كادت دمعات ساخانات جانحات أن تنجحن في القفز من عينان ترقرتا بالدّموع لأكثر من مرّة و أنا أتابع هذه السّهرة التي أثارت في شُجوناً غير ذات نهاية و أرجعتني لأيام مضت كنت قد توهّمت نسيانها. بُكاء نجاة سيد أحمد و لحظة استغراقها في نوبة ذكريات حزينة اجتاحتها و جعلتها تُلقي برأسها في حجرها كان مشهداً كافياً لانهيار السّد الذي حاولت جفون العين أن تمنع به دمع المآقي "الغِرقن" بنار الشّوق و شرارة لاحتراق الأحشاء من بعد لوعة و شجن. كُلّما احتضنت الشّاشة ثُنائيّة مُصطفى و محجوب عبد الحفيظ صاحب الصِّلات الطيِّبة أجد لِساني يلهج بالدُّعاء لهما رحمةً و مغفرةً. عادت بي ذكرياتي لأيّام طُفولتي حينما كُنت طالباً مُجْتهِداً أتقدّم الصّفوف بين أقراني في المرحلة الإبتدائيّة و في الإجازات المدرسيّة كُنت أُحب التِّجارة فأشتري الحلوى و ألعاب الأطفال التي أعشقها "وقتها" و أُخرِج "طبليِّتي" في شارع بيتنا تحت ظِل شجرة "حاجّة سبيلة" أطال الله عُمرها، و بين الألعاب كانت "الصُفّارة التّبِخ" المصنوعة من البلاستيك التي تُحاكي آلة الفلووت، فكنت أسحب واحدة لنفسي أتسلِّي بها وتُداعبها أناملي، لأجد نفسي "عازِفاً" لبعض المقطوعات دونما كبير اهتمام، فتنتهي الإجازة المدرسيّة فأنسي أمر تجارتي و أعود لدروسي و تحصيلي الأكاديمي، ولأنِّي كُنت مُتفوِّقاً وعدني أخي الطّبيب "رحمه الله" بمُكافأتي عِند عودته من خارج السُّودان، و حان يوم حُصولي على المُكافأة. سبقتُ ذلك اليوم باختلاسي النّظر في واجهة "دُنيا المُوسيقى" بفُندق صحاري بالخرطوم كُلّما وجدت سانحة لأستقِل "جِقر البراري" و أتشعلق في بابه نِصف جسدي بالدّاخل و الآخر خارجه. لم أدخُله يوماً أو أتجرّأ بالاقتراب من باب هذا العالم الذي كنت أتمنى سبر أغواره فقط أُمعِن النّظر في الآلات الموسيقيّة التي أمامي من على البُعد، كانما هو الخوف و الرّهبة ، و كثيراً ما كانت تشُدّني آلة الأورغن و أكاد أُحاول مُلامستها فيصُدّني زُجاج الواجهة السّميك. و دخلت المحل لأوّل مرّة لأحصل على مُكافأ ووعد قد بُذِل، قال لي أخي الذي كُنت قد أعلمته بسعر الأورغن: وينو الأورغن العايزو. و ما كُنت لأتوه عنه و قد وقفت مراراً و تكراراً لساعات طِوال، و لكن .. فجأة استرعى انتباهي "ولأوّل مرّة" منظر آلة العود الوتريّة فحدّقت بها لدقائق و أخي في انتظار إشارتي إليه لأدله "الأورغن" الذي أشتهي بل أتلهّف لاقتناءه، لأُفاجئه بقولي و أنا أُشير لآلة العود: أنا عايز دة كُنت طِفلاً فزجرني مُنْتهراً: دة شِنو دة؟ إنت قُلتا عايز أورغن البوديك للعود شِنو و بتعرف تعزفو كيف؟ و منو البعلِّمك ليهو وبوزنو ليك و و و و ...إلخ و لكأنِّي ما سِمعت شيئاً و بإصرار: عايز دة بس الغريب أن سِعر الأورغن كان يبلُغ خمسة أو سِتة أضعاف سِعر العود إلا أن شيئاً خفيّاً جذبني لهذه الآلة و اشتريتها وسط استهجان و غضب أخي و ما كنت أعرف كيف أحملها حتّى و يداي الصّغيرتان تعجزان عن احتواءها. عُدّت إلى المنزل وعانيت في إدخالها إليه بعد رفض والدي مُجرّد فِكْرة دخول آلة مُوسيقيّة للمنزل، و بعد تحانيس و وعود ورجاءات وتوسّلات اختلطت بها دموعي دخل العود لأوّل مرّة إلى منزلنا بالقِشلاق. من يقوم بوزن هذه الآلة الوتريّة المجنونة التي لا أعرف لها بداية مِن نهاية؟ سُؤال كاد يُدخل النّدم إلى نفسي بتراجُعي الغريب المُفاجئ عن شراء الأُورغن سهل التّعامل و الذي لن أضل طريقي إلى من يُعلِّمني إيّاه. أخبرني أحد أقراني بأن في الشّوارع الخلفية للقِشلاق ضيفٌ قادم من سِنجة إسمه "عُثمان" و لديه آلة "ماندولين" فذهبت إليه و قام بوزن أوتار العود لأوّل مرّة و علّمني كيف أضع أصابعي و أبدأ رِحلة عزفي على العود، قد لا أُصدِّق أنا نفسي إن قُلت أن تلك كانت أوّل مرّة يوزن لي فيها عُثمان أوتار العود لأوزنه أنا بعد ذلك بنفسي دونما مُساعدة عِلماً بأن الوزنة للتّعلمجي لا تبقى لأكثر من ساعات بسبب التّعامل الخشن مع الأوتار في البدايات. هل تعلمون ماهي أوّل أُغنية نجحت في دوزنة حُروفها الموسيقيّة على أوتار العود المجنونة؟ "بلابل الدّوح" التي ما سمِعتها إلا من مُصطفى سيد أحمد، لأجد نفسي بعدها مسجوناً في أُغنياته، و رحِم الله إيهاب التّوم سُليمان "الكمنج" و عدد من أبناء القِشلاق الصّفوة عز الدّين حسن صلاح و عُمدة "أب راس" و شرف "أبو الشّوق" و خالد "كِرشنا" و محمد "طيّارة" و عبّود "دِيدي" و عبد الله "ضلس" و ياسر "كروري" و أجمل شبابنا حينما كُنت أُداعب أوتار العود و أنا طِفلاً بينهم و بأُغنيات مُصطفى سيد أحمد ما بين الحُزن النّبيل و السّمحة قالوا مرحّلة حتّى وضّاحة يا فجر المشارق و إلى واقف براك و الهم عصف و نحن نتنقّل في واحات أُغنياته مع الطّيور الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدا جواز سفر. رحِمك الله رحمة واسِعة يا مُصطفى يا فنّان، فمُنذ رحيلك رحل العود معك و النّغم الجّميل
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة