تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 11:18 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الراحل المقيم الطيب صالح
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-20-2009, 04:13 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم! (Re: jini)

    Quote: قراءة في رواية الطيب صالح "عرس الزين"
    حسن المودن
    "إن رواية عرس الزين زغرودة طويلة للحياة. أنشودة حب" علي الراعي


    تمهيد: نحو محكي واقعي جديد
    يذكر الناقد يوسف الشاروني (1) في معرض حديثه عن نجيب محفوظ أن بذور تحول نوعي في المحكي الواقعي قد بدأت في أماكن متفرقة من المحكيات الواقعية التقليدية نفسها (رواية "بداية ونهاية" 1949م، وراوية "الثلاثية" 1956-1957م). إلا أن هذا التحول لن يصير رسميا، على حد تعبير محمود غنيم (2)، إلا مع رواية مهمة من روايات الواقعية التقليدية نفسه نجيب محفوظ، وهي رواية "اللص والكلاب" التي ظهرت بداية الستيانات.
    ويهمنا أن نتعرف على أهم الملامح التي تميز هذه الواقعية الجديدة عن تلك الواقعية التقليدية، خطوة أولية تمهد الطريق نحو التعرف على خصائص السياق الأدبي. الروائي الذي ارتبط به ظهور رواية "عرس الزين" والذي ساهمت فيه باعتبار أنها هي الأخرى ظهرت أوائل الستينات، وهي المرحلة التي شهدت البدايات الأولى لتأسيس تخييل جديد.
    لكن هذا لا يعني أن التخييل الجديد قد قطع كل صلة بالتخييل التقليدي: إلى جانب أن هذا التحول قد خرج من داخل التخييل التقليدي نفسه، فإن هناك قواسم فنية مشتركة بين الاثنين: نذكر من بينها اعتمادهما معا على التشخيص: إذا كان المجتمع بحركته ووجوه هو الكون الكبير الذي يشغل التخييل الواقعي التقليدي لاستناده إلى رؤية واقعية اجتماعية – خارجية -، فإن الإنسان بذاتيته ووجوده الداخلي والداخل – خارجي هو الكون الكبير الذي يستميل التخييل الواقعي لاستناده إلى رؤية داخلية – ذاتية.
    وبالرغم من أن التشخيص قاسم مشترك، فإننا نوافق الناقد محمود غنيم (3) على أن هذا التوجه الجديد في التشخيص لا يكشف لنا عن فروق كبيرة في المضمون فحسب بل وفي اللغة والأسلوب والأشكال والمناهج والمنظورات السردية، فلم تعد الرؤية البانورامية الواسعة، التي يقف وراءها سارد عالم بكل شيء ومسيطر على كل الأحداث والشخوص، هي التي تحكم التخييل الجديد، مثلما لم تعد اللغات والمناهج السر دية الخارجية "الموضوعية" هي التي تهيمن على هذا الأخير، بل نحن أمام تخييل بملامح نوعية كانت بداية لتحويلات مهمة عرفتها الرواية العربية من بداية الستينات - وما قبلها بقليل - إلى الآن. وبما أن التحليل سيوقفنا عند أهم مكونات التخييل الجديد، فإننا نكتفي في هذا التمهيد بالوقوف عند عنوان هذه الرواية، ذلك لأن العنوان، باعتباره شكلا فنيا هو أول عتبة يجتازها القارئ، ولهذا كان لابد من أن ينطلق منها التخييل الجديد ويقدمها على أنها شكل فني يميز هذا التخييل عن ذاك التقليدي، ومن جهة أخرى، فهذه العتبة هي التي ستمهد لنا الطريق نحو هذا المحكي.
    إذا كانت الرواية التقليدية تتجه نحو الأحداث الكبيرة والأبعاد البارزة، وتعني بتقديم أشكال المجتمع وتحركاته الآلية التي تراما مراجع تسمح للإنسان بالتعرف على العالم وعلى نفسه، وتزخر بالزوائد الاجتماعية والتاريخية: فإن الرواية - موضوع هذه القراءة - تجنه نحو حدث عادي وبسيط: العرس، وتتعمق هذه البساطة عندما نعلم أننا أمام عرس شخصية الزين: لم نعد أمام تلك الشخصية بذلك الوزن الثقيل الذي ألفناه في الرواية الواقعية التقليدية، بل نحن أمام شخصية بسيطة من بلدة بسيطة في السودان، أكثر من هذا أن بعض شخوص الرواية ينعتون "الزين" بالأبله والدبله والدرويش..
    أن تحمل الرواية عنوان "عرس الزين" فهذا يعني إذن توجها جديدا تظهر ملامحه الأولى من خلال الاهتمام بالأحداث الصغيرة والظواهر البسيطة والشخصيات العادية والبسيطة.
    فنحن أمام قصة تبدو بسيطة للغاية، ذلك لأنها تحكي عن خطبة الزين لنعمة: الزين أضحوكة القرية، ونعمة موضع إعجاب الفتيان وابنة أحد رجال البلدة البارزين من ذوي النفوذ، وإلى بساطة القصة تنضاف غرابتها، ذلك لأن الأمر سينتهي بزواج الزين من نعمة.
    في هذه البداية، يمكننا القول أننا أمام تخييل يتمركز حول العلاقة بين رجل وامرأة. وان كانت هذه العلاقة قائمة في التخييل التقليدي، فإنها لم تكن مركزية بالشكل الذي توجد به في "عرس الزين"، أي باعتبارها تلك "العلاقة العظيمة التي تتمتع بها الإنسانية" ذلك "المفتاح الحي الرئيسي للحياة"، على حد تعبير د.هـ لورنس (4).
    ومن جهة أخري، فنحن أمام تخييل ينشغل بالأحداث الصغيرة والظواهر الهامشية، لكنها تغوص عميقا في ذاتية الإنسان، ولهذا السبب هناك التفات أساسي إلى الذاتية، فالحب والخطبة والزواج من اللحظات التي لها أهمية مأزقية قصوى في دورة حياة الفرد وفي نسيجه الاجتماعي المتشابك، لكن هذه اللحظات لا تقدم على أنها خالصة، بل تقدم من خلال "لحظة إنسانية مشحونة بدرجة قصوى من التأزم الاجتماعي" كما لاحظ ذلك بحق محمد خلف الله عبدالله (5) في دراسة له عن نفس الرواية.
    فمنذ السطور الأولى من الرواية، يكتسب خبر العرس أهمية دراماتيكية، ويثير ردود فعل متباينة ومتعارضة: ينتشر الخبر مع شروق الشمس، مع عملية توزيع الحليب، ولما انتصف النهار كان الخبر على فم كل واحد، يتداول الناس خبر العرس في دهشة ويقدمون ردات فعل وتفسيرات مختلفة. "ومع كل فاصلة في هذا العمل الروائي ينفلت الخبر من برودة السرد، فتستعيد الحكاية مرة أخرى حرارتها الدرامية". اعتمادا على تقنيات الاسترجاع والانتقال من زمن إلى أخر وقطع مشهد والانتقال إلى أخر، وتنتهي الرواية بالانتقال عبر مشاهد العرس.
    1- السرد والايروس:
    لن يخفى على القارئ أن هذا النص مكتوب بلغة ايروسية فائقة، بحيث يتضافر العنصر الايروسي والعنصر السردي في هذا التخييل، قصد خلق عالم خاضع لصوغ ايروسي من جهة أولى ولصوغ سردي من جهة ثانية، والنموذج الأتي خير نموذج عن هذا الزواج الفائق:
    "تتابعت الأعوام، عام يتلو عاما، ينتفخ صدر النيل كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ. ويسيل الماء على الضفتين، فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء عند أسفل البيوت تنق الضفادع بالليل، وتهب من الشمال ريح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من أريج زهر الطلع ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل. وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر، يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة، فإذ ا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودق طبوله وعزف طنابيره ومزاميره كأنه يمين دارك، ويتنفس النيل الصعداء، وتستيقظ ذات يوم فإذا صدر النيل قد هبط وإذا الماء قد انحسر عن الجانبين، يستقر في مجرى واحد كبير يمتد شرقا وغربا، تطع منه الشمس في الصباح وتنس فيه عند المغيب، وتنظر فإذا أرض ممتدة ريانة ملساء نزك عليها الماء دروبا شيقة مصقولة في هروبه إلى هجراه الطبيعي، رائحة الأرض الآن تملأ أنفك، فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح، الأرض ساكنة مبتلة، ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم، كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها، الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق هو ماء الحياة والخصب، الأرض مبتلة متوثبة تتهيأ للعطاء، ويطعن شيء حاد أحشاء الأرض لحظة نشوة وألم وعطاء، وفي المكان الذي طعن في أحشاء الأرض، تتدفق البذور، وكما يضم رحم الأنثى الجنين في حنان، ودفء وحب، كذلك ينطوي باطن الأرض على حب القمح والذرة واللوبيا، وتتشقق الأرض عن نبات وتمر" (ص 33-34).
    أن هذا النموذج يكون حكاية مستقلة بذاتها داخل النص الذي يتمحور، كما نعلم، حول حكاية الزين، وبمفهوم ج. جنيت هي وقفة Pause تتقدم في شكل حكاية استعارية تكثيفية (بالمعنى الفرويدي) تعكس حياة الزين - البلدة الملأى بالحياة والحب، ولكي تعكس بقوة هذه الحياة الجديدة والفريدة، كان لابد من لغة إيروسية يتضافر فيها الجنسي والسردي للحصول على قوة الحياة القصوى.
    إننا عندما نقرأ هذا النص السردي، فإننا ننتهي إلى استنتاج مهم أن قوة الحياة القصوى لا تكون إلا بالحب وفيه، سواء تعلق الأمر بحياة الكائن أو بحياة الجماعة، بل وبحياة السرد نفسه.
    فالزين، تلك الشخصية المحورية في هذا النص، لا تستقيم حياته ولا تقوى إلا بالحب، قتل الحب الزين وهو حدث لم يبلغ مبلغ الرجال وكانت الفتاة التي قتلته هي عزة بنت العمدة، فذات يوم وفي جمع عظيم من الرجال نفرهم العمدة لإصلاح حقله ارتفع صوته "عوك يا أهل الحلة. يا ناس البلد، عزة بنت العمدة كاتلا لها كتيل، الزين مكتول في حوش العمدة" (ص 20).، "وفوجئ الناس بتلك الجرأة" (ص 20). فما يقوله خطير، والأخطر منه أن يقوله أمام العمدة نفسه، غير أن الموقف خفت حدته حين انفجر الناس ضاحكين واستغرق العمدة في الضحك، وأخذ بعد ذلك يستغل العمدة الزين الذي لا حديث له إلا حبه لعزة، فسخره "في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن" (ص 20) وما إن مضى شهر حتى شاع في البلدة أن عزة خطبت لابن خالها "ولم يثر الزين ولم يقل شيئا، ولكنه بدأ قصة جديدة" (ص 21).
    لقد كان الزين رسول الحب. كان ذواقة للجمال لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما، وما إن يبدأ في الحديث عن حبه لفتاة حتى تصبه هذه حديث القرية كلها ولا كبث أن تتزوج. ففطنت أمهات البنات إلى خطورته كبوق يدعين به لبناتهن:"في مجتمع محافظ تحجب فيه البنات عن الفتيان، أصبح الزين رسولا للحب، ينقل عطره من مكان إلى مكان" (ص23) ينظر الزين إلى الفتاة الجميلة، فينوء قلبه الأبكم بهذا الحب، فتحمله قدماه النحيلتان إلى أركان البلد، تجري هاهنا وهاهنا "كأنه كلبة فقدت جراءها" (ص 23) ويلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان، فلا تلبث الأذان أن ترهف وما تلبث العيون أن تنتبه، وما تلبث يد فارس أن تمتد فتأخذ يد الفتاة. وحين يقام العرس تجد الزين حاضرا ومساعدا.
    وتبدأ قصة حب أخرى، فقد كان الزين "يخرج من كل قصة حب كما دخل، لا يبدو عليه تغيير ما، ضحكة هي هي لا تتغير، وعبثه لا يقل بحال، وساقاه لا تكلان عن حمل جسمه إلى أطراف البلد" (ص 23). إن الحياة غير ممكنة الا بالخروج من قصة حب والدخول في قصة أخرى، ولا يمكن للحب أن يتواصل إلا إذا تجنب تلك النهاية: الزواج، ودليلنا على هذا أن الزين، باعتباره رسولا للحب، قد انتهى بزواجه من نعمة، وبهذا الزواج يتراجع الحب وينهزم، وبخصوص هذه النقطة نوافق الناقد محمد خلف الله عبدالله على أن حياة ما قبل العرس قد "عاشها الزين بكل كيانه لحظة لحظة، ورشف من رحيقها قطرة قطرة، أي أن ذلك الحدث برغم الضجة التي أثيرت حوله وبرغم الترويج الذي لقيه ما هو في الحقيقة الا نهاية فاجعة لتك الحياة ولتلك الطاقة الغامرة التي كان يبثها الزين في قرية ودحامد." (8) ومن هنا سنفهم لماذا ذهب الزين إلى قبر الحنين حينما كانت احتفالات عرسه في أوجها، فقد كان ذلك الذهاب دلالة الاستسلام والاعتراف بالهزيمة، إن لم يكن الزين، كما يرى الشيخ محمد الشيخ (9).قد شيع نفسه بالفعل إلى المقابر لاحقا بالحنين، ويكفينا أيضا أن نذكر أن الزين بعد الزواج صارعن الأعيان. (10). إن شرط الحياة هو الحب، لكنه ليس الحب الذي ينتهي إلى الزواج، بل هو الحب الذي يجري وراء موضوعا باستمرار، أي أنه بالفقدان يستقيم الحب باعتباره رغبة، والموضوع ليسر امرأة بعينها بل هي المرأة: الزين يخرج من قصة حب امرأة ويدخل في في قصة حب امرأة أخرى. يعني أن الموضوع الحقيقي لهذه الرغبة هو الذي يبقى الزين على حاله ويبقي الحياة في أوجها. وبمعنى أخر، هو الذي يبقي ذات الحب مخصية، إذ كلما كانت هكذا تواصل الحب وتقوت الحياة: فالزين تنقصه بعض صفات الذكورة (يقول النص "ولم يكن على وجهه شعر إطلاقا. لم تكن له حواجب ولا أجفان، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب" (ص 12) ويختط غالبا بمجتمع النساء. وهذا يعني أن الحب والحياة يشترطان الإخصاء والأنوثة، فيحين تؤدي الذكورة واستعادة الفالوس إلى الموت: يتقدم الزين "يوم عرسه هاشا بسوطه نحو ذكورته، بينما تتراجع نعمة يوم عرسها إلى دائرة الظل أو إلا ظلال الكامل (11)... يوم العرس يقف الزين، عند عودته من مقبرة الحنين وكأنا يودع الحياة السابقة. في قلب الدائرة "فكأنه صاري المركب" (ص: 104)، ولباسه خير دليل على دخوله عالم الذكورة: على رأسه عمامة كبيرة وفي يده سوط طويل من جلد التمساح. وفي إصبعه خاتم من ذهب له فص من الياقوت في هيئة رأس الثعبان (ص 96- 91).
    لكز ما ينبغي الانتباه اليه هو استحالة الفصل بين حياة هذا الكائن التخييلي (والتي هي حياة التخييل نفسه) وبين حياة الحب (أي حياة الرغبة) وعندما تقارن بين بنية الرغبة وبنية السرد في هذا النص نكتشف خضوعهما لنفس الأولويات.
    فالسرد، مثل الرغبة، لا يتواصل إلا في غياب الموضوع (أي بعدم حصول اللقاء التام والنهائي بين الذات والموضوع). وهذه النتيجة قد توصل إليها ت. تودوروف في تحليله لأحد النصوص (12). لكننا إذا أردنا الدقة، وفي ارتباط دائم بالنص موضوع الدراسة، فإن بنية السرد - الرغبة خاضعة في نص عرس الزين للعبة "الاختفاء والعودة" التي تناولها فرويد بالدرس. فالزين يرمي بحبه إلى فتاة إلى أن تتزوج، فيستعيد قلبه، ليعيد مرة أخرى رميه إلى أن ترحل الحبيبة فيستعيده، وبذلك تختفي الحبيبة لتعود وتعود لتختفي. والأهم في هذه اللعبة، التي يخضع لها السرد كما الرغبة، أنها محكومة بقانون التكرار والفقدان. باختصار نقول أن السرد في "عرس الزين" يحيا مادام الحس، بهذا المعنى،حيا، ويموت بموت الحب وقيام عرس الزواج. ولهذا سنفهم لماذا انتهت الرواية بحفل الزواج - العرس.
    2- الاحتفال بالأنا المثالية:
    2-1 يقدم لنا السارد في هذه الرواية بيوغرافيا انسان اسمه "الزين"، وهذا النمط من البيوغرافيا يندرج تحت ما يسميه م. باختين بالنمط الاجتماعي العائلي، وفيه يتعلق الأمر بقيم اجتماعية - عائلية. وهذه القيم البيوغرافية قيم مشتركة بين الحياة والفن، أي أنها أشكال وقيم استتيقا الحياة. (13).
    ولا يمكن أن نفهم لماذا يحتفل السارد بشخصية الزين وبالنمط الاجتماعي - العائلي الذي خلقته هذه الشخصية، الا اذا اعتبرنا العلاقة بين السارد والشخصية، بين "أنا" السارد و "هو" الشخصية، علاقة بين الأنا (السارد) والأنا المثالية lemoi ide’al (الزين). والقارئ - المحلل يأخذ هنا بمفهوم الأنا المثالية الذي وضعه س. فرويد في أول دراسة استعمل فيها هذا المفهوم سنة 1914م (14). وهو يعني بالأنا المثالية تلك الأنا الواقعية التي كانت موضوع الإشباعات النرجسية الأولى، ولكن فيما بعد، تفتقدها الذات، وستسعى جاهدة لاسترداد هذه الأنا المثالية باعتبارها تخصص تلك الحالة التي تكون فيها الذات في كامل قوتهاDetaute puissance. يعني حالة ذلك الزمن الذي كان الطفل يرى فيها مثله الأعلى في ذاته الخاصة.
    ولن يخفى على القارئ أن شخصية الزين تحمل كل خصائص هذه الأنا المثالية التي تمكنت الشخصية الشعرية (أنا السارد)، من استردادها في كامل قوتها من خلال تخييلية هذا النص. ويهمنا أن نقف عند بعض خصائص هذه الأنا المثالية.
    أ- قوة الباطن وجماله:
    إن شخصية الزين قبيحة الشكل والهيئة، فشكله أكثر غرابة وبعدا عن أشكال الرجال من قومه:
    "كان وجه الزين مستطيلا، ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين، جبهته بارزة مستديرة، عيناه صغيرتان محمرتان دائما، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه. ولم يكن على وجهه شعر إطلاقا. لم تكن له حواجب ولا أجفان، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب. تحت هذا الوجه رقبة طويلة
      . والرقبة تقف على كتفين قويتين تنهدان على بقية الجسم في شكل مثلث، ذراعان طويلتان كذراعي القرد. اليدان غليظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة
        . الصدر مجوف، والظهر محدودب قليلا والساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركي، أما القدمان فقد كانتا مفلطحتين عليهما أثار ندوب قديمة...". (ص 11-12).
        إن السارد، وهو يقدم وصفا لهذا الظاهر الغريب، يسعى إلى لفت انتباهنا إلى أن الظاهر غالبا ما يكون خداعا غير زي أهمية وإلى أن قوة الشخصية لا تكون في الظاهر وبه، بل إن هذه القوة لا تكون إلا في الباطن وبه، إلى حد يمكن أن يكون معه الباطن نقيض الظاهر كما هو الحال في شخصية الزين. وبهذا، فمثال الأنا لا يكون ظاهريا بل باطنيا وروحيا، ذلك لأن قوة الباطن وجماله أخلد وأبقى من جمال الظاهر وقوته.
        فالزين يعتبر رسولا للحب والرحمة. ولم يكن أبدا ذا خطورة على الفتيات اللواتي يعلن في الملأ حبه لهن، لأنه لم يكن صاحب نفس أمارة بالسوء. وكانت للزين صداقات عديدة مع أشخاص تعدهم القرية من الشواذ والعجزة مثل عشمانة الطرشاء وموسى الأعرج وبخيت الذي ولد مشوها ليست له شفة وجنبه الأيسر مشلول. فقد كان يعطف على هؤلاء: إذا رأى عشمانة الطرشاء قادمة، وهي تخاف من كل أحد، حمل عنها الحطب وداعبها. أما موسى الأعرج، فرجل طاعن في السن يعاني في مشيه، معدم بلا أهل ولا أحد يخدمه، أخذ الزين بيده وبنو له بيتا يأتيه في كل يوم بالطعام..
