المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 03:26 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-20-2010, 11:17 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36985

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    مائدة الســـماء






    بعيد ذلك الزمن الذي رأيت فيه هدى لأخر مرة قبل كوبر.. كانت فتاة كالنجفة.. أجمل فتيات الأسرة بلا منازع.. قالت لي أمي رحمها الله أنها خطبتها لي من خالي عبد الواحد.. صمت!! لكني لم أبد قبولاً أو أعتراضاً.. أنا نفسي وقتئذِ لم أكن أعرف ماذا أريد بالضبط.. حالة من الإبهام والإلتباس.. لم يكن الزواج كفكرة في ذهني, في ذلك الزمن البعيد..آثرتُ تلك السلبية التي كنتُ فيها.. وتركتُ الأمور على عواهنها رهينة الصدفة العشوائية.. إلحاح والدتي على الزواج كان يقلقني وينغَّص عليَّ حياتي.. وهروبي الدائم من مواجهتها والإجابة على أسئلتها وحديثها الصريح والمباشر, كان يحزنها, ويجعلها تبتلع مراراته بصبر أم, لا تملك غير الصبر على عقوق إبنها.. سفري الكثير كان مخرجي من الورطة التي وجدتُ نفسي فيها.. لن أكون كاذباً, فقد لفتت هدى نظري بوجهها القمحي الصبوح الاستطالة قليلاً, وعينيها الكحيلتين كعيني فهدة مطمئنة في غابة الدندر.. أما خصل شعرها السبيبي الوفير, الحالك السواد، والمنسدل على صدغيها في لامبالاة, فهو الجمال الفطري بعينه.. ولا أنكر حلاوة حديثها, وذكاء حواراتها وتعليقاتها, وصفاء نطقها لمخارج الكلمات وبيان القول.. كانت ذات تعليم وثقافة.. فتاة كاملة.. ولا أدعي!! ربما كنت الأقرب إليها من شباب الأسرة.. ولكنَّ فيَّ شيئاً ما, يجعل بيني وبينها سداً!! لعله سلبيتي, وعدم استقراري, وإنعدام رغبتي في تحمل أية مسؤولية.. لم أخف عليكم أنانيتي من أول حديثي هذا الذي أرويه عليكم.. فربما كان كوبر عقاباً إلهياً, وإنتقاماً لكل من لحقه أذى مني.. ولعل هدى أول المعنيين!! شعرتُ بها تميل نحوي.. وتتلهف لرؤيتي, ولا تتحرَّج من إشارات كانت ترسلها لي بذكاء خارق لعل (جبل البركل يتحرك).. ولكنه جبل, أصله صخرة صماء.. ومن أنانيتي كنت اسعد كثيراً بذلك الميل, لعلي كنتُ أتباهى مزهواً بيني وبين نفسي.. جميل أن يرى الإنسان نفسه محبوباً.. ولكنه الجحود المر, أن يبقى المرء قابضاً في شح, فلا يروي عطش وليفته مما جبلنا الله عليه.. ومع ذلك يطلب المزيد..
    ماتت والدتي, دون أن ترى حلم عمرها يتحقق.. ولكن سار في الأسرة, أنني لهدى, وهدى لي.. قرار أسري مؤجل, بأن عُينت زوجاً لهدى.. وصارت هدى زوجاً لي مع وقف التنفيذ.. وهكذا سارت بنا الأيام..
    أيها القدر مهلاً!! لقد كان الثمن الذي دفعته فادحاً.. ما شعرتُ بهذا إلا في هذه اللحظة التي دخلت فيها هدى علينا بالشاي.. نجفتي الساحرة.. لم يتركها الزمن, كما لم تتركني أقداري.. خطوط العمر لا يُخفى أثرها على صفحة الوجه القمحي الناصع.. ومع ذلك ظل القوام كما هو, مشدوداً باهراً يتثنى في حركته كأنما يتحدى الأيام وأقدارها..
    عانقتني أمام علي بصدق سنين الحرمان التي إستطالت حتى باخت.. بكتْ وبكيتُ كأنما كل منا يرثي نفسه التي ضاعت.. لأول مرة أحس بالزمن قد أكل عمري بصدق!! أين أنا من تلك الأيام؟! وأين أنت يا ست الحبايب لترين إبنك كيف إستحال كهلاً وتهدم؟! واضح أمامي, ومن وجودها في البيت الكبير, أنها لم تتزوج.. وهو أمر لا يخفى حتى عن غافل..
    جلستْ.. واخذت تصب الشاي لنا.. قلت :
    - ربنا يفك سجن خالي عبد الواحد. علي حكى لي القصة وطمأنني عليه. لا يوجد جرم يؤخذ عليه.. كلها أيام ويخرج بإذن الله..
    قالت من خلال زفرة, كأنها تشكو لي سوء أيامها:
    - ماذا فعلنا في دنيانا؟! لماذا نحن في عذاب مستمر؟! أنا صاحبة أيام نحسة منذ أن وعيتُ على الدنيا, والآن كملت باعتقال أبي..
    شدني قولها وأحزنني.. وشعرتُ أنني أتحمل جزءاً كبيراً من مآساتها.. لكن ماذا أفعل معك يا (كوبر ال######) وقد أكلت وشربت من عمري ما شاء الله لك ذلك؟!
