كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986
|
خواطر من زمن الإنتفاضة(9)
الفترة الانتقالية … صندوق النقد الدولي... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986
د. إبراهيم الكرسنى
تميزت الفترة الإنتقالية التى أعقبت الإطاحة بالنظام المايوى بحراك سياسي وثقافي وفكري فاق كل تصور . انه التعبير التلقائي لحركة الجماهير بعد فترة كبت وإذلال وإرهاب امتدت لفترة ستة عشر عاماً. ما أروع أن يتنسم الشعب عبير الحرية … بل ما أجمل أن يعيش الإنسان حراً كما ولدته أمه … كما قال ابن الخطاب قبل ما يزيد على الألف عام !! . سأفرد هذه الحلقة للحديث عن المحاضرات العلمية وورش العمل المهنية و الحلقة القادمة عن الندوات الجماهيرية ، التى لاتزال عالقة بالذهن ، وسأتحدث فى جانب المحاضرات وورش العمل، عن تلك المتعلقة بالإقتصاد السوداني، لأنني ما زلت أذكر بعض تفاصيلها .
لقد تكون " تيم " من المتحدثين فى المحاضرات العلمية المتخصصة فى الإقتصاد ، وبصورة عفوية وتلقائية ، من الدكتور عبد المحسن مصطفى صالح ، له التحية والتجلة والإعزاز ، والدكتور بشير عمر ، له التحية والتجلة ، وشخصي الضعيف ، ليتصدى لمشاكل الإقتصاد السوداني ، وما أكثرها ، والأهم من ذلك ، محاولة التوصل إلى إستراتيجيات وسياسات وآليات تساعد على الخروج من الأزمة الإقتصادية التى كنا نظن أنها خانقة فى ذلك الوقت !! وكنا نعتقد أيضاً،د. عبد المحسن وشخصى، بأن تطبيق " روشتة " صندوق النقد الدولي ، بل إدارته الفعلية للإقتصاد السوداني ، هى أحد العوامل المسببة لتلك الأزمة . لقد توفر لمندوب صندوق النقد الدولي ، الذي كان مقيماً بصورة دائمة ببنك السودان ، كمية من المعلومات والإحصاءات، لا أعتقد أنها قد توفرت لأي جهة إقتصادية أخرى . لذلك فقد تركز حديثنا ، بصورة خاصة ، على سياسات صندوق النقد وأثرها فى تدهور الإقتصاد السوداني . ولقد شاركنا بصورة مكثفة فى معظم المحاضرات والملتقيات العلمية، التي تم عقدها أثناء الفترة الإنتقالية، لتناول قضايا الإقتصاد السوداني . حتى أن الأخ د. عبد المحسن قد علق لى ذات مرة ، وبظرفه المعهود ، بأن الطلب على "خدماتنا "، قد فاق الطلب على خدمات الفنانين فى الأفراح والليالي الملاح… يا له من ظرف !!
فحوى تعليقه " الظريف " يتمثل فى إننا لم نترك أي سانحة إلا وقمنا باغتنامها لتوصيل رسالتنا الأساسية الناقدة ل " روشتة " صندوق النقد الدولي المتمثلة ، وباختصار شديد ، فى أنها تأتى مشابهة ل " الروشتة " التى يصرفها الطبيب لعلاج مرضاه ، الفارق الوحيد هو أن الخطأ الطبي فى وصف " الروشتة " سوف يقتل فرداً واحداً ، لكن " روشتة " الصندوق ، وهى بالفعل وصفة خاطئة لأنها قد صيغت لمعالجة أزمات الاقتصادات المتقدمة والمتعلقة بجانب الطلب ، فى الوقت الذى تكون فيه معظم أزمات إقتصادات بلدان العالم الثالث متعلقة بجانب العرض ، سوف تقود حتماً ، بهذا المعنى ، ليس إلى قتل فرد واحد ، كما فى حالة الأطباء ، ولكن إلى قتل وإبادة شعب بأكمله !! لم نكن ندرى فى ذلك الوقت بأنه سيأتي حين من الدهر ستقوم فيه قيادات سياسية، تدعى إنها تدافع عن مصالح الجماهير الكادحة ، بتطبيق تلك " الروشتة " الكارثة بحذافيرها ، وبصورة أذهلت حتى " خبراء " الصندوق أنفسهم … فتأمل !!
المشكلة الأساسية بالنسبة " لهؤلاء الناس " تتمثل فى أنهم لايتعلمون إلا من تجاربهم ، بمعنى آخر لا يتعلمون إلا وفقاً " للمنهج المادي التجريبي " . قديماً قال أهلنا الطيبيين " السعيد يشوف فى غيرو "!! لكن " القفص الآيديولوجى " قد حرم هؤلاء القادة من "شوف" الآخرين ، بل حرمهم فى واقع الأمر حتى من " شوف " تجربتهم ذاتها، وتقييمها لتجاوز سلبياتها . فأي نماذج من العقول هذه … اقتصادية كانت أو غير ذلك ؟! حينما يرى الشخص أفراد الشعب يتضورون جوعاً ويقتلهم الموت البطيء نتيجة لسوء التغذية والمرض ، والهم والغم المعيشي ، ثم يأتي من يقول لك بأن الإقتصاد السوداني ينمو بمعدلات هى الأسرع فى العالم … ماذا تقول له ؟! لا يدرى " هؤلاء الناس " بأن وراء هذه الأرقام والإحصاءات علاقات إجتماعية وإقتصادية وإنتاجية ، وإن هذه الأرقام ليست سوى تعبير عن تلك العلاقات، ولكن منهجهم فى التعامل معها ، أو ما أسميته ب " القفص الآيديولوجي " ، قد أعماهم عن رؤية تلك العلاقات وألبسهم " نظارة " لم يتمكنوا من خلالها سوى رؤية الأرقام المجردة التى عكست لهم بأن الإنسان السوداني ما هو سوى كائن يعيش فى كوكب آخر غير كوكب الأرض ... أليس هذا ضرب من الجنون؟ !!
إن هذا القفص قد جردهم حتى من إنسانيتهم، ودينهم الذى يدعو أول ما يدعو إلى الرحمة وإغاثة الملهوف !! لقد أكدت إحصاءات الحكومة نفسها بأن نسبة الفقر قد ارتفعت لتطال (90% ) من السودانيين، وهذه الأرقام صدرت قبل عشرة أعوام !! فكم ياترى قد بلغت نسبتها الآن ؟ لقد أدى تطبيق هذه " الروشتة " وبصورة غير مسئولة تماماً ، إلى تقسيم الشعب السوداني إلى فئتين : فئة قليلة ترفل فى " النعيم الدنيوي " الزائل، حتى بمفاهيمهم ، وهم الفئة الطفيلية التى تعيش على " مص " دماء بقية الشعب السوداني، الذى يشكل الفئة الثانية المغلوب على أمرها. لقد أوضحت التجربة التاريخية بأن هذا النوع من القيادات لا تأخذهم رأفة بأحد، و لا يخشون فى إفقار وتجويع شعبهم لومة لائم ... فتأمل !! من بين كل تلك المحاضرات وورش العمل حول " روشتة " الصندوق فقد علقت بذهني محاضرة دعت لها رابطة طلاب كلية الطب ، لاحظ مستوى الاهتمام بالشأن العام فى ذلك الوقت ، حول السياسات الإقتصادية. كان المتحدث الرئيسي في تلك المحاضرة السيد عوض عبد المجيد، له التحية والإحترام ، أول وزير مالية للفترة الإنتقالية، حيث أعقبه أستاذنا د. سيد أحمد طيفور، عليه رحمة الله، بعد أن إستقال السيد عوض من منصبه، بالإضافة إلى د. عبد المحسن وشخصى . إبتدر السيد الوزير حديثه، و هو ينظر إلينا، قائلاً وبالظرف المعهود عند أهلنا " الحلفاويين " ، وهو يخاطب إدارة الندوة ، "أهو الحمد لله مجهزين كل الأركان حرب " ... فضجت الساحة بالضحك .. رغم " نشاف " مادة الإقتصاد !!
أما الحدث الإقتصادى الآخر والمهم الذى أود أن أتطرق له ، فهو المؤتمر الإقتصادى الذى عقد فى مارس 1986 م . لقد سبق هذا المؤتمر ، وفى إطار الإعداد له ، عقد ورش عمل قطاعية شملت الإقتصاد الكلى وبقية القطاعات الإقتصادية الرئيسية . لقد شاركت بورقة عمل عن " دور القطاعين العام والخاص فى قيادة مسيرة التنمية الإقتصادية فى السودان " . لكنني لم أقرأ أو أطلع على ورقة ، من بين جميع الأوراق المقدمة ، بما فى ذلك ورقتي المشار إليها ، أفضل وأعمق وأكثر فائدة من الورقة التى قدمها صديقي العزيز د. عبد المحسن مصطفى ،والتى حلل من خلالها تركيبة وإشكالات الإقتصاد الكلى .
لم يجمع القادة السودانيون – السياسيون والنقابيون منهم على حد سواء – على وثيقة وطنية شاملة، قدر إجماعهم على وثيقة المؤتمر الإقتصادى دون عزل أو إقصاء لأحد !! من كان يتصور أن يوقع على تلك الوثيقة ممثلي كل الأحزاب السياسية والنقابات ؟ من كان يتصور أن يأتي توقيع الدكتور الطيب زين العابدين ، ممثل الجبهة الإسلامية القومية ، مباشرة بعد توقيع الأستاذ محمد إبراهيم نقد ممثل الحزب الشيوعي، (أو العكس) ؟! فهل هنالك إجماع أكثر من ذلك ؟! إنني على قناعة تامة بأنه لو إتفق قادتنا السياسيين، فى ذلك الوقت، على برنامج سياسي يمثل الحد الأدنى لمرتكزات برامجهم ، ومن ثم تم تكوين حكومة وحدة وطنية ، بالمعنى الصحيح للكلمة ، وتم تكليفها بتنفيذ بنود هذين البرنامجين فى مرحلة إنتقالية تكون فترتها أطول من العام الواحد ، لكان السودان اليوم فى وضع أفضل بكثير مما هو عليه حالياً. ولكان الشعب السوداني فى وضع معيشي مختلف، يوفر له على الأقل الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، كبديل لحال الضنك والعوز والمسغبة التى أدت إلى الفتك بنسيجه الإجتماعى، وما تبعه من تدنى مزري فى جميع مناحى حياته ، بما فى ذلك الأخلاق الحميدة ، التى يدعيها البعض ويمارس دونها !!
ملاحظة أخيرة حول بنود الميثاق الإقتصادى ، التى أعتقد أن جوهرها لايزال صالحاً لمعالجة قضايا الإقتصاد السوداني الراهنة ، بعد تحديثها بالفعل ، وهى نصيحة أسداها لي أستاذي الجليل محجوب عثمان ، متعه الله بالصحة والعافية ، حينما كنت أكتب عموداً بصحيفة الخرطوم، أيام كانت تصدر من القاهرة خلال حقبة التسعينات ، بعنوان " مع الغلابة " . إقترح على الأستاذ محجوب وقتها أن أخصص هذا العمود لتوصيات المؤتمر الإقتصادى، والقيام بتحليلها واحدة تلو الأخرى من خلال ذلك العمود. وقد قال لي الأستاذ مازحاً " عندما تخلص التوصيات نكون خلاص رجعنا السودان " !!
لقد رجع الأستاذ محجوب إلى السودان ولم نزل نحن تحت رحمة " عصا الترحال" ... فتأمل ! لم اندم على شيء أكثر من ندامتي بعدم الأخذ باقتراح الأستاذ محجوب، لأن الحصيلة المباشرة لذلك الجهد ،فيما لو تم ، كانت ستثرى المكتبة الإقتصادية بمادة ثرة وبلغة إقتصادية مبسطة يفهمها " الغلابة " من أبناء وبنات شعبنا .. وهو المطلوب بالضبط . حكمة هذه التجربة تتمثل فى أهمية الأخذ بنصائح " كبارنا "، لأن عنفوان الشباب ربما يقود ، فى بعض الأحيان ، إلى " قصر النظر" ، كما فى هذه الحالة... و " الماعندو كبير يسعالو كبير" !!
2/4/2007
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | ابراهيم الكرسنى | 04-02-07, 05:41 AM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | HAYDER GASIM | 04-02-07, 06:10 AM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | ابو خالد | 04-02-07, 07:11 AM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | wesamm | 04-02-07, 01:35 PM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | wesamm | 04-02-07, 04:47 PM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | عبدالمنعم خيرالله | 04-02-07, 06:57 PM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | ابراهيم الكرسنى | 04-03-07, 06:04 AM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | Abdul Monim Khaleefa | 04-03-07, 09:33 PM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | عبدالمنعم خيرالله | 04-04-07, 03:04 AM |
Re: الفترة الإنتقالية... صندوق النقد الدولى... و المؤتمر الإقتصادى... مارس 1986 | ابراهيم الكرسنى | 04-04-07, 10:27 AM |
|
|
|