        ومن هنا لم يكن غريبا أن تذيع أم الزين أن ابنها ولي من أولياء الله، وأن يلقبه الشيخ الحنين بالمبروك، فبفضله ساد الحب وسادت الرحمة.
        إن شخصية بهذه الصفات فرضت على السارد أن يعرض عن الخارج (خارج الشخصية) وأن ينزع نحو الداخل (داخل الشخصية). وإذا نحن أخذنا بعين، الاعتبار المرحلة التاريخية والأدبية التي ظهرت فيها هذه الرواية، فإننا سنكتشف أننا إزاء سارد بوضع اعتباري جديد من أهم خصائصه الاهتمام بالواقع الداخلي اللامرئي بدل الواقع الخارجي العيني، وهذا التوجه الجديد فرض طرائف سردية لم تكن مستثمرة بشكل كبير فيما قبل.
        هكذا نجد المحكي النفسي حاضرا بقوة في مختلف أشكاله، بما له من فعالية نفاذة إلى دواخل الشخوص وأعماقهم، وهذان نموذجان من الشكل التلفظي (وهو شكل من أشكال المحكي النفسي) نختارهما من بين نماذج كثيرة:
        - "وكانت نعمة
          تحس أن الزوار سيجيئها من حيث لا تحتسب، كما يقع قضاء الله على عباده، مثل ما يولد الناس ويموتون ويمرضون
            لم تكن تحس بفرح أو خوف أو أسى حين تفكر في هذا، ولكنها كانت تشعر بمسؤولية كبيرة ستوضع على كتفيها في وقت ما" (ص 38).
            - "كانوا في دخيلتهم يحتقرونه
              وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أن ينسوها: الموت والآخرة والصلاة. فعلق علـى شخصه في أذهانهم شيء قديم كئيب مثل نسيج العنكبوت" (ص 73).
              وإن كان المحكي النفسي التلفظي حاضرا، فإن المحكي النفسي في شكله اللاتلفظي هو الأكثر هيمنة، وهذا يوضح أن السارد لم يعرض بصفة نهائية عن الخارج بقدر ما يحاول فهم مختلف الترابطات والعلائق القائمة بين الداخل والخارج، يعني أنه من خلال تفكيك العلامات الخارجية يتمكن السارد من النفاذ إلى أعماق الشخصية، فهذا النمط مز المحكي النفسي يستطيع أن يمنح تعبيرا فعالا لحياة ذهنية بقيت دون كغيظ، بقيت مبهمة وغامضة، وبمعنى أنه يتمكن من إبراز ما لا تستطيع الشخصية التعبير عنه لفظا، يتمكن من ولوع مجال في الحياة الداخلية يكون بحاجة ماسة إلى وساطة سردية ما دام يجمع بين النفس والجسد في أن واحد.
              وهو بهذا مجان ينفلت من التلفيظ، لكنه يرتبط بأعماق ما وراء الوعي، بأعماق تقع تحت اللفظ Infra-verbal. وهذان نموذجان من هذا الشكل السردي الفعال:
              - "ويقع هذا موقعا حسنا في نفس الزين، فيستلقي على قفاه ضاحكا، ثم يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ويظن يضحك بطريقته الفذة" (ص 12-13).
              - "كان منتشيا دون شرب من الضجة التي تضج حوله، يبتسم ويضحك، يدخل ويخرج بين الناس، يهز بالسوط ويقفز في الهواء، يربت على كتف هذا، ويجر هذا من يده، ويحث هذا على الأكل، ويحلف على هذا بالطلاق أن يشرب" (ص 97).
              وتزداد فعالية المحكي النفسي عندما يحدث تناوب، في المقطع الواحد، بين كل أشكاله: فنجد الشكلين السابقين إلى جنب الشكل التشبيهي الاستعاري، وبهذا التناوب والزواج يبلغ المحكي النفسي مستوى أعمق في داخل الوعي اللفظي - التحتي Conscience Infra-verbal مثلما يمتلك قوة أدبية تجعل القارئ يتوقف عند هذه التشبيهات والاستعارات، وهذا نموذج عن هذا الزواج الرائع والفعال:
              "أصبح الزين رسولا للحب، ينقل عطره من مكان إلى مكان. كان الحب يصيب قلبه أول ما يصيب، ثم ما يلبث أن ينتقل منه إلى طلب غيره. فكأنه سمسار و دلال أو ساعي بريد. ينظر الزين بعينيه الصغيرتين كعيني الفأر، التابعتين في محجرين غائرتين، إلى الفتاة الجميلة، فيصيبه منها شيء لعله حب؟ وينوء قلبه الأبكم بهذا الحب، فتحمله قدماه النحيلتان إلى أركان البلد يجري ها هنا وها هنا كأنه كلبة فقدت جراءها، ويلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيث كان" (ص 23).
              وإذا كان المحكي النفسي حاضرا بشكل يصعب معه التمييز بينه وبين المحكي العادي، فإننا نجد المونولوج الداخلي كذلك حاضرا في مختلف أشكاله وأنماطه (المونولوج المنقول، المونولوج المسرد)، بحيث يضعنا داخل الحياة الداخلية للشخصية محترما لفتها الخاصة، أو أنه يجعل من الخطاب الساردي قناعا نسمع من خلاله الصوت الداخلي للشخصية، وهذان نموذجان من هذا الشكل السردي:
              "وكانت أم الزين تحس أن حياتها تنحدر للغروب
                فهذا الزواج أراح بالها
                  والزين لن يتزوج امرأة من عامة الناس، ولكنه سيتزوج نعمة بنت الحاج إبراهيم، وناهيك بهذا دليلا على كرم الأصل والفضل والجاه والحسب، ستدخل ذلك البيت الكبير المبني من الطوب الأحمر (فليس كل بيوت البلد من الطوب الأحمر)، تدخل مرفوعة الرأس ثابتة الخطوة سيقومون لها إذا دخلت، ويوصلونها إذا خرجت، ويعودونها كل يوم إذا مرضت، ستقضي الأيام الباقية في حياتها في فراش وثير من الرعاية والحب، ولعل القدر يمهلها فتحمل حفيدها أو حفيدتها في حضنها، تزغرد أم الزين، وتتوارد هذه الخواطر في ذهنها فتشتد زغاريدها". (ص 91).
                  - "صمت الناظر، فإنه لم يجد ما يود به على كلامهما - من الناحية الشكلية على الأقل، فكون بنت العم لابن العم حجة ليس بعدها حجة في عرف أهل البلد. إنه تقليد قديم عندهم، في قدم غريزة الحياة نفسها، غريزة للبقاء وحفظ النوع. لكنه في قرارة نفسه كان مثل آمنة يحس بلطمة شخصية موجهة له. وأحس برهة بارتياح: إن علي وعبد الصمد لا يعلمان بأنه فاتح الحاج إبراهيم في أمر نعمة لو علما إذن لما استطاع أن ينجو من لسانيهما السليطين، وسأل نفسه وهو يشرب الفنجان الخامس من قهوة الشيخ علي، لماذا طلب يدها؟ فتاة صغيرة في سن بناته، انه لا يدري تماما.." (69).
                  والواقع أن أغلب هذه الأنماط (المحكي النفسي، المونولوج الداخلي) لا توجد معزولة مستقلة، ففي المقطع الواحد يمكن أن يتناوب أكثر من نمطين إضافة إلي المحكي العادي، وهذا نموذج يجمع بين كل هذه الأشكال السردية:
                  - "وبلعت المرأة كرامتها وتحاملت على نفسها ودخلت على سعدية في دارها
                    استقبلتها سعدية استقبالا فاترا، وعرضت عليها القهوة بصوت بارد، فرفضت آمنة، ولم تزد سعدية
                      وتطلبت آمنة شجاعة كبيرة لكي تحدث سعدية في موضوع ابنها أحمد ونعمة ابنة سعدية، عرقت وجفت، بلعت ريقها، وأخيرا قالت في صوت مرتعش، وهي في داخلها تلعن ابنها الذي عرضها لكل هذا الاحتقار: "
                        " ولما فرغت من حديثها، شعرت بلسانها كقطعة من الخشب في فمها وأحست بحلقها قد تقلص فتنحنحت مرتين وارتعشت يداها، ولم تقل سعدية شيئا، ولو أنها فاهت بكلمة واحدة لهدأ روع آمنة قليلا، سعدية دائما تشعرها بأنها أقل منها شأنا أنها امرأة جميلة نبيلة الملامح والسلوك، تحمى وأنت تنظر إلى وجهها الوقور السمح بثروة أخوانها السبعة، وأملاك أبيها الواسعة، ونخل زوجها وشجره وبقره ومواشيه التي لا يحصيها العد، هذه المرأة لها أولاد ثلاثة تعلموا في المدارس، واشتغلوا في الحكومة، ولها بنت جميلة يقطع إليها الفتيان والناس يذكرونها بالخير، هذه المرأة التي تجاوزت الأربعين وهي تبدو كفتاة عذراء، هذه المرأة القليلة الكلام، لماذا لا تقول شيئا؟..." (ص 30-31).
                        ومن بين النتائج التي ترتبت على هذا التوجه نحو الباطن عنصر مهم من العناصر التي تكون هذا الوضع الاعتباري الجديد الذي سار إليه السارد، وهذا العنصر يشير إلى تحول من الصوت الساردي الأحادي المؤله إلى الصوت المتداخل المؤنسن.
                        تعتبر هذه الرواية من المساهمات الفعالة التي حاولت التقليل من سيطرة السارد العالم بكل شيء والقادر على تفسير كل شيء، فنحن في هذا النص أمام سارد غير مؤله، بل أمام سارد مؤنسن، بمعنى أننا لم نعد أمام ذلك السارد - الإله بل صرنا أمام السارد - الإنسان: فهو كالإنسان يعجز حتى عن تفسير بعض الظواهر الإنسانية كما في هذا النموذج: "ينظر الزين
                          إلى الفتاة الجميلة، فيصيبه منها شيء - لعله حب؟" (ص 23).
                          ومثله مثل الإنسان، يعجز عن تفسير بعض الظواهر الخارقة الفوق - طبيعية، ولهذا نجده يكتفي بعرض التفسيرات التي تقدمها الشخوص: فأحيانا يعرضها بلسان الشخصية وأحيانا أخرى يتبنى التفسير الذي تقدمه الشخصية مع صوغه بلغته الخاصة، وهذان نموذجان تمثيليان:
                          -"ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد، حتى محجوب، وهم يرون المعجزة، أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة: (ربنا يبارك فيكم، وربنا يجعل البركة فيكم) كان الوقت قبيل صلاة العشاء بقليل، وهو يستجاب فيه الدعاء، خاصة من أولياء الله الصالحين أمثال الحنين". (ص 60).
                          - "
                            وإذا بالأرض على اتساعها من ضفة النيل إلى طرف الصحراء يغمرها الماء. بعضها أراض لم تر الماء منذ أقدم السنين، وإذا بها بعد قليل تموج بالحياة كيف نفسر هذا؟ عبد الحفيظ يعلم السر، فهو يقول لمحجوب، وهو يجمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله، والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه، فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء: (معجزة يا زول، ما في أدنى شك) (ص 63)".
                            ولا يخفى أن المونولوج الداخلي، باعتباره شكلا سرديا، يلعب دورا مهما في أنسنة الصوت الساردي عن طريق خلق الصوت المتداخل الذي يتداخل فيه صوت الراوي، وصوت الشخصية: بدل أن يهيمن على النص صوت واحد: الراوي، أو الشخصية، فإنه مع الصوت المتداخل يمتزج صوت ظاهر وأخر خفي، الأول هو السارد والثاني هو الشخصية، وهنا يظهر صوت الشخصية مشاركا صوت السارد سيطرته على النص. وتلزم الإشارة إلى أن الصوت المتداخل قد يتقدم من خلال المونولوج الداخلي أو من خلال ما يسمى بالأسلوب اللامباشر الحر (وهذا لا يكون دوما مونولوجا داخليا). وفي رواية "عرس الزين" يتحقق الصوت المتداخل من خلال المونولوج الداخلي كما من خلال الأسلوب اللامباشر الحر، وهذا الصوت المتداخل من الأصوات التي تسيطر بقوة على النص (على سبيل البرهان نجده في الصفحات التالية: ص: 29-31-39-46-63-69-74-85-91-93-102).
                            وهذه بعض النماذج التمثيلية:
                            "لم تصدق آمنة أذنيها، وسألت حليمة بائعة اللبن للمرة العاشرة: "فتى داير يعرس منو؟" وللمرة العاشرة قالت حليمة: "نعمة" مستحيل. لا بد أن الفتاة فقدت عقلها. نعمة تتزوج بالزين؟ واختلطت الدهشة في صدر آمنة بالغضب". (ص 29).
                            - "وفقدوا الأمل. لابد أنه هرب، لكن إلى أين، والبلد كلها مجتمعة عندهم". (ص 102).
                            - "تذكرت آمنة كل هذا، وتذكرت كيف أنهم رفضوا بعد ذلك، ستذرعين بأن نعمة ما تزال قاصرا لم تصر للزواج بعد، والآن يزوجونها للزين - هذا الرجل الهبيل الغشيم ! يزوجونها للزين دون سائر الناس. وشعرت آمنة كأن في الأمر إساءة موجهة إليها شخصيا" (ص 31).
                            مما لا شك فيه أن السارد يسعى إلى تشخيص لا باطن شخصية الزين فقط بل وبواطن كل الشخوص. لكن من الواضح أنه لا يفعل ذلك إلا لخلق تفاضل بين باطن شخصية الزين (الأنا المثالية) وبواطن باقي الشخوص، فالشخصية الشعرية (أنا السارد) لا يمكن أن تبرز قوة باطن أناها المثالية إلا بمقابلته ببواطن أخرى قد تكون مماثلة (نعمة الحنين..) أو مناقضة (سيف الدين..) أو عاجزة عن إدراكه (آمنة).
                            لكن لكي تشخص الشخصية الشعرية باطن شخصيتها المفضلة (الأنا المثالية) فهي ( تكتفي باستلهام واستثمار الأشكال والأجناس السردية (المذكورة أعلاه) المألوفة في الروايات الداخلية والسيكولوجية وروايات تيار الوعي، بل هي تستلهم تراثا سرديا عربيا كلاسيكيا أكثر خصوبة من حيث أشكاله وأكثر عمقا من حيث رؤاه: إنه النص الصوفي.
                            إن منظور الشخصية الشعرية (ممثلة في السارد) منظور صوفي يجمع بين المرئي واللامرئي، بين الوجودي والرمزي. بين الظاهر والباطن، بين النهائي واللانهائي، وهذا اللامرئي واللانهائي، يفتح المرئي والنهائي والظاهر على اللامحدود، ولهذا يأتي المنظور الصوفي أكثر اندفاعا نحو المجهول مقدما فر شكل رحلة مزدوجة: رحلة خارجية تنتقل عبر البلدة لترصد تجليات القوى الخارقة عبر كل شيء: توالت المعجزات الواحدة تلو الأخرى على البلدة، إذ لم تر في حياتها عاما رخيا مباركا مثل عام الحنين كما أخذوا يسمونه ولم يكن أحد يتصور أن سيف الدين الفاسق سيتحول إلى إنسان مؤمن صالح، كما لم يتصور أحد أن الزين الهبيل الغشيم سيتزوج نعمة التي يحلم بها كل فتيان البلدة ذوى الجاه والنسب والجمال.
                            والرحلة الثانية رحلة داخلية يسري فيها المنظور الصوفي داخل أعماق الذات بحثا من أسرارها العميقة. ومن هنا نوافق الأستاذ عبد الحق منصف على أن الأساسي في النص الصوفي أنه يقتلع الذات من زمنها اليومي العادي ويلج بها "الزمن الكوني الكبير" تلك هي تجربة انمحاء الذات وذوبانها داخل الخيال الكوني أو داخل ما يسميه محيى الدين بن عربي علو الخصوص في فتوحاته بـ "الكتابة الوجودية" (15).
                            يتقدم العالم والذات والتاريخ في شكل كتابة وجودية ينبغي فك رموزها وألغازها وأسرارها، لكن من جهة أخرى يتقدمون في شكل كتابة ايروتيكية تزخر بصور الجمال الخارق والحب الخارج عن المألوف مثل ما يزخر بأسرار مغلقة فاتنة.
                            ب- تكافؤ الضدين:
                            إن مشخصة الزين، باعتبارها شخصية الأنا المثالية، يحكمها بُعدان، من جهة أولى، هناك بعد المجذوب الناقص العقل التائه من العالم المحيط به الذي يتحول إلى السخرية من الزين نفسه:
                            "وكان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته. فتجمهر حوله الأطفال وأخذوا ينشدون "الزين عرس... الزين عرس.. فكان يرميهم بالحجارة ويجر ثوب فتاة مرة، ومرة يهمن امرأة في وسطها ومرة يقوس أخرى في فخذها والأطفال يضحكون، والنساء يتسارخن ويضحكن وتعلو فوق ضحكهم جميعا الضحكة التي أصبحت جزءا من البد منذ أن ولد الزين" (ص 9). ومن جهة ثانية، هناك بعد الرجل الجاد الذي يقوم بأعمال العقلاء، وصداقاته وعطفه على الشواذ من أهل القرية خير دليل على هذا البعد حتى أن أهل البلد عندما يرون منه هذه الأعمال يزداد عجبهم، فيقولون "لعله نبي الله الخضر، لعله ملاك أنزله الله في هيكل أدمي زري" (ص 27).
                            فنحن إذن أمام بدين متكافئين متضادين: الأول يقع في منزلة تحت إنسانية (تائه - هبيل - غشيم - درويش - مجذوب - أبله ناقص العقل - أضحوكة...) والثاني يقع في منزلة فوق إنسانية (نبي، ملاك مبروك..) بمعنى أخر، هناك بعد الأبله المنعزل عن واقع القرية، وهناك بعد المتيقظ لإصلاح القرية بنشر الحب والرحمة.
                            ولا يمكن أن نفهم هذين البعدين إلا إذا استحضرنا شخصيتين أساسيتين ومتناقضتين: الأولى هي شخصية الإمام نقيض شخصية الزين، بحيث لم يكن يستفز هذا الأخير من إنسان مثلما يستفز من إمام المسجد، فهولا يعمل شيئا الا تذكير الناس بالموت والآخرة.. والثانية هي شخصية الحنين، وهو ر جل مبروك منقطع للعبادة، كانت بينه وبين الزين محك قة متبادلة: فالزين هو الوحيد الذي يأنس إليه الحنين في البلدة، وكان إذا قابله في الطريق ناداه بالمبروك.
                            نقصد أن شخصية الزين لن نتعمق في فهمها إلا إذا استحضرنا انجذابها إلى شخصية الحنين، ذلك الشيخ الذي "يمثل الجانب الخفي في عالم الروحانيات" (ص 80)، أي جانب الحب والرحمة والخير والحياة والبركة، مثلما لن نفهمها إلا إذا استدعينا شخصية إمام المسجد، "ذلك الذي يكرهه أهل القرية في دواخلهم، لأنه لا يعمل شيئا إلا تذكيرهم بأمور يحلو لهم أن ينسوها: الموت والآخرة والصلاة" (ص 73). وهذا يعني أن شخصية الزين وإن كانت منجذبة تماما إلى جانب الحب والرحمة، فإن شخصيته تحمده جانبا أخر مناقضا تماما: إذا كان الزين رسول الحب والرحمة، فإن جسمه النحيل ينطوي على قوة مريعة جبارة لا طاقة لأحد بها. أهل البلد جميعا يعرفون هذه القوة الرهيبة ويهابونها، ويبذلون جهدهم حتى لا يستعملها الزين ضد أحد: "إنهم يرتعدون روعا كلما ذكروا أن الزين أمسك مرة بقرني ثور جامح استفزه في الحقل، أمسك به من قرنيه ورفعه عن الأرض كأنه حزمة قش وطرح به ثم ألقاه أرضا مهشم العظام. وكيف أنه مرة في فورة من فورات حماسة قلع شجرة سنط من جذورها وكأنها عود ذرة. كلهم يعلم أن في هذا الجسم الضاوي قوة خارقة ليست في مقدور بشر" (ص 46). وسيف الدين السيئ السلوك والاخلاق الذي استفز الزين، سرعان ما صار فريسة سهلة انقض عليها الزين، وكاد يهلك لولا أن الحنين ظهر في اللحظة الحرجة: ففي "اللحظة التي ضاقت فيها قبضة الزين على حلقه. يقول إنه غاب عن الدنيا البتة، ورأى تمساحا ضخما في حجم الثور الكبير فاتحا فمه. وانطبق فكا التمساح عليه. وجاءت موجة كبيرة كأنها الجبل. فحطمت التمساح في هوة سحيقة ليس لها قرار. في هذا الوقت، يقول سيف الدين أنه رأى الموت وجها لوجه" (ص 51-52).
                            إن شخصية الزين باعتبارها مشخصة الأنا المثالية، شخصية متكافئة متضادة تحكمها قوتان خارقتان متضادتان متكافئتان: قوة الحب والحياة وقوة الموت.فبقدر ما ينطوي قلب الزين على قوة حب خارقة بقدر ما ينطوي جسمه النحيل على قوة موت خارقة. ولكن الواقع أن قوة الحب هي الأكثر هيمنة على هذه الشخصية ونفس الشيء يمكن قوله على عالم القرية، فهو عالم مليء بالمقابلات والتعارضات، عالم منقسم إلى فرق ومعسكرات متعارضة: فريق الإمام، فريق محجوب، فريق الرجال الكبار العقلاء، فريق الشباب، فريق المغامرين، فريق المتمردين، ولكن الزين كان فريقا قائما بذاته: "وكان الزين فريقا قائما بذاته" (ص 78). وبزواجه من نعمة، وهي دليل على كرم الأصل والفضل والجاه والحسب، سيكون الزين الفريق الذي يحكم البلدة: ليلة العرس سيقف الزين في قلب دائرة الرقص "فكأنه صاري المركب" (ص 104). وقد نتج عن هذا أن صرنا أمام نص سردي متضاد متكافئ، لكنه يغلب قوة الحب على قوة الموت، أو الأصح أن نقول أن السردي والايروسي يتضافران من أجل هزم قوة الموت. فهل انهزم الموت في النهاية؟
                            جـ- الكائن الفوق –انساني:
                            في "عرس الزين" يأتي السارد صامتا لا يبدي أراءه وتدخلاته في أراء الشخوص ومعتقداتهم ورواياتهم، بقدر ما يحاول أن يتقرب من شخوصه، يستمع إليهم كلهم ويحاول فهمهم. فهو على حد تعبير د. علي الراعي "منشغل محايد" يسع صدره الطيب والخبيث من الشخوص ويعطي كلا حقه، ولكنك تتبين من خلال منظوره الفني خبث الخبيث وطيبة الطيب (16).
                            لكن، وإن كان هذا صحيحا، فإن هذا لا يعني أن المنظور الساردي في هذه الرواية لا ينطلق من اختيارات ولا يؤسس اتجاهات: فقد اقتنعنا مع هذا المنظور أنه لو اعتمدنا النظر الخارجي وحده، لما استحق الزين أن يكون بطلا، وهو بهذا يوجه نظرنا واهتمامنا إلى اللاظاهر، إلى الباطن وإلى اللامرئي.
                            فنحن أمام منظور ينظر إلى الأحياء والأشياء نظرة نفاذة تؤمن بأن وراء ما نراه - أي الظاهر - أشياء أخرى وعوالم أخرى وقوى أخرى. وفي نفس الوقت، فهو لا يحاول أن يفسر أو أن يعلل قصد إقناع القارئ. بل هو يقدم الأمور كما هي، كما وقعت، أو الأصح كما يردها أهل البلدة. فعندما يقول أهل البلدة أن ما حدث ويحدث معجزة، فلأنه معجزة، فمادام الظاهر المرئي لا يقدم تفسيرا مقنعا، فإن هناك أمورا لامرئية أو قوى خفية لا يدركها الأهل كما السارد ومن هنا لفظة "المعجزة". إذا كان الزين رسول الحب، فقد يكون سيف الدين ممثل الخبث والشر، وكان لابد من المواجهة، بدأها هذا الأخير والبادئ أظلم، وجاء وقت انقض فيه الزين بجسده النحيل الذي ينطوي على قوة خارقة أي على نقيضه، وكاد يقتله لولا وقف الحنين في اللحظة نفسها التي رأى فيها سيف الدين الموت.
                            أمام هذا الحدث يكشف لنا السارد عن أمر مهم: الإيمان بالقوى اللامرئية. فجسد الزين نحيل لكنه ينطوي على قوى خارقة (قوى الحب /قوى الموت) والقوى الغالبة على هذه الشخصية هي قوى الحب والخير التي منحته قلبا واسعا حنونا يسع كل من حوله ويكسر كل الحواجز نشرا للحب والرحمة، ولكن أمام هذه المهمة كان لابد من مواجهة الشر، وفي هذه المواجهة تحركت في شخصية الزين قوى خارقة يهابها أهل البلد أجمعين أنهم عاينوها غير ما مرة.
                            ويبقى السؤال الذي يحير أهل البلدة مثلما السارد: كيف حضر الحنين في نفس اللحظة التي رأى فيها سيف الدين الموت؟ وكيف استطاع أن يهدئ وحده تلك القوى الرهيبة في شخصية الزين، في حين أن رجالا ثمانية عجزوا عن ذلك؟ وكيف يحدث أن يعلن سيف الدين توبته عائدا إلى طريق الله وأن تتوارد على البلدة معجزات أخرى؟ الجواب عن هذه الأسئلة يكون بهذا المقطع بصوت السارد:
                            "كانت معجزة سيف الدين بداية لأشياء غريبة تواردت على البلد في ذلك العام ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد، حتى محجوب، وهم يرون المعجزة تلو المعجزة، أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة: (ربنا يبارك فيكم. ربنا يجعل البركة فيكم). كان الوقت قبيل صلاة العشاء بقليل وهو وقت يستجاب فيه الدعاء،خاصة من أولياء الله الصالحين أمثال الحنين" (ص 60).
                            يمكن أن نقول أن السارد لا يقوم إلا بنقل اعتقادات أهل البلدة، لكن هذا المقطع يتضمن جملا تقر بأن السارد لا يختلف في شيء عن الأهل، فهو نفسه يؤمر بالمعجزة (كانت معجزة سيف الدين بداية الأشياء غريبة تواردت على البلد في ذلك العام)، ويؤمن مثلهم بأولياء الله الصالحين أمثال الحنين وبقواهم الخفية الخارقة.
                            وبهذا نوافق د. علي الراعي (17) على أننا أمام منظور صوفي متعمق: فالعلاقة بين الزين والحنين أقرب إلى العلاقة بين الشيخ والمريد، والنص لا يخفي أن الحنين من المتصوفة ومن أولياء الله الصالحين (ص 26) وبأن دعاءه مستجاب عند الله، وبأنه سبب المعجزات والخوارق التي عرفتها البلدة في عام سموه "عام الحنين" (ص 61).
                            ومن هنا نجد أنفسنا أمام نص صوفي بقدرها يمتح من كتب "الكرامات" التي تنصب على سرد كرامات الصوفية وأفعالهم غير المألوفة التي تسمو بالصوفي إلى مرتبة الكائنات الخارقة القدسية (وهذا يصدق على الحنين) بقدر ما يمتح من الكتابات الصوفية ذات المنحى الفلسفي التي انصبت على القضايا الكبرى الميتافيزيقية والوجودية.
                            لا يسعنا الا أن نقول أن نص عرس الزين نص صوفي يقدم لنا تجربة صوفية (تجربة المريد الزين في علاقته بشيخه الحنين وفي علاقته بمحيطه وعالمه). وهذا النص الصوفي يقدم لنا قصة بسيطة لكنها في نفس الوقت تتجاوز السرد التقليدي وابتدالات الواقعية: إذا كان السرد التقليدي تفسيرا كاملا للحياة، فإن السرد الجديد بمنظوره الصوفي لا يفسر بل هو يطارد ذلك الشيء الأخر، ذلك السرد، حتى أنه ليبدو أن لا أمل في الحصول على أي تفسير. ومع ذلك وكما بين ذلك الأستاذ عبدالحق منصف (نفس المرجع ص: 16)، فإن القصة الصوفية تقدم أحداثها الخارقة بوصفها واقعا بديهيا، لكن دون إلغاء الواقع التاريخي واليومي، لأنه بدون هذا الواقع لا يمكن إدراك خصوصية أحداثها ككرامات. وبعبارة أخرى، فإن القصة الصوفية تقدم ذاتها كبداهة، ليس فيها استدلال ولا برهنة ولا تبرير ما لأحداثها وكأن ما ترويه طبيعي. فهي تريد أن تكون بديهية وطبيعية، بحيث تقدم أحداثا غير مألوفة وخارقة لكن بلغة مألوفة وطبيعية، بل بأسلوب متجذر في التجربة الإنسانية (الأستاذ عبد الحق منصف ص: 27) وبهذا المعنى يمكن اعتبارها شهادة مع حصر معنى الشهادة في الإخبار العادي عن أحداث غير عادية. ونحن نوافق عبدالحق منصف على أن ما يكسب الأحداث المحكية داخل الشهادة أهميتها وتميزها ليس هو خرقها للعادة فقط، بل هو أيضا اكتسابها لمعنى ما يجعلها متميزة وبارزة داخل التجارب المعيشة للإنسان: وهو معنى يفوق الدنيوي لكي يفتح اللفة أولا والذات ثانيا (عبد الحق منصف يتحدث عن المتلقي) على ما يقابل الدنيوي (ما يقابل الوجود الطبيعي للذات وتحديداتها الزمانية والمكانية والاجتماعية...).
                            وهنا يهمنا أن نذكر أن من خصائص النص الصوفي أنه يستثمر مجمل عناصر الحكاية العجائبية. وإذا كان مفهوم العجائبي ينطبق على ظواهر مجهولة لدى الإنسان لم يسبق له رؤيتها ويستحيل عليه تفسيرها انطلاقا من القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية المألوفة لديه، فيمكن القول إن العديد من الظواهر والأحداث التي يرويها النص الصوفي ذات طابع عجائبي. لكونها تنفتح على إشكالية الواقع /اللاواقع وتتردد بينهما (68). لكن ورغم كل ذلك. فإن الحق مع الأستاذ منصف في ذهابه إلى أنه من الصعب جدا تصنيف النص الصوفي ضمن جنس العجائبي. وذلك لأن النص الصوفي يجمع به ن العناصر العجائبية الخرافية والعناصر الواقعية والتاريخية.
