|
Re: المدينة القديمة. (Re: محمود الدقم)
|
واتبسم وانا على ضهر السفينة المُبحرة صوب المغيب كمتشرد ضليل، اتذكر ذلك الحوار، اكرمني فيه فصل الربيع بنفحاته، مع شرطي بالقرب من المرفأ الشمالي القديم، في النصف الاخير من الليل، كنت وحدي فقط مع معية القمر والنجوم الهاربة، والرصيف الشبقي المتمدد مثل عانس وحيدة.
هييه... هه، دُنيا، كيف لي ان انسى تلك المقاهي التي تعج برواد يبحثون عن صديق يبثون له اطنان الهموم؟ (انتم.. انتم ملائكة، والسيد المسيح.. انتم ملائكة) قالت لي امرأة ثلاثنية العمر وهي تقهق من السعادة تدفن يديها وسط خِصر زوجها، كنت يومذاك اخاطب الفراغات الفارغة بالقرب من حي (سِن- داغاما) المخملي، بعد انتصاف الليل، كيف لي ان انسى تلك الحانات التي تحيل الليل الى نهار والنهار الى الليل؟ وبلُغة عربية محطمة يسألني صديقي الخواجه العجوز للمرة الرابعة في اقل من ساعة في مقهى الاكربول: - سَفة تُمباك.. اميغو، لو عندك سفة تُمباك.. اميغو!!
ولا يقتنع ابدا صديقي العجوز ذو الشعر الاشقر المجدول مثل حِبال مهملة في ميناء مهجور، بانني لا اتعاطي التُمباك او اي مُنِبه اخر، يمضي وهو يترنح مثل طفل صغير، مشيرا لي باصبعه باشارة لا.. لا.. لا اصدق، يهز رأسه مثل متهم مخفور في قاعة محكمة.
انظر خلفي بشفقة وحزن، وانا قابع في الطابق الرابع في سطح سفينة التي تمخر عباب البحر الاسود من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب الغربي، انظر الى المدينة القديمة التي فيها سكبت كل ما املك من زكريات واماني وخيبات، والليل ينتعل شيئا من سواد، ويتكحل بسمفونية موغلة في العته، ويلبس اثواب من حداد، ويتغنج مثل مومس محترفة، ليل يترنح مثل عازف ناي مخمور، وسط امواج تمضغ صفحة البحر وبدأت السفينة ترقص وسط هدير الموج كدرويش وسط نوبة ذِكر، ومن بعيد تبدو اضواء المدينة الملونة مثل ساحات المولد، تلك الاضواء التي تبصق على صفحة البحر لتحيله الى مسرح حكواتي من الاساطير التركية اواليونانية اوالهندية القديمة، واشجار الصنوبر ما زالت خلف المدينة ترقص وحدها تندب الرحيل.
اتذكرها، بل تذكرتها الان، جُوانا كوستا ديمتري ، المرأة العجوز التي تنتظرني حذاء بوابة البناية العتيقة حيث اسكن، وفي الرمق الاخير من الليل، وهي تغسل الزقاق الضيق بعينيها الحادتين مثل عيني صقر بحثا عن لحظة مجييء، وهي تمسك بين يديها نسخا من نشرة ووك آب (استيقظ) باللغة العربية تحلم بان اكون انا احد (شهود يهوة) تلك الجماعة المسيحية المثيرة للجدل، اخطف منها النسخة ودون ان اعيرها مثقال ذرة من اهتمام، اتمتم هامسا في اذنها اليمنى بفتور: -انتِ تخاطبين صخرة، تتحدثين مع حائط، تغازلين تمثال من غرانيت، جلد النمر لن يكن يوما جلد زراف، وانحشر في غرفتي في الطابق الخامس عشر انام، تحفني الفوضى، ثياب مهملة هنا، اكواب من الشاي المتسخة هناك، خبز ناشف مضى علي وجوده ثلاثة اسابيع ملقي على الكتب، وقِطة دخلت الغرفة خلسة، وتثكلت -بتشديد الكاف- لانها لم تعثر على شيء يؤكل، وجرزان هاجرت من البناية تلعنني وتلعن فقري، وكلس يتساقط من سقف غرفتي نتيجة لتكلس السقف من الماء المالح، وصوت تلفازي الوحيد الذي نسيت ان اطفئه منذ الاحد الماضي، واحلم بمستقبل مليء بالزهر والورد.
والان، باي باي يا متحف التاريخ الشفوي والقصائد، يا بلاط موزاييكي مموه في كياناتي الرتيبة، وستائر من غد لا اعرفه ترفرف حول سويعاتي المجمدة بين بهلوانيات الموج الازرق وبين (البوم صور) الذي طفح بذكرياتي السرية، يا مدينتي القديمة، يا..
وحدي انا والسماء، وزرقة المحيط، والليل الغاطس في الظلام حتى أُذنيه، على سطح السفينة، ممدا هناك بالقرب من الصاري الضخم، اخلع حذائي الضخم اتوسده، اتكوم حول نفسي ككرة ثلج، وصوت محركاتها يصخب باللعلعة، مبتعدا وبعيدا عن الشاطيء وفي بطن اللُجة اغني بصوت صاخب ولا اهتم:
- (الفات الفات.. وفي ديلو سبعة لفات.. عمي علي... بياع الزيت.. وساق مرتو، وداها البيت.. والجُبُة، وقعت في البير. وصاحبها، واحد فقير.. والصول واقف صنفور تمتمتم تتتمتتم ترلم تترلااام، ترلم تترلاااام تراا رررا للام.)
|
|
|
|
|
|