    توتر علي من حديثها. إنه يكره الحزن والمناحة, فقال وهو يضغط على أعصابه:
    - مالك يا هدى!! نحن ناقصيين!! ابوك بخير, وسيخرج..
    قالت في تحدِ:
    - من يدخل كوبر لا يخرج منه هذه الأيام إلا ميت أو تهدم عمره!! أنظر إلى هذا الذي أمامك, هل هو ابن عمتي الاستاذ زينة الشباب؟!
    لك الله يا زهرة فتيات الخرطوم قاطبة.. أين فتوة عمري الذي أضاعك, وقد كان فيك من الزاهدين.. لقد كُنت الدُرَّ في كفي, فنسيت.. وهل بعد النسيان (هملة) وإهمال؟! مازال قلبك يحمل شيئاً لي رغم عوادي الزمن الخؤون.. ولا زالت إشاراتك تأتيني بتلك الومضات التي ألفتها, ولم ينجح الدهر القاسي, والمقدر المكتوب الأشد قسوة, في محوه..
    رد عليها علي قائلا ً:
    - إبن عمتك أهبل.. والحكومة (غبيانة) إعتبرته من أهل السياسة, وهو لا هنا ولا هناك!! أما ابوك فلا علاقة له بكل ذلك.. شكت الحكومة في تجارتة وما وجدت عنده أي شئ يستحق الحبس والعقاب.. وسيخرج!!
    قالت:
    - إذا كانت الحكومة (غبيانة) كما تقول, معنى ذلك أنها لا تفرق بين الحق والباطل.. وهنا المصيبة!!
    تلك هي فعلاً المصيبة.. فقد إختلط الحق بالباطل, في هذا الزمن الآتي من أزمنة القرون المظلمة... مع أن الحلال بَينَّ والحرام بَينَّ!! وماذا نقول عن أيام استفحل فيها الصمت من شدة الرعب, وذعر المحاربة في الرزق.. وتلك أمور تُغتال فيها النخوة, وتشنق المروءة, ويسود الذهول!!
    قلت:
    - ربنا يكذب الشينة.. ويحفظ خالي من شرهم..
    قالت:
    - أهذا زمن الغيبوبة الذي بشر به الدرويش, جدي؟!!
    ناجيتها باطناً.. وجاء همسي الصامت يردد, ربما!! فمن رجال الله الذين باعوا الدنيا, من يرى في حُجب الغيب وحياً ببصيرة, مالا نرى, وما لا ندرك!! وذلك الدرويش يا حملي الثقيل أذكره.. إنه أجمل صوت سمعته يقرأ علينا سورة (المُلك).. فكم كان جدي يحبه ويحترمه، ويهرول إليه عند سماع صوته.. هي الغيبوبة لا محالة, أصابتنا من لحن القول الذي سمعناه, فاشتريناه, ثم سكتنا عليه.. إنها مصيبة الدنيا التي أصابتنا, فأصبحنا بعدها من القانطين!!
    قلتُ محزوناً:
    - إذا كان خالي بكل الخير الذي يحمله, وبما نعلمه فيه صدقاً بلا تضليل أو إدعاء, قد أصبح من المسجونين, فهذا دليل على وجود خلل ما!!
    قالت:
    - وهل هذا الخلل ندفع ثمنه نحن؟!
    عادت لي مناجاتي الباطنية, كأنني لم أعرف التأمل الذاتي, وقراءة الأشياء, إلا في هذه اللحظات المشحونة بحزن يكفي أرض المليون ميل مربع.. أيامي في كوبر جعلتني أقف على ألوان وأصناف شتى, من وجود ذلك الخلل الذي قلت به.. فلسنا وحدنا على أي حال من الأحوال.. فالثمن الغالي مدفوع من السواد الأعظم إلا من رحم ربي.. فأي بيت تحت سمائك يا أرض البطولات, يكاد ألاَّ يخلو من دفع ثمن باهظ ما, قد يتفاوت كماً وكيفاً!! فتستصرخ الأرض.. أجيروني يارعاكم الله من هجرة أبنائي, ولكن كيف لذلك أن يأتي وعلى القلب غِشاوة؟!
    قلتُ وقد فاض الدمع رغماً عني:
    - لا.. الكثير دفع مثلنا وأفدح منا!!
    أخذ علي يجاري حوارنا في صمت.. تتنقل عيناه بيني وبين هدى, كأن الأمر يحتاج إلى الصوم عن الكلام.. له قدرة أسطورية في أن ينأى بنفسه عن المواقف المأساوية والأحزان المتأصلة.. ويفضل أن يعيش حزنه ومأساته وحيداً لا يشرك معه أحداً.. وكأن الآخر في نظره, ما خلق إلا ليعيد هو إليه توازنه ويبعد عنه أحزانه.. لهذا تراه هاشاً باشاً, قادراً على جلب البسمة والضحكة للغير..
    وقبل أن يتدخل ليقف حائلاً بيني وبين هدى, جاءت إبنته سكينة التي سماها على اسم امي, ونادت هدى, فاصبحنا لوحدنا في ذلك الديوان العتيق (الحدادي مدادي) الذي شهد تاريخ جدي ومواقفه وذكرياته, فقال:
    - جددت أحزانها الخاصة بمجيئك, إلى جانب حزنها على والدها!!
    قلت وأنا اتصنع الاندهاش:
    - كيف؟!
    قال صارماً:
    - أتتغابى؟! يمكنك.. ولكن ليس عليَّ!
    قلتُ وأنا أريده أن يكون صريحاً ومباشراً:
    - لا أفهم ماذا تقصد!!
    قال وصرامته التي رسمها على صفحة وجهه لا تتناسب مع طبيعته:
    - ضيعت عمرها بهروبك وترحالك وهجرتك كانما نسيت الجميع.. ضيعت عمرها في إنتظار السراب.. ولم ينفع معها أي نصح أو حديث.. وحينما ضاقت بنا ذرعاً, تزوجت على مضض.. ولم يدم زواجها لأكثر من عام ثم عادت إلى بيت أبيها امرأة مطلقة..
    حديث كالرصاص يخترق جسدي.. وكنتُ أتجنب سماعه.. ولكن بلاهتي أجبرت علياً على مواجهتي بهذه القسوة التي حملَّني فيها ضياع عمرها.. فحملتُ وزر عمرها على وزر ضياع عمري.. ولكن أنىَّ للإنسان ان يهرب من قدره؟! علمتُ أنها تزوجت ثم طلقت.. وكان يمكن إصلاح ما أفسدته, ولكن كوبر حال دون ذلك.. أصبح كوبر مأساتي وخطيئتي الكبرى, وعقبتي الكاداء التي تطفو على السطح كلما حاولت نسيانها.. ومن تصاريف الدهر الخؤون حرمانها من طفل يؤانس وحدتها, فأضحت وحيدة رغم كبر حجم الأسرة وكثرة أفرادها, وقوة ترابطها..
    قلتُ حزيناً منهاراً:
    - قسوت عليَّ يا علي.. فأنا نفسي ضحية ظروف لا قبل لي بها!!
    تراجعت صرامته, وعاد إلى قلبه الحاني وقال:
    - ما قصدتُ ما ذهبتُ إليه.. ولكن حديثها معك أعاد إليَّ ذكرى أيام قاسيات عانتها, وعانيناها جميعاً معها في إنتظار (جودو) الذي ملَّ سمعي منه بحديثك المكرور عنه, وأنت تذيع عليَّ ثقافتك.. وشعرتُ وقتها أنني المسؤول عن تصرفاتك بحكم صلتي البالغة الخصوصية معك.. والغريب في الآمر أنني اندفعتُ للدفاع عنك, رغم أني لا أعلم عنك شيئاً.. كانت تصرفاتك غريبة حين تهجرنا, فلا نعرف عنك شيئاً.. وهذه التصرفات البالغة الشذوذ قادت إلى حبسك في كوبركل تلك السنوات الطوال كأنك مقطوع من شجرة, مع أن لك أهلاً يسدون عين الشمس.. ماتت أمك وأنت في هجرانك!! وأنا الوحيد الذي كان يبحث لك عن الذرائع..
    ثم ضاحكاً:
    - ما أنت قدري.. كيف أهرب منه!!
    قلت:
    - وخالي عبد الواحد!!
    - مالو؟!
    - ما رأيه فيَّ؟
    - حُب خالك عبد الواحد لأمك, كان فريداً ومميزَّاً.. له طعم خاص يختلف عنا نحن الأخوة رجالاً ونساءً.. لا ادري سببه.. ومن حسن حظك أنتقل حُب خالك عبد الواحد لأمك, إليك.. ربما من باب الشفقة, أو لعلاقة رحم مليئة بالأسرار، لا يعلمها إلا الله.. فرغم مأساة إبنته التي كان الجميع يرون أنك انت السبب فيها, بما في ذلك أمك رحمها الله, إلا أنه لم يحقد عليك.. ولم يقل فيك أي كلام يجرح..
    - أصحيح ما تقول؟!
    - نعم..
    ثم مواصلاً:
    - تجرع حالة ابنته وصبر عليها.. وحين خرجت هدى للعمل الاجتماعي, حمد الله, ورأى في ذلك مخرجاً لإبنته التي حرص على تعليمها, وتسليحها بالحكمة.. كان رجلاً دهرياً كأبيه..
    قلتُ مندهشاً:
    - هل هدى تعمل في الحياة العامة؟!
    رد عليَّ علي سريعاً كأنما فُتح أمامه باب يحب ولوجه فقال:
    - نعم يا ابن أختي.. هو ذاكِ.. لقد فتحت هنا في حلفاية الملوك ثلاثة دور لرياض الأطفال, وزعتها توزيعاً مدروساً, بحيث تغطي المنطقة قدر المستطاع.. وأشرفت عليها إشرافاً دقيقاً, بالتنظيم مع وزارة الشؤون الاجتماعية.. واسست جمعية نسائية لمحو الأمية.. وعندما إنتظم العمل هنا بالحفاية, رمت بكل ثقلها في دار رعاية اللقطاء بالمايقوما, وساهمت بمالها وبما جمعته من تبرعات سخية لزيادة موارد الدار وتغطية عجزها المالي.. بل بحكم علمها وثقافتها إستطاعت الإتصال بمؤسسات المجتمع المدني الدولية وجلب (الدونيشنز) لهذه الدار.. وشهد لها الجميع بالنجاح في هذا النشاط الاجتماعي الإنساني.. فعادت إليها روحها القديمة الحلوة بعض الشيء.. وعلت والدها علامات الإرتياح, كأنما إستعاد إبنته من مغارة كآبة مسوْدة, نهايتها المحتومة معروفة.. ولكن بحكم قربي منها ومنك آرى في المظهر الخارجي حزناً نبيلاً عميقاً غائراً في دهاليز النفس, يصعب تجاوزه.. وما لمسته أنت الآن هو شيء من ذلك, زاد عليه حزنها على والدها المعتقل لفترة نراها طالت..
    قلت:
    - يا علي, أراك تحملَّني مسؤولية ما لحق بهدى.. فذيول كلماتك, وما هو خلفها أيضاً يعني خطايا يصعب التطهر منها.. وما أبرئ نفسي, ولكن في بعض الحالات كان الظرف أكبر مني ومن قدرتي على تخطيه.. فهل الآن بقي من العمر, ما يمكن أن أصلح به شأناً قديماً..
    ضحك علي بمرارة هي أقرب للسخرية مني, وقال:
    - أتظن؟! قد أرى ما لا ترى.. ولكن دع الآمر للأيام, وأتركها لظروفها ومن يدري لعل الله يحدث أمراً!!
    حتى فيما طرحته, أجد علياً قاسياً وحاسماً معي.. ربما هي الحقيقة التي قالها.. فهو يرى ما لا أراه.. ثم ماذا عن ظرفي الحالي.. هل نسيته في غمرة حزن البيت الكبير, ومأساة هدى التي صَّورها لي علي كمأساة تورث العجز, رغم الاندماج في العمل الطوعي الاجتماعي, والبذل فيه بكل ذرة إنسانية خيرة طيبة فيها.. هل نسيت أنني جئت إلى هنا لأختفي من عيون السلطة التي توهمتُ أنها تلاحقني بعد اختفاء صديقي (أبو الدفاع).. كيف أنسى هذا المأزق الخاص, وأعيد الزمن إلى الخلف قسراً لعلي أعيد بريق فتى الأحلام القديم.. لم تكن السلطة وحدها (غبيانة) يا علي. أنا نفسي (غبيان) مثلها.. أريد أن أنسى قِدمي, رغم التجاويف الغائرة الأخاديد في الوجه.. واضمحلال الجسد ووهنه.. كن نفسك يا أستاذ التاريخ, فإنه مهنتك بل طبيعتك.. بل أكثر من ذلك إنه أنت!!
    قلتُ لعلي:
    - إنني تعبت! سأذهب إلى البيت المتهدم في المزرعة, به غرفة صالون لا تزال صالحة للاستعمال, وسأجعلها مكان إقامتي.. فهي لا تبعد عنكم ولا عن البيت الكبير.. وسأجعلها مكمني السري حتى يحكم الله بيني وبين من حولي..
    ثم ضاحكاً:
    - إنها من الآن (كوخ العم طوم) ولن أبرحه.. كل منا شبيه بالآخر!!
    شاركني علي الضحك, وتحركنا معاً إليه.. وهناك بدأتُ حياتي الجديدة.. وتوالت الأيام متماثلة, فاترة, حزينة.. فلا يزال خالي عبد الواحد في كوبر.. أعدتُ ترتيب أشيائي, وانغمستُ في قراءات عدة.. فالواقع ظننته مات عندي أو كاد.. تذكرت (أنيس) في (ثرثرة فوق النيل) وقد رشف آخر حسوة من فنجان القهوة السادة الممزوجة بالسحر.. ولعق لسانه بقايا الرواسب المتقطعة في قعر الفنجان هنا وهناك.. وواصلت الجوزة دورانها المرسوم بعناية, وغاب العقل في فضاءات الأنغام الذاتية الخاصة, التي ضاعت فيها الحدود.. وانعدام المستحيل.. وأضحت الأنا سيدة الكون وحدها.. فامتثلتُ لهذا الإحساس الطاغي المريح.. وجعلتُ من (كوخ العم طوم) عوامتي الخاصة.. أخلد فيها لوهج الخدر المتوهم أللذيذ, وسحره الممزوج بفرح الاقتدار وطاقات الممكن, والتوهم المسحور القاتل للقلق ومنابعه.. ففرحت.. لعلي وجدت نفسي في هذا (الأنيس) السوداني.. إنه ليس بعيداً عن النيل, وأن لم يكن فوقه.. ولكن (كوخه) قادر على إتيان السحر المضمخ بطيب اللذاذات التي تضخم الأنا في وجودها المتوحد والمتفرد, فلْيذهب الآخرون إلى الجحيم!!..
    وفي (كوخ العم طوم) تركتُ للحيتي العنان, فطالت كثيفة متجعدة, يتداخل فيها الشعر الأبيض مع الأسود في تلاحم حميمي غريب, فتحولت لوحته العامة إلى لون رمادي جميل.. تماثل هذا الغموض المبهم في اللون مع عالم (أنيس) السوداني الساحر, فاكتمل المثال المطلوب, في وحدة لا يعرفها عالم الوعي الذي نبذتُه متوهماً.. وهذه اللحية التي أجد لها مثالاً معاصراً في (كاسترو),, تتوافق مع موضة هاته الأيام.. فالكل ينافق ليزَّيف حقيقته, حباً في الحياة.. أما أهل الزهد فيها طمعاً في الآخرة, فهذا استثناء, والاستثناء كما يقول أهل القانون, لا يجوز القياس عليه, أو التوسع فيه.. وأنا بلا شك من الفئة الأولى, لأني أزيف حقيقة شكلي الذي عُرفت به.. ومجاراة للموضة تركتُ البنطلون وركلتُه, ولبستُ (الجلابية), وتوجتُ رأسي المسحور بعمامة كبيرة, فأضحى شكلي العام كجدي.. ولأول مرة أعي أنني أشبه ذلك الشيخ الوقور, الذي نهرع إلى ظل شجرته الخالدة, كلما جارت علينا الأيام.. وتذكري لجدي أعاد إلى ذاكرتي التي أضحت مسحورة شفافة لماحة, تلك الأيام من نوادي الخريجين في أغلب مدن السودان الكبرى تقريباً, والندوات الأدبية والنشاطات الثقافية, التي تحولت بذكاء خارق إلى حراك سياسي زاد من وعي الناس وكَّثفه.. فنظرتُ ذات يوم إلى لحيتي الرمادية الكثيفة المجعدة, فأخذتُ من وهلتي أنشد بيتين من الشعر الوطني الساخر الهجاء إبان الحركة الوطنية الناشئة ضد الانجليز:
    ألا ليت هنداً قولي فأوجزي** رجال الشرع أصبحـوا كالمعيزِ
    ألا ليت اللحى كانت حشيشـاً** فـتـعـلفها خيول الإنجليـز
    في هذا الكوخ كانت هدى دائمة المزار لي.. لم يعجبها (توهان) السحر المضمخ بهذيان اللاوعي اللذيذ, ولم تقبل بهذه اللحية التي رمتها بالعبثية.. واعترضت على وجودي في (كوخ العم طوم), وفي البيت الكبير متسع لما يحقق لي الاحترام اللازم..
    قلت:
    - هذا كله من دواعي التخفي.. فأنا مطارد من السلطة!!
    قالت:
    - أنت مطارد من نفسك!!
    اعترضت.. وحاولتُ الرجوع إلى العقل الذي نسيته.. ولكن وقفتُ عند الاعتراض فقط, دون التعليل والتسبيب.. بدوت مغالطاً..
    قالت:
    - لا توجد سلطة تحس بك!!
    - من قال ذلك؟!
    - الواقع يبرهنه..
    - وكوبر؟! والسجن عمراً؟!
    - خطأ تاريخي.. لكنك لا تشكل خطورة على السلطة!
    - أنت تتحدثين كعمك علي.. في حين أنا دفعتُ ثمناً باهظاً من عمري.. من يرجَّعه لي, ثم ماذا يفيدني الاعتراف بالخطأ التاريخي؟
    ووجدتُ في تعليقي هذا فرصة لأفتح أمراً قديماً بدأ ينمو مع (التوهان) اللذيذ في (كوخ العم طوم) وهذيان (أنيس) السوداني على مقربة من النيل, فقلت:
    - وأنت من يعيد إليك عمراً كان كوبر سبباً في ضياعه؟!
    تورد وجهها القمحي كثمرة المانجو الناضجة..فرأيتُها جميلة جمالاً ما وعيتُه من قبل, وأنا جوَّاب الآفاق, ورحالة المدن, وجوال نسائها.. أين كانت غائبة عني. هذه الفاكهة الدانية القطوف.. منال يديَّ الأكيد.. لفحني حنين كاسح لاحتضانها.. فالهذيان لا يعرف المستحيل, ولا يعترف بالحدود.. وليفتي مع وقف التنفيذ.. قيل أنَ للتاريخ عقلاً!! فأين كان عقلي كل هذا العمر المديد؟!
    شعرتْ بتوهجي, وتوثبي الذي تفجر فجأة.. فاضطربتْ كبتول خجول.. ولكنها استعادت قوتها وثباتها.. فشمخ العقل الذي آثرتُ نسيانه, حائلاً بيننا..
    قالت:
    - كفاك وهماً.. ما هي التهمة التي دخلت بها كوبر؟ قلْ لي نشاطك الذي تعتبره السلطة خطراً عليها؟
    لأول مرة أواجه من احد بهذه الأسئلة الصريحة.. ورغم أنني أعرف نفسي تماماً, بأن دخولي كوبر كان سلوك طغيان بلا أسانيد, ورجحت فيه الوشاية التي أضحت في هذا الزمن سبباً كافياً للاعتقال سنين عددا, إلا أن أسئلة هدى كانت كمن يهزني من غفلتي لأول مرة.. فأعيد التفكير والتقييم في كل ما يجري.. ورغم هذا كله, فإن التفكير فيها لم يفارقني كأنما فاجأني لتملأ هي حياتي كلها.. ثم تسارعت الأحاسيس وتداخلت, فأخذتُ أفكر في أكثر من موضوع دفعة واحدة: هي وعمري وضياعي و كوبر والسلطة!!
    أجبتها قائلاً:
    - لا أعرف.. ولستُ صاحب نشاط خطر, لكن لماذا خالي عبد الواحد معتقل... أليس الحال متقارباً؟ إنه الهلع على كل حال!!
    - لا!! خالك عبد الواحد له تهم محددة.. وتم استجوابه فيها.. أما أنت فلم يسألك أحد كما تقول.. دخلت كوبر وأغلق عليك بابه.. ثم فتح هذا الباب وخرجت!! هكذا بكل بساطة, ولا مبالاة!!
    - لستُ وحدي فمثلي كثير.. وفينا من مات كنملة!!
    - لا يهم!! الحقيقة أنت وأمثالك بلا خطر على السلطة!!
