقبة التي تلته، مُمثلة فيما بعد الفتح التركي, فبحُكم ارتباطِه بالسَلطنَة العُثمانِيَّة، التي كانت تمثل مركز الخلافة الإسلامية «قام بتأسيس مُؤسسة العُلماء كمؤسسة رسمية يُعتَمَدُ عليها في تَسيير شُئون البلاد, ولكنها لم تَجد تأييد ودعم مُعظم الطرُق الصُوفِية القَائمة, ومع ذلك فقد وجدت السُلطة الجديدة مَن يتعاون معها وكانت الطريقة الخَتمية في المُقَدِّمة, أما بقية الطُرُق فقد اتخذ بعضُها موقفاً سلبياً بينما اتخذ بعضٌ آخر موقفاً عدائياً من الحكم الجديد».. وعليه، فقد كان موقفه من مسألَة ”التسامُح الديني“ سُلطوِياً، أو سُلطانِياً - سِيَّان- وهو لا يفضي بالضرورة إلى خلق التعايُش المعني.. كذلك أدعى إلى القول بأنه لم يكن معنِياً بـ”التسامُح السياسي“ باعتباره استعماراً استعبادياً، مسنوداً بقوَّة عسكريَّة قمعيَّة لترسيخ كيانٍ إداري جديد, مثلما أنه عَصَفَ بـ”التسامُح الاجتماعي“ لأنه، إضافة إلى الإنهاكِ الاقتصادي للمُواطنين بالضرائب، كان على رأس أهدافه الاستعمارية الحُصول على أكبر قدر مِن العبيد, ودشَّن بذلك مُؤسَّسة الرِقِّ في السُودان.. «ما مِن بَحثٍ يستقيمُ عُوده وتَستَقِر أركانه عَن عِلاقات الرِقِّ والاستِرقاق في المُجتمع السُوداني, إن لم يتخذ من عهد التركيَّة محوراً له، فهي الذروة, التي دفع محمد علي باشا تلك المُؤسسة نحوها, ولا تتضح الصورة على السفحِ مِن الجانِبَين, إلا بِتسلقِ واعتلاءِ القِمة, فما فعلتهُ تجارة الرقيقِ والاستِرقاقِ عَبرَ الأطلَسِي في غَرب أفريقيا, فعلته التركيَّة في السُودان, وفى الحالَتَين كان الاسترقاقُ واستحواذ الرقيق الهدف الإستراتيجي الأول, تخضع له وتَليه في الأهمية أهداف أخرى، كالتَنقيب عن الذهب, أو اكتشاف منابع النيل, والفيصل هنا الوثائق, لا تحليل وترجيح المؤرخين, أو نفاق محمد علي ومن خلفه في العرش أمام قناصل الدول الأوروبية, قال الباشا ”وبعضمة“ لسانه في رسائله لابنيه المقصود الأصلي مِن هذه التَكلفات الكثيرة والمَتاعب الشاقة ليس جمع المال كما كتبنا إليكم ذات مرة بعد مرة, بل الحصول على عدد كبير من العبيد الذين يصلحون لأعمالنا ويجدرون بقضاء مصالحنا. والهدف من إرسال قوة كافية جيدة العدة والعتاد لتلك المناطق هو الحُصول على عبيد يصلون إلى مُعسكرات أسوان بسلامٍ, فالعبيد المُلائمون للجنديِة تعادل قيمتهم قيمة الأحجار الكريمة، بل أكثر قيمة».. وبالتالي، وفي ظلِّ تلك الصورة الواضحة، لا معنى للحديث عن ”التسامُح“ في أيٍ مِن شُعَبه الثلاث.

    على صعيد تالٍ، حاول محمد أحمد المهدي تأسيس دولَة، هي الثانية مِن حَيثُ التماثل الثيوقراطى مع مملكة الفونج, والأولى مِن حيثُ توجُّهاتها الصارخة، حيثُ إن رائدها، ومِن بَعده خليفته عبدالله التعايشي، عملا على توطيد أركانها بالقهر والعُنفِ والاستبداد.. استناداً إلى المشيئة الربَّانية تارة، والإرادة النبويَّة تارة أخرى.. وفى ذلك، استهدفت مُواطنيها، وبالأخصِّ الفئة التي نازعتها الفتيا في أمُورِ الدِين، مِن الفقهاء والعُلماء والمشايخ, وتواءمت في ذلك مع ثقافة المُستعمر نفسه، بل تجاوزته باستحداث طرُقٍ عديدة للتَنكيلِ بمُعارضيها، سجناً وتعذيباً وقتلاً، واستتبع ذلك قبرُ ”التسامُح الديني“ في إطار العقيدة الواحدة, مثلما أنها اختطَّت خُطى المُستعمر الذي ادَّعت مُحاربته بتكريس مُؤسَّسة الرق, وتصعيدها الحرب بين القبائل بتأليبِ بعضهم على البعض الآخر, وزادَت باستحلال السَبايا, فألحَقت ”التسامُح الاجتماعي“ بمثله سالف الذكر.. ومن البديهي أن لا يكون لـ”التسامُح السياسي“ مكانٌ في قامُوسها، طالما أن علائقها مع مُواطنيها كانت قائمة على الإقصاء بخيار ”مَن لم يُناصرها فهو بالضرورة ضدَّها“، علماً بأن بعض الذين ناصروها وانخرطوا في صفوفها فعلوا ذلك لأسباب سياسيَّة وليست دينية، هروباً مِن مُمارسات الاستعمار التركي.. ومع ذلك، فإن ذكر الجوانب السلبيَّة في تاريخ المهدِيَّة لا يغمط حقها كثورة وطَنيَّة في الجانب الإيجابي منها، والمُتمثل في مُقاومة الاستعمار نفسه, لكن تلك يقالُ عنها عطِيَّة مُنِحَت باليمين، وأخذت أضعافها بالشمال.

    أمَّا الاستعمار المُزدوج الثاني، والمُسَمَّى أيضا بـ”الحكم الثنائي“ -البريطاني/المصري- والذي دامَ نحو ستين عاماً (1898-1956) فهُو يختلف عن سابقه، في كونه استعماراً استيطانياً، لأهداف توسعية, وقد اقتضت هذه المُهمَّة تقديم صُورة مُناقضة لدوافعه, وكان نشرُ المسيحيَّة تابعاً لها، ولم يكن سبباً.. ومع ذلك، لم يجعل مِن التبشير بها محكا لمُحاربة العقيدة الإسلاميَّة.. «كان البحث عن مُتعاونين مع الحكام الجُدد ومُواجهة خطر حركات المُقاومة يتطلب، ليس فقط عدم معاداة الإسلام, بل أيضاً تَبني سياسة تَعملُ على إقامة مُؤسسة للعُلماء المُسلمين, هادئة ومقبولة لاحتواء الطرق الصوفية العديدة، والقضاء على المهدية, وضرورة التعامُل مع الإسلام بحساسية عالية، تشملُ أيضاً منع عمليات التنصير في الشمال، وتشجيع الإرساليات، لتركيز نشاطها في المجتمعات الوثنية في الجنوب».. وفي التقدير أن قانون المناطق المقفولة 1922 كان معنياً بالدرجة الأولى بالمسألة الأنثروبولوجية، والحد من تغلغل اللغة العربية, أكثر من كونه حرباً مباشرة على العقيدة الإسلامية, وذلك بغض النظر عن الإسهام الفعلي للقانون في تفسخ العلاقة الاجتماعية بين الشمال والجنوب.

    في هذا السياق، ومِن أجل تقديم صُورة مُناقضة لدوافعه أيضاً، أياً كانت دواعيها، فقد عمد في بداية بسط نفوذه على الدولة، إلى إشاعة شيء من ”التسامُح الاجتماعي“ في قضية محوريَّة, إذ عمل على وضع بعض القوانين التي هدفت إلى تصفية مؤسًّسة الرِق، المو######## من الاستعمار الأول.. «الأداة التي توسلت بها الإدارة لمُحاربة تجارة الرقيق, كانت مصلَحة مُناهضة الرِقِ, التي انتقلت من القاهرة إلى الخرطوم عام 1903، تحت إشراف مفوَّضٍ عام ومدير، وأُعيد تنظيمها كإدارة وقوة شبه عسكريَّة، بسلطات شرطية, وصلاحيات قضائية»..

    تلك المصلحة التي أنشأت لها فروعاً في عدة مناطق من السُودان، شرعت على الفور في عتقِ الأرقاء، بمنحهِم ما أسمته بـ”ورقة الحريَّة“.. لكن المُفارقة، أن محاولات المُستعمر البريطاني، لاقت عنتاً من الوَطنيِّين، الذين ضرَّهم تصفية مُؤسَّسة الرِقِّ, وعلى رأس هؤلاء، اعترض زُعماء السُودان الدينيِّون، قادة الأحزاب الطائفية الكبيرة فيما بعد، السادة: علي الميرغني, عبدالرحمن المهدي, الشريف يوسف الهندي, الذين أرسلوا مذكرة في 6 مارس/آذار 1925، وجَّهوها إلى ”مدير المخابرات“ البريطانية!! ولا يدري المَرءُ، لماذا لم يُتِح لهم مقامهم توجيهها إلى رأس السُلطة الاستعمارية مباشرة؟! على كلٍ، في تلك المُذكرة، برَّروا أولاً اعتراضهم على القانون، بالتذاكي على العُرف والقانون الدولي.. وثانياً، بتزييف واقع الأرقاء في خُصوصيَّة المُجتمع، بزعمِ أن المُستعمرين لا يعرفونها!! وجاء في المذكرة:

    «نرى مِن واجبنا أن نشير إليكم برأينا في موضوع الرق في السودان, بأمل أن توليه الحكومة عنايتها ولقد تابعنا سياسة الحكومة تجاه هذه الطبقة منذ إعادة الفتح, وطبيعي أننا لا نستطيع أن ننتقد أمراً تَوحد كل العالم المتمدن لإلغائه, وهو واحدٌ من أهم الأمور التي يعنى بها القانون الدولي, على أن ما يهمنا في الأمر أن الرِق في السودان اليوم لا يمت بصلة لما هو متَعارفٌ عليه بشكلٍ عام. فالأرِقاء الذين يعملون في زِراعة الأرض, شركاءٌ في واقع الأمر لملاَّك الأرض ولهم من الامتيازات والحُقوق ما يجعلهم طبقة قائمة بذاتها، ولا يُمكن تصنيفهم كأرِقاء بالمعنى المتعارف عليه. وأهلُ السودان الذين ما زال لهم أرقاء في الوقت الحاضر, إنما يُعاملونهم كما لو كانوا من أفراد العائلة بسبب احتياجهم المتعاظم لعملهم, ولو كان لطرف أن يتظلم الآن فهم الملاك الذين أصبحوا تحت رحمة آرائهم. وكما تعلمون تمام العلم، فإن العمل في الظرف الراهن هو أهم قضية في السُودان, ويتطلب علاجها الاهتمام الأكبر, فالحكومة والشركات والأفراد المهتمون بالزراعة, يحتاجون لكل يد عاملة يمكن الحصول عليها لتسهم في نجاح المشاريع. ولابد أن الحكومة وموظفيها قد لاحظوا خلال السنوات القليلة الماضية, أن أغلبية الأرِقاء الذين أُعتقوا أصبحوا لا يصلحون لأي عمل, إذ جنح النساء منهم نحو الدعارة, وأدمن الرجال الخمر والكسل.

    لهذه الأسباب نحث الحكومة على أن تنظُر باهتمام في الحكمة من إصدار أوراق الحرية دون تمييز لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسئولية للعمل, والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيدهم. بما أن هؤلاء الأرقاء ليسوا عبيداً بالمعنى الذي يفهمه القانون الدولي, فلم تعد هناك حوجة لإعطائهم أوراق الحرية, إلا إذا كانت هناك حوجة لإعطائها لملاك الأرض الذين يعملون لهم, وإنه لمن مصلحة كل الأطراف المعنية والحكومة وملاك الأرض والأرِقاء, أن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة, أما إذا استمرت سياسة تشجيع الأرِقاء على ترك العمل في الزراعة والتسول في المدن, فلن ينتج عن ذلك سوى الشر. نتمنى أن تأخذ الحكومة هذا الأمر بعين الاعتبار, وأن تصدر أوامرها لكل موظفيها في مواقع السلطة, بأن لا يصدروا أي أوراق حرية, إلا إذا برهن الأرقاء على سوء المعاملة».

