المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 08:02 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-14-2010, 09:45 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36982

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد (Re: adil amin)

    الكُراســـة (1)

    واقع الأمر أنا خارج كوبر, إذن أنا موجود.. عدتُ للحياة من جديد.. إنه المنفى الذي لا يرحم, ومع ذلك صبرنا على العذاب وتحملناه.. كيف لا أدري؟ فقد عُزلنا عن العالم تماماً.. لا علم لنا بما يجري في السودان وخارجه.. تكرم المأمور, وفرض علينا حصاراً من كل المنافذ, لنكون بعيدين عن الصحف والتلفزيون والراديو, وآي وسيلة اتصال أخرى.. يبدو ان سعادة وفرح الرئيس في عذابنا!!
    ونتيجة لتلك العزلة فإن ما سمعته عن (أبو الدفاع) كان يتوافق معها.. غابت عني الدنيا وما يعتمل فيها من تصاريف الدهر وتقلباته. انتابني شعور أن من هو خارج كوبر لا يختلف كثيراً عن من هم داخله..
    نمت بيني وبين أقارب (أبو الدفاع) الثلاثة, علاقة ألفة سريعة تجذرت من فورها, كأنها من سنوات خلت.. لقد أدرك ثلاثتهم مدى ارتباطي بـ (أبو الدفاع), من خلال حديثه عني, ومن واقع مجيئي إلى هنا مباشرة من كوبر.. لفت انتباههم بلا شك عمق إصغائي لما كنت أسمع.. ويبدو أن تقلصات وجهي, واتجاهات نظري, وحركات يديَّ كانت جميعها تبعث بإشارات, ذات دلالة من هول ما يُقال..
    (أبو الدفاع) الرجل الهادئ المتزن المثقف العاقل, يحدث له كل ذلك, بلا جريرة إجترحها.. إنه أمر يورث غبينة الانتقام.. ما حدث له, يشابه إلى حد بعيد ما حدث لي, مع فارق في درجة العقاب.. ولكنه يتناسب مع العلاقة التي تربطنا, ليصبح مصيرنا معاً مصيراً واحداً.. معناه الكبير, التشريد!!..
    جلستُ صامتاً, فترة من الوقت.. لم يكن لديَّ ما أقوله.. شعرتُ كأنني رجعتُ لكوبر مرة أخرى.. فالدنيا خارج الحبس, بلا (أبو الدفاع) حبس أخر, أشد مرارة من حبس الجدران.. تمنيتُ أن أقفل راجعاً إلى معتقلي, ولا أخرج منه, كي لا أقابل زمناً أخر بلا صديق عمري.. كان هذا البيت هو ما شكل أحلام مناماتي ويقظاتي, على مدى تلك السنوات الطوال.. والآن يظل العذاب مستمراً.. هي اللعنة إذن!!
    عندما طال صمتي وحيرتي, قدم لي (الآخر) من أقارب (أبو الدفاع) نفسه قائلاً:
    - أنا اسمي عيسى..
    ثم أشار إلى الشخص الذي قابلني أول مرة وقال:
    - هذا محمود..
    ونقل بصره إلى الثالث وعَّرفه قائلاً:
    - وهذا عمر
    وختم حديثه مؤكداً:
    - كلنا أقارب (أبو الدفاع) التقينا هنا, في بيتكم هذا, بعد أن فرَّقت بيننا سبل الحياة, وظروف المعايش, وحال بلدنا, لسنوات طويلة مضت..
    نظرتُ إليهم كأنني أبحث عن (أبو الدفاع) في عيونهم.. وفي لمح البصر عقدتُ مقارنات سريعة, لأصل إلى درجة الشبه بين كل منهم و(أبو الدفاع),فقلت:
    - أهلاً.. أنا سعيد بكم وبمعرفتكم, و..
    وقبل أن أواصل عبارتي التالية في الحديث, قال عمر:
    - يا أستاذ!! نرجو مساعدتنا, ليترك صديقك هذه المدينة, ويذهب معنا.. لهذا جاء كل واحد منا.. ولا هدف له إلا هذا!!
    فاجأني هذا الكلام, فقلت:
    - لماذا؟! في المدينة العشرات مثله.. وأنا نفسي كمثال, ومع ذلك, علينا أن نعالج أمورنا دون هروب.. ومن المؤكد سنجد طريقاً ما.. ولن نموت إلا بقامة منصوبة كنخلة..