                            ونقدم هنا نموذجا تمثيليا للنص الصوفي من "عرس الزين":
                            "
                              على أي حال، لاشك في أن الحنين، ذلك الرجل الصالح، قال على مسمع من ثمانية وجال، في تلك الليلة المباركة بين الصيف والخريف، قبيل صلاة العشاء بقليل (ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم) وكأنما قوى خارقة في السماء قالت بصوت واحد: (أمه ن) بعد ذلك توالت الخوارق معجزة تلو معجزة و بشكل يأخذ باللب. لم تر البلدة في حياتها عاما رخيا مباركا مثل (عام الحنين) كما أخذوا يسمونه. صحيح أن أسعار القطن ارتفعت ارتفاعا منقطع النظير في ذلك العام، وأن الحكومة لأول مرة في التاريخ سمحت لهم بز راعته بعد أن كان وقفا على مناطق معينة في القطر (محجوب وحده، وباعتراف منه، ربح أكثر من ألف جنيه من قطنه). وصحيح أيضا أن الحكومة لغير ما سبب أو لسبب خفي لا يعلمونه بنت معسكرا كبيرا للجيش في الصحراء على بعد ميلين من بلدهم. والجنود يأكلون ويشربون فانتعشت البلد من توريد الخضراوات واللحوم والفواكه واللبن للجيش. حتى أسعار الثمر ارتفعت ارتفاعا ليس له نظير في ذلك العام. وصحيح أيضا أن الحكومة، هذا المخلوق الذي يشبهونه في نوادرهم بالحمار الحرون قررت لغير ما سبب ظاهر أيضا أن تبني في بلدتهم - دون سائر بلدان الجزء الشمالي من القطر، وهم قوم لا حول لهم ولا طول، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام، قررت الحكومة أن تبنيني بلدهم،دفعة واحدة، مستشفى كبيرا يتسع لخمسمائة مريض ومدرسة ثانوية ومدرسة للزراعة، ومرة أخرى عادت الفائدة على البلد في الأيدي العاملة ومواد البناء وتوريد الغذاء ناهيك بأن مرضاهم سيضمنون العلاج وأن أبناءهم سينالون حقهم من التعليم
                                قررت أيضا في العام ذاته
                                  أن تنظم أراضيهم كلها في مشروع زراعي كبير
                                    وإذا بالأرض على اتساعها من ضفة النيل إلى طرف الصحراء يغمرها الماء، بعضها أراض لم تر الماء منذ أقدم السنين وإذا بها بعد قليل تموج بالحياة" (ص 66-63) والنص الصوفي والنص العجائبي ليسا وقفا على رواية عرس الزين، بل نجدهما حاضرين في الرواية الأخيرة عند الطيب صالح "بندرشاه" هكذا نجد تراجم لرجال التصوف نقدم منها هذا النموذج:
                                    "كان اسمه حسن وسماه الناس بلال لأن صوته في الأذان كان جميلا وفيه لكنة، ينادي "أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن مهمدا رسول الاه، هيّ إلى السلاة،، هي إلى الفلاه". قالوا أن الشيخ نصر الله ود حبيب هو الذي أعطاه الاسم لما سمع من صوته، وعلمه الأذان وجعله مؤذنا. وكان يقول له "طوبى لمن شهد صلاة الفجر في المسجد على صوتك يا بلال، فوالله إن صوتك ليس من هذه الدنيا ولكنه نزل من السماء".
                                    وأحيانا كانوا ينادونه "هلا هلا ولد لا اله إلا الله".أما "هلا هلا، فلأنها كانت العبارة الوحيدة التي يفوه بها إذ خوطب، وأما "لا اله إلا الله" فلأنه كان حين يسأل من أبيه يجيب: "أنا ولد لا إله إلا الله" (بندر شاه الجزء الثاني ص: 46).
                                    كما نجد النص العجائبي حاضرا بخصائصه الأخرى التي تتمثل في القدرة الخارقة على الانتقال من مكان إلى مكان والتحول من هيئة إلى أخرى، مثلما تتمثل في عودة الأموات إلى الحياة وفي خصائص أخرى كما في هذا النموذج:
                                    "كانت مثل طائر. رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر، وسمعت هبوب أمشير تناديني بلسان مريم "لا شيء، لا أحد".خطا بها نحو القبر، فاعترضت طريقا ومددت يدي، نظر إلى برهة، ورأيت عينيه ترقان وتغرورقان، فتركها لي. كانت خفيفة مثل فرخ طائر وأنا أسيريها في طريق طويل يمتد من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل. لم يكن حلما. أبدا. كانت مريم نائمة على كتفي. سرت بها على ضفة نهر إلى وقت الضحى، فأيقظها لفح الشمس على وجهها. انفلتت مني وقفزت في الماء. كانت عارية. أشحت عنها، ولكنني لم أطق صبرا فأدرت لها وجهي نظرت فإذا هي في بركة من الضوء. وكأن أشعة الشمس هجرت كل شيء وتعلقت بجسدها. كانت تغطس وتقلع وتختفي هنا وتظهر هناك..." (بندر شاه الجزء الثاني ص 83).
                                    إن النص الصوفي والعجائبي يؤسس نص ما بعد الحداثة (19). وذلك لأن مثل هذه الكتابة تنزع إلى تكسير قوالب الواقعية الضيقة وتمكن من النظر بشكل جديد ومن رؤية أشياء أخرى(20). ومن جهة أخرى. فهذا النوع من الكتابة "مغامرة واستجلاء للبقايا والهوامش والمقصي من كينونتنا المحاصرة بضغط القوانين والمحرمات وشتى أنواع الرقابة" (21). وبعبارة الأستاذ منصف، فإن النص الصوفي يستهدف الطفولة المنسية الفائرة في أعماق ليلية للذاكرة (ص 25). وقد كان ماكس بيلن Max Bilen (1987) على حق حين قال: "يعود إبداع الآلهة والأساطير لرغبة الإنسان في الانفلات من تحديدات وجوده الطبيعية. فالإنسان يطلب من الاعتقاد الديني والعشق الايروسي والإبداع الفني.. يطب منها جميعا أن تلبي تعطشه الدائم لذلك الانفلات وأن تجسد في كائن مجرد أو موضوع ما أو عمل فني الوحدة والاستمرار اللذين يفتقدهما واقع... وفي مقابل عالم الحياة المشروط المحدود والمتناهي الذي نعيش فيه، يتميز هذا العالم الآخر بأوصاف الكونية واللازمانية.، اللذين بدونهما لا توجد أية حكاية أسطورية ولا عمل فني" (نقلا عن د. عبد الحق منصف، نفس المرجع ص: 27).
                                    هكذا يتمكن النص الصوفي من انتهاك المألوف والطبيعي، بحيث نكون أمام رغبة قوية في تجاوز النظام القائم للعالم المبتذل، أمام "كلام حر" على حد تعبير ف، رومو (22) يعبر من الصراعات والأهواء والمكبوت والقول المحروم..
                                    إن النص الصوفي والعجائبي ذو وظيفة نصية إذ يسمح للرواية بامتصاص واستثمار نصوص الأدب الكلاسيكي والأدب الشفوي، لكنه أيضا ذو وظيفة تحلينفسية إذ يقدم ذاتا تأبى الخضوع للقوانين والإكراهات الواقعية والطبيعية وتفضل الانفلات الخيالي لتضعنا أمام نص يعتبر شاشة يعكس لا وعيها وجهازا يحمل وعيها على حد تعبير د.علي زيعور (23).
                                    إجمالا نقول أن الشخصية الشعرية ترى أناها المثالية خارج القوانين والإكراهات الواقعية - الإنسانية والطبيعية. ولهذا لجأت إلى النص الصوفي لكونه يسمو بالإنسان من وضعه الطبيعي والإنساني إلى مرتبة الولاية، أي من تحديده الدنيوي (خضوعه لإكراهات الزمان والمكان والجسد) إلى مرتبة القدسية – (التعالي على تلك الإكراهات إلى حدود الخرق والانتهاك). وبعبارة أخرى، فإنها ترى أناها المثالية كائنا فوق إنسانيا يحقق المعجزات، يخلق المجتمع الإنساني المثالي، مجتمع الحب والرحمة والخير والبركة: انه الكائن الذي يحول المجتمع إلى جنة والإنسان إلى ملاك.
                                    وبالنظر إلى الروايتين الأخيرتين ("موسم الهجرة إلى الشمال"، "بندر شاه")، فإن النص الصوفي والنص العجائبي يدفعان الذات إلى لقاء قرينها ونقيضها (السارد/ مصطفى سعيد، في "الموسم" وإلى تكرار المثيل Senblable وعودة المكبوت (أمثلة كثيرة في رواية بندر شاه بجزئيها) إلى حد يجعل النص الروائي مطبوعا بما يسميه س. فرويد بـ "الغرابة المقلقة".
                                    2-2 لكن ما يخصص الأنا المثالية أعمق مما ذكرناه، فقد تقدم أن بنية النص ايروسية جنسية قطباها الرئيسيان هما الذكر (الزين) والأنثى (نعمة) يجمع بينهما الحب الذي سينتهي إلى الزواج، والحب والزواج والجنس ليست فقط ثيمات أساسية في النص، بل هي القيم التي يحتفل بها النص وتتغلغل إلى بناه اللغوية والسر دية والرمزية.
                                    والشخصية الشعرية (أنا السارد) تحتفل بأناها المثالية (شخصية الزين)، لأن هذه الأخيرة قامت بفعل كوني: الزواج والقارئ - المحلل يعتبره فعلا كونيا لأن هذا الزواج لم يكن بين اثنين عاديين، بل بين ذكر بخصائص رأينا أنها تخرج عن المألوف وبين أنثى تنزاح هي الأخرى عن المألوف بين بنات نوعها: فهي صبية حلوة وقورة المحيا، غاضبة العينين (ص 28)، لم تكن تأبه لجمالها وأرغمت أباها على دخول الكتاب، فكانت الطفلة الوحيدة بين الصبيان (ص 36).
                                    لكن ما يجعل منه فعلا كونيا بشكل أعمق هو أنه زواج بين ذكر ينظر إليه على أنه طفل يتيم وبين أنثى تعتبر نفسها أما: كان الزين بدون أب (الأب لا وجود له وغير مذكور ولا شيء من حياته ولا عن موته، وحدها الأم حاضرة)، والزين يعلن الحب لكثيرات، لكنه في موضوع نعمة لم يقم بأية مبادرة: هي التي اختارته وخطبته، وبعدها فقط أعلن حبه وزواجه، كان يدخل قصة حب ويخرج منها ليدخل أخرى إلى أن بلغ الحب الأكبر، يقول النص:
                                    "أما نعمة فلم ترتسم في ذهنها صورة محددة، كبرت وكبر معها حب فياض ستسبغه يوما على رجل ما، قد يكون الرجل متزوجا
                                      قد يكون شابا وسيما متعلما ومزارعا من عامة أهل البلد
                                        قد يكون الزين.. وحين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساسا دافئا في قلبها، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبنائها، ويمتزج بهذا الإحساس شعور آخر بالشفقة يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلى الرعاية.." (ص 39).