    تلك من الوثائق التي يَندَى لها جبين الإنسانية، ولا يُعادلها في السُوء، من جهة الحيثِيات التي أوردتها، سوى وضعية طبقة ”العبيد“ في الدولة الرومانية.. والمُفارقة حقاً، أن المُستعمر يدعُو لإنهاء الظاهرة, بينما زُعماء أهل البلد المُستعْمَرين يَعمَلون للإبقاء عليها!!

    على كلٍ، فإن مدير المُخابرات الذي وُجِّهت له المُذكرة، رفعها بدوره في 6/4/1925 إلى القنوات التي كان مُفترضاً في السادة المذكورين مُخاطبتها، السكرتير القضائي، والسكرتير الإداري, بتعليقٍ مقتضب منه، يلتمس فيه قارئه، ارتياحه من خلف السطور, ذلك لأن المُذكرة لم تكن مُطالبة المُستعمر بالرَّحيل، وهو جلَّ ما يُمكن أن يؤرِّقه, والمُفترض أنه غاية ما يُمكن أن يتَّفق حولَه الزُعماء الثلاثة.. فبغضِّ النظر عن الموضوع، كان مُجَرَّد اتفاقهم مثار دهشة مُدير المُخابرات.. «مما يستلفت النظر حقا أن يكون هناك أي موضوع يتفقُ حوله الأعيان الثلاثة, وهذا في حد ذاته يَدفعُني للاعتقاد أن المذكرة تستحق عناية فائقة».. بناء عليه، كان الالتماسُ المرفوع مِن السادة الثلاثة قد مسَّ وتراً في عواطف السكرتير الإداري، الذي كتب بدوره مُذكرة للسكرتير القضائي في 11/4/1925، أشار فيها إلى أن الضوء الأحمر الذي سلَّطه المذكورون على القرار يستوجبُ من الإدارة «السير بحذرٍ بالغٍ في مُعالجة موضوع الرقيق»، واعتبر أن: «الأمر سابقٌ لأوانه»، وعوَّل على عامل الزمن بقوله: «أعتقد جازماً إذا ما طبقَت المذكرة نصاً وروحاً فسوف يختفي الرِقُ بمرور الزمن»..

    المُفارقة، أن رد السكرتير القضائي بتاريخ 14/4/1925 لم يَنطوِ على الرَّفض وحسب، وإنما تناول الموضوع مِن الناحية الدينية، التي ينهلُ منها الزُعماء مَرجعيتهم.. «لو أن عرب السودان اتبعوا المُوجهات الأخلاقية والشرعية التي أتى بها رسولهم, لأمكن أن يُقال الكثير في دعم وجهة نظر قاضي القضاة, لكنهم للأسف لا يفعلون».. إلى أن يختم مذكرته بقوله: «إنني أميل إلى أن نقتحم المجازفَة حول العلاقات العائلية كما اقتحمنا سابقاً علاقات الإرث, وأن نعلن على الملأ أنه على المحاكم المدنية والشرعية عند النظر في القضايا, أن تنطلق من أن كل شخص حر وأنه كان دائماً حراً, أو على الأقل حر منذ سبتمبر 1898. لا أستبعد أن تنشأ حالةً من السُخط والضجر - أعتقد أنها ستنشأ- لكني أرى مواجهتها».. وبالطبع لم يكن منظوراً من المُستعمِر أن يكون حريصاً على تطبيق القانون, في ظل عدم حماس المعنيِّين بالأمر.. علاوة على أنه في نهاية الأمر، فإن التطبيق مُرتبط بمصالحه الخاصة، التي قد تتطلب غضَّ الطرف - ولو جزئياً- عن الظاهرة, ولعل ذلك ما حَدَثَ، إذ: «قامت الحكومة بالسماح باستمرار الرقيق العائلي».

    إن مذكرة الزعماء الثلاثة لَم تراعِ ظرفاً تاريخياً، كان نقطة تحوُّلٍ هامَّة في تلك الفترة, فقد صَدَرَت في أعقاب ثورة 1924, وهي الثورة التي كان قائدها ”علي عبداللطيف“، وبعض رفاقه الآخرين ينتمون عضوياً لمؤسسة الرِقِّ والاستِرقاق.. أو بتعبيرٍ آخر، كانوا ينتمون إلى ما صار يُعرَف بـ”الزنوج المنبتين قبلياً“، “Negroid but De-tribalized people” وهم من طالبت مُذكرة المُستعمر بإلغاء عبوديتهم, في الوقت الذي كان هدفهم -وهم مُستعبدون- اقتلاع حريَّة أمَّتهم من براثن المُستعمِر نفسه!!

    من المعروف أن مُهادنة زعماء الطائفية للاستعمار كانت سبباً مُباشراً في إطالة أمده, وهو ما يُمكنُ الإشارة إليه بـ”التسامُح السياسي السِلبي“.. فالسيِّد علي الميرغني، زعيم طائفة الختمية، الذي سَبَقَ أن تعاوَنَ مَع الحُكمِ التركِي، وتلقى دعماً منه, كذلك بادر البريطانيُّون بدَعمِه أدبياً ومادياً, وقد ردَّ الحسنة بعشرة أمثالها.. «بينما كانت الطريقة الختمية تنمو, كانت تدعم الحكم الاستعماري أثناء نموها, فقد قاموا بدور الوسيط الفعال للمساعدة في الحصول على تأييد عدد كبير من الناس لسياسات الحكم الجديد, فكانوا عاملاً في الاستقرار وحفظ النظام في السنوات الأولى للحكم, كما كان لهم دورهم المؤثر في دعم السياسات الاقتصادية للحكومة».. وفي ذلك تفصيلٌ لا تحتمله صفحات الكتاب!!

    أما السيد عبدالرحمن المهدي، الذي تلقى أيضاً دعماً غير محدود من البريطانيين، فقد كان براجماتياً في تبريره.. «أرى أن الثورة المسلحة آنذاك مقضيٌ عليها بالفشل, وكنتُ أرى أن الانصراف عن الحياة هزيمة لأنصارِها إذ كنت أعتقد أن واجبي يُحتم علي أن أحافظ على تراث المهدية حتى لا تذهب تلك الصفحة المُشرِقَة من تاريخ بلادنا».. وكان ذلك هو المنهج الذي جسَّر به العلاقة بينه وبين المستعمرين، رغم المِحَن والإحَن التاريخية.. غير أن البعض لا يفسِّرها كما ذهب.. «ظهرت انتهازيته ونهجه السلمي بشكلٍ بارز عندما قدم سيف والده بطريقة غير مُتوقعة هدية للملك جورج الخامس, ولكن الأخير ردَّه إليه ووجَّهه باستخدامه في حماية الإمبراطورية والدفاع عنها».. أياً كان التبرير، فإن ما أسميناه بـ”التسامُح السِياسي السِلبي“ قد أملته لغة المصالح, وكان المال فيها قاسماً مشتركاً, ولهذا لم يكن مُستغرباً أن تستحي ”عيون الزعماء“ من مُحاربة المُستعمِر، بعد أن أطعَمَ أفواههم, طِبقاً للمثل السوداني الشعبي.

    كانت مظلة ”التسامُح السِياسي السِلبي“، التي أشرَعتها كلتا الطائفتين الكبيرتين, قد امتدَّت لتشمل بعض طلائِع المُجتمع -”الإنتلجنسيا“- التي احتواها منبر ”مؤتمر الخريجين“ في العام 1938, والذي أصبح فيما بعد -رغم نبل المقصد- ساحة لتباري زُعماء الطوائف، بغرض تدجين منسوبيه, بوسائل ظاهرها الخير، وباطنها الشر, وسُمِّى ذلك نفاقاً بـ”الرِعايَة الكَريمَة“ التي غَرِقَ المؤتمرُ في بُحورها زُهاء العِقدَين من الزمن، قبل أن يتحقق الاستقلال.

    المُثيرُ في الأمر، أن التسامح - بشُعبه الثلاث- دارت وقائعه في إطار الطائفتين أنفسهما بصورة نقيضة، بل أنكى وأمَرُّ.. فعلى سبيل المِثال، فإن تعليق ”مدير المُخابرات“ البريطاني الذي أوردناه من قبل، ولم يُخفِ فيه دهشته من اتفاق الزعماء الثلاثة على أمر, فإنه لم يقل ذلك إلاَّ لعِلمِه، بل علم كافة السُودانيين آنذاك، بأنَّ زَعيمَي الطائفتين كانَ بينهُما ”ما صنع الحداد“.. فالعلاقة أصلاً تأسَّست على قاعدة من الفرقة والخلافات المُزمنة, والتي وصلت درجة ”الخُصومة الفاجرة“, وانسَحَبَت حتى على عَوَام الطائفتين لأكثر من نِصفِ قرن, إلى أن وضَعَا حداً لها في لقاء جَمَعهُما معاً بتاريخ 3/12/1955، وسُمِّي بـ”لقاءُ السيِّدين“.. وفي أعقابه أصدرا بياناً، جاء فيه: «الآن وقد شاء الله فتحقق الأمل العظيم الذي ظلت تَنشده البلاد منذ أن التقينا وتصافينا ابتغاء مرضاة الله والوطن, يسرنا أن نعلن عزمنا على الوقوف متكاتفين في ما يعود على الأمة السودانية الكريمة بالخير والسعادة والحرية والسيادة الكاملة».

    في إطارِ ازدواجيَّة مفاهيم التسامُح، لم يكن غريباً أن يَعتبرَ البيانُ ”التاريخي“ أن المُصالحة جاءت ابتغاء مَرضَاة الله, في حين يَعلمُ المُتصالحان تمام العِلم، أن دين الله المعني نهى عن هَجرِ المُسلِم لأخيه الُمُسلِم لأكثر من ثلاثُ ليال.. وكانا يعلمان أيضاً بأنَّ ”التسامُح الاجتِماعِي“ قد ذَهَبَ مَع الرِيح، طيلة خِصامِهما، بانسحابه على عَوامُّ الطائفتين, مثلما أنَّ ”التسامُح السياسي“، بالصورة التي مارسَاهُ بها، كان فرصَة ذهبيَّة للمُستعمِر في العَزفِ على أوتاره المُتناقِضَة بمَهارةٍ بالِغَة.. ومَع ذلك، فإنَّ المُوَجِّهات، أو التمنِّيات التي عدَّدها البيان، كانت مَوْضِع نَظرٍ، بعد أن جَرَت مياهٌ كثيرة تحتَ الجُسور.. ولعلَّ ذلك ما حدا بأحد السياسيِين إلى وضعِ ذلك اللقاء في إطارِه الطبِيعي، رغم انتمائِه تنظيمياً للحزب الذي يتبع لإحدى الطائفتين، ”الأنصار“.. فقد وصفه السيد مُحَمَّد أحمَد محجُوب بقوله: «لقد كان التحالف بين المهدي والميرغني أعظم كارِثَة مُنِي بها تاريخُ السياسة السُودانية, ففي هذا التحالف سَعَى عَدُوانِ لدُودَانِ مَدَى الحياة، وبدافعِ الجَشَع والتهافت على السُلطة، والغرور والمصالح الشخصية، إلى السيطرة على الميزان السياسي في السُودان»..

