المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 07:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-21-2010, 08:37 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36982

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الرحيـــل





    من بعد ذلك التجمع الأسري, الذي قرر فيه خالي عبد الواحد الهجرة إلى القاهرة, تفرقنا وكل منا يحمل في نفسه ما يحمل.. كنتُ أنا الوحيد بينهم الذي كان محايداً من هجرة خالي إلى مصر, وترك السودان.. يستوي عندي بقاؤه أو رحيله.. لم أعلن ذلك, وإنما آثرتُ الصمت.. وأسعدني إنشغال الكل بذلك الخبر الصاعق,وعدم طلب أحدهم مني أن أقول رأيي..
    تسللتُ إلى (كوخ العم طوم) منتجعي أو (عوامتي) التي أترك فيها ذاتي على سجيتها, وأعيش حياتي الخاصة, متخفياً.. كنتُ أنوي تسجيل بعض الملاحظات لما دار, وأحدد التاريخ الذي قرر فيه خالي الهجرة إلى مصر.. لكن.....!!
    دهمني نعاس مفاجئ.. تمددتُ على السرير الوحيد في مخبأي, فذهبتُ في نوم عميق.. حلمتُ بأنني في كامل وعي, أجلس إلى جانب (أبو الدفاع) على السرير الوحيد المألوف, ولكن رأيتُ سريراً آخر في نفس المخبأ, لا أدري من أين جاء, تجلس عليه هدى, وإلى جانبها خالي علي,, دار بيننا حديث طويل..أشارك في ذلك الحديث, ولكن في نفس الوقت أفكر وأسأل من اين جاء هذا السرير؟ وكيف جاء؟ أرى أمامي واقعاً لا يقبله عقلي.. أساهم في الحوار الذي يدور, وفي عين الوقت يتجسد وجود السرير الآخر, وتزداد غرابته.. تضخم الأمر بشكل عجز ذهني عن استيعابه.. شعرتُ أنني أسأل بصوت مسموع: من أين جاء السرير الآخر؟.. لم يرد عليََّ أحد.. كررتُ السؤال!! فاستمر الثلاثة في حوارهم, ولم يلتفت إلىَّ أحد.. ظللتُ ألحَّ في السؤال.. إنتابني إحساس كأني قد فارقتهم مع شعوري اليقيني أنني معهم.. صرتُ أصيح وأصرخ.. أراهم ينظرون إلىَّ كأن الآمر لا يعنيهم.. حاولتُ أن أحرك جسمي, فلم استطع.. جرَّبتُ القيام فعجزت.. حاولتُ رفع يدي, فارتفعت قليلاً ثم هوت.. صرختُ قائلاً: هزوني.. حركوني.. شعرتُ إنهم انتبهوا لحالتي, فصمتوا, وكفوا عن حوارهم.. وشغلهم وضعي الذي صرتُ إليه.. أخذوا يناقشون حالتي, لكن لم يأت أحد منهم إليَّ ويأخذ بيدي.. ثم فجأة رأيتُهم يضحكون.. قال بعدها (أبو الدفاع) أتركوه, فلْنذهب.. أنا أعرفه أكثر منكم!! قالت هدى: كيف نتركه وهو في هذه الحالة.. صمت علي ولم يشاركهما الحوار.. ناديتُه.. لم يعرني انتباهاً.. وانشغل بحديث آخر لا علاقة له بالحالة التي كنت فيها.. ثم أخذ يضحك, ويتحدث في أمور أخرى عني يعرفها.. عجيب أمرهم, لم يلتفت أحد منهم إلى إستغاثتي!! وفجأة نهضتُ جالساً على السرير بكامل صحوتي, لأجد (كوخ العم طوم) خالياً منهم جميعاً ومن السرير الآخر.. ولا يوجد به غيري.. لفترة طويلة بقيتُ في جلستي أتأمل, كأني أرفض الحقيقة التي أمامي.. لم أكن نائماً, وإنما كنتُ في كامل وعيّ.. وجميعهم كانوا معي..
    انتابتني قبل هذا, كوابيس كثيرة, وبالذات في كوبر.. ولكن جميعها لم تكن كهذا الذي جعل الحلم حقيقة أمامي.. جاءني يقين ملح بالعبث, ثم إيمان غيبي ملأ عليَّ كياني.. كنتُ لفترة حين نهضتُ فجأة, جالساً على السرير, كأني بعثتُ من مرقدي.. أخذتُ وقتاً كي أعود لطبيعتي.. يا سبحان الله, هذه علامات وإشارات, ولكنا لا نلتفت إليها.. ولا نتأمل دلالاتها..
    بعد أن أكتمل صحوي, وعادت إليًَّ حالتي العادية, ترجلتُ من السرير, وتحركتُ متجولاً في الغرفة, ثم المساحة الزراعية التي أمامها.. وتابعتُ سيري إلى النيل, متأملاً مسيرته المتدفقة إلى الشمال.. رأيتُ أم درمان على الضفة الغربية منه, والناس على الشاطئ يتحركون جيئة وذهاباً.. وهنا على الشاطئ الشرقي تمتد المزارع على مد البصر. تأملتُ الناس هنا وهناك.. كل منهم بلا شك يحمل دنيا قائمة بذاتها.. أحزان طافحة مع فرح قليل.. ورغم قلته فهو الوحيد الذي يهزم تلك الأحزان.. تمنيتُ لبعض الوقت أن يدع الله فيَّ سره لأعرف سرائر هؤلاء البشر, لعلي أجد فيها معجزة تحل لغز حياتهم.. هؤلاء هم مقصدي.. هؤلاء هم الأمانة التي حملّني إياها صديقي في كراسته الحمراء..
    تذكرتُ (أبو الدفاع).. يا تُرى أين أنت الآن يا صديقي؟! عدتُ راجعاً إلى (كوخ العم طوم).. أخذتُ حماماً بارداً, وغيرتُ ملابسي واتجهتُ بعدها إلى البيت الكبير.. وجدتُه قد أصبح قبلة لأعداد كبيرة من الناس يدخلون ويخرجون.. دخلت, وعلى بضع خطوات رأيت خالي علي يحادث بعضهم.. توقفتُ عنده, وحين انتهى من حديثه, أخذتُه من يده وانفردتُ به, وهمستُ له بأنني أريد أن أذهب لمنزل الحِلة الجديدة لأقابل أقرباء (أبو الدفاع), لعلي أجد عندهم حقيقة أخباره.. أو بعضها على الأقل.. وافقني دون مجاهدة.. وقال إنه سئم هذا الطوفان من البشر.. ثم أردف ضاحكاً:
    - خالك لا يكف ولا يمل الحديث المكرور.. يعيد رواية الحكاية في ذيل حديثه الذي انتهى. يحكي أدق التفاصيل, وينهي الحكاية بعبارة (خلاص لم يعد لنا مكان في هذا البلد)..
    صمت قليلاً، ثم واصل مُتهكماً:
    - يا عم دعنا نذهب لنغير المنظر!!
    أخذنا سيارته الكورلا النصف عمر, واتجهنا جنوباً إلى الخرطوم نحو الحِلة الجديدة.. طوال الوقت كان يتحدث, ويضحك عالياً, وأنا إلى جانبه أجلس صامتاً إلا من بعض تعليقات قصيرة, وضحكات مبتورة, وابتسامات باهته في أغلب الأحيان.. لكني لا أنكر أنه كان يسليني بحديثه وتعليقاته الساخرة, وضحكاته العالية المنطلقة.. إنه شخص حلو الحديث, يجلب السرور لكل من يجالسه.. تفكيري في (أبو الدفاع) بعدما سمعتُ من خالي عبد الواحد, أنه قابله في كوبر, كان قد ملأ عليَّ كل تفكيري, وأفسد عليَّ مشاركة رفقة خالي علي الساحرة المازحة.. كان شكلي قد تغير مع اللحية الرمادية والجلابية والعمامة.. أصبحت لا اختلف عن السواد الأعظم الذي أشاهده على الطرقات.. أعتقد أن التعرف عليَّ أصبح شيئاً قريباً من المستحيل.. وهذا ربما خفف كثيراً من الوهم الذي عندي, كما يتهمني علي.. ففي نظره بأن إدعائي بأنني مطلوب, خرافة, ابتدعتها أنا, وهو توهم مَرَضي، ومُرضي..
    وصلنا منزل الحِلة الجديدة, فوجدنا الباب مفتوحاً, فدخلنا.. لم نجد من الأقرباء الثلاثة غير محمود.. بعد السلام, سألته من فوري عن عيسى وعمر, فعرفتُ منه, أنهما ذهبا لمقابلة مسؤول دلهما عليه بعض المعارف.. أخذ علي يتجول في المنزل, يدخل هنا ويخرج من هناك, ثم أشار إلى غرفتي ساخراً ضاحكاً وقال:
    - هنا سحلت الفضيلة!!
    عجيب أمرك يا علي لا تترك سانحة تمر بك دون تعليق ساخر.. ضحكنا من تعليقه.. ورغم الحالة التي كنتُ فيها, لكنه أعادني إلى زمن كان فيه هذا المنزل غنياً في كل شيء.. أما الآن، فقد أضحى خرابة روحية حتى النخاع..
    واصلتُ حديثي مع محمود فقلت:
    - ألم تعرفوا شيئاً عن (أبو الدفاع) حتى الآن؟!
    أجاب قائلاً:
    - لا.. كل ما عندنا الآن مجرد وعود!!
    قلت:
    - لي خال خرج من كوبر ألآن, وأفادني بأن (أبو الدفاع) محبوس في كوبر فقد رآه وتحدث إليه!!
    أعتدل محمود في جلسته, واهتمَّ بما سمع مني, فاعتلاه الوجوم.. صمتنا قليلاً, ثم سألني قائلاً:
    - يعني (أبو الدفاع) مسجون في كوبر؟
    قلت:
    - نعم على حسب رواية خالي.. وهي رواية أكيدة..
    تدخل علي قائلاً:
    - الحمد لله عرفتم أين هو الآن.. وهذا أفضل من حالة الضياع والبحث في المجهول!!
    بعدها صمتنا جميعاً لفترة.. ففي حالة الأحزان والنوائب، يضيع الحديث.. وتميل النفس إلى الصمت.. كان الصمت أبلغ من أي حديث وحوار.. آثرتُ الانصراف.. قلتُ كلاماً لا أذكره، ثم شرحتُ له مكان إقامتي.. وعلي باعتباره الوسيط بيننا, أخبره أين يجده حين يريدني.. استأذنا وطلبتُ منه أن نكون على صلة مع بعضنا عن طريق علي, عند أي مستجد..ووعدتُه بأنني سأعاود الزيارة مرة أخرى..
    ودعناه, وخرجنا راجعين إلى الحلفاية, وفي ذهني المأمور الذي أعرف في كوبر.. يا تُرى أي أصناف العذاب وجدتها يا (أبو الدفاع) هناك؟!
    وصلنا البيت الكبير في ساعة متأخرة من الليل, فوجدناه هادئاً ساكناً.. لقد انقطعت أرجل الزوار تماماً.. تنفس علي الصُّعَداء, وأخرج زفرة عميقة مليئة بالارتياح وقال بصوت مسموع (متى ينتهي هذا المولد؟!)..
    دخلنا فوجدنا خالي عبد الواحد ومعه صديق عمره بابكر أحمد السيد, يجلسا لوحدهما في الحوش الواسع, وحولهما عدد من الكراسي.. سلمنا على العم بابكر, ولكن يبدو أنه لم يعرفني.. وهذا واضح من سلامه الفاتر, رغم أني أقبلت عليه بحرارة.. شعر خالي عبد الواحد بذلك, فسأله مباشرة:
    - من هذا؟ ألا تعرفه؟!
    واضح ان العم بابكر شعر بالحرج, فقال بصوت خافت:
    - أبداً.. والله
    قال خالي عبد الواحد ضاحكاً:
    - هذا إبن أختي سكينة.. أستاذ التاريخ!!
    هبَّ العم بابكر واقفاً, وهو ينادي: الطاهر, وجذبني إليه في حضن طويل حار, سكب فيه كل ذكريات العمر الذي مضى.. كلماته لا تزال ترن في أذني.. فقد استعرض, وأنا في حضنه تفاصيل ذكريات متعددة, كأن وجودي المفاجئ له, قد فتح عنده خزان ذكرى محبوسة, فانهمرت أمواجها الهادرة..
    جلسنا, وأخذ يسألني عن أحوالي, وأين كنت كل هذه السنوات؟ وما هذه اللحية التي جعلتني أُماثل أهل الكهف؟ قال له علي ساخراً:
    - مناضل!! كان في كوبر!!
    اندهش الرجل, ربما توقع أي شيء إلا أن أكون في كوبر فسأل:
    - كيف كان ذلك؟! وما السبب؟!
    قلت ضاحكاً:
    - لا أعرف!! أخذوني من المدرسة إلى كوبر ثم أفرجوا عني بعد سنوات طويلة!!
    قال متوتراً:
    - عجيب هذا الأمر!!
    ثم التفت إلى خالي عبد الواحد وقال:
    - معقول؟! هذا جنون!! ألا ترى أن هذا الوضع يعزز هجرتنا؟!
    قلت وأنا مندهش:
    - أتهاجر أنت أيضاً يا عم بابكر؟!
    رد خالي عبد الواحد سريعاً:
    - نعم.. بل هو قرر الهجرة قبلي!! وهو الذي جذبني إليها!!
    كان هذا أمراً مفاجئاً لعلي.. فهو يسمعه لأول مرة, رغم أن لقاءاته مع عم بابكر لا تنقطع, ويعرف الكثير عن معاناته في تجارته, فقال:
    - أتريد الهجرة نتيجة الموضوع إياه؟!
    رد العم بابكر وقد تقطب وجهه:
    - وهل هناك اخطر من الموضوع إياه؟!
    كان (الموضوع إياه) بالنسبة لي أمراً مجهولاً بالطبع, أثار فضولي.. أخذ عم بابكر وقته معنا ثم ودعنا وخرج.. وظل الأمر يجوس في دواخلي.. كيف يطلب هذان الكهلان الهجرة في هذه السن المتأخرة من العمر؟! هذا وضع يستحق أن يقف المرء عنده طويلاً!!... متأملاً!!
    لم أترك علياً إلا بعد أن حكى قصة عم بابكر.. قصة غريبة, أكثر استفزازاً من القرصنة في عرض البحار..
    كان هذا الرجل قد استورد شحنة مواد بناء من الصين تقدر بمبلغ نصف مليون دولار.. واضح من المبلغ, أنها شحنة كبيرة لتغطية السوق فيما يحتاجه من هذه المواد المختلفة.. فقد تكونت الشحنة من كمية كبيرة من مغالق الأبواب والشبابيك حديثة ومتطورة, وترابيس متنوعة, ومسامير مختلفة الإحجام والأنواع, وأوراق الزينة والألوان الحائطية, وألواح من خشب (الإسليبرز) المشكلة الإحجام, وأبواب وشبابيك خشبية واستيل, ومواد البوية المختلفة السائلة والباودر, (درلات) وأدوات نجارة وغير ذلك..
    عندما جاءت هذه الشحنة إلى ميناء بورتسودان, وذهب العم بابكر لاستلامها فوجئ بمصادرتها من سلطات الجمارك.. سأل عن السبب, قيل له أنها جاءت من غير تراخيص.. ذهل الرجل من هذا الرد العجيب!! ونازع المسؤولين هناك.. وكان حاضراً لكل سؤال واستفسار.. فأي مستند يطلبونه يقدمه إليهم كاملاً سليماً غير منقوص.. أخرج لهم رخصة الاستيراد من وزارة التجارة, وتصديق بنك السودان على الاستيراد, وإذنه لبنك الخرطوم بفتح الاعتماد المستندي, وتغطية الرجل لقيمة الشحنة كاملة عند وصول المستندات إلى البنك, واستلامه لتلك المستندات للإفراج واستلام البضاعة.. كل الوثائق المطلوبة قدمها, بما يؤكد حقه في استلام الشحنة.. ولكن المثير, أن ذلك كله لم يشفع له لأخذ حقه فأقيمت في وجهه العراقيل, وحرم من شحنته.. عاد قافلاً من الميناء إلى الخرطوم, وهو لا يصدق ما حدث.. رجل انفق عمره الطويل في تجارة الاستيراد والتصدير, فلم يشاهد مثل هذا السطو الصُراح الصارخ..
    حكي أمره لطوب الأرض.. وكان حديث المجالس, وبالذات في المآتم.. وفي واحدة منها, تقدم إليه محام لا يعرفه, لعل القصة أثارته, فقال له أعطني الأوراق وسأرفع أولاً للنائب العام ثم القضاء من بعده ان لم تنصف.. أعطاه جميع الوثائق والمستندات, فرفع المحامي شكواه وفقاً لقانون الإجراءات المدنية إلى النائب العام مطالباً بحق موكله.. دُرست الأوراق في مكاتب النائب العام, ولكن دون رد بقبول الشكوى أو رفضها.. من متابعة المحامي لهذه الشكوى, علم أن الرأي الأول رُفع بحق موكله في الشحنة, ولكن الموضوع توقف عند سكرتارية النائب العام.. ونُصح المحامي بأن يعمل موكله على مقابلة النائب العام شخصياً..
    تمت مقابلة النائب العام بسهولة, فالتقى بعم بابكر في مكتبه.. وكان النائب العام في حقيقة الأمر لطيفاً وودوداً معه.. أشعره بطريقة غير مباشرة بان الحق معه, لكن مصادرة الشحنة تمت لأسباب تتعلق بتصرفات سياديّة..
    اندهش عم بابكر من هذا المنطق الذي لم يقبله عقل التاجر فيه, ما هي هذه السيادة التي تصادر حقوق الناس؟! وما هو هذا المصطلح الغريب الذي يسمعه لأول مرة؟! وما علاقة تجارته التي يباشرها في حدود سلطة القانون بهذه التصرفات التي تصادر حقاً شرعياً لمواطن؟! أسئلة كثيرة جالت بخاطره وذهنه البسيط الذي لا يعرف ولا يعي تلك الفذلكات القانونية التي حرمته من حقه, فطرحها على النائب العام.. ولمس ان السيد النائب العام لا يقدم إليه ردوداً مقنعة, ولكن يرد عليه بكلمات كأنما يواسيه بطريق غير مباشر, على حقه المسلوب.. وحين غلبته الحيلة في هذا الاستلاب, طلب من النائب العام ان يعطيه ورقة تفيد أن شحنته تمت مصادرتها لأسباب تتعلق بالتصرفات السياديّة..
    ضحك النائب العام طويلاً, فقال له:
    - يا عم بابكر أنت لا تريدني ان اجلس على هذا الكرسي؟! مش حرام عليك؟!
    أمرك عجيب يا بلد!! يضيع حق الرجل, ولا يحصل على وثيقة تدل على أسباب حرمانه من ذلك الحق!! فيصبح الحرمان من الكرسي هو الحرام!! أي قيمَّ فيك تسود؟! وأين الحرام هنا وأين الحلال؟! ومن الجاني في هذه الوقائع, ومن المجني عليه؟! أي ظلم يمكن أن يوصف بعد ذلك؟!
    وقفتُ مذهولاً عند هذه الحادثة.. إفقار الناس أصبح جهاراً نهاراً, وتحت عين الشمس!! تحول حيادي من سفر خالي عبد الواحد إلى موقف إيجابي, مؤيداً الرحيل.. إن الرحيل موقف احتجاجي وإن لم يسمع به أحد, أو لم يلفت نظر أي شخص فيك يا خرطوم!!
    بعد أسبوع من تلك الليلة التي قابلت فيها العم بابكر أحمد السيد, وسمعت قصته من علي, هاجر الإثنان, هو وخالي عبد الواحد مع زوجاتهما إلى القاهرة.. هجرة منسية, إلا عندنا نحن أهل البيت الكبير في حلفاية الملوك.. ذهب عم بابكر إلى القاهرة متوكلاً, بعد أن رفع يديه إلى السماء يبثها حزنه, والظلم الذي حاق به.. إنها دعوة كهل رفعها إلى القوي الديان.. فهو الملجأ, بعد ان يئس من عدالة الأرض.. فما سمعه من النائب العام يكفي, لأن يقف عنده, ويزهد في قضاء, لن يكون أحسن حالاً من جانبه الآخر الذي يصفوه بالقضاء الواقف.
    أما خالي عبد الواحد فقد نقل جُلَّ تجارته إلى القاهرة ولندن, وترك الجزء الباقي لابنه الأكبر عمار, يديره, ويجعل به البيت الكبير مفتوحاً, كما كان أيام والده..
    بقينا نحن الجزء الأكبر المتبقي من الأسرة, في حلفاية الملوك, نلتقي ونفترق حتى تحول الأمر عندنا إلى عادة مألوفة.. نعيش الحياة من خلالها، كأنما فقدنا إرادة الفعل والاختيار!!.
    كنتُ في (كوخ العم طوم) أعيش مع ذاتي أكثر الأوقات.. وأقرأ في صفحات كتاب هذه الأيام التي عشتُها, فألمس كثيراً من الوقائع التي تغاير ما أطالعه في كتب التاريخ وغيرها من المؤلفات..
    حزن هدى الذي أصبح دائماً تقريباً بعد سفر أبيها, يشقيني إلى أبعد الحدود.. وأحس أنني مسؤول عن الجزء الأكبر من هذه الأحزان الغائرة في جوف الأيام..
    الضحكة الوحيدة في هذا البيت الكبير, هي التي تأتي من علي.. وبدونه صارت الحياة عذابات متصلة لا تطاق.. فالأيام تمر مكرورة ملولة لا شيء يفرح فيها.. في أحايين كثيرة ينتابني شعور قاتم بأن الحياة خارج كوبر لا تختلف عنه داخله.. فهل أصبحنا جميعاً في سجن كبير؟!
    هذيانات (أنيس) قد اختفت, وحل محلها هم عقلي وقلبي حوَّل أيامي إلى ما يشبه الاكتئاب اليائس من كل شيء وكأن قطار عمري قد توقف.. لقد كانت تلك الهذيانات نعمة, ما عرفت قيمتها, إلا الآن, بعد أن فقدتها.. غريب أن أجد فيها بعض ذلك التوازن, الذي كنت أتوهمه..
    صرتُ أنظر إلى كتبي وأوراقي المكدسة, فأحس بها بعيدة عني, كأنما لم أعايشها يوماً, ولم أجدها قطعة مني.. ماذا حدث لي؟! أهو الإحساس بالذنب تجاه هدى؟! أهو العجز تجاه ما أوصاني به (أبو الدفاع)؟! إهو الشعور الذي ينمو ويكبر ككرة الثلج التي تتدحرج, بألاَّ رجاء؟! أهو الإحساس بالعبثية التي أخذت تحيط بي, كفريسة عنكبوت؟؟ الملل!! الصداع!! فقدان الشهية!! أين أذهب؟ أإلى النيل وبعدها ينتهي كل شيء؟!
    في هذه العُتمة النفسية الظلماء, أحسستُ بأرجل تقترب من الكوخ!! من يا تُرى؟ خرجتُ.. فإذا بي أبصر علياً وعمر قريب (أبو الدفاع) يقتربان مني..
    فوجئتُ بمجيء عمر.. كيف اهتدى إلى علي؟! كانت تعلو صفحة وجه كل منهما غلالة من الحزن التي ما غابت عني..
    هجمتُ عليهما من فوري بالسؤال:
    - ما بكما؟!
    احتضنني عمر باكياً, وهو يردد بصوت مخنوق:
    - مات!!
    ............................

                  

العنوان الكاتب Date
المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:51 AM
  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:55 AM
    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:58 AM
      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:59 AM
        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:01 AM
          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:04 AM
            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-08-10, 05:57 PM
              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-09-10, 12:30 PM
                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-10-10, 12:03 PM
                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-13-10, 12:07 PM
                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-14-10, 09:45 AM
                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-16-10, 02:56 PM
                        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-17-10, 12:04 PM
                          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-19-10, 10:53 AM
                            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-20-10, 11:17 AM
                              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:37 AM
                                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:40 AM
                                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:54 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 09:03 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-04-10, 07:43 AM
                                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-24-10, 09:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de