                                        الواقع أن النص يضعنا أمام زواج غريب وملتبس: فنعمة هي التي خطبت الزين وقررت الزواج منه، لا لأنها رأت فيه فارس أحلامها كما يقع عادة لبنات جنسها، فهي قد رفضت الكثير من الأزواج كانت فتيات البلد يحلمن بهم: إنها كانت تتمنى لو أن أهلها أسموها رحمة، وهي تتخيل رحمة امرأة رائعة الحسن متفانية في خدمة زوجها (ص 36)، وبمعنى أخر، فإنها كانت "..مدفوعة بإيعاز داخلي إلى الإقدام على أمر لا يستطيع أحد ردها عنه" (ص 38)، أي أنها كانت "تضم صدرها على أمر تخفيه عنهم" (ص 37).
                                        وقد كان ".. للإمام رأي في أمر زواج الزين من نعمة بنت الحاج إبراهيم" (ص 80)، صحيح أن الإمام أجرى مراسم الزواج في المسجد، لكنه أدار عينيه في الرجال المجتمعين وقال إن الجميع يعلمون انه عارض هذا الزواج (ص 95).
                                        ويزداد الالتباس عندما نعلم أن الحنين، وهو شيخ الزين وفي منزلة أبيه، سيموت أياما قليلة قبل إعلان الزواج، وليلة العرس سيجد الأصدقاء الزين في المقابر يبكي على قبر الحنين.
                                        وفي الصفحات الأخيرة، يتحدث النص من حفل العرس، عن الضيوف والزائرين وأهل الغناء والمدح والرقص، يتحدث عن الزين وهو في لباس العرس، وهو في المقبرة، وهو في حلبة الرقص، أكثر من هذا أنه يخصص صفحة كاملة لأم الزين الحقيقية يبدو، من خلالها كأنها العروس، في حين يتحدث عن نعمة العروس عابرا، هكذا نقرأ:
                                        "أول من زغردت أم الزين، كانت فرحة لأسباب عدة، فرحة فرح الأم الغريزي لزواج ابنها - تلك مرحلة حاسمة وكل أم تقول لابنها: "اشتهي أن أفرح بزواجك قبل أن أموت" وكانت أم الزين تحس أن حياتها تنحدر للغروب ثم إن الزين كان ابنها الوحيد، بل كان كل ما أنجبت، ولم يكن كبقية الناس، فخافت أن تموت ولا يجد من يرعاه، فهذا الزواج أراح بالها
                                          والزين لن يتزوج امرأة من عامة الناس، ولكنه سيتزوج نعمة بنت الحاج إبراهيم وناهيك بهذا دليلا على كرم الأصل والفصل والجاه والحسب، ستدخل ذلك البيت الكبير المبني من الطوب الأحمر
                                            تدخل مرفوعة الرأس، ثابتة الخطوة، سيقومون لها إذا دخلت ويوصلونها للباب إذا خرجت ويعودونها كل يـوم إذا مرضت، ستقضي الأيـام الباقية من حياتها في فراش وثير من الرعاية والحب".ص (91).
                                            إن النص يعتمد، في هذا المقطع لغة ملتبسة مضمونها يمكن أن ننسبه إلى الأم الحقيقية لأنه يلائم دورها الطبيعي، ولكنه في نفس الوقت يمكن نسبه إلى العروس: فإذ ا أخذنا جملة "أشتهي أن أفرح بزواجك قبل أن أموت" فنحن لا نحتاج إلى بيان أن عبارة "أشتهي" من "الشهوة" التي لا تعني إلا الرغبة، أما إذا أخذنا عبارة "أن أفرح بزواجك" فإنها تحمل معنيين: الأول أن الأم تريد أن تفرح بزواج ابنها من امرأة أخرى، والثاني أنها تريد أن تفرح بزواج ابنها أي بالزواج منه. وهناك عبارات وجمل أخرى تؤكد هذا الالتباس:
                                            - ستقضي الأيام الباقية: في فراش وثير من الرعاية والحب.
                                            - ستدخل ذلك البيت الكبير... مرفوعة الرأس، ثابتة الخطوة سيقومون لها إذا دخلت..
                                            إن الشخصية الشعرية تحول الواقع في اتجاه رغائبها، إنها تخلق بطلا خرافيا (تحت - إنساني وفوق إنساني في نفس الوقت). وبطلها هو الذي يحضر في مكان الأب فيه غير موجود، هو الذي يحل محل الأب (أب الزين غير مذكور إطلاقا)، بمعنى أن الشخصية الشعرية تخلق البطل الذي يريد أن يحل محل الأب باعتباره أول مثال للأنا. والزواج بين الطفل الذي حل محل الأب وبين الأم لن يحصل إلا بعد موت الأب (الحنين ليس أبا حقيقيا بل أب مجازي): فنعمة لن تخطب الزين وتدعوه إلى الزواج منها إلا بعد موت الحنين، بعدئذ سيقام عرس كبير لأن العرس دليل على العودة إلى ما يسميه ستاروبنسكي بالبراءة الأولى، بالطبيعة المفقودة (25).
                                            ولهذا سنفهم لماذا حملت الرواية عنوان عرس الزين: العرس دليل أساسي والزين هو البطل الذي وصفته نعمة زوجته بالطفل اليتيم. وينتهي محفل العرس / النص والبطر فوحاكم العالم الجديد: "وفي الوسط فتاة ترقص، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم. انفلت الزين، وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة. ولمع ضوء المصابيح على وجهه. فكان ما يزال مبللا بالدموع. صاح بأعلى صوته، ويده مشهورة فوق رأس الراقصة: "ابشروا بالخير... ابشروا بالخير". وفار المكان، فكأنه قدر تغلي، لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة. وكانت الدائرة تتسع وتضيق، تتسع وتضيق، والأصوات تغطى وتطفو، والطبول ترمد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في طلب الدائرة بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب." (ص 104).
                                            إن الشخصية الشعرية بهذا تخلق تخييلا يرتبط بالمرحلة الماقبل أوديبية، ومن هنا سنفهم لماذا يمته هذا التخييل من العجائبي والصوفي، ولماذا تهيمن عليه البنية الثنائية: الذكر - الأنثى، وبالزواج - العرس يصعب التمييزيين عنصري هذه الثنائية: فالشخصية الشعرية تخلق واقعا برغائبها، واقعا يتم فيه الزواج بين الذات وموضوعها، بين الرغبة. وموضوعها، ففي هذا الواقع تستعاد الجنة المفقودة وتستعيد الذات وحدتها وتماسكها ويحصل التواصل التام والشفاف بين كل الأوعاء (ج. وعي). ولهذا جادت رواية عرس الزين متماسكة (بالرغم من تقنيات الإرجاع) غير متفككة. مثلما جاء بطها شخصية متماسكة موحدة لا ممزقة مشتتة.
                                            إن هذا الواقع الذي فلقته الشخصية الشعرية برغائبها هو واقع لا تحكما إلا قوة الايروس: وإن كان الافتراض الذي تقدم به س، فرويد صحيحا بالنظر إلى هذه الرواية، حين يقول: "سنخاطر الآن إذن بافتراض مضمونه أن العلاقات الغرامية
                                              تكون جوهر روح الجماعات
                                                بدءا، لأن تماسك الجماعة لا يكون بشكل ظاهر الا لسلطة... للايروس" (26). فإن الذات مثلما التخييل لا يكون متماسكا إلا إذا حكمته سلطة (27).
                                                وإن كان واقعا أن الزواج بين الذات والموضوع، بين الطفل والأم، لم يتم إلا بعد موت الأب (الشيخ الحنين)، فإن الواقع أيضا هو أن الابن (المريد، الزين) قد صار مع الزواج إلى الموت، وإلا لماذا كان الزين يبكي شيخا على المقابر ليلة عرسه؟
                                                إن الشيخ الحنين صاحب كرامات، وقد مات مباشرة بعد أن انفضح سره "ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد، حتى محجوب، وهم يرون المعجزة تلو المعجزة، أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة (ربنا يبارك فيكم. ربنا يجعل البركة فيكم)" (ص 60). ذلك لأن حياة الصوفي ترتبط بمشاركته الوجودية للأسرار التي تنكشف له وانخراطه في دائرة السر. وموته يرتبط بفضح هذه الأسرار والألغاز. وإذا كان المريد في النصوص الصوفية الكلاسيكية هو الذي يقتل أباه (الشيخ) بحكي كراماته، فإن الزين (المريد) في هذا النص هو سبب انفضاح سر الشيخ خلال واقعة سيف الدين التي تلتها معجزات كان الحنين وراءها.
                                                لكن الأكيد أن موت الشيخ (الأب)لا يعني إلا موت المريد (الابن)، والعرس هو الدال على موت الزين الكائن الخارق وظهور الزين الكائن الإنساني الاجتماعي العادي الذي يخضع للمواصفات الاجتماعية (نقرأ في رواية موالية أن الزين صارعن أعيان البلد - بندر شاه الجزء الأول). فحكاية الكرامة التي انتشرت في البلدة قتلت الشيخ (الأب) لكنها قتلت المريد أيضا (الابن): قتلت الشيخ بانفضاح السر، وقتلت المريد بأن أخضعته للمواصفات الاجتماعية: تقول الحكاية الكرامتية أن الحنين قال للـزين أمام جمع من الناس: "... باكر تهرس أحسن بت في البلد دي" (ص 48-49).
                                                ومن هنا مأساة النص الصوفي: فهو عكس النص الشهرزادي، يقتل أبطاله وشخوصه (الشيخ والمريد/ الأب والابن). ولهذا نوافق الأستاذ منصف على أن لغز النص الصوفي هو لغز الإيروس والموت، فهو اللغز الذي يوجه كينونة النص الصوفي. (ص 28. نفس المرجع).
                                                2-3 تقدم أن هذا النص البيوغرافي يندرج ضمن ما يسميه م. باختين بالنمط الاجتماعي العائلي، الأمر الذي يعني أننا أمام ما يسمى في النقد النفسي بالرواية العائلية.
                                                والرواية العائلية تعيد بناء المحيط العلائقي وفقا لرغائب الهو Ca: فعندما تصير العائلة أكثر واقعية، فإنها تعوض بعائلة أخرى هي ابداع نفسي تقيمه الذات بدلا عن نسبها الحقيقي (28).
                                                وقد كانت مارت روبيرMarthe Robert: أول من طور في كتابها "رواية الأصول، أصول الرواية" (1972) كك الفكرة التي مضمونها أن الرواية العائلية هي النقطة التي ينطق منها الروائي، فانطلاقا من قردة لفرويد استندت مارت روبير إلى نظرية أوديبية للرواية: فالرواية العائلية يمكن اعتبارها حيلة يلجأ إليها الخيال لحل الأزمة التي يعرفها النمو الإنساني كما تحدده عقدة أوديب (29). ومن هذا المنطلق، تصنف الرواية العائلية إلى صنفين: صنف نصوص "الطفل المعثور عليه" ونصوص "الطفل اللقيط"، في الصنف الأول ينتقل الأباء من مقام النماذج المثلى إلى مقام الغرباء، لكي يعوضوا في التمثيل L'idealisation بعائلة أخرى مفقودة وملكية ونابلة وقوية بشكل من الأشكال: وفي الصنف الثاني، فإن الاختلاف بين الجنسين ينظم العائلة ويسمه للطفل بالا يشك إلا في أبيه الذي يعوضه بواحد حقيقي وملكي ومجهول. وبالنسبة لمارت روبير، فكل نص ينبغي أن يندرج في أحد الصنفين: أدب "العالم الآخر المعثور عليه" وأدب "مواجهة العالم"، وبتعبير آخر، أدب سرفانتس من جهة، وأدب بلزاك من جهة أخرى، وهنا نسمح لأنفسنا بالقول: أدب نجيب محفوظ من جهة (مواجهة العالم الواقعي، الثلاثية نموذجا) وأدب الطيب صالح من جهة (العالم الآخر المعثور عليه، "عرس الزين" نموذجا). يمكن أن يكون هذا التصنيف مجحفا، فرواية "عرس الزين" يمكن أدراجها ضمن أدب "العالم الأخر المعثور عليه" البعيد عن العالم الواقعي، لكنها في نفس الوقت تندرج ضمن أدب "مواجهة العالم": فالبطل - الزين - بقدر ما يبدو غريبا عن محيطا (في سلوكا، في حبه..) بقدر ما يفعل في هذا المحيط (اهتمامه بما يهمشه هذا المحيط). في نفس الوقت يضعنا هذا النص أمام هذه المأساة: وهذه المأساة سببها أن نص "العالم الأخر المعثور عليه" يموت عندما يواجه العالم الواقعي، أو الأصح عندما يواجه نص "مواجهة العالم". ولهذا نوافق الناقد بسام بركة على أن النص الروائي العربي مسرح لصراع في النفوذ بين "أسطورتين": تقوم الأسطورة الأولى على مواجهة الواقع والجهاد والكفاح فيه، وتقوم الثانية ملي محاولة خلق ذلك العالم الأخر،تلك الجنة المفقودة (30).
                                                لكن افتراضات مارت روبير أصبحت الآن كلاسيكية وعرفت مناقشات عدة من أهمها ما نجده في مؤلف د. أنزيوD.ANZIEU "جسد الاثر" (1981): فهو يلاحظ (31) أن الحلم "الآخر" نشاط لا يمكن اختزاله في موضوع العائلة فقط، بل هو يخصص بالأحرى الاستيهام، فالحياة الإنسانية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا تمكنا من تخيل الحياة الخاصة أو الحيوات التي لم نتمكن من بلوغها أو الحيوات التي بلغها الآخرون. التمييز بين نمطين روائيين لن يكون إذن إلا اصطناعيا: فهذه الأنماط ليست إلا متغيرات تكرارية لسؤال جوهري يهم الغيرية L'alterite، ليس فقط ما يميز الآباء داخل نظام النسب ويهم الرواية العائلية، لكنه أيضا ما يميز ويهم المجهول داخل الكينونة: اللاوعي.
                                                وبهذا يسعى أنزيو، كما لاحظ م. طاون (نفس المرجع ص: 192)، إلى تفريغ تصنيف م. روبير التعميمي من أهميته. لكن وان كان له الفضل في بيان القيمة العامة لنشاط الكتابة باعتباره محاولة تعيد الاعتبار للوجه الداخلي والخارجي للغيرية، فإنه يقلل من أهمية التفكير الذي يتمحور حول الرواية العائلية. ولإعادة الاعتبار لهذا التفكير يقترح م. طاون (ص: 192) إعادة قردة مارت روبير لكن على ضوء نص فرويد الذي كان مؤسس هذا التفكير. وهذا الاقتراح هو الذي يطوره م. طاون تمهيدا لتناول الرواية العائلية في الخيال العلمي (نفس المرجع ت ص 192 فما فوق).
                                                عندما نتناول نص فرويد (رواية العصابيين العائلية، 1909)، فإننا نستنتج أن ما يهم في الرواية العائلية هو عمل التمثيل de l'idealisation tavail الذي يسعى إلى إعادة صوغ نرجسي للآباء الواقعيين الذي خيبوا الآمال وإلى خلق وضعية انحطاطية تبدأ بحماية موضوعات الحب. وعلى طول هذا النص، يتذبذب فرويد بين تفسيرين عن تكون الرواية العائلية: من جهة يصف الرواية العائلية على أنها نتاج عدوانية ناتجة عن معاناة نرجسية، ومن جهة أخرى، يعود فرويد ليقترح أن خلف الرواية العائلية غايات ايروسية (م. طاون - نفس المرجع، ص 192-195). وبخصوص الرواية العائلية العصابية، تأتي هذه الأخيرة حسب فرويد كنشاط يرفض التماهي بالجنس المماثل، وكمحاولة لاغلاق المحيط العائلي وإبعاده عن التفكك.
                                                وإن كنا لا نزعم أن رواية عرس الزين عصابية، فهذا لا يمنع من اعتبارها محاولة رافضة للتماهي بالجنس المماثل (فالزين يعاشر النساء أكثر من الرجال ولا يتوفر على بعض علامات الذكورة، ونعمة هي الصبية الوحيدة التي تتعلم بين الصبيان ولا تعاشر مثيلاتها في صغرها وكبرها الا قليلا). وإذا وضعنا هذه الرواية في سياقها التاريخي والاجتماعي (النهضة العربية مرحلة انتقالية تتحول فيها بنيات المجتمع العربي). فإننا نتساءل: إلا يمكن اعتبارها محاولة دفاعية عن المحيط العائلي ومحاولة حمائية لهذا المحيط ضد التفكك: اذا كان م. طاون يعيد قراءة مارت روبير على ضوء فرويد مؤسس هذا التفكير (الرواية العائلية)، فإن ج. لوكاليو (هو وآخرون - 1977) يعيد قراءتها من خلال الأدب .. وبالضبط من خلال الرواية الجديدة.
                                                فهوني منطق حديثه عن الرواية العائلية والرواية الأدبية يرتكز إلى مبدأ مفاده أن النص الروائي يعيد إنتاج استيهام نقرأ فيه الرغبة (ص 103)، وبعد تناوله لما يسمى بالوهم الروائي، ينتقل إلى مسألة النمذجة ليعرض نمذجة مارت روبير مبينا أنه إذا جعلنا من الرواية الأدبية صدى للرواية العائلية الأصلية فإننا سنربط المجموعتين الروائيتين العجائبية والحلمية والخرافية من جهة والطبيعية والواقعية من جهة أخرى بمرحلتين مخلفتين في تشييد الرواية العائلية. ونحن نعرف بالفعل أن التخييل الأصلي يحوي لحظتين أساسيتين: في المرحلة الأولى يتصور الطفل الذي تخلى عن آبائه الطبيعيين أصلا عجيبا، وهذا هو الطفل المعثور عليه الذي نجد0 في الخرافيات العجائبية، وفي المرحلة الثانية يعمل الطفل على استرداده أمه الطبيعية فهو يقبل جزءا من الواقع ويصير طفلا لقيطا. (ص 105).
                                                وهكذا ينبه ج. لوكاليو إلى وجود تماثل بين درجات نضج الاستيهام وبين الصنافة الروائية، وفي تصور مارت روبير فإن الرواية الحلمية أو العجائبية ترتبط بمرحلة ما قبل أوديبية للرواية العائلية، أما الرواية الواقعية والطبيعية فترتبط بالمرحلة الما بعد - أوديبية لهذه الرواية (ص 105).
                                                وبما أن رواية "عرس الزين" يغلب عليها الطابع الصوفي العجائبي، فإنه يمكن ربطها بالمرحلة الما قبل - أوديبية للرواية العائلية. لكن مع التنبيه إلى صرامة هذه النمذجة: فالذات في رواية "عرس الزين" وإن كانت تتصور أصلا عجيبا (تمثله الأنا المثالية باعتبارها طفلا من منظور النص نفسه في علاقته بأمه - عروسه تلك العلاقة التي تحكمها خصائص ووشائج ذات طابع أميسي) فهي تقبل جزءا من الواقع (العرس والزواج وباقي المواصفات الاجتماعية). وهي صرامة لم تعد تستجيب لها الرواية، وهذا هو ما لاحظه ج. لوكاليو عند قراءته أطروحة مارت روبير مبينا أنه في العصر الحديث، لا تستجيب الرواية وخصوصا في أشكال "الرواية الجديدة"، لنمذجة التعارض بين الطفل المعثور عليا والطفل اللقيط، فهل هذا يعني - يتساءل ج. لوكاليو - أن الرواية العائلية لم تعد تقدم للرواية هذا العمق الاستيهامي الذي يعود اليه من أجل استخدام لعبة التخييل؟ لا شيء مؤكد يقول ج. لوكاليو، فسيرورة هذه العودة نفسها يمكن أن تكون مقنعة (ص 108).


    (عدل بواسطة jini on 03-21-2009, 07:29 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم! jini03-20-09, 01:58 PM
  Re: تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم! jini03-20-09, 02:02 PM
    Re: تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم! jini03-20-09, 03:07 PM
      Re: تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم! jini03-20-09, 03:37 PM
    Re: تركنا الطيب صالح شجرة السودان - محمد زكريا السقال! أروع ما كتبه المغاربة عن الراحل المقيم! jini03-20-09, 04:13 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de