رحبوا معي بصديقي الدكتور صابر عابدين بوردابي جديد وشكرا لك بكري ابوبكر

Quote: الثقافة القومية السائدة في الدولة الوطنية بين الآحادية والتعددية الثقافية(1) د.صابر عابدين أحمد* مقدمة:- لقد قامت المجتمعات والكيانات الانسانية الأولي علي مبدأ التعددية اللغوية والدينية والعرقية- السلالية، وذلك بعد صراع دامٍ إستمر لملايين السنين بين أشكال الحياة البدائية وقوي الطبيعة ليبرز العقل والمناط به حفظ وتخزين (الثقافة) والذي أي العقل يعتبر سمة لتميز وتفرد الانسان بل هو هوية الانسان عن بقية المخلوقات التي تليه. ومع استقرار الانسان وظهور مؤسسة المجتمع ومن ثم نشأة السلطة والحكم، ترسخ مفهوم الآحادية الثقافية وحلت محل التعددية الثقافية، ولتظهر الثقافة القومية وهي الثقافة السائدة والتي تمثل القومية والنخبة الحاكمة مع تهميش بقية القوميات وثقافاتها. ومع ظهور الدولة الوطنية الحديثة القائمة علي الجغرافيا والسياسة ولكن لم تشارك فيها أصلاً القوميات والشعوب، ومن ثم تشكلت الدولة بمفهومها الحال بدون إعتبار للثقافات أو الأمم المكونة لهذه الدولة. ونسبة لواقع الدولة المأزوم وأزمة ما يسمي بالمشروع الوطني، لأن مجموعة أو قومية ثقافية أو قوي إجتماعية أوسياسية يمكنها أن تستخدم جيش الدولة للسيطرة علي الأوضاع في ظاهرة ما يسمي بالإنقلاب العسكري، وفي السودان نماذج متكررة من صور هذا الحكم والتي في النهاية تنهك البلاد والعباد وتتدهور الأوضاع والتنمية والبنية التحتية وهذه صورة ماثلة لما يحدث في سودان اليوم، وتأخذ الهيمنة الثقافية السائدة أشكالاً شعارية و مظاهر دينية مع إحتقار الثقافات الأخري تبرز للسطح أشكالاً متعددة للمقاومة من قبل القوميات والثقافات المهمشة وينتهي الأمر بتقرير المصير أو الاستقلال أو الإنفصال وهكذا تتداعي الدولة الوطنية تسير علي خطي الأحادية الحزبية والثقافية وفي طريق الهيمنة والاستلاب. محصلةالثقافة: (قصة ملايين السنين من النضال والصراع الدامي) والثقافة كمفهوم عام تعني مكتسب أو حصيلة الفرد البشري أو المجتمعات البشرية عبر جملة من التجارب والاحتكاكات *(1) ومن ثم المنتوج الإيجابي وكل ما هو مفيد يتم تخزينه في العقل، وهذا المخزون العقلي للإنسانية هو الثقافة بعينها، وتأتي علي رأسها المحددات السلوكية ومعوناتنا تجاه الآخرين والأشياء من حولنا وكما أن الثقافة تعني كل ما هو ليس بيولوجي. ومنتوج العقل والتعبير هذا هو ما يميز بين الإنسان والحيوان، فبينما نجد الحيوان قد يحتفظ بقدر ولو يسير من الثقافة (مخزون العقل) مثل طبائعه الغذائية والدفاع عن النفس ومقاومة وملائمة البيئة الطبيعية ومقاومة الإعتداءات من الحيوانات الأقوي، والمناخ سواءاً برداً أو حراً أو غيره، وإن كان لبعض هذه الوسائل صيغة بيولوجية توارثها عبر نوعه السلالي، مثل المخالب والأنياب الحادة، والقرون والأظلاف والصوف والوبر وخاصية تغيير الجلد وغيرها. ونجد أن الانسان قد حدثت له عدة تحورات وتغيرات عبر صراعه الطويل مع البيئة والطبيعة واستخدام ذات الاسلحة للبقاء بدءاً من الأظلاف والمخالب والتي صارت فيما بعد أظافر رقيقة وتضع عليها الأنثي المناكير كسمة جمالية وما زالت الطبقة الكيراتينية الخارجية من الجلد وهي تحمل بقايا عهد الحيوان، وكما نجد بقايا ذيل في آخر السلسلة الفقارية، والشعر الغزير للرجل رمز آخر لعهود الفحولة،ولطبيعة الغذاء وما استمده من ثقافته المكتسبة حول طبيعة غذائه وضرورة طهي اللحوم لسهولة طحنها ومضغها و بالتالي بلعها وثم هضمها، ورويداً ابتعد عن الغذاء النباتي ذو الألياف السليولوزية الصعبة الهضم، ونجد أن ثمة تغييرات قد حدثت في شكل أسنانه بدءاً من الأنياب الحادة الي الأنياب المخروطة لتلائم طبيعة الغذاء والمرحلة، إما الآن وفي عهد رقائق البسكويت والماكنتوش و كؤوس الايسكريم أصبح لا جدوي من وجود ضرس العقل الأخر ودائماً ما نجده محشوراً ويتم خلعه، وأصبحت الأسنان من اثنين وثلاثين صارت ثمانية وعشرين، وتحور شكل الفك من الكبر الي الصغر وإصابه الضمور، وخاصة عند الإناث لان طبيعة الغذاء الخشنة وغير المطهية كانت تتم عليه استخدام الحنك كله مما يساعد علي ضخامة الحنك ونمو كل الأضراس بما فيها الضرس الأخير.*(2) علي أن هذه الشمولات والتبدلات التي طرأت قد أخذت من عمر الانسان ملايين السنين لتكون المحصلة هي بروز العقل (مخزون الثقافة) أو ظهور منتوج هذه الثقافة وهو العقل أو التفكير لقد كانت تلك الملايين السنوات والتي كابد فيها المخلوق البشري المشقة والصراع الدامي ضد قوي الطبيعة الصماء، وضد الخوف، وضد الحيوانات الضواري الأخري، كانت كافية لظهور هوية ما يعرف بالكائن البشري(الانسان)، ثم بدأ التعبير عن هذه الثقافة بإستخدام الاشارة وثم اللسان عبر الصوت الايحائي ومن ثم النطق وظهور الكلام ومن ثم الكتابة بالتالي ظهور اللغة بمفهومها الحديث، والتعبير هو الشئ الذي يفتقده الحيوان وان كان يملك قدراً يسيراً من الثقافة ولذا نجد أن الحيوانات والسلالات تنقرض تدريجياً، ونجد أن الإنسان قد تطور ورفع قدراته وعرف شيئا إسمه الملبس ومن ثم المسكن ليتقي زمهرير البرد وقائظات الحر. علي أن ظهور التعبير والكتابة واللغة قد رسخ للثقافة الانسانية وجعلها قابلة للإنتشار واستخدامها وسيلة للتفاهم بين أفراد الأسرة الواحدة ومن ثم ساهمت في تكوين القبيلة أو الكيان المجتمعي *(3) الأول والذي أصبحت له هويته الثقافية المحددة هو النواة الأولي للمجتمع الانساني، علي أن الجدير بالملاحظة أن هذه المجتمعات البدائية الأولي لحضارة الانسان كانت تقوم علي التعدد والاتجاه نحو التوحد. كان ظهور الانسان متفرقاً ومتباعداً فلم تعرف الجماعة حينها ولا الأسرة، ولذا سميت بالجماعات المشاعية، ونسبة لقرب حياة الانسان البدائي بالحيوان، فكان يحدث التناسل بين الأخ والأخت من أي إمرأة من السلالة وقد تكون الأم نفسها ولذا سميت بالمشاعية وهي ليست دليل حرية بقدر ما هي دليل ندرة وعدم وفرة، والانسان يأكل كل ما يجده سمار فواكهه وحيوانات و....وحتي ذلك الوقت لم نكشف النار. ومع اكتشاف الكتابة واستخدام الزراعة وبدأ الاستقرار وعرف الانسان المسكن والملبس ومن ثم كون الاسرة وكما الانسان كان يبعد ويتخذ إلها كل ما يخافه منه أو يشكل له مصدر للخوف أو رمز للقوة الخارجة ومن هنا بدأت تظهر الواحدية، الاسرة الواحدة، العشيرة الواحدة، القبيلة الواحدة، ومن تعدد الآلهة وتعدد الديانات توجه الأمر بظهور الإله الواحد والدين الواحد، وتوجه حديثاً بظهور الدولة الوطنية التي تحكم فيها القومية الواحدة والعرف الواحد والدين الواحد والثقافة الواحدة، وظهر الحاكم الفرد الديكتاتور المستبد، الباطش الذي يعبد إلها واحداً ولكن لا أحد يحاسبه واختفت المؤسسة الدينية التي كانت تتحكم في الملوك والاباطرة. ظهور المجتمع والسلطة:- بظهور الواحدية في المجتمعات الانسانية، بدأت مظاهر التحدد تتضمحل وتسود الاحادية خاصة بعد ظهور ما يعرف بالسلطة والحكم، لقد كانت السلطة من المجتمعات البشرية الأولي والحضارات الانسانية القديمة، قائمة علي المؤسسة الدينية، فالملك أو الامبراطور يختار من * (4) (عمر حاج الزاكي الإله آمون في مملكة مروي) الكهنة أو بواسطتهم وكما يتم عزله بواسطة الكهنة، ولنا أمثلة حية في كيانات السودان الأقدم مثل كوش ونياتا ومروي، ولكن المجتمعات كانت تقوم علي التعدد اللغوي والديني وتعدد الآلهة والتعدد الأثني، وإن كانت شكل الكيان (الدولة) صغيراً بعدد سكانه مقارنة بالعصور الحالية، ولقد كانت مملكة علوة تحكم بنظام شبه فيدرالي تتبع لها إدارياً حوالي تسعة قوميات * (5) ، و بظهور دين التوحيد والإله الواحد ترسخت مفهوم الاحادية وسيادة اللغة الواحدة والدين الواحد والقومية الواحدة، وبظهور الدولة الوطنية الحديثة، والدولة مكوناتها هي المجتمع ذلك الكيان الذي يجمع مجموعة من البشر بينهم مشتركات ومحددات معينة وارتضوا أن يعيشوا معاً، وثم السلطة وهي آلية الحكم وفق قانون ودستور، وفي عهد الدولة الوطنية أرسيت دعائم الاحادية فيما يعرف بالرئيس الواحد وخاصة الدول التي تقبع تحت سيطرة الانقلاب العسكري، وباعتبار ان الرئيس هو ظل الله علي الأرض والحاكم والآمر والناهي باسم الله، وبظهور الحكم الدستوري والدستور تم تضمين هذه المفاهيم دستورياً وفي وظائف الرئيس والذي له السلطة المطلقة وهو الذي يرأس الدولة، وسلطته أعلي من السلطة القضائية والتنفيذية وفي إمكانه حل البرلمان ومجلس التشريع للدولة، وباختصار الحكم العسكري يلغي كل اشكال المؤسسة التي ابتكرتها الانسانية عبر سنين طويلة من النضال، ويتم بالتالي انفصال السلطة عن المجتمع وعدم تطبيق القانون وخير مثال لذلك دولة السودان. الدولة أم الأمة :- لقد جاءت فكرة الأمم المتحدة وتبلورت وسادت وهي الآن حامية الدول الوطنية عكس مسماها الأمم المتحدة، فالأمة هي تلك التكتلات البشرية القائمة علي أسس من الثقافة واللغة والتاريخ والعرق وليست لها حدود معروفة، في حين أن الدول هي تلك المنظومات القائمة علي الجغرافيا والسياسة والقانون ولها حدود معروفة، وبعد تشكل الدولة يمكن أن يطلق علي هذه المجموعات اسم دولة أو أمة، ولذا فإن من أول الملاحظات هي خطأ في تسمية المولود المسمي (الامم المتحدة) وفي الحقيقة هو (الدول المتحدة). * Anthony. A.Birch *(6) وهي هيئة أنشأت لتجمع هذه الدول الناشئة في القرن لتاسع عشر الميلادي إيذانا لسقوط عهود الامبراطوريات والكيانات والمشيخات والاقطاعيات لببدأ عهد جديد وهو الدولة الوطنية. والخطأ الثاني هو تشكيل هذه الدول بواسطة النخب والاستعمار بعيد عن هذه الشعوب وعدم احترام خياراتها. والدولة هي الكيان ذو النظام السياسي والمستقل عن القوة الخارجية وتحكمها النخبة ولها إقتصادها الخاص وعملتها وجيشها، في حين أن الأمة هي الكيان الاجتماعي والاقتصادي والذي تجمعه التاريخ والثقافة والهموم المشتركة وفي مثال عن الدولة التي لم تستطع خلق الأمة manuel *(7) هي الاتحاد السوفيتي الذي قام علي وحي من النظرية الماركسية اللينية واستطاع فرض سيطرته علي مجموعة من الدول فهي شكل اتحادي ونظام سياسي واحد ولكن لغياب الهوية المشتركة أو عدم وجود التعددية الثقافية علي مستوي الحكم والدستور انما فرض الأحادية الثقافية والديكتاتورية السياسية وبعد أكثر من سبعون عاماً هي عمر الاتحاد تبعثرت مكوناته وتحللت الي عدة دويلات كما كانت في البدء، Manuel castell *(8) power of Identity وعلي النقيض نجد أن اقليم كاتلونيا في دولة اسبانيا خير دليل علي الأمة التي لم تقم لها دولة، فكاتلونيا لها لغة سائدة في الاقليم ومجموعة من العادات والتقاليد والتاريخ والثقافة المشتركة بين مكونات هذه الأمة، ولقد قاومت كثيراً وما زالت تناضل من أجل استقلالها عن اسبانيا، وحتي ان هذا الاقليم الذي يحكم ذاتياً تقدم تقدماً كبيراً في الصناعة وفي التجارة وفي كل نواحي الحياة حتي في الرياضة لا أحد يمكنه نكران فريق برشلونة الكاتلوني العتيق، فنجد شعب اقليم كاتلونيا الذي يناضل الي الآن ضد كل الحكومات المتعاقبة ثم اسبانيا من أجل نيل استقلاله سواءاً العسكرية او الديمقراطية وبالرغم من حصوله علي الحكم الذاتي ما زال يطمح في حق تقرير المصير، وهو نوع من أنواع الصراع بين المجتمع والأمة ضد السلطة المركزية (الدولة) . وفي السودان لنا دليل آخر علي الأمة التي تكون نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي و شكلت حضارة لها وزن وقوتاً وهي الدولة النوبية. ونجد أن إقليم جاوه سومطره استطاع ان ينزع استقلاله وصار اليوم دوله معترف بها من قبل الأمم المتحدة. ونجد أن أمام أعيننا اليوم تجربة ماثلة وتريد ان تقرر مصيرها الا وهي دولة جنوب السودان فبالرغم ان اتفاقية نيفاشا للسلام أعطتنا الكثير اتفاقية السلام الشامل اعطتنا حكم كونفيدرالي أي نظامين في دولة واحدة الي جانب حكم الجنوب بواسطة الجنوبيين وتقاسم عائدات البترول بنسبة معتبرة وتعكننها سمسرة الشريك، الا أنهم يئسوا من أي مشروع للوحدة مع الشمال، وتأتي علي رأس الاختلافات موضوع الشريعة الاسلامية ويطالب الجنوبيون بعلمانية الدولة وإزالة القبن التاريخي واعطاء هذه الشعوب المهمشة حقوقها الثقافية. الدولة:- القومية السائدة أم الثقافة السائدة:- وهذا السؤال أول ما يتطرق للذهن فإن الدولة الوطنية بنوعيها المدني الوطني أم الديكتاتور المدني دائماً ما تتحكم فيها قومية واحدة وتفرض ثقافتها ولغتها علي بقية القوميات ويصير المركز (العاصمة وما حولها) هو مكان وجودها، مستخدمة آليات الدولة وخاصة السلطة الاعلامية بوسائل المختلفة المقروءة والمسموعة مثل الصحف والمجلات والاذاعة والتلفزيون وفي الاسفير. * (9) (طلعت رضوان) وثانياً السلطة التعليمية، لما لها من قوة وسط الطلاب والشباب ودعم الدولة وحتي المنهج يخدم القومية السائدة والسيطرة علي باقي القوميات والاستلاب والإستيعاب في الثقافة السائدة، في كل المؤسسات التعليمية الخلاوي ، رياض الأطفال، المدارس ، المعاهد ، الجامعات ، والاندية الاجتماعية والثقافية وغيرها. نجد