    صحيحٌ أن أوَّل ”إنجازٍ“ في توابع الحلف المذكور يومذاك، كان إسقاط أوَّل حُكومة ديمقراطيَّة بعد الاستقلال، وكان يرأسُها السيد إسماعيل الأزهَري، المُنتمي سِياسياً للطائفة الأخرى، ”الختمية“.. وصحيحٌ أيضاً أن الحكومة التي جاءَت في أعقابها وسَمَّاها رئيس وزرائها، السيد عبدالله خليل، والمُنتمي سِياسياً لإحدى الطائفتين أيضاً -”الأنصار“- سمَّاها تزلفاً بـ”حكومة السيِّدَين“, تجَرَّعت مِن الكأس نفسه بعد نحو عام وبضعة أشهُر بالتسليم الشهير للقوَّات المُسلحَة.. والصحيح كذلك، أن مُحصِّلة هذا وذاك، هي التي وضعت حجر الأساس في عدم الاستقرار السياسي، الذي عانى منه السُودان منذ استقلاله.. لكن الذي يُضعِف من مصداقية شهادة المحجوب أنها جاءت بعد أن قضى جُل عُمرِه السياسي تحتَ مظلة ذلك الحلف الكارثي، وفي خدمته.. وأنه أقرَّ بها بعد أن زال عنه صَولَجَانُ السُلطَة.. والأهمُّ مِن هذا وذاك، أنه ما كانَ يمكن أن يقر بها لولا أنه شخصياً اكتوى بنيرانها، مع سليلُ الطائفة التي ينتمي لها، ”السيد الصادق المهدي“.. وسَبحَت ردحاً من الزمن في بُحور ازدواج مفاهيم التسامُح، بشُعَبه الثلاث.

    لأن النار ”بالعُودَيْنِ“ تزكو، فالخلافات لَم تقتصِر على الطائفتين, بل كانت في إطارِ الطائفة الواحدة أشدُّ ضراوة، وأكثر ضرراً, وقد تفوَّقت طائفة كيان الأنصَار وحِزبُ الأمَّة برقم قياسِي.. فلأسباب لا تخفَى على أي مُراقِب، كان السيد الصادق المهدي قاسماً مُشتركاً في مُعظمِها, وِغَير خلافه مع السيد محمَّد أحمد محجوب, فقد تلبَّدت سُحُب الخِلافِ بينه وبين عمِّه السيد الهَادي المَهدي, لم يحسمها حتى رحيل الثاني للدار الآخرة, فانتقلت جُرثومتها إلى اثنين من أبنَائِه.. ولِيُّ الدين، والصادق.. اللذين تمحور خِلافَهُما حول ”الإمامَة“ في الطائفة, في حين استبقى شقيقهم الثالث ”نصرالدين“ نفسه إلى جانب المهدي، مُتجاهِلاً الإمامة، ومُناصِراً له في السياسة، فاختارَه نائباً له في الحزب طوال فترة الديمقراطية الثالثة, وهو الاختيار الذي أوغر صدر آخرين، تصدَّرهم ”خاله“، السيد مُبارَك الفاضل، الذي يعتقدُ في نفسه بأنه الأجدر بالمنصب.. وظلَّ الخلاف مُستعِراً، وتفاقم حتى بعد سقوط النظام الديمقراطي.. وبعد تسَلم السيد مُبارَك الفاضِل مقاليد العمل الخارجي لحزب الأمَّة في المُعارضة، اجتهد في تصفية الخلاف بآلياته المَعرُوفَة، التي جعلت ”خِصمَه“ يَشكو الأمرَّين في ظُروف المنفى الاضطراري.. وقام السيد الصادق المهدي بعد هروبه من السُودان العام 1996 - في عملية ”تهتدون“- بمُحاولة لرَأب الصَّدع, وشكل لجنة في العام 1997، برئاسة القاضي صالح فرح، أحد كوادر حزب الأمَّة في الخليج، إلاَّ أن اللجنة لم تستطِع استنطاق أحد, وانفَجَر الخِلافُ في وسائلِ الإعلام الخارجِيَّة، استخدم فيه كلا الطرفين الأساليب والوسائل التي يُواجه بها الأعداء بعضهم البعض.. ثمَّ حاول المهدي إطفاء نِيرانه مرَّة أخرى في المُؤتمر الاستثنائي للحزب، الذي عُقِد بأسمرا في فبراير/شباط 1998، ونتجَ عنه عِناقٌ ظاهري أمام المُؤتمرين, استجاشت فيه العواطف، وانهمرت الدُموع, لكن ما أن انفضَّ السامر، حتى كان كل واحد من ”الخِصمَيْن“ يُعِدُّ عُدَّته وعتاده لِمعرَكة قادِمَة.

    أيضا ظلَّ الخِلافُ مُحتدماً ومُزمناً بين السيد الصَادِق وعمه السيد أحمد المَهدي، وامتدَّ لسنوات، ومازال سِجَالاً, صاحبته أقوالٌ وأفعالٌ، بل ومُمارَسات، يعجزُ الراصد عن حصرها.. غير أن الخلاف الذي نَشَبَ في العام 2002 بين السيِّدين الصادق المهدي ومُبارَك الفاضِل، بعد عودة حزب الأمَّة لداخل السودان - بموجب اتفاقية جيبوتي- تجاوز كل السُقوفِ الماضية, بخُصومة استنهضت كوامِن الماضي وشَواهد الحاضر, واستخدما فيها كل مُتاحٍ من أسلحة الدمار الأخلاقي الشامل, لدرجة أيقن فيها البَعضُ بأن ذلك صِراعٌ من النوع الذي لا يُمكنُ رَأبَ صَدعِهِ بإصلاحِ ذاتِ البَيْنِ.

    على الضفة الأخرى، لم تشهد طائفة الختميَّة الكم نفسه من الخلافات التي دارت رحاها في طائفة الأنصار, ورُبما يعودُ ذلك إلى طبِيعة السيِّدَين القائِمَين على شُئون الكِيان.. ورُبما أيضاً لمحدوديَّة النسل، وعدم تعرش شجرة العائلة بالعديد من الأبناء، ونأيُ نسائها عن السياسة!! وإن كانت الطائفة قد شهدت خلافاً واحداً، مازال يدور، بين السيِّدين، محمَّد عثمان الميرغني ومحمَّد سرَالختِم الميرغني, لم يتوانَ الأول فيه عن استخدامِ ذات الوسائل المُجَرَّبة في طائفة الأنصار، لإخماده بكلِّ ما أوتى من قوَّة ومكر وجَبَروت!! وبعضٌ من ذلك جرت وقائِعه بصورة أسقطت صِلاتُ الرَحم، وعَلائقُ الدَم التي تربطهما معاً.. رغم أن الخلاف غَلبَت عليه المسائل الماليَّة – الإرث العائلي- أكثر من القضايا السياسية.. ومع ذلك، عَزَّ حَلهُ، فتفاقم. بَيْدَ أن الكِيانُ الحزبي الذي وُلِدَ من الطائفة، كانَت الخِلافاتُ في أروقته أكثر باعاً, تظهرُ وتختفي، حسب مُقتضياتُ الظروف السياسيَّة, ومحورها جميعاً -من وراء الكواليس- زعيم الطائفة، السيد محمد عثمان الميرغني, وفى وقت مُبكر حاولت فئَة الانعتاق من ذلك النفوذ، ورفعوا الشعار المعروف: ”لا قداسةَ مع السياسة“, وعلى هذا الدرب سار آخرُون في فترات مُتقطعة (التفاصيل في فصل قادم).. ولعلَّ آخرهم الفئَة التي سمَّت نفسها بـ”الحزب الاتحادي -الإصلاح والتجديد“, وتناسلت عنها أربع تيارات أخري بمُسمَّيات مُختلفة, لكنَّ الواقع يُشير إلى أنه لا السلف ولا الخلف استطاعا إلى ذلك سبيلاً.

    يتجاهلُ كثيرٌ من المُراقبين طبيعة الخلافات في السياسة السُودانيَّة، بفصلها عن التكوين النفسي والسُلوكي للشخصيَّة السُودانيَّة، المُتدثرة بالإيجابيَّات، والمُتنزهة عن السلبِيات, وفق الفهم الأسطوري السائد, لكن الواقع يُؤكد أولاً عدم مبدئيَّة مُعظم الخلافات السياسية.. وثانياً، أنها نتاج خُصوماتٍ وطموحاتٍ شخصيَّة.. وثالثاً أنها تعود للسلبِيات التي يعزُّ مُواجهتها، أو الاعترافِ بِها، في مُكوِّنات الشخصيَّة السُودانيَّة..لا سيَّما في الحقل السياسي, كالعِناد.. المُكابَرة.. الضِيق من الرأي الآخر.. الرغبة في إقصائه بشتى الوسائل، الأخلاقي منها أو غير الأخلاقي.. الغيرة.. الحسد.. التهوُّر..المُكايدة.. الأنانية.. الميكافيلية.. اهتزازُ العواطف بشخصنة القضايا.. تبخيسُ الأشياء.. شراءُ الذمة وسيطرة عُنصُر المال.. ضعف الحس الوطني.. النفورُ من العمل الجماعي Team Work مُقابِل الفَرَدانِيَّة.. الخ.. مع التأكيد أن تلك السلبِيات ليست شاملة ولا معمَّمة, ولا تَعني بأية حالٍ إنكار الصفات الإيجابِيَّة المعروفة، والتي تتمتع بها الشخصيَّة السُودانيَّة، وكادت أن تصبح استثناء.. مثل الشجاعة والكرم والمُروءة.

    على سبيل المثال، إذا ما تأمَّلنا في فترة ما بعد الاستقلال, وهي الفترة التي تجلت فيها الخلافات السياسيَّة غير المبدئِية, واشرأبَّت فيها الطموحات الشخصيَّة, وبدأت النخَبُ تفصحُ عن مكنون صُدُورِها من مشاعر سالبة, يُرجعها أحد مُعاصريها إلى بعض ما أشرنا إليه من النقائص المُتخفية في السُلوك السياسي السُوداني.. «إن الخُصومات والخلافات الشخصية.. فضلاً عن الاختلافات في الهَدَف والوَسيلة.. كانت سبباً في تحامُل الكتاب على خُصومهم, ولا تثريب عليهم في ذلك, فتَفكيرهم الخاص، وانتماءاتهم الخاصة تدفعهم لأن يروا الخطأ -كل الخطأ- في الطريق الذي يسيرُ فيه الفريقُ الآخر».. وقد وصف صاحب الرأي هذا نفسه ما حدث في أشهر الخلافات في ذلك الوقت, تلك التي كانت بين السيد أحمَد خير وبعض رفاقه، أو أصدقائه، فيقول: «إنها كانت تبلغ درجة الخصومة، بل القطيعة في بعض المواقِع».

    تلك الظاهرة، بالمثال المُشار إليه، قد تعدَّدت عَبرَ الفترات السياسِيَّة المُختلفة, في الوقت الذي ظلَّ فيه الحديثُ مُتصلاً عن ”التسامُح السياسي“، وفى تصاعُدٍ مُستمِر، حتى بَلغَ عنان السماء. وفي التقدير أن الفجوة المفاهيميَّة العميقة، بين النظَريَّة والتطبيق, خلقت حالة مِن الالتباس والتخليط في المُمارسة السياسيَّة, الأمر الذي يُفسِّر في إحدى جوانبه حالات التقلب، وعدم الاستقرار، والسُكون تحت سماء غير طبيعيَّة.. «الناس الذين يعيشون حياة غير طبيعية بدرجة غير عادية, يمكن أن يضمروا الحسد والحقد وسوء النية, وكل ما يتعارض مع الخير, ويمكن أن تتطور فيهِم ضغوطُ القسوَة, ومن جهة أخرى قد يفقدون تماماً كل استمتاعٍ بالحياة بدرجة لا يقوون معها على بذل أي مجهودٍ»، وقد كان ابن خلدون في مُقدِّمته أكثر قسوة في تفسير مثل هاتيك الظواهر، غير أن المُهِم أنها أكثر انتشاراً بين النخَبُ السياسيَّة, وليس غريباً في ظلِّ هذا المفهوم أن بعضهم تطوَّرت في نفسه ”ضُغوط القسوة“ وقام بتطبيقها عملياً, للدرجة التي لم يجد البعضُ لها تفسيراً، غير استنكار نسب الذين قاموا بها للأمَّة السُودانيَّة, مثلما ذهب في ذلك الأستاذ الطيب صالح في تساؤله، الذي طبقت شُهرَته الآفاق السُودانيَّة: ”من أين جاء هؤلاء؟!“.. مُخاطباً به أهل الإنقاذ في وقتٍ مُبكِر.. وبالطبع ما كانَ يُرجَى أن يقول أحدٌ إنهم هبطوا من السماء, فالكل يعلمُ أنهم جاءوا من صُلبِ تلك الأمَّة, ويتمتعون بكامل هويتهم السُودانويَّة, وفعلوا ما فعلوا تحت رحاب سُلطة وطَنِيَّة، بغض النظر عن طبيعتها أو طريقة استحواذهم عليها.. أي إنها ليست غزواً أجنبياً.. لكن لا أحد يريد مُجابهة الواقع، بإسناد تلك السُلوكيَّات إلى النقائص، أو السلبيَّات، التي نتوارى منها, والتي خلقت الفجوة العميقة بين النظريَّة والتطبيق.. الغريبُ في الأمر، أن الكاتِب الكبير نفسه جسَّد ذلك التناقض, فكان ثاني ثلاثة نزلوا ضُيوفاً مُعزَّزين ومُكرَّمين على الذين استنكر نسبهم للأمَّة السُودانِيَّة, وكأنه لَم يقل شيئاً.. وليس ذلك بغريب في ظِل تستر النخب ببدعة ”التسامُح السياسي“ علناً, ومُمارستها نقائضه في السِر.

    لا جدال أنَّ مُمارسات الأنظمة الديكتاتوريَّة كانت لها اليَدُ الطولى في تعميق تلك النقائض، فالحُكمُ الدِيكتاتوريُ الأوَّل (1958-1964)، والذي غلبت عليه الصفة الأبويَّة ”البطريركية“ - كما ذكرنا من قبل- قام بوضع حجر الأساس لظاهرة ”الإعدام السياسي“, والتي طالت عسكريِّين ومدنيِّين، كانت جريمتهم أنهم حاولوا اتباع خُطاهُ، بانقلاب مُضاد لاستلام السُلطَة.. وتحت شعار: ”التطهير واجب وطني“، بدأ أيضاً تطبيق سياسة قطع الأرزاق، بالفصل الجماعي من الخدمة المدنِيَّة والعسكريَّة.. أما الحُكمُ الديكتاتوري الثاني (1969-1985)، فقد بدأ خُطواته في السُلطة بمذابحَ جماعِيَّة، شَمِلَت أيضاً مدنِيِّين وعسكريِّين, في الجزيرة أبا وود نوباوي العام 1970, وألحقها بالإعدامات المأساويَّة في العام 1971.. وفي الحَدِّ الفاصِل بين السُلطتين، حدثت ”مَذبَحَة بيت الضيافة“, التي تفرق فيها دمُ الضُبَّاط المغدورين بين القبائل!! وتكرَّر سيناريو الإعدامات في العام 1975.. ثم جَرَت الدِماءُ أنهاراً في عَمَلٍ مُسلح أخر قامت به بعضُ القوى السياسِيَّة ضدَّ السُلطَة في العام 1976.. وختم النظام العسكري الثاني -”المايوي“- مُمارساته في القتل بإعدامِ الأستاذ محمود مُحَمَّد طه في العام 1985.

    أمَّا الحُكمُ الديكتاتوري الثيوقراطِي الثالث -”الإنقاذ“- فقد توسَّع في ثقافة القتل، والعُنفِ والقهر، حتى أصبحت قاعدة له.. ورغم أن النظام تمظهر بالتوجُهات الإسلاميَّة, إلا أنها استندت - في تقديرِنا- إلى نظريَّة ”ألفريد روزنبرج“، مُنظِّر وفيلسُوف النازيَّة الشهير، والتي تقول: «إذا كانت القسوة لازمة فلم لا نستخدمها لإرادتنا الوطنيَّة؟».. وفى ذلك توثيقٌ لحديث أدلى به د. حسن الترابي، أثناء المُناقشات التي كانت تلتئم في سجن كوبر بعد الانقلاب، قال فيه: «إن الشعب السُوداني لن يسلك الطريق القويم إلا بالقَهْرِ»!! وعندما اعترض أحدهم بأن القتل يولِّد الانفِجَار، كان ردُ الترابي: «دَعكَ مِن هذا، فإنَّ القهرَ قد يبدو شاذاً وغريباً في أيامه الأولى، ولكن سُرعانَ ما يَعتاد الناسُ عليه»!! ذلك بالطبع حديثٌ دعم وطوَّر ورسَّخ عملياً نظرِيَّة روزنبرج في الواقع السُوداني.

    من المُسَلم به، أن عُنف السُلطة الوطنِيَّة تجاه شعبها، مُمثلاً في مُمارسات الأنظمة الديكتاتوريَّة الثلاثة، يُعدُّ انتهاكاً أخلاقياً فظيعاً, ولا مناص من أن تكراره واستنساخه استند على زيف الواقع فيما سُمِّي بـ”التسامُح السياسٍي السُوداني“.. فأن تكافئ المُجرم على تلك الانتهاكات، عِوَضاً عنِ المُحاسبة، بذريعة ”التسامُح“ نفسه, يِكونُ الوَضعُ آنئذْ ”تسيُّباً سياسِياً“.. فالذي حدث في مُجرَيات الواقع أن ”الشرعيَّة الثوريَّة“، التي اقتلعت الديكتاتوريَّة الأولى في العام 1964، لم تجرؤ على مُحاكمة الذين انتهكوا الدُستور، سواءٌ مَنْ تواطأ على تسليم السُلطة, أو مَنْ استلمَها طائِعاً، أو مُجبراً.. مثلما أنها لم تجرؤ على مُحاسبة مَن ارتكب الجرائم الجنائيَّة.. بل على العكس من ذلك، ذهبوا جميعاً، عسكريِّين ومدنيِّين، لمُواصلَة حياتهِم العاديَّة.. فمنهم من قضي نحبه، ومنهم من ينتظر.. والأمر نفسُه تكرَّر في الانتفاضة التي وضعت حداً للديكتاتوريَّة الثانية في العام 1985, إذ سوَّفت قضيَّة رئيسها المخلوع، ووضعت كل أوزارها في مُحاكماتٍ صُوريَّة لرُموزٍ لم يتعدُّوا أصابع اليد الواحدة، تمَّت مُحاكمتهم بالسجن لفتراتٍ مُختلفة, ورغم بؤس المُحَصِّلة، إلاَّ أنَّ المُدهش فيها جاء به قادة النظامِ الديمقراطي، الوليدُ الشرعي لتلك الانتفاضة, فكان أولُ إنجازاتهم إطلاق سراح أحدهم -”شريف التهامي“- قبل اكتمال التحقيقات في سلسلَة تجاوُزاته الماليَّة, وكان ذلك لأسباب شخصيَّة، بل أسريَّة، نسبة لانتمائه إلى طائفة ”الأنصار“.. وبالطبع استغلت مزاعم ”التسامُح السِياسِي“.. أمَّا العسكريُّون الأربعة، فقد تصالحت ديكتاتوريَّتهم المُنقرضة مع أخرى مُستحدثة.. فبَعدَ أن دانت السُلطة لنظامِ الإنقاذ، عَمَدَ مُباشرة إلى إطلاق سراحهم، مُتعللاً بـ”مَنطِقٍ أخلاقِي“, كما زَعَمَ رئيسُ الانقِلاب فيما ورد ذِكرُه مِن قبل.. والمُفارقَة، أن المنطق الأخلاقيُّ هذا - مع علاَّته- سُرعان ما تضَعْضَعَ في اختبار آخر.. ففي الوقت الذي قامت الديكتاتوريَّة المُستحدَثة بِإطلاق سَراحِهِم, أقدمت في نَفس الوقت على إعدام [28] ضابِطاً، في حركة أبريل ”رمضان“ 1990!! وجريمتهِم كانت أنهم أرادُوا استلام السُلطة بنفس الآليَّة التي اتبعها مُنفِّذو انقلاب الإنقاذ, واستوجبت عفوهم لرُموز الديكتاتوريَّة الثانية!! كذلك تصالحت الديكتاتوريَّتان من بعد، عندما سمح نظامُ الإنقاذ بعودة الرئيس المَخلوُع نميري, ولم يكن مرجُواً أن يقوم بمُحاكمته, لكن إمعاناً في إذلال مشاعر أهل السُودان، شرع في مُمارسة نشاط سياسي تحت مظلة ”تحالُف قوى الشَّعبِ العامِلَة“، وخاض مع الخائضين مهزلة ما سُمِّي بـ”انتخابات رئاسة الجُمهوريَّة“!! وبدافع الحنين، ما زال يُمني النفس باسترجاعِ عقاربُ الساعة للوراء.. ثُم اندمج أخيراً في حزب المُؤتمر الوطنِي الحاكِم!!؟؟

    حدث كلُّ هذا في السُودان، الذي كاد أن يكون البلد الفريد الذي يُكافئ المُجرم بِتكريمه, والمُسِيء بالإحسان إليه.. علماً بأن انتهاكات حُقوقِ الإنسان مِن الجرائم التي لا تسقط بالتقادُم, فضلاً عَن أنها أصبحت قضيَّةٌ كونِيَّة لا تَخصُّ شعباً بعينه، أو جنساً مُعيَّناً, وكلنا يَعلمُ أن ثمَّة حُكاماً فاسدين ومُفسدين سيقوا تحت بصر العالم أجمع لمحاكم دوليَّة وإقليميَّة.. مِنهُم سلوبُودان ميلوسِيفتش، وكِبَارُ أركان نِظامِه.. بينوشيه ”شيلي“.. مُحاكمة القادة الرُوانديِّين في تنزَانِيا.. صدَّام حسين ومسؤولين بعثيين.. كل هؤلاء، بغضِّ النظر عن الآلِية التي اقتلعتهم من جُذور السُلطة.

    ولأننا قومٌ جُبلنا على تكرار أخطائنا، فالشواهد المَاثِلة تشيرُ إلى أنها في الديكتاتوريَّة الثالثة، رغمَ الفظائع التي ارتكبتها على مدى عقد ونصف, فإن الملف في طريقه لتوسُّد أضابير الأرشيف, بذريعة ”عَفَا الله عَمَّا سَلف“.. المقولَة التي ظلت تغذي باستمرار وهم ”التسَامُحِ السِياسِي“ المزعوم.. وقد مَهَّدَ قادة الإنقاذ لَها بتغيير خطابهم وألسنتهم.. فعلى سبيل المثال، دعا د. نافِع علي نافِع في يوم 28/7/2005 المُثقفين والمُبدعينَ إلى: «المُحافَظة على قيم الأمة السُودانِيَّة ومَوْرُوثاتِهَا الدَاعِمَة لِمُجتمَعِ الحَقِّ والفَضِيلَة»!! وقد جاء حديثه هذا في رَهطٍ مِن المُثقفين والمُبدعِين في احتفالٍ بوزارة الثقافة.. ومَن يتأمَّل المُناسبة، والحُضُور، والمكان يستطيعُ أن يتنبأ بمآل الذين ثبت تورُّطهم فعلاً في ارتِكابِ الجَرائِم المُتعدِّدة في عَهدِ نظام الإنقاذ، وفي طليعتهِم دَاعِيَة ”المُحافَظَةِ على قيمِ الأمَّة“!! المُفارقة أيضاً، أن الإيحاء بتغيير السُلوك والخطابُ واللسان، لا يراعي أحياناً مقتضيات الزمان والمكان، ولا يضعُ اعتباراً لمشاعر البشر.. ففي ذروة الأزمة الإنسانيَّة، التي فتحت فيها ”دارفور“ أبواب جُهنم على نظام الإنقاذ، وجذبت أنظار العالم كله, احتفلت جامعة كردُفان بتخريج 3700 طالب وطالبة في 25/6/2005، وفي تلك المُناسبة، التي حضرها نائبُ الرئيس علي عثمان محمد طه، تمَّ تكريمه بمنحه دكتوراه فخرية في الآداب، ومُنِحَ درع السلام كذلك!!

    ليست الأنظمة الديكتاتوريَّة وحدها، فالتخليط في المفهوم وجد أيضاً رواجاً في ظلِّ الأنظمة الديمقراطيَّة، مع قلة فتراتها.. فبالرغم من أن المُمارسة السياسيَّة خلالها ابتعدت عن ثقافَة القهر والعُنفِ, إلاَّ أن المفهوم اتخذ أشكالاً أخرى، أقرَبُ إلى ”الاستِغفالُ السِياسِي“ والسذاجة, حَيثُ تَعرَّضت الحُقوقُ الأساسيَّة للمُزايدات والتآمُر, وطغت المصالح الشخصيَّة على المصالح الوطنيَّة, وبهذا المعنى فلنتأمَّل رُؤى النخَبُ السياسيَّة في توصيفِ عِلاقتها حينما تتبدَّل الأمكنة وتتغيَّر كراسِي السُلطة.

    بعد أن أصبَحَ سِجنُ كوبَر نزلاً جديداً لمُعظم القيادات السياسيَّة والنقابِيَّة والعسكريَّة، بعد انقلاب الثَلاثين مِن يونيو/حزيران 1989, وجدت هذه القيادات نفسها تتنفَّسُ ”حَميميَّة“ المُعتقل، وتعيشُ حياة أخرى، بعد أن أدْبَرَت السُلطة عن بعضها.. فبعد شُهورٍ قضوها في السجن، أفصحوا عن انطباعاتهِم حول تلك الفترة بأحاديث تفجَّرت فيها العواطف أنهاراً.. ففي أوَّل حِوارٍ له، قال السيد الصادق المهدي: «السيد الميرغني جمعتني بِه ظروفٌ ما كان مُمكناً أن تحدُث إلاَّ في الظُروف التي حدثت, وبقينا معاً ستة أشهُر في غُرفة واحدَة, مما أتاح لنا فُرصة نادرة ونحنُ آتون من خلفيات عدائية ذات مَرارَات تارِيِخية وأوهام, أتاحت لنا الفرصة إزالة كلِّ المَراراتِ والأوهام التاريخية.. أعتقِدُ أن هذا اللقاء بصورته التي تَمت من أكثر الإيجابيات التي حدثت في الحياة العامة».. ومن جانبه، كان السيد مُحَمَّد عُثمان الميرغني قد سبقه إلى ذلك، في أوَّل حديث له أيضاً: «قَد كانت فترة السجن التي أمضيناها معاً (أي مَع المَهدِي) ومعنا السيِّد مُحَمَّد إبراهيم نُقد، وسيد أحمَد الحُسين، وكلُّ القيادات السياسية والنقابية فَترة مُفاكرة ومُراجعة ودراسة».. وبعد سنين من هذا الانطباع، قال أيضاً: «القواسم المُشتركة بيننا والصادق المهدي كثيرة، تعددت منذ اعتقالنا في سجن كوبر بواسطة سلطات الجبهة الترابية, ولقد كان لإقامتنا في غرفة واحدة على مدى أكثر من خمسة أشهُر داخل السجن أثرٌ كبيرٌ، حيث أتيحت لنا فُرصة بحث قَضايا الوطن، والاتفاق حول الرؤى المُستقبلية للبلاد»..

    ونظر السيِّد مُحَمَّد إبراهيم نُقد لتلك الفترة بمنظورٍ تَشخِيصِي, ففي أوَّل حديث لهُ - كذلك- قال: «كان السيد محمد عثمان الميرغني يتنقل بزياراته الودودة بين المُعتقلين ببساطَة نادرَة, وكان السيد الصادق المهدي كَثير القراءة, كثير الكتابة - كعادته- وكَثير النشاط الرياضي والسياسي أيضاً».. وبعد أن تسرَّبت إعلامياً أنباءُ زيارة ”غريبة“ - على حدِّ وصفِ الصَحيفَة- قام بها د. حسن الترابي إلى منزل السيد مُحَمَّد إبراهيم نُقد، قالَ عنها الأخير: «إن زِيارة الترابي لمنزله هي الثانية مُنذُ عام 1950، تَاريخ تَخرجهما مِن مدرسة حنتوب الثانوِية, إن الزيارة الأولى كانت العام قبل الماضي, إذ إن الترابِي كان من أوائل المُهنئين له بخروجه من المُعتَقل في 30/4/1991».. ودونما أدنى حاجة للوغَريثمات السياسة, تشاءُ تصاريف القدر، والسياسة السُودانيَّة، أن تتغيَّر المُعادلات, إذ أصبح السجَّان سجيناً, وتوارى فيها السَجينُ السابق عن الأنظار، وسجن نفسه بنفسه - أيا كانت المُبرِّرات- فقام السيِّد نُقد برَدِّ تلك الزيارة ”الغريبة“ بزيارة ”يتيمة“ بعد عقد ونصفُ العقد من الزمن في 10/7/2005، وزار الترابي في منزله لتَهنئته بإطلاق سراحه من السجن!! وكذلك فعل السيد الصَادِق، وإن لم تخضَع زيارته للعدِّ والإحصاء, ومن على البُعدِ وجَّه الميرغني مَن ينوبُ عنه!! وكما ذكرنا مِن قبل، فإن اعتقال الميرغني في كوبر، وهو الأوَّل في حياته، كان قد أوغر صدره بمشاعر سالبة تجاه الترابي تحديداً، لقناعته بأنه هو مَن أوصَى بسَجنِه, وقد عبَّر عن ذلك غامِزاً ذات مرَّة: «الترابي يرفض ويُعادي كل شيء أكبر منه».. وهو كثيراً ما ذَكر ذلك صراحة لبعض خاصَّته في الصَوالين المُغلقة.. ومع كلِّ ذلك، ففترة السجن تلك قد أحدثت تحولاً حقيقِياً في حياته, وبموجبها زجَّ بنفسه في أتون النشاط السِياسِي المُباشر، وبشكله التنظيمي الذي لَم يألفه قبلاً.

    أما في جانب رُموز السُلطة، التي اغتصبت الحُكم من أولَئك, فلا يكتفي الفَريقُ البشير بسجنهم, وإنما بالإمعانِ في الإساءة إليهم وتجريحهم.. انظر إلى قوله مثلاً حَولَ مُلابسات تلك الفترة: «تَعاملنا بشكل جيِّد مع القيادات الشمالية منذ البداية, وأقَدِّمُ مثالاً مُحَمَّد عُثمان الميرغني، حين قامت الثورة توجهت وحدة أمنية لتفتيش بيِته, ورغم علمهم أنه في القسم النسائي، لم يدخلوا البيت, وإنما طلبنا بعد أيام من المُقربينَ أن يخرُج من هذا القسم, ونقَلته سيارة إلى سجن كوبر, الذي تم تركيب مكيفات داخله، للمرة الأولى في تاريخه, وكان ذلك في شهر يوليو الحار».. وفى واقع الأمر، الرئيس المذكور ضرب رقماً قياسياً من بين أهل الإنقاذ في الاغترافِ مِن قاموس الإساءة، إلى حدُّ التجريح.. فعلى سبيلُ المثال، عند افتتاحه مصفاة ”بشائر“ في 29/8/1999، دعا المُعارضين إلى: «الاغتسال في مياه البحرِ الأحمر، لإزالة ”نجاستهم“ من الخُمور التي يَحتسُونها في حاناتِ أسمرا وفَنادقها».. مثلما دعاهم من قبل للمُنازلة بالبُندقِيَّة إن أرادوا السُلطَة!!؟؟ لكن خطاب الإساءة ذاك، لم يقتصر على مُعارضيه, فَقد شَمِل حتى الذي أوصَله للسُلطة، وجَعَلهُ حاكِماً.. ففي مشهد اقشعرَّ له البدن، ويندر أن يقوم به رئيسُ دولة ”مُنتخب“, مَدَّ البشير يده نحو نحره وهو يُخاطبُ جمعاً من الناس، بعد اعتقال الترابي بتهمة التخطيط لانقلابٍ، وقالَ إنه: «يستاهل الضبح وليس الاعتقال».. أي الذبح باللهجة السُودانِيَّة العامِّية!! الترابي من جانبه قال، في مؤتمرٍ صحفي عقده يوم 2/7/2005، بعد إطلاقِ سَراحِه, وقدَّم فيه ”جَرْداً“ للعلاقة بينه والآخرين، بعد المُفاصَلة المَعرُوفَة، فقال: «أحَدَهُما قابَلتُه في مُناسَبات اجتِماعِيَّة، ونَتصافَحُ (يَقصِدُ البَشير)، أما الآخَر (ويَقصِدُ به علي عُثمان طه) فيتحاشَى، أو رُبما يتحاشى كلانا الآخر, ربما هُو يتحاشاني حَيَاءً مِما فعَلَ, فَقَد كانَ قَريباً مِني لدرجة لصيقَة».

    في محور آخر، اختصَّ بزُمرة المُثقفين والإعلاميِّين، طلائِع حملة تنوير المُجتمع, فقد ظلوا أيضاً يُروِّجون لبدعة ”التسامُح السِياسِي“، في الوقت الذي كانت فيه أقلامهم تنهشُ في لَحمه, وترَضرِض في عظامه، في معارك - بكل ما تعني الكلمة مِن فظاظة لغويَّة- نشبت بين بعضهم.. كانَ مُفترضاً أن تكرَّس لاحترام الرأي، والرأي الآخر, وتؤكد مبدأ الحوار الديمقراطي الحُر, وتنتجُ فكراً مُثمراً.. لكنها كانت على عكس ذلك, ودونما أدنى تعسُّفٍ بأحكامٍ مُسبَّقة.. ولعلَّ شواهد الواقع تزكي د. مَنصُور خَالِد في هذا المِضمار، ليسَ لتعدُّد خلافاته أو - إن شِئتَ- ”معاركه“ مع الآخرين, ولكن نظراً لمُغالاته في تسفيه آراء غيره، إن لم توافق هواه.. ولأنه مسكونٌ بـ”فوبيا“ التآمُر على شخصه, ولمُكابَرته في نفي سلبيَّاته، وإلقائها على الآخرين، فكثيراً ما أفقد قلمه وقاره، وشَارَكَ سابقيه في الاغتِرافِ مِن قامُوس الإساءة.. وآخر نماذجه في هذا الصدد، ما دار بينه وبين د. إبراهيم الشُوش، على صفحات صحيفة ”الرأي العام“ 3/7/2004، فقد زاد على التهكم من المذكور, بالإساءة والتجريح، الذي شمل حتى العُيوب الخِلقِيَّة التي يَبتلِي بها رَبُّ العالمينَ بَعضُ خَلقه، فكتب: «لعلَ الذي قرأ ما كتبناه بعقل مفتوح، وعين بصيرة, لا بعقل مَسدود، وعَيْن مُطفأة...» إلخ.. وشَمِلَ أيضاً وسْمَاً مَطرُوحاً على خَدِّ المَذكور: «البلوى أن يكون أبوسُفيان مشلخاً..», وهو يَعلمُ بأنَّ حَامِله، وآخرين مِثلُه مِن أهل ”السُودان القديم“، لم يكونوا مُخيَّرين فيه, وكان مُحتملاً أن تطبع على خَدَّيهِ هو أيضاً!؟ لكن المُهم، أن هذا وذاك ليس له أدنى صلَة بالرَأي الذي طرحه د. الشُوش, والذي جاراه أيضاً بذاتِ الأسلوب, إذ تركَ جوهر الموضوع، وانشغل مثله بسفاسف الأمُور، في السُخرية من خلقه، فوصفه بـ”القرد الأمرَد“ وأشياء أُخَر (الرأي العام 6/7/2004).. وعلى ذاك النحو تسابق المُتهاترون، حملة لواء التغيير في المُجتمَع، نحو قيم الحُريَّة والديمقراطِيَّة وحُقوقِ الإنسان.. وكأنا بهم أرادُوا التأكيد على مقولَة أنَّ ”فاقِدُ الشَيء لا يُعطِيه“.

    في المجال الإعلامي، كان يُمكِن الاكتفاء بنَماذِج السُوء في الفترَة الديمقراطِيَّة الأخيرة, أي صُحُف الجبهة الإسلامِيَّة الصفراء, وخاصَّة ”ألوان“ و”الرَايَة“ وما شابههما.. لكِن ما كتبه مُحَمَّد طَهَ مُحَمَّد أحمَد قد اختصر الطريق في النموذج، وفاقَ كل تصوُّر، ليس لأن مَن سَمَحَ بنشره هو نِظامُ دولة ”المشروعُ الحَضارِي“، كما ظلوا يُردِّدون, ولكن لأن كاتبه كان ذاتَ يومٍ أحدُ الحَواريِّين المُطيعينَ لمُرشِد الحركة الإسلامِيَّة نفسها, وكانَ مِن الوَلاء لهُ لدَرَجة أنه لو قال لهُ وقتها: ”إرمِ بنفسك في البحر“، لفَعَلَ دُون أن يَسألَ عَن الأسباب.. عِلماً بأن العبارات التي ذكرها في صحيفته، وتحايل عليها بوضع فراغات، وقال إن مُتظاهِرينَ حانِقينَ على د. الترابِي ردَّدوها في تظاهرة بعد المُفاصلة, هي كلِمات يعفُّ القلمُ عن إعادة تسطيرها, وتأبَى النفسُ السويَّة عن ترديدها، الأمر الذي حدا بابنِ الترابي -”عِصام“- إلى أن يقود لواء الثأر لوالده، بطريقته الخاصَّة, فذهب إلى الصحيفة مُتأبِّطاً مُسدَّسهُ، وبِِصُحبة حَرَسِه الخاص, وأوسَعَ ”طهَ“ ضَرباً، حتى كادَ أن يُزهِقَ رُوحه!! وفى مِثلِ هذه الحالات، يَسودَنَّ ”التسامُحِ السياسِي“, عبر طريقة ”الأجاويد“ السُودانية المعروفة, وهم - كما نَعلمُ- الوُسطاء الذين يُوقظونَ المفهوم النائم مِن مَرقدِه، كلما أظلمت ليالي حدث ما.. لكن الأمر، لو كانوا يعلمون، أصبح أبعد مِن دائرة صانعيه, فقد طالَ شَرف المهنة, ومسَّ الضوابط الأخلاقيَّة للمُجتمع, وأصابَ بدعَة ”التسامُح السِياسِي“ في مقتل.

    هبْ أنَّ ما كتبه ”طهَ“ قد حَدَثَ في عَهدٍ ديمقراطي, هل كانَ يُمكن لناشطٍ شيوعي أن يثأرَ لتاريخ حزبه, ويُطالبُ بإقصاء الجَبهَة الإسلامِيَّة مِن الحياة السياسيَّة، بدواعٍ أخلاقِيَّة, مثلما فَعَلت هي ذاتَ يوم عندما حاكت لهُ حادثة طالبِ اتحاد المُعلمين ”شَوقي“، وقادَت حملة إقصائه من الحياة السياسيَّة بدَواعٍ دينِيَّة؟! تِلكَ مُجَرَّد خاطرةٍ في تاريخنا الذي تتشابه أحداثه, وإذا قلنا إنها تتكرَّر، فلن نكون قد أتينا بجديد!!

    كنا قد ذكرنا مِن قبل أن سُلطة الإنقاذ حطمت صنمها الذي صنعته بيدها، والمُسمَّى بـ”المشروعُ الحَضَارِي“, وقد ابتدرت التحطيم ببدعةٍ أخرى، سمَّتها ”هامِش الحُريَّات“.. ورغم ضيق المُسمَّى لغوِياً وواقعياً, إلاَّ أن سُلطة الإنقاذِ استغلته لنفسها، واستلزم ذلك تغييراً في الخطابِ السياسي والإعلامي, دُونما اكتراث، لتضادِّه مع الخطاب القديم، وتخلل ذلك دعوة مُكثفة لمُعارِضيها للعَودة إلى رِحَابِ الوطن, ومُمَارَسة كافة حقوقهم السياسيَّة مِن الداخل, ولكنها لم تجهر بشرطٍ كانَ يقفُ مِن وَراء تلك التنازُلات, وهو ضَرورَة ”نِسيانِ“ كل مُمارساتها السابقة، بما في ذلك الانتهاكات المُتعدِّدة, تحت مظلة الشعار المُضَلل ”عَفا اللهُ عَمَّا سَلَفْ“.. ولَم يكن الذين أدمنوا الطِواف حول كعبة ”التسامُح السياسِي“ المزعوم في حاجة لتذكيرهِم بذلك, فَهَرَعوا مُسرِعين نحو الدَاعِي، بَحثاً عَن مَجدٍ مُرتجَى، شخصياً كانَ أم حِزبِياً، وغيَّروا مِن مُفرَدات لغة خطابهم بسُرعة البَرق.. وآخَرين استبدلوا أحْبَارَ أقلامهم الحَمراءَ، بأخرَى خَضراء, وطفقوا يَتحدَّثون عَن محاسِن نظامٍ كالوا لهُ بالأمس القريب أطناناً مِن النقدِ والتقريع, وبَعدئذٍ ”اكتشفوا“ جميعاً أن المسرحيَّة لَم تكن سوى طلاء جديد على وجه صَدِئ.. ولهذا، لم يُباِح صدى صَوتهم المسافة بين حناجرهم وطِبالُ آذانهم.. وبذا كسب الجَاني الجَولة، بعد أن أوقعهُم في حبائله.

    سَواءٌُ لإغراء هامشِ الحُريَّات المذكور، أو لأسبابٍ أخرى, كان حزبُ الأمَّة سبَّاقاً في مُغادَرَة حَظيرة المُعارضة، والاتجاه نحو الخُرطوم.. والمُفارقَة، أنه قبيل ذَلك التحوُّل، كان السيد الصَادِق المهدِي، رئيس الحزب، قد هيأ المناخ لدعمِ الشرط الذي لم يقلهُ أهلُ الإنقاذ، في ضرورة ”نِسيان“ مُمارساتهم البَشِعَة, فاقترح في إحدى مَنحُوتاته اللغويَّة ما أسماهُ بـ”العَفوِ المُتبادَل“، وقد أثار التعبير حفيظة كثير مِن المُراقبين، لَيسَ لأنه ساوَى بين الضحيَّة والجَلاَّد, ولكن لأنه جاء مُعمَّماً، دون تفصيلٍ، أو توضيحٍ, ورسَّخ انطباعاً بأنه يقدِّم لأهل الإنقاذ طوقُ نجاةٍ بمقايضة بائسة.. وبالطبع لم يجد التعبير سنداً، ولا رواجاً، ودخل دائرة النسيان، شأنه في ذلك شأنُ الكثير من المنحُوتات اللغويَّة التي ظلَّ السيد الصَادِق يُتحِفُ بها الساحة السياسيَّة، لأكثر مِن أربعة عقودٍ زمنيَّة.. ولعله لا يَعلمُ بأنه نفسه سببُ كسادها, ذلك لأن أي مقترح له يجُبُّ ما قبلهُ, فأصبَحَ الأمرُ لا يعدو أن يكون إبرازاً لملكاته الثقافيَّة, أكثر من كونه تعبيراً حقيقياً لمكنوناته، ومواقفه، ومبادئه السياسيَّة.

    لأسبابٍ لا تخفى على أحدٍ، يُعتبرُ السيد مُحَمَّد عُثمان الميرغني أقل اجتهاداً في نحت مثل تلك المُقترحات الجدليَّة, لغوِياً وسياسياً.. غَيرَ أنه حينما فَعَلها مَرَّة، في خِضَم اشتدادِ الصِراع المُسَلح بَينَ النظامٍ ومُعارِضيه، الذين يَرأسُ كيانهم التنظيمي, استنهض الظاهرة فيه بصُورتها السلبِيَّة.. ففي كلمته التي افتتحَ بها اجتماعُ هيئة القيادة في أسمرا مارس/آذار1997، وجَّه رسالة مُختصرة للنظام في الخُرطوم، بقوله: «سَلِّمْ تَسْلَمْ», ويبدو أن السيد الميرغني اعتبر أن عبارته السحريَّة تلك تنطوي على لغز حل الأزمة المُستحكمة, فظلَّ يُردِّدها في كل محفلٍ, ولم يجد في ”مُستشاريه“ من يقول لهُ: يا مَولاي.. لقد جئتَ شيئاً إدَّا، إذ أن قولك هذا خرق الميثاقُ الذي وقعنا عَلَيْهِ لِلتوِّ في مُقرَّرات أسمرا، قبل أن يجف حبرها.. ومِن ضِمنِها: «مُحاسبة ومُحاكمة كل مَن تسببَ في تقويض النِظامُ الديمقراطي القَائم حتى 29 يونيو/حزيران 1989، أو عمل على تمكين واستمرار النظام العسكري, وذلك أمَامَ القضاء المُستقل“».. بل لم يجد من بين الحُلَفاء من يقول لهُ: «إن حربُنا التي نخُوضُها ضد النظامِ هي ”استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى“».. مثلما قالها الجنرال الألماني الشهير ”كارل فون كلاوزوفينتر“.. بالتالي، فإن قامُوسها لا يحتملُ مثل ذلك السَجع, لأن أقوالنا ستناقضُ أفعالنا.. المُفارقة - التي سنتعرَّضُ لها في المحاورُ القادمة- أنه عندما لَم يستجب النظامُ لدعوة الميرغني, آثرَ أن يُطبقها على نفسه، وفي معيَّته الكيانُ المُعارِض برُمَّته، ليس مُستسلماً فحَسْب، وإنما مُشارِكاً النظام الذي طالبه هو قبلاً بالتسليمِ!! وليس في الأمر عَجَبٌ، فتلك من تجليات النخبة السياسيَّة, التي تجعلُ من ”المُمكِن“ مُستحيلاً, ومِنَ ”المُستحيل“ مُمكِناً.. فهي تتدثر ببدعة ما أسمتهُ بـ”التسامُحِ السياسِي“ السُودانِي, وتمارسه كيفما اتفق.

    بَيْدَ أنَّ هنالك مَن اجتهد، ورَغِبَ في تحطيمِ تلك الأسطورة, وَوَضْعِها في إطارٍ إيجابِي، كاختبارٍ حقيقي لمفهومِ ”التسامُح السياسِي“, وجرت مُلابسات ذَلك في الظروفِ التي ذكرنا فيها أن النظام، لدَواعٍ خاصَّة، ابتدَعَ ما أسماه بـ”هامِشِ الحُرِيَّات“، وبدأ يدعُو مُعارِضيه للعودة، ومُمارسة أنشطتهم السياسيَّة مِن داخل البلاد، تحت مظلة ما أسمَاهُ أيضاً بـ”الوِفاقُ الوَطنِي“.. بناء على ذلك، تقدَّم ”د. فاروق محمد إبراهيم“ بمقترحٍ، ولأسبابٍ سيكتشفها القارِئ بنفسه، لَم يَجرُؤ نِظامُ الإنقاذِ عَلى قبول مقترحه، رغماً عن معقوليته.. وللذين لا يعلمون، فإن د. فاروق أستاذ للعُلوم بجامعة الخُرطوم، وكان من أوائل الذين استهدفهُم النِظامُ في بواكير عهده بتعذيبٍ مُهين.. والأنكى، أن تلميذه - وزميله في الجامعة من بعد- د. نافِع علي نافِع، كان ثاني اثنين قاما بذلك الفعل القبيح!! أقدما على تنفِيذه بوعيٍ كامِل، لعِلمِهم بالشخصِ المَعني, وهو مُرَبٍ في المقامِ الأوَّل, عَلى يَدِه تعلمت وتخرَّجت أجيالٌ, وقد ظلَّ طوال حياته - وما فتئ- يُمارس السياسة بزُهد المُتصوِّفة.. مثالٌ للتجرُّد والطهر وعفة اللسانِ, مُتصالحاً مع أفكاره ومبادئه.. إن خالفك الرأي، احترم وجهة نظرك, وإن اتَّفقَ مَعَكَ استصوَبَ رأيك.. ويبدو أن هذه الصفاتُ مُجتمعة هي التي استثارَت د. نَافِع في الإقدامِ على تنفيذ فعلته!! وفيما يلي نوردُ النص الكامل لمُذكرته التي أرسلها من مقرِّه في القاهرة، إلى رئيس نظام الإنقاذ.. وترجعُ أهميَّة هذه الوثيقة إلى أنها احتوَت على كل البيِّناتِ القانونِيَّة والسياسيَّة والأخلاقِيَّة التي تَجعل منها نموذجاً في الأدَبِ السياسي, وفَيْصَلاً مثالِياً لقضيَّة يتوقفُ عليها استقامة المُمارسة السياسيَّة السُودانِيَّة, وتعدُّ أيضاً اختباراً حقيقياً لمفهومِ ”التسَامُحِ“، إن رَغِبَ أهلُ السُودان، وسَاسته بصفة خاصَّة، في استمرار العيشِ في ظله.. كذلك فإن المُذكرة، بذات القدر الذي قدَّمت فيه خيارات لتبرئَة جراح ضحايا نظام الإنقاذ, أعطت الجاني فرصة للتطهُّر من جرائمه بأفعالٍ حقيقيَّة، أدناها الاعترافُ بفداحة جُرمِه.. وما لا نشُك فيه مُطلقاً، أن فرائص القارِئ حتماً سترتعدُ وهو يُتابعُ وقائع الجُرمِ، خِلالَ سُطورِ هذه المُذكرة, رغم أن طولِ الجرح يُغري بالتناسي، على حد قول الشَاعِر!!

    القاهرة 13/11/2000م

    السيد الفريق/ عمر حسن البشير
    رئيس الجمهورية ـ رئيس حزب المؤتمر الوطني
    بواسطة السيد/ أحمد عبدالحليم ـ سفير السودان بالقاهرة
    المحترمين

    تحية طيبة وبعد

    الموضوع: تسوية حالات التعذيب تمهيداً للوفاق بمبدأ ”الحقيقة والتعافي“ على غرار جنوب أفريقيا ـ حالة اختبارية ـ

    على الرغم من أن الإشارات المتعارضة الصادرة عنكم بصدد الوفاق الوطني ودعوتكم المعارضين للعودة وممارسة كافة حقوقهم السياسية من داخل أرض الوطن, فإنني أستجيب لتلك الدعوة بمنتهى الجدية, وأسعى لاستكمالها بحيث يتاح المناخ الصحي الملائم لي وللآلاف من ضحايا التعذيب داخل الوطن وخارجه أن يستجيبوا لها, ولن يكون ذلك طبعا إلا على أساس العدل والحق وحكم القانون.

    إنني أرفق صورة الشكوى التي بعثت بها لسيادتكم من داخل السجن العمومي بالخرطوم بحري بتاريخ 29/1/1990, وهى تحوي تفاصيل بعض ما تعرضت له من تعذيب وأسماء بعض من قاموا به, مطالبا بإطلاق سراحي وإجراء التحقيق اللازم, ومحاكمة من تثبت إدانتهم بممارسة تلك الجريمة المنافية للعرف والأخلاق والدين والقانون. تلك المذكرة التي قمت بتسريبها في نفس الوقت لزملائي أساتذة جامعة الخرطوم وأبنائي الطلبة الذين قاموا بنشرها في ذات الوقت على النطاقين الوطني والعالمي, ما أدى لحملة تضامن واسعة أطلق سراحي إثرها, بينما أغفل أمر التحقيق الذي طالبت به تماما. وهكذا ظل مرتكبو تلك الجريمة طليقي السراح, وتوالى سقوط ضحايا التعذيب بأيديهم وتحت إمرتهم, منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, فلا يعقل والحال على هذا المنوال أن يطلب مني ومن الألوف الذين استبيحت أموالهم وأعراضهم ودماؤهم وأرواح ذويهم, هكذا ببساطة أن يعودوا لممارسة ”كافة“حقوقهم السياسية وكأن شيئا لم يكن.

    إن ما يميز تجربة التعذيب الذي تعرضت له في الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 1989م ببيت الأشباح رقم واحد الذي أقيم في المقر السابق للجنة الانتخابات أن الذين قاموا به ليسوا فقط أشخاصا ملثمين بلا هوية تخفوا بالأقنعة, وإنما كان على رأسهم اللواء بكري حسن صالح وزير الدفاع الراهن ورئيس جهاز الأمن حينئذ, والدكتور نافع علي نافع الوزير ورئيس جهاز حزب المؤتمر الوطني الحاكم اليوم ومدير جهاز الأمن حينئذ, وكما ذكرت في الشكوى المرفقة التي تقدمت لكم بها بتاريخ 29 يناير 1990 من داخل السجن العمومي وأرفقت نسخة منها لعناية اللواء بكري, فقد جابهني اللواء بكري شخصياً وأخطرني بالأسباب التي تقرر بمقتضاها تعذيبي, ومن بينها قيامي بتدريس نظرية التطور في كلية العلوم بجامعة الخرطوم, كما قام حارسه بضربي في وجوده, ولم يتجشم الدكتور نافع, تلميذي الذي صار فيما بعد زميلي في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم, عناء التخفي وإنما طفق يستجوبني عن الأفكار التي سبق أن طرحتها في الجمعية العمومية للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم, وعن زمان ومكان انعقاد اللجنة التنفيذية للهيئة, ثم عن أماكن تواجد بعض الأشخاص - كما ورد في مذكرتي- وكل ذلك من خلال الضرب والركل والتهديد الفعلي بالقتل وبأفعال وأقوال أعف عن ذكرها. فعل الدكتور نافع ذلك بدرجة من البرود والهدوء وكأنما كنا نتناول فنجان قهوة في نادي الأساتذة. على أي حال فإن المكانة الرفيعة التي يحتلها هذان السيدان في النظام من ناحية, وثبات تلك التهم من ناحية ثانية, يجعل حالة التعذيب هذه من الوضوح بحيث تصلح أنموذجا يتم على نسقه العمل لتسوية قضايا التعذيب, على غرار ما فعلته لجنة الحقيقة والوفاق الخاصة بجرائم النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

    قبل الاسترسال فإنني أورد بعض الأدلة التي لا يمكن دحضها تأكيدا لما سلف ذكره:-
    • أولاً: تم تسليم صورة من الشكوى التي تقدمت لسيادتكم بها للمسئولين المذكورة أسماؤهم بها, وعلى رأسهم اللواء بكري حسن صالح. وقد أفرج عني بعد أقل من شهر من تاريخ المذكرة. ولو كان هناك أدنى شك في صحة ما ورد فيها - خاصة عن السيد بكري شخصياً- لما حدث ذلك, ولكنت أنا موضع الاتهام, لا هو.
    • ثانيا: أحال مدير السجن العمومي مجموعة الثمانية عشر القادمة معي من بيت الأشباح رقم واحد بتاريخ 12 ديسمبر 1989 إلى طبيب السجن الذي كتب تقريرا مفصلاً عن حالة كل واحد منا, تحصَّلت عليه وقامت بنشره منظمة العفو الدولية في حينه. وقد أبدى طبيب السجن ومديره وغيرهم من الضباط استياءهم واستنكارهم الشديد لذلك المشهد الذي لا يكاد يصدق. وكان من بين أفراد تلك المجموعة كما جاء في الشكوى نائب رئيس اتحاد العمال الأستاذ محجوب الزبير وسكرتير نقابة المحامين الأستاذ صادق شامي الموجودان حاليا بالخرطوم, ونقيب المهندسين الأستاذ هاشم محمد أحمد الموجود حاليا ببريطانيا, والدكتور طارق إسماعيل الأستاذ بكلية الطب بجامعة الخرطوم, وغيرهم ممن تعرضوا لتجارب مماثلة, وهم شهود على كل ما جرى بما خبروه وشاهدوه وسمعوه.
    • ثالثا: إن جميع قادة المعارضة الذين كانوا في السجن حينئذ, السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني الديمقراطي والسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة والسيد سيد أحمد الحسين زعيم الحزب الاتحادي والسيدان محمد إبراهيم نُقُد والتيجاني الطيب زعيما الشيوعي وغيرهم, كلهم شهود بنفس القدر, وكما يعلم الجميع فقد تعرض السيدان الصادق المهدي وسيد أحمد الحسين وغيرهم من قادة المعارضة لنفس التعذيب على أيدي نفس الأشخاص أو بأمرهم وكتبوا شكاوى مماثلة.
    • رابعا: قام بزيارتي في السجن العمومي بالخرطوم بحري بعد انتقالي إليه مباشرة الفريق إسحق إبراهيم عمر رئيس الأركان وقتها بصحبة نوابه, فشاهد آثار التعذيب واستمع لروايتي كاملة, كذلك فعل كثيرون غيره.
    • خامسا: تم اعتقال مراسل الفاينانشيال تايمز السيد بيتر أوزين الذي كان خطابي بحوزته, فكتب صفحة كاملة دامغة في صحيفته العالمية المرموقة عن ما تعرضت له وتعرض له غيري من تعذيب, وعن محادثته الدامغة مع المسئولين عن تلك الانتهاكات وعن تجربته الشخصية.

    إنني أكتفي فيما يخص حالتي بهذا القدر من الأدلة الدامغة, ومع أن هذا الخطاب يقتصر كما يدل عنوانه على تجربتي كحالة اختبارية, إلا أن الواجب يقتضي أن أدرج حالة موظف وزارة الإسكان السابق المهندس بدر الدين إدريس التي كنت شاهدا عليها, وكما جاء في ردي على دعوة نائب رئيس المجلس الوطني المنحل الأستاذ عبدالعزيز شدو للمشاركة في حوار التوالي السياسي بتاريخ 18 أكتوبر 1998 (مرفق), فقد تعرض ذلك الشاب لتعذيب لا أخلاقي شديد البشاعة, ولم يطلق سراحه إلا بعد أن فقد عقله وقام بذبح زوجته ووالدها وآخرين من أسرته. كان في ثبات وصمود ذلك الشاب الهاش الباش الوسيم الأسمر الفارع الطول تجسيد لكرامة وفحولة وعزة أهل السودان. وكان أحد الجنود الأشد قسوة - لا أدري إن كان اسم حماد الذي أطلق عليه حقيقياً- يدير كرباجه على رقبتينا وجسدينا نحن الاثنين في شبق. وفي إحدى المرات اخرج بدرالدين من بيننا ثم أعيد لنا بعد ساعات مذهولاً أبكم مكتئبا محطما كسير القلب. ولم تتأكد لي المأساة التي حلت بِبَدرالدين منذ أن رأيته ليلة مغادرتنا لبيت الأشباح منتصف ليلة 12 ديسمبر 1989 إلا عند اطلاعي على إحدى نشرات المجموعة السودانية لضحايا التعذيب هذا الأسبوع, ويقتضي الواجب أن أسرد تلك اللحظات من حياته وأنقلها لمن تبقى من أسرته, فكيف بالله نتداول حول الوفاق الوطني بينما تبقى مثل هذه الأحداث معلقة هكذا بلا مساءلة.

    أعود لمبدأ تسوية حالات التعذيب على أساس النموذج الجنوب أفريقي, وأطرح ثلاثة خيارات متاحة لي للتسوية.

    الخيار الأول
    الحقيقة أولا, ثم الاعتذار و”التعافي المتبادل“ بتعبير السيد الصادق المهدي

    هذا النموذج الذي تم تطبيقه في جنوب أفريقيا. إن المفهوم الديني والأخلاقي للعفو هو الأساس الذي تتم بموجبه التسوية, ويختلط لدى الكثيرين مبدأ العفو مع مبدأ سريان حكم القانون ومع التعافي المتبادل. فكما ذكرت في خطابي المرفق للسيد عبدالعزيز شدو فإنني أعفو بالمعنى الديني والأخلاقي عن كل من ارتكب جرما في حقي, بما في ذلك السيدان بكري ونافع, بمعنى أنني لا أبادلهما الكراهية والحقد, ولا أدعو لهما إلا بالهداية, ولا أسعى للانتقام والثأر منهما, ولا أطلب لشخصي أو لهم إلا العدل وحكم القانون. وأشهد أن هذا الموقف الذي قلبنا كل جوانبه في لحظات الصدق بين الحياة والموت كان موقف كل الزملاء الذين كانوا معي في بيت الأشباح رقم واحد, تقبلوه وآمنوا به برغم المعاناة وفى ذروة لحظات التعذيب. إن العفو لا يتحدد بموقف الجلاد ولا بمدى بشاعة الجرم المرتكب, وإنما يتعلق بكرامة وإنسانية من يتسامى ويرفض الانحدار لمستنقع الجلادين, فيتميز تميزا خلقيا ودينيا تاما عنهم. فإذا ما استيقظ ضمير الجلاد وأبدى ندما حقيقيا على ما ارتكب من إثم, واعتذر اعتذارا صادقا عن جرمه, فإن الذي يتسامى يكون أقرب إلى الاكتفاء بذلك وإلى التنازل عن الحق المدني القانوني وعن المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به, بهذا يتحقق التعافي المتبادل. هذا هو الأساس الذي تمت بموجبه تسوية معظم حالات التعذيب والجرائم التي ارتكبها عنصريو جنوب أفريقيا ضد مواطنيهم.

    إنني انطلاقا من نفس المفهوم أدعو السيدين بكري ونافع ألا تأخذهما العزة بالإثم, أن يعترفا ويعلنا حقيقة ما اقترفاه بحقي وبحق المهندس بدرالدين إدريس في بيت الأشباح رقم واحد, وأن يبديا ندما وأسفا حقيقيا, أن يعتذرا اعتذارا بينا معلنا في أجهزة الإعلام, وأن يضربا المثل والقدوة لمن غرروا بهم وشاركوهم ممارسة التعذيب, وائتمروا بأمرهم. حين ذلك فقط يتحقق التعافي وأتنازل عن كافة حقوقي, ولا يكون هناك داعيا للجوء للمحاكم المدنية, ويصبح ملف التعذيب المتعلق بشخصي مغلقا تماما. ولنأمل أن يتقبل أولياء الدم في حالة المهندس بدر الدين إدريس بالحل على نفس المنوال.

    لقد أعلن السيد إبراهيم السنوسي مؤخرا اعترافه بممارسة التعذيب طالبا لمغفرة الله. وهذا بالطبع لا يفي ولا يفيد. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, ولا يليق أن يصبح أمر التعذيب الذي انقلب على من أدخلوه وبرروه أن يكون موضوعا للمزايدة والمكايدة الحزبية. إن الصدق مع النفس ومع الآخرين والاعتذار المعلن بكل الصدق لكل من أسيء إليه وامتهنت كرامته, وطلب العفو والغفران, هو الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق بكرامة, فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. وإن طريق التعافي المتبادل هو الأقرب إلى التقوى. فإذا ما خلصت النيات وسار جناحا المؤتمر الوطني والشعبي لخلاص وإنقاذ أنفسهم من خطيئة ولعنة التعذيب الذي مارسوه فسيكون الطريق ممهدا تماما لوفاق وطني حقيقي صادق وناجز.

    الخيار الثاني
    التقاضي أمام المحاكم الوطنية

    إذا ما تعذر التعافي المتبادل بسبب إنكار تهمة التعذيب أو لأي سبب آخر, فلا يكون هنالك بديل عن التقاضي أمام المحاكم, ذلك في حالة جدية المسعى للوفاق الوطني على غرار ما جرى في جنوب أفريقيا. غير أن حكومتكم فيما علمت سنت من التشريعات ما يحمي أعضاءها وموظفيها والعاملين في أجهزتها الأمنية من المقاضاة. فالجرائم ضد الإنسانية وحقوق الإنسان كالتعذيب, لا تسقط بالتقادم ولا المرض ولا تقدم السن ولا لأي سبب من الأسباب, كما شهدنا جميعا في شيلى وإندونيسيا والبلقان وغيرها. كما أن هذا الموقف لا يستقيم مع دعوتكم للوفاق ولعودة المعارضين الذين تعرضوا لأبشع جرائم التعذيب. وليس هنالك, كما قال المتنبي العظيم, ألم أشد مضاضة من تحمل الأذى ورؤية جانيه, وإنني مستعد للحضور للخرطوم لممارسة كامل حقوقي الوطنية, بما في ذلك مقاضاة من تم تعذيبي بأيديهم, فور إخطاري بالسماح لي بحقي الطبيعي. ذلك إذا ما اقتنعت مجموعة المحامين التي سأوكل إليها هذه المهمة بتوفر الشروط الأساسية لمحاكمة عادلة.

    الخيار الثالث
    التقاضي أمام المحاكم الدولية لحقوق الإنسان

    ولا يكون أمامي في حالة رفض التعافي المتبادل ورفض التقاضي أمام المحاكم الوطنية سوى اللجوء للمحاكم في البلدان التي تجيز قوانينها محاكمة أفراد من غير مواطنيها وربما من خارج حدودها, للطبيعة العالمية للجرائم ضد الإنسانية التي يجري الآن إنشاء محكمة عالمية خاصة بها. إنني لا أقبل على مثل هذا الحل إلا اضطرارا, لأنه أكرم لنا كسودانيين أن نعمل على حل قضايانا بأنفسنا. وكما علمت سيادتكم فقد قمت مضطرا بفتح بلاغ مع آخرين ضد الدكتور نافع في لندن العام الماضي, وشرعت السلطات القضائية البريطانية في اتخاذ إجراءات أمر الاعتقال الذي تنبه له الدكتور نافع واستبقه بمغادرة بريطانيا. وبالطبع تنتفي الحاجة لمثل تلك المقاضاة فيما لو أتيحت لي ولغيري المقاضاة أمام محاكم وطنية عادلة, أو لو تحققت شروط التعافي المتبادل الذي هو أقرب للتقوى. وإنني آمل مخلصا أن تسيروا على طريق الوفاق الوطني بالجدية التي تتيح لكل المواطنين الذين تشردوا في أصقاع العالم بسبب القهر السياسي لنظام ”الإنقاذ“ أن يعودوا أحرارا يشاركون في بناء وطنهم.

    وفقنا الله وإياكم لما فيه خير البلاد والعباد.
    فاروق محمد إبراهيم
    الأستاذ بكلية العلوم ـ جامعة الخرطوم (سابقا)
    [صورة طبق الأصل]

    بالطبع لم يتلقَّ د. فاروق رداً مُباشراً, لكن أحد مُعذِّبيه ردَّ عليه، وعلى ضحاياه الآخرين، عَبرَ صحيفة عربية أجرت معه حواراً.. ففي سؤالٍ حول مُمارسات جهاز الأمن في الفترة التي تولي فيها رئاسته (1989-1995)، قال د. نافع علي نافع: «ما كان ينبغي لي أن أفعل غير ذلك, أنا مقتنع بأنني عملت جهدي والعبرة عند الله سبحانه وتعالى بالجهد, وأرجو أن أكون قد نلت الدرجة الكاملة في الأجر»!! ويُضيفُ مُزيِّناً صورة الصفوة المُنتقاة، التي كانت تأتمرُ بإمرته: «أحسن ما في الجهاز كان فيه مجموعة من البشر متجردة, كانت تري أن مراعاة حق الله تعالى وحق عباده أهم لها».. وعليه، ما على كاتب المُذكرة وغيره، إلأّ أن يعتبروا ما حدث لهم هو حالة من حالات مُراعاة حق الله فيهم.. وأما المُذكرة نفسها، فليس لدينا أدنى تعليقٌ عليها، غير أننا نعتقد بأن أولئك الضحايا هم الأقدر بالوُصول بتلك الدعوة إلى نهاياتها المنطقيَّة, ذلك رُبَّما أضاءَ أملاً في تحطيمِ بدعة ”التسَامُح السِلبي“ التي نخرت عظام المُمارسة السياسيَّة، وأورثتنا التخبط، وعدم الاستقرار، الذي نعيشُه منذ الاستقلال.

    في واقع الأمر، حينما نستعرض هذه الأمثلة، في إطارِ هذا المبحث, سواءٌ على مُستوى الأنظمة المُختلفة، أو على صعيد النخبة السياسيَّة, لا نفعلُ ذلك مِن بابِ الغلُوِّ في الوطنيَّة، أو الشوفينية“Chauvinism” .. ولا حتى لتجريد الواقع من ما يعتبره البعضُ ظاهرة مُميِّزة للسُودانيِّين في مُمارساتهم السياسيَّة.. ولكننا نهدفُ حقاً إلى تعرية ذلك الواقع، وكشف زيف ذلك المفهوم، بتأمل الباطن، واستقراء الظاهر في المُمارسة السياسيَّة، وطبيعة العلائق بين النخب.. ونعيدُ القول، مرة أخرى، بأنه لا وُجود لظاهرة ”التسَامُحِ السياسي“ في المُجتمعاتِ البشريَّة, التي عرفت فقط مِن التسَامُح شِقيهِ ”الدِينِي“ و”الاجتِماعِي“.. ونكرِّر أيضاً، بأن ما ُيسَمَّى بـ”التسَامُح السِياسِي السُودانِي“ لم يكن سوى بدعةٌ من إنتاج النخبة، استغلتها في ظروفٍ استثنائيَّة، لتغطية عَجزِها وفَشَلِها في مُواجهة قضايا الواقِع المصيريَّة والمُتشعِّبَة, واستند عليها آخرون هروباً مِن المُساءلَة والمُحاسبة، ولمُواراةِ جرائِمِهِم وفَسادِهِم في السُلطَة, الأمر الذي كان سبباً رئيسياً في إعادة إنتاجِ الأزمة، وتجذير الفشل, وهو الطقسُ الذي استولدت فيه الجبهة الإسلامِيَّة انقلاب الثلاثين مِن يونيو/حزيران 1989.. وهل ثمَّة شيء يُمكنُ أن يقال في تلك البدعة، بعد الانتهاكاتِ الفظيعة التي تدحرجت، على مَدى عقد ونِصفُ العقدِ في السُلطَة؟!

    الهوامش:
                  

العنوان الكاتب Date
س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من الدخول بكرى ابوبكر08-04-06, 00:09 AM
  ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:17 AM
    Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:25 AM
      Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:27 AM
        Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:29 AM
          Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:31 AM
            Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:34 AM
              Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:36 AM
                Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:37 AM
                  Re: ►██ الغلاف بكرى ابوبكر08-04-06, 00:38 AM
                    المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة بكرى ابوبكر08-04-06, 00:40 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                      المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد بكرى ابوبكر08-04-06, 00:41 AM
                        Re: المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد عاصم الطيب قرشى08-04-06, 01:33 AM
                      Re: المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة adil amin08-10-06, 02:22 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmuez08-04-06, 02:34 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عصام أحمد08-04-06, 03:32 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال تولوس08-04-06, 06:16 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال القلب النابض08-04-06, 06:51 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmosley08-04-06, 08:45 AM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عويس08-04-06, 09:27 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 01:28 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 02:02 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 01:46 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عبد الله محمود08-04-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 03:07 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abureesh08-04-06, 03:09 PM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-04-06, 03:26 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kostawi08-04-06, 04:25 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:04 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-04-06, 07:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال غادة عبدالعزيز خالد08-05-06, 01:04 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال على محمد على بشير08-05-06, 10:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد اللطيف عبد الحفيظ حمد08-05-06, 10:58 AM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال نادية عثمان08-05-06, 11:38 AM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:17 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-05-06, 12:43 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:33 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Abomihyar08-05-06, 01:38 PM
  مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 04:08 AM
    Re: مذبحة الديموقراطية عبدالرحمن عثمان08-06-06, 06:15 AM
      Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-06-06, 06:45 AM
        Re: مذبحة الديموقراطية Adil Isaac08-06-06, 10:34 AM
          Re: مذبحة الديموقراطية رأفت ميلاد 08-06-06, 02:38 PM
            Re: مذبحة الديموقراطية سعدية عبد الرحيم الخليفة08-07-06, 01:28 AM
              Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 04:13 AM
                Re: مذبحة الديموقراطية hassan bashir08-07-06, 04:38 AM
                  Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-07-06, 10:13 AM
                    Re: مذبحة الديموقراطية saif khalil08-08-06, 06:28 AM
                      Re: مذبحة الديموقراطية Elmontasir Abasalih08-09-06, 11:55 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال saadeldin abdelrahman08-08-06, 10:10 AM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عزالدين محمد عثمان08-08-06, 07:28 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-09-06, 08:38 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال اندرو كوات08-09-06, 12:54 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Muna Khugali08-09-06, 10:57 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-10-06, 00:22 AM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-10-06, 08:34 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 10:56 PM
  Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Kabar08-10-06, 01:21 PM
    Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-13-06, 11:28 PM
      Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-14-06, 01:20 PM
        Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال عبد الخالق عابد08-14-06, 02:54 PM
          Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Bakry Eljack08-15-06, 03:37 AM
            Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 07:06 AM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-15-06, 09:20 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-16-06, 12:24 PM
              Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال خالد عمار08-16-06, 12:59 PM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM
                Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال Elmontasir Abasalih08-17-06, 09:14 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de