    - ماذا تقصدين؟!
    - أقصد أن تبعد عنك وهم ملاحقة السلطة لك, وتعيش حياة عادية كالآخرين, وتحلق هذه الحلفاء التي ملأت بها وجهك!!
    - إنك تلغين نضالي!! السجن جعلني بطلاً في نظر الكثيرين!!
    - هل البطولة تُقصد أم تأتي بالصدفة؟!
    - لا يهم! المهم أني لم أزايد عليها, ولم أنافق, ولم اسرق جهد إنسان.. ولو سُئلت وأُستجوبت لوجدوا عندي قضية ما, وهذا هو الجوهر..
    - تعال وناضل معي في العمل الاجتماعي.. فهذا أنفع..
    - والتاريخ!!
    - ما شأن التاريخ فيما نناقشه؟!
    - حملت أمانة ما بشأنه, فكيف أتخلى عنه لقضية أخرى؟!
    - أترك هذه الخرابة وتعال عش في البيت الكبير!!
    - دعك من كل هذا.. فأنا أفكر فيك!!
    - بمعنى؟!
    - بمعنى بناء حياتنا معاً التي تأجلت ربع قرن!!
    نظرت إليَّ مستغربة وأطالت النظر والصمت, كأنما تسترجع سنوات عمر طال عليها العهد.. ثم قالت بالانجليزية والاستغراب يملؤها تماماً:
    - Now ?!! …
    قلتُ وأنا أجاريها بنفس اللغة؟
    - Yes !!..
    أطالت الصمت, ونظرها لم يتحوَّل عني, فقالت:
    - It is too late!!
    قلتُ في إصرار طفل عنيد:
    - لا.. لم يسبق السيف العذل بعد!! إننا قادرون على العطاء!!
    انفجرت ضاحكة وقالت:
    - هل أنت جاد؟! لا بد أنك تهذي!!
    وقبل أن أرد عليها, سمعنا زعاريد كثيفة ممتدة, وطبولاً وصياح فرح يملأ الآفاق.. فهرعنا معاً تجاه البيت الكبير.. وجدناه عاجاً بخلق كثير يملأون المكان, ورأينا آخرين يتسابقون تجاه هذه الحشود.. فقد خرج خالي عبد الواحد من كوبر.. قبْضٌ وإعتقال مفاجئ, ثم إفراج أكثر مباغتة وبلا مقدمات.. لا يهم!!! فالدنيا في لحظة فارقة تحولت إلى فرحة كبرى..
    ارتمت هدى على والدها الذي أخذها في عناق طويل... وبعد أن إرتوى منها أخذ ينظر في وجه هذا الرجل المعشوشب, وقد فعل فيه الزمن ما فعل.. وحين ناديته خالي, كان جسمه الطويل الممتلئ باتزان, وصدره العريض الحاني, وذراعاه القويتان، مع ابتسامة استجلبها من ماضٍ سحيق، كل ذلك استدعاه وجنده ليطوقني كلية, فاختفيت تماماً أو أكاد في هذا الجسد المتسق العاتي.. شعرتُ به يبثني في هذا الاحتضان كل مابه من حنان ودفء السنين المتجمع..
    كان يوماً حافلاً, كأنه المولد النبوي الشريف.. لم أر خلقاً كأولئك أبداً إلا ليلة المولد الشريف, والوداع الأخير لإسماعيل الأزهري.. هل خالي عبد الواحد بهذا الحجم الكبير من الأهمية؟! وهذا القدر العظيم من الاحترام؟! ما جال ذلك بخاطري يوماً..
    استمر هذا الاحتفاء أياماً.. كأنما الناس تبحث عن مناسبة للتعبير عما يجول بخواطرها.. فالذبائح تأتي من كل حَدَب وصوْب.. منها من يُعرف مصدره, وأكثرها لا يُعرف من أين جاء.. هل أهل السودان لا يزالون يحملون هذه السجايا؟! ظننتها ماتت واندثرت! أهو تعبير عن موقف؟ من يدري؟! لا يزال فينا شيء من زمن الخصال التكافلية!!
    ظل خالي عبد الواحد يحكي قصة إعتقاله وحبسه وإستجوابه, عشرات بل مئات المرات, وبأساليب ممتعة ومشوِّقة, وبكلمات متلونة ومختلفة ولكنها ذات معنى ومضمون واحد..
    وحين خفَّت أرجل المزار الى البيت الكبير, إنفردت الأسرة به في إحدى الأمسيات, لعلنا نعيد الذي إنقطع.. لم يكن خالي سعيداً كما توهمنا وهو بين الحشود المحتفية به.. بل كان ذلك الوجه الذي عرفت وألفت يكتسي بحزن جليل, ماعهده أهله عليه, حتى في حالات الموت لمن يعزهم ويحبهم.. سألتُه ملتاعاً:
    - ما بك؟!
    نظر إليَّ مليئاً بحزنه الجليل, وعلى صفحة وجهه نصف إبتسامة تجاهد في الظهور.. كان يتفحصني, كأنما يبحث في وجهي الذي امتلأ شعراً رمادياً, عن والده, ثم يطيل النظر في عينيَّ, كأنما يبحث فيهما عن أمي.. سكن الكون من حولنا لبرهة, أظنها تجاوزت المعهود, فقال:
    - بل كيف أنت؟! عرفتُ بعض أخبارك في كوبر من علي وهدى وبعض الأولاد, الذين كانوا يأتون بالأكل..فهمت منهم انك كنت هناك زمناً.. غريبة هذه الدنيا.. وغريب ذلك المكان الذي يجمعنا معاً, ولكن على انفراد!!