    تململ عيسى في جلسته قليلاً.. فهو فيما يبدو لي, لا يريد أن يسمع أي حديث يعيق مغادرة قريبهم لهذه المدينة, وبأي شكل.. فقال:
    - صديقك, كما رأيناه, وعشنا معه بعض الوقت, في وضع حرج,نخاف أن يتطور لما هو أسوأ.. نراه شارد الذهن دائماً, كأنما يعيش في عالم أخر غير عالمنا.. لا يشعرنا بأنه بيننا.. مؤكد هذه علة مرضية.. لماذا لا يحترم حضورنا إليه؟
    لم يشأ عيسى أن يفصح, عن ماهية هذا الوضع المحرج بأزيد من تلك الكلمات الغامضات.. لم يشأ الإفصاح بما هو أوضح ليشركني معه في التفكير, وتقييم الوضع.. فآثر أن يكون كلامه عاماً, غامضاً بعض الشيء.. إنهم لا يعرفون أنه يمثل الجانب الآخر من حياتي التي عادت ليَ.. و(أبو الدفاع) نفسه حينما يراني ويجدني في هذا البيت, سيصبح شخصاً أخر, بخلاف ما رأوه, إن كان الذي قيل صحيحاً..
    قلت وأنا أنهي هذا الحوار برقة ومودة:
    - ربنا يجيبو بالسلامة.. وبعدها كل شيء سهل..
    وصلت الرسالة الرقيقة إليهم فقال محمود:
    - أنت منهك بلا شك, وتحتاج لقسط من الراحة.. وعلينا ان نهيئ لك ذلك..
    افتقدتُ غرفتي الأليفة, دون جدال.. كم أنا في شوق إليها لو تعلمون.. لو فتحتم قلبي لوجدتموها هناك.. أتذكر أخر لحظة خرجتُ منها ولم أعد إليها بعدها.. (أبو الدفاع) قطعاً أنهكه غيابي المفاجئ. لا يعرف عني شيئاً.. ولا أنا نفسي أعرف, لماذا حدث لي ذلك.. زمن الغموض المريع.. والقسوة التي لا تشبه سلوكنا وخُلقنا.. هبط علينا خفاش ناقم, لا ندري من أين جاء؟!
    واصل محمود حديثه..
    - غرفتك جاهزة.. لكن أين المفتاح؟؟ هل معك؟؟ مفتاحها هو المفتاح الوحيد الذي أعتاد صديقك أن يأخذه معه, دون المفاتيح الأخرى!!
    أشعر أنني في حاجة إلى نوم عميق.. هذا ما أعرفه الآن.. آما المفتاح فلا أعرف عنه شيئاً.. فقدتُ ما أملك من الساعة التي فتح فيها كوبر أبوابه لي لأكون في أحشائه.. ربما المفتاح ضاع مع أشياء كثيرة ضاعت.. لقد ضاع عمري, فما قيمة ما يضيع من بعد ذلك؟!
    نظرتُ إلى محمود مبتسماً, وقلت:
    - الحمد لله أن الغرفة ظلت في مكانها موجودة, ولم تختف, كما اختفت أشياء كثيرة!! نكسر الباب..
    في هذه الأثناء جاءني عمر بظرف مغلق عليه عبارة (تسلم للأستاذ حين عودته), وقال:
    - (أبو الدفاع) قبل فترة إعطاني هذا الظرف, وطلب مني أن أسلمه لك لو عدت.. أخذتُ منه الظرف, دون أن أعلق..فقد بدا لي سلوكه غريباً.. ولكني لم أسأله, لماذا لا يسلمه هو إليك, وأنا الغريب الذي لا يعرفك, ووجودي هنا وجود عرضي؟! قد أكون اليوم موجوداً, وغداً بالقطع غير موجود.. ولكني الآن أجده على صواب.. أنا الموجود الساعة, كأنما فيه شيء لله.. فقد صدق توقعه.. قال لي أيضاً, إذا جاء ميعاد رحيلك, لأي سبب كان, ولم يحضر الأستاذ, فخذ الظرف وأحفظه معك, ولم يزد عن هذا الكلام..
    أخذتُ منه الظرف شاكراً, واتجهتُ إلى غرفتي التي قام محمود بكسر بابها المتهالك.. دخلتها.. ياإلهي!! هي نفسها التي تركتها بالأمس قبل كوبر في ذلك الصباح الذي أنهى كل شيء.. يقدح وميض الذاكرة إلى وهج مكتمل النور والإضاءة, كأني لم أغب عنها بالأمس البعيد.. رائحتها هي ذاتها, رائحة الأرض المرشوشة بالماء.. والرطوبة الطرية, هي ذاتها الرطوبة التي تخفف من نهارات الخرطوم القائظة.. والترتيب هو الترتيب الذي تركته, بفوضويته التي تتبعثر فيها الأشياء هنا وهناك..
    قيل أن (أبو الدفاع) كان يدخلها, ويجلس فيها الساعات الطوال.. يبدو أنه كان يجلس في مكان واحد لا يغيره.. ربما على تلك الطاولة التي تزدحم بكتب التاريخ.. ترك كل شيء كما هو, دون أن يحركه من مكانه, أو يعدل من ترتيبه,أو يعيد تنظيمه, كأنما كان يريد أن يستحضر وجودي, من خلال ذلك الوضع الذي تركتُ فيه هذا المكان..
    انعكس الحال الآن, فأنا أستلهم وجوده في ذات الغرفة, من خلال الوضع الذي تركه هو عليها.. إنه الوجود المتعاظم بالفقد.. الوجود الذي تتجسد فيه الذكريات مريرة وقاسية, لأيام خلت, ولن تعود.. إحساسي بالعمر الذي ينزوي ويتناقص, يخلف في أعماقي حالات من اليأس, لم أعرفها من قبل.. وكيف أعرفها وأنا المحب للدنيا؟.. الفرح الذي اعتلاني عندما غادرت كوبر, تلاشى الآن.. يبدو أن الأحزان ستظل مرافقة لنا كجلودنا التي لا نملك مُكنه الانسلاخ منها..
    آثر أقرباء (أبو الدفاع) تركي وحيداً, لأخذ قسطاً من الراحة.. كنتُ فعلاً في حاجة لأن أخلو إلى نفسي, وأفكر في مصيري القادم.. كيف سأواجه مقبلات الأيام, في ظل ظروفي الجديدة؟
    تمددتُ على ذات السرير, الذي كنت قد اعتدتُ عليه.. حتى عاداتنا البسيطة التلقائية, أضحت الآن تشكل منابع عميقة للذكريات.. كل شيء قديم حتى وان كان ########اً أصبح عندنا من الزمن الجميل.. تخيل, مجرد الإسترخاء على سرير كنتُ قد ألفته, يزحم وجدانك بدفقات متلاحقة من الحنين.. ويملأك بممارسات كنت تعتبرها عرضية, ومن الهوامش, فاذا بها تتدافع مرة واحدة, مؤكدة أنها كانت أصيلة ولها جذور فيك.. بل هي جزء من جوهر وجودك!!
    أخذتُ أعيد شريط حياتي التي مضت في كوبر.. ثورتي على وجبة من الوجبات.. حبسي الإنفرادي, مباريات كرة القدم, ومساءات الندوات والغناء والمرح.. ثم الزيارة المشهورة, والمأمور, وتبدل الحال, والحرمان من أبسط ما يحفظ للإنسان أدميته.. الحفرة التي تحولت إلى مستنقع.. مباني السجن الجديد.. مجموعة بعوضه.. طلوع الروح الذي يتزامن مع طلوع الفجر.. رحيل الفتى مساعد, وموت الآخرين, الذي لم يحرك ساكناً, في بلد حسبت أن الصيحة قد أدركته..
    بحثتُ عن النوم, فلم أجده, رغم أنه كان يداعبني منذ لحظات.. عندما تهيأتُ له, تلاشى وضاع, كما ضاعت أشياء جميلة من النفس والروح.. تذكرتُ الظرف, فأصبحت يقظاً, كامل النشاط والقوة..
    فتحتُه.. وجدتُ داخله كراسة ذات غلاف أحمر.. اعتدلتُ في جلستي.. فتحتُها..جاءتني صفحتها الأولى تتصدر شعراً لصلاح أحمد إبراهيم..
    يا ذكيَّ العود بالمطرقة الصماء والفأس تشظى
    وبنيران لها ألف لسان تتلظى
    ضع على ضوئك في الناس اصطباراً ومآثر
    مثلما ضوَّع في الأهوال صبراً آل ياسر
    فلئن كنت كما أنت عبق, فاحترق!!
    ....
    يا منايا حوَّمي حول الحمى واستعرضينا وأصطفي
    كل سمح النفس, بسام العشياتِ الوفي
    الحليم, العف, كالأنسام روحاً وعطايا
    فإذا لاقاكِ بالباب بشوشاً وحفي
    بضمير ككتاب الله طاهر
    أنشبي الأظفار في أك########ِ واختطفي
    وأمان الله منا يا منايا
    كلما اشتقتِ لميمون المُحيا ذي البشائر
    شرفي
    تجدينا مثلاً في الناس سائر
    نقهر الموت حياةً ومصائرْ
    شدني الشعر الجميل.. وأنا أعلم حب (أبو الدفاع) