|
Re: دكتاتوريّة سلاح الحياة -- مأمون التلب (Re: مزن ابوعبيدة النيل)
|
____________
خاتمة:
أَوجدت لنا أمّنا الأرض، بما أخرجته بطنها من كائنات حيَّةٍ وجامدة، علاماتٍ كافية وقدراتٍ فائقة على الاتّصال بها، وفيما بيننا، فعَرْبَدَت الأفكار فيما بيننا و الاختراعات، المدمّرة والخلاقة، تَدَفَّقَت من حضارةٍ إلى أخرى ومن زمانٍ إلى آخر؛ الشعوب تواصلت.
وإن يَقَّنَتها المشاريع السياسيّة والآيديولوجيات بما أنتجته لأجل مصالح أفرادها السلطوية والماديّة، من معتقدات وشطحاتٍ مثيرةٍ للضحك كشطحة "الحدود"، فإن الشعوب، بإدراكٍ منها أو دونه، تتواصل يوميّاً عبر كلّ ما هو مليءٌ بالحياة. وبفقدانها لهذا السلاح (ما هو مليءٌ بالحياة) أطاحت حركاتُ التغيير السلمية بإنجازاتها، بينما انصاعت الحركات العسكريّة، بما فيها الحكومة الحالية، انصياعاً حتميّاً لسيستم نظام السوق العالمي. يُحاول الخطاب السياسي والتجاري أن يَدفع المجتمع نحو كلّ ما هو خفيف فكريّاً، وأن يوهم القيادات بانتهاء زمان الفكر وفنون الثقافات المُعَبِّرة عن قلب الحياة البشريّة ومصائر أفرادها وتميّزها: هي موادٌ تَربطُ البشر بشبكةٍ سريّةٍ مُخيفة.
لَمَح الذين يتحكمون في مصيرنا هذا السلاح، فاستخدموا قوّته القادرة على الربط بين الناس استخداماً سيّئاً ومُهينَاً لطبيعنما كبشر. هؤلاء ظلّوا على حالهم هذا بدايةً بسلطة العائلة إلى سلطة المملكة إلى اتحاد الامبراطوريّات وصولاً إلى تحالف الشركات والآيديولوجيات المُرعب،فوجدنا كلّ ما هو مليءٌ بالحياةِ ينبض في كلّ قطرةِ إعلانٍ وعلى غلاف كلّ سلعة!. إنهم يستخدمون ذات السلاح الذي كان سيفتك بهم؛ أغلقوا المكتبات العامّة، عطّلوا حركة الكتاب والنشر، حُرِّمَ الرقص وانسحبت النساء إلى شكلٍ بليدٍ من أشكال الرزانة الظاهريّة في المناسبات، خُفِّفت مواد الصحف وأُغلقت جميع مصادر المعلومات، فُصل الناس عن العالم بتهديم جسور اللغة، وعُلِّقت حركات التغيير في فضاء الانترنت ظانّةً أنها تُخاطب شعباً كاملاً.
تستطيع إفريقيا أن تكتشف أنها جنّة الأرض التي تخيّلها البشر عبر القرون؛ تستطيعُ الدولُ، التي يُطلَقُ عليها اسم "النامية"، أن تكتشف ذلك، وما هي إلا نظرةٌ خاطفةٌ للخيال البشريّ حتّى ينفتح الستارُ عن طوفاناتٍ وزلازل وكوارث الأرضيّة؛ إننا نرى إرث البشريّة الخيالي مُكوَّمٌ داخل عين الطبيعة الغاضبة. وها هي الأرض تُعلنُ عن وجودها المُتجاهَل، أخيراً، وتُجبر البشر لعَقد مؤتمراتٍ ما كانوا ليعقدونها بهذه الكثافة سوى في حالة انتاج حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ علنيّة، وأقول (علنيّة) لأن الحرب العالميّة ظلّت مُستعرة دائماً. فهل كانت دولاً ناميةً حقَّاً؟ أم استمرّت في لَعِب دور الأمم المُنَمِّية؛ بمواردها الطبيعيّة، بثرواتها وحضاراتها الأقدم في العالم؛ بإنسانها: نحته وموسيقاه وثقافته وعِلمه وفنّه وتعامله مع الطبيعة ومَعرِفَته المُتعمّقة بأمّه الأرض؛ تلك المواقف الرمزيّة المتمرّدة، المقاومة لكلّ تعالٍ، والبارزة على سَطِح التّاريخ ضاربةً أنفه المُتغطرس بجذورها العاتية
إن الأذهان التي تُحارب الحياة لا تَخفى على أحد، وإنها لتُدرَكُ من الوهلة الأولى، فإن لم يستطع تنظيمٌ مدنيٌّ اقتلاعها من السلطة، ولا قوّة عَسكريّة، ولا، كذلك، مفاوضات سلميّة، فإن مصير البشر، الواقعة على كاهلهم سلطة هذه الأذهان، سيكون إمّا بالذهاب بعيداً والانفصال عنها (عن تعليمها وتربيتها المُسمّمة بالعنف والإخضاع وتغييب التفكير، وكذلك عن حروبها واضطهادها واستعلائها واستغلالها) أو بالفناء معها والاصطلاء بنيران الفقر والعوز والجريمة والرعب؛ بالغش والخداع والابتزاز والذل والإهانة؛ هذه الهالات التي تدوّرت حول عيون الجميع ولا تخفى على جدران مدينةٍ كالخرطوم. نعم، عندما يتذوّق أهل الخرطوم حقيقة الدمار الذي حَدَث لحياتهم، وهو على وَشك الانكشاف تماماً، سيُدركون أن مجرّد البحلقة في التلفاز، والذهاب إلى صلاة الجمعة للاستماع إلى خطبةٍ عن القناعة وأخرى عن فجور النساء؛ سيدركون أن ذلك لن يَكفي لدخول الجنّة؛ هنالك ما هو أكبر من صراعات المجتمع الدولي والسلطة والحركات المسلّحة، هنالك هم أنفسهم. ذلك ينسحب على سكّان العالم أجمع، إذ يَعيشُ كلّ مجتمعٍ على ما يقدّمه كتَّاب أَقدار السلطة والثروة والسيطرة من تشوّهاتٍ فيلتهمونها؛ يُحاربون من أجلها، يَقتلون ويُقتلون، ويبحثون عن البطولة فلا يجدون سوى مرآةٍ كبيرةٍ تنتظر تحديقةً مُحترمة، مستمرّةً لأزمنةٍ، ومنحدرةً إلى أجيالٍ سحيقة.
إن الحدود الفاصلة بين الجميع لم تُهدَم بعد؛ الحدود بين كلّ فردٍ وفرد، وجماعةٍ وأخرى، وقبيلةٍ وقبيلة، وديانةٍ وديانة، وبلدٍ وبلد؛ هذه الحدود لن تُهدمَ بأية خطاباتٍ ولا آلياتٍ سياسيّة، بل بالتعليم، كأداةٍ أساسيّة تستحق تغييراً جذريّاً ساحقاً،وبتطوير قدرات الأفراد للاستفادة من مصادر لمعلومات (القراءة والكتابة والتعليم الالكتروني)، ثمّ بالاستفادة من الجواهر الغنيّة لثقافة وتاريخ وفنون أهل هذه البلاد، وربط سكانها بها، وبتطويرها والاستمتاع بملذاتها اللانهائيّة.
_________________
دكتاتوريّة سلاح الحياة مأمون التلب
نُشر بسودان تريبيون
|
|
|
|
|
|
|
|
|