    قلت وأنا أنظر إلى الأرض:
    - الحمد لله يا خالي على كل حال.. وأشكر الله أني رأيتكم ثانية.. كنت أظن نهايتي هناك في كوبر لما رأيته!!
    ظل يتفحصني بعناية شديدة, كأنما يحاول إرجاع شبابي الذي ولى مدبراً بلا رجعة.. وقال:
    - فعلاً, لقد رأيت في ذلك المكان ما لا يخطر على بال.. رأيت الشخص يخرج من عندنا سليماً معافى, ثم يعود إلينا شخصاً آخر, محطم الجسم والنفس.. بعضهم يحكي قصصاً, ما ظننتها يوماً تحدث في هذا البلد.. وبعضهم يظل صامتاً مذهولاً كأنما فقد النطق والقدرة على الكلام..
    انزعجت هدى مما سمعت, وقالت:
    - هل عذبوك يا أبي؟
    قال:
    - لم يعذبني أحد, بخلاف الاستجوابات الطويلة المتكررة, والاستفزازات من خلال الأسئلة, وجبروت بعض غرته الوظيفة والسلطة!!
    قلت:
    - ماذا عن المأمور؟
    - هذا شخص تجسدت فيه الوضاعة.. يعمل على إذلال النزلاء بلا مبرر.. إني مندهش من سلوك هذا الرجل!!
    ضحكتُ وأنا أعيد ذكرى مضت وقلت:
    - لا تستغرب.. فقد رأيت بأم عيني تحقير الرئيس له.. وظن بعدها, أن إعادة كرامته في إذلال أولئك التعساء!!
    قال علي كأنما يريد أن يحوَّل هذا الغمَّ إلى ضحكة ساخرة:
    - والله زمن عجيب, هذا الذي جعل منك شاهداً عليه!!
    قالت هدى كأنها تريد حمايتي منه:
    - ما لك يا عمي!! هل هذا وقت ضحك؟!
    قال وهو لا يزال مستمراً في نغمته المستهجنة الرافضة:
    - ما رأيك هو وأبوك كل (منهم) دخل كوبر بالخطأ؟!
    نظرتُ إليه, وقد شعرتُ في حديثه صدقا إلى حد بعيد... قلت:
    - ربما, لكن من نسأل؟
    قال ضاحكاً:
    - أسأل العنبة الرامية في بيتنا!!
    تعليق مليح, جاء في مكانه من السخرية فأضحك الجميع.. وبعدها قال خالي عبد الواحد:
    - حقيقة يا أولاد أنا رأيت في كوبر شباباً هم زينة أهلهم, وزينة هذا البلد, ولكنه بلد تعيس, وأهل أكثر تعاسة!! ولعل هذه حسنة أحفظها لكوبر.. إن تحسرت على إهاناتي, وزمني الذي ضاع, فإن الله لطف بي بمعرفة أولئك الرجال..
    ثم موجهاً حديثه لي:
    - قابلت هناك صديقاً لك اسمه دفع الله وينادونه (أبو الدفاع).. عرفني حين دخلت عليهم في كوبر.. جاءني وعرَّفني بنفسه, وقال إنه يعرفني ويعرفكم جميعاً.. جاء الينا هنا في هذا البيت كثيراً, لكني لا اذكره.. ومن يومها أصبح صديقاً وحفياً بي.. سألني عنك, قلت له, لا أعرف عنك شيئاً.. إنك في هجرة دائمة..
    وعندها ضحك خالي, وقبل أن أدعه يواصل حديثه سألته, وقد أشرق فيَّ كل شيء ثم إغْتمّ:
    - بالله.. قابلت (أبو الدفاع) كيف هو؟ ومتى دخل كوبر؟ وكيف صحته ومعنوياته؟ إنه صديق عمري منذ بريطانيا.. تحدث.. تحدث يا خالي...
    قال:
    - نعم, أخبرني بأنه صديقك الحميم.. وسأل عن علي وهدى وكل من في البيت الكبير.. شعرتُ من حديثه كأنه واحد منا.. ولكنه كان من أولئك النفر الذين كانوا يأخذونهم ليلاً فلا نجدهم في الصباح ثم يغيب فترة ويعود مرة أخرى إلينا مهدود القوى.. كان غير مبال للحديث عن نفسه وعمَّا يحدث له.. كان يهرب مني بحديثه عن الأكل الذي كان يأتيني من البيت.. فقد وجهت علي وهدى وبقية الأولاد بأن يكون الأكل كثيراً ومتنوعاً وجيداً به كثير من اللحم والفاكهة.. وكانت هذه حسنة من حسناتهم المعدومة.. وبالذات المأمور.. ولكن الفضل في ذلك يرجع لبعض ضباط السجن والعساكر البسطاء الذين كان ينالهم من الحظ جانب.. ربما إن أحسنا الظن أنهم شعروا بعقدة الذنب نحوي, فأصبحت مميزاً في المعاملة دون بقية النزلاء.. كان (أبو الدفاع) يقول لي ضاحكاً, لا شيء يهمني فيما يفعلوه بيَ إلا فقداني لمائدة السماء التي كانت تهبط علينا من البيت الكبير, فنحن حواريوك, وينفجر ضاحكاً بشكل أتيقنه, كأنما يُذهبْ عنه الحزن, وكل العذابات التي مضت..