أن لكل شعب من الشعوب ثقافته القومية الخاصة به والتي تميزه عن غيره من الشعوب وهذه الثقافة القومية لا علاقة لها بالتعليم*(10) (طلعت رضوان) وتسري حتي في الأمي الذي لم يذهب للمدرسة، والثقافة القومية تعني ببساطة الهوية الثقافية المميزة لأي شعب عما سواه من الشعوب ووفق التعريف العلمي *(11)( طلعت رضوان) فإن الثقافة القومية تعني مجموع أنساق القيم التي أنتجها شعب من الشعوب عبر مراحل تاريخية الممتدة ولم تتعرض لما يسمي بعملية الغزو الثقافي وما يتتبعه من استلاب واستيداع واستيعاب واستتباع وهكذا. نجد مثلاً ماحدث بمصر يوليو 1952 هو انقلاب مفاهيمي كما يطلق عليه طلعت رضوان، وبدأ الانقلاب الديني الذي خرج من معطف الضباط، وترسخ عبر أخطر مؤسستين هي الاعلامية والتعليمية ، و ونجد عندنا في السودان تجربة مماثلة في حكم نميري الذي بدأ شيوعياً وثم قومياً عربياً وانتهي بهالأمر الي تطبيق قوانين سبتمبر ولينصب إماماً للمسلمين، التجربة التي أخرت البلاد كثيراً وتدني الوعي السوداني كثيراً من أثرها ، وتم تأصيل تجربة نميري الاسلامية في عهد البشير والذي استفاد من أخطاء التجربة السابقة، ولكن البشير لم يجد الزخم الذي وجده النميري الذي انفضح الأمر في عهده وتصبح مراهنة خاسرة إذا ما تم تكرارها، ولكن تبقى مسألة ارتباط العسكر بالأنقلاب الديني أو المفاهيمي او كل ما يؤدي لطريق السلطة أو ما يقرب اليها من قول وعمل. والتجربة الماثلة في السودان تؤكد حقيقة واحدة وهي ان السلطة الحاكمة انما تمثل أحادية ثقافية قائمة على الثقافة العربية الاسلامية، بالرغم من خصوصية عروبة السودان، وبالرغم من حديثهم المتكرر عن التنوع العرقي والديني والثقافي وتضمينه في الدستور الانتقالي، بل ان مؤسسة الدولة السودانية فقدت مقومات الدولة وتحلل المجتمع وفقدت السلطة هيبتها وافتقد المواطن للأمن الاجتماعي وهذا ما سوف نفصله في الجزء الثاني. ما بين الآحادية والتعددية الثقافية:- بدأت الحياة في هذا الكوكب بالتعدد وبدأت بالعرق والسلالات البدائية المتعددة في حياتها التشريحية والفسيولوجية، فنجد أشكال البشرية مختلفة حسب التطورات المناخية السائدة سواءاً العصر الجليدي او الحجري او البرونزي وغيرها، ونجد أشكال بشرية متباينة حسب البيئات التي يعيشون فيها، نجد إنسان الجبال، وثم انسان البحار، وانسان الصحاري، وهكذا، وكل انسان له مواصفات تشريحية محددة توضح هويته وتفرده الذي يعرف به بين الآخرين، الي حين ظهور إنسان القارات أو التكوينات البشرية الأول في مختلف انحاء الكوكب وبالتالي السلالة أو العرق أو المجموعة البشرية، وتوج هذا بظهور التكوينات الحديثة مثل الأسرة والعشيرة ومن ثم القبيلة. ولقد كانت هذه الحياة البسيطة قائمة علي التعدد. وقدرة الطبيعة + البيولوجي علي إبراز هذا التعدد، وكما ان عدد الذكور كان أكثر بكثير من الإناث، لقوة الذكر وتحمله وقسوة الحياة ومشاقه علي الأنثي، وكما أن ظهور هذا الانسان البدائي مهد لظهور الوثنية، التي ارتبطت في السودان القديم ايام الممالك بعدد من الطقوس كالولادة وزيارة البحر والختان والطهور للذكور وسيرة البحر في الأعراس، واستخدام جريد النخيل في نفش الموت ، ورسم الصليب وشرب النبيذ للصغار والكبار كمعلم من معالم التعميد المسيحي. بالرغم من كل هذا الارث نجد والتراث المجيد نجد أن السودان قد ابتلي بعهود من الأنظمة العسكرية القهرية المستبدة"، وقبلها منيت بلاد السودان بأنظمة استعمارية ومنذ سقوط سنار ودخول الالبان والاتراك السودان بدأت عهود من الهيمنة الثقافية، وتأصيل الآحادية الثقافية في شكل الثقافة العربية الاسلامية وتهميش الثقافات الأصلية التي كانت مساندة في حوض وادي النيل فنجد أن التركية الأولي قد رسخت للغة العربية وللدين الاسلامي ومثلها فعلت الحكومة الوطنية المهدوية واعلنت حرباً ضد الديانات الاخري والقوميات الأصيلة مثل النوبية والذين حدثت في حقهم المجازر، والفور وغيرهم ولم يسلم أحداً من المهدية، وثم سار الحكم الانجليزي المصري في ذات الاتجاه وعمل قانون المناطق المقفولة، ولم تري الحكومات المتعاقبة منذ استقلال والي يومنا هذا أي دين غير الاسلام يستحق الرعاية، ولا أي ثقافة غير العربية جديرة بأن تسود، هذه صورة من كل هذه الحكومات الوطنية، إذن أصبح هناك تميزاً وتفرداً عربياً اسلامياً وقائماً في الشمال بفعل السلطة وبأخر الايدلوجيا وأما الثقافات الأصلية فلقد تم تهميشها الي الأطراف وأصبحت لا أثر لها في حياة الناس, وإن بقيت آثارها المادية في المتاحف وحتي مناطق أخري يحاول التجار والمستثمرون العرب محلياً وخارجياً الاستفادة من أراضيها وجعل تلك الاجداث سماداً طيباً لزرعها. وفي الفترة الأخيرة خاصة في عهد الانقاذ تبلورت شخصية جديدة للانسان السوداني في الشمال ونجد سيادة السلوك البدوي الاعرابي في المدن، وتجسدت ملامحه في كثير من صور الحياة وأولها عدم قبول الأخر وعلي رأسها عدم قبول ثقافته مدينة وعدم التعايش معها، وتأصلت قيم تتمظهر بالدين شكلاً، وتم فصل الدين تماماً عن السلوك والصفات التي تميز بها السودانيون عبر العصور مثل الشهامة والرجولة والمروءة حلت محلها الأنانية والطمع والجشع. دولة الهند كنموذج للتعددية الثقافية:- ودولة السودان كنموذج للآحادية الثقافية:- تعتبر دولة الهند رائدة الديمقراطية والتعددية الحزبية وهي أكبر دولة من حيث المصوتين للانتخابات في العالم، وفي ذات الوقت تعتبر وبحق دولة التعدد الثقافي والعرقي، توجد بالهند 1,625 لغة، منها 33 لغة *(12) يتحدث بكل منها مليون نسمة من السكان، ونتيجة للصراعات الدامية التي حدثت بين الشعوب والقوميات المختلفة فلقد تأسست الهند علي أساس من التعددية اللغوية ، وإذا كان سكان الهند حوالي مليار وثلاثمائة مليون من السكان فإن اللغة الهندية يتحدث بها حوالي 400 مليون من السكان وهم سكان الشمال ووسط الهند (ويسمي بإقليم راجستان)، أما في باقي الأقاليم ففي كل اقليم اللغة الأولي هي لغة القومية السائدة في الاقليم وتليها اللغة الانجليزية مثل اقليم البنجاب أو اقليم التاميل نادو أو اقليم كيرالا، ثم نجد أن اللغة الهندية هي لغة الحكومة المركزية ولغة البرلمان وتليها الانجليزية. أما الأديان فحدث ولا حرج فاهل الهند يدينون بعدة ديانات وعدد من الآلهة فإلي جانب ديانات الهندوس المتعددة، هناك المسيحية وهناك الاسلام بإعداد معتبرة ، وبعد إنفصال باكستان علي أسس دينية من الهند وثم الاضطرابات الدينية الأخيرة مثلما حدث في معبد او مسجد التي أودت بحياة الكثيرين، وظهورالارهاب ولقد برز تيار قوي هندوسي متطرف يقوده حزب جاناتا الهندوسي وبرز كحزب طائفي زاد من الأزمة والفتن الدينية التي لم تعرفها الهند من قبل. أما في السودان فبالرغم من التعدد العرقي واللغوي والثقافي حيث يوجد حوالي الـ 500 قبيلة تتحدث أكثر من مائة لغة، ويقوم تاريخه علي التعددية الدينية وكانت تتعايش فوق أرضه الديانات الوثنية جنباً الي جنب وكذلك تعددت الآلهة بدءاً من آمون، وأبادماك، وايزيس، وسبو مكر، وثم جاءت المسيحية لتأخذ الكثير من الوثنية وعلي ذات الدرب سار الاسلام والذي أخذ الكثير من الوثنية والمسيحية، وحتي الآن نجد طقوس كانت تمارس في أيام المسيحية. ولقد ظل السودان منذ أيام الامبراطوريات الكوشية والمروية ومروراً بالممالك النوبية وحتي بعد ظهور إنسان سنار ظل بلداً حضارياً وفيه من أصائل الطبائع ومن نبل القيم مما لا يوصف في كلمات موجزات وإنما يحتاج ان تدبج فيه المقالات والكتب، كان هذا أيام التمسك بالإنتماء وأصالة الهوية ولكن بعد مفارقة هذا الطريق والبداية هي السلطة المنحرفة التي تزين للشعوب وهم الإنتماء وتدعو المفاهيم علي هوية مزيفة وقشور من الثقافة العربية الاسلامية حتي سادت وسط الأمة في الشمال قيم وسلوك البداوة. المراجع العربية والانجليزية:- (1) نوال ميرغني ـحول مفهوم الثقافة اصدارات مركز محمد عمر بشير. (2) شارلس بونيه واحمد محمد علي حاكم _كرمة مملكة النوبة. (3) كمال سليمان الصليبي_خفايا التوراة واسرار شعب بني اسرائيل. (4) عمر حاج الزاكي ـالاله آمون في مماكة مروي. (5) تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث ـالأب الدكتور ج.فانتيني الخرطوم في 1978 . (6) Anthony A.Birch -modern democracy. (7) Manuel Castells – The power of identity. (8) Manuel Castells – The power of identity. (9) طلعت رضوان ـ العسكر في جبة الشيوخ الاصولية الاسلامية قبل وبعد1952 ـ الصادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان. (10) المصدر السابق. (11) المصدر السابق. (12) Dennis Ager – Motivation in Language Planning and Language Policy. *د.صابر عابدين احمد عبد الله، باحث وكاتب في التاريخ والثقافة والفكر والأدب واللغة النوبية، له مقالات نشرت في صحيفة السوداني والأحداث والأخبار والوطن العمانية (مسقط). قدم ورقة حول "إشكالية الحكم وجدلية الهوية والتعددية الثقافية في السودان" في مؤتمر إتحاد الكتاب السودانيين، ديسمبر 2009 ،. وله مؤلف حول "الإرث النوبي في العامية السودانية"، ومؤلفات أخرى تحت الطبع أو قبل الطبع، "سوبا عاصمة النوبة الحضارية"، و"الهوية الثقافية في السودان". تخرج من جامعة الخرطوم- كلية طب الأسنان، 1986، وعمل كطبيب أسنان في عدة أماكن وعضواً تنفيذياً لنقابة أطباء الأسنان دورة الديمقراطية الثالثة، عمل مديراً تنفيذياً لمنظمة أمل الخيرية التابعة لمكتب الشؤون الإنسانية بقوات التحالف السودانية. أدار عدة مراكز صحية وإغاثية بشرق السودان، عضو جمعية الأثار السودانية، عضو رابطة أطباء الأسنان الأمريكية، عضو جمعية الدراسات السودانية، وعضو إتحاد الكتاب السودانيين، ورئيس المنظمة النوبية للثقافة وإحياء التراث والتنمية حالياً.