    آخر الأيام, كان عرضة لمرض الملاريا المستمر.. واذكر أخر مرة حينما أخذوه كما هي العادة بضعة أيام, كان معلولاً..وحتى خروجي لم يحضر إلينا مرة أخرى..
    قال علي:
    - هل يكون قد أدخلوه مستشفى بحري؟
    قلت مسرعاً:
    - لا.. وهذا مؤكد.. لأن المأمور لا يفعلها.. وعنده مرض نفسي في أن يرى المريض يعذب بالمرض أمام عينه.. أنا اعرفه.. له العديد من الضحايا..
    قالت هدى:
    - هذا بلا انسانية
    قلت:
    - هذا فاقد لأي قيمة بشرية, ولا يهمه إلا إرضاء الرئيس!!
    قال خالي:
    - ربنا يستر ويتولاه ويتولانا جميعاً بأمره.. فقد انتهى زمن الأمان!!
    ظللتُ مشغولاً مهموماً بحالة (أبو الدفاع) وبحياته.. وبعد حديث وجدل لم أشارك فيه, وأنا في سهوي المستغرق في صديقي, نبهنا خالي عبد الواحد, وقد حسم أمره وتوكل, فقال:
    - شوفوا يا أولاد, أنا بعد المهانة التي لحقت بي, لم تعد عندي طاقة للبقاء في هذا البلد.. وبعد كوبر شعرت خارجه بكوبر آخر ومن نوع جديد لم يعد فيَّ عمر لمنازلته.. لقد قررت منذ أول يوم في اعتقالي الرحيل إلى مكان آخر.. وانتهى اختياري بالقاهرة.. سأترك بعض أعمالي التجارية لابني عمار وسأنقل الجزء الكبير منها إلى القاهرة ولندن.. ورتبت كل شيء وأنا في المعتقل.. اشتريتُ فلَّلا بمساحة خمسمائة متر مربع في شارع مصدق بالدقي.. وسأرحل مع الحاجة بتول إلى هناك.. وانتم جميعاً رجالاً ونساءً لكم حياتكم الخاصة المستقرة بحمد الله..
    وقبل ان يواصل قاطعته هدى منزعجة معترضة..
    - كيف ذلك؟! وأنا!! كيف نكون من دونك.. مستحيل!! مستحيل!!
    حديث خالي, واعتراض هدى المذعورة, دعياني لأن أخرج من استغراقي الذاتي في (أبو الدفاع), فانتبهت دون ان أشارك..
    قال علي جاداً كما هي حالته في مثل هذه الأمور:
    - هل المهانة لحقت بك أنت وحدك؟! كلنا لحقت بنا.. بل أي بيت لحقته المهانة بطريقة أو أخرى.. وهل معنى ذلك كلنا نهاجر؟! كل بيت من بيوت السودان يهاجر؟!
    ابتسم خالي عبدالواحد, ثم نظر بإشفاق إلى هدى وقال لها:
    - أنت حرة يا هدى.. لك أعمالك ومشاغلك هنا.. وأنا مطمئن عليك إلى أبعد الحدود.. ومع ذلك اذا رأيت الهجرة معي ومع أمك, فإن القاهرة أو لندن مكان يناسبك.. أما الخرطوم.. فلم تعد تسعني, ولا أجدها مرحبة بوجودي.. فأرض الله واسعة.. وأنا الحمد لله قادر على الحركة التي أجد فيها احتراماً لي ولأسرتي!!
    قال علي غاضباً:
    - لا أحد يملك هذا البلد.. السودان لنا جميعاً..فلماذا نتركه؟
    رد عليه خالي عبد الواحد هادئاً:
    - أنا لم أبشر بالهجرة, ولم اطلب من أحد ان يهاجر.. وانتم جميعاً مع السودان كله اجلسوا في هذه الأرض.. وهذا يسرني.. أنا أتحدث عن نفسي.. فقط أنا اطلب أن تتركوا لي الحاجة بتول.. لأنني أعلم أنها لن تستطيع العيش بدوني.. وهدى حرة.. وكلكم لكم أسركم واستغلالكم..
    ثم إلتفت اليَّ موجهاً حديثه لي, كأنما قصد أن يكون بلاغاً لجميع الحضور فقال:
    - وابن إختي إن أراد ان يرحل معي فأهلاً وسهلاً!!
    ابتسمت ولم أعلق.. فكل الذي يدور لا يعنيني..
    وغابت ذاتي في حوار صامت مع صديق عمري.. أين أنت الآن؟!
    ..........................
                  

العنوان الكاتب Date
المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:51 AM
  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:55 AM
    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:58 AM
      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:59 AM
        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:01 AM
          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:04 AM
            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-08-10, 05:57 PM
              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-09-10, 12:30 PM
                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-10-10, 12:03 PM
                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-13-10, 12:07 PM
                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-14-10, 09:45 AM
                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-16-10, 02:56 PM
                        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-17-10, 12:04 PM
                          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-19-10, 10:53 AM
                            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-20-10, 11:17 AM
                              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:37 AM
                                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:40 AM
                                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:54 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 09:03 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-04-10, 07:43 AM
                                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-24-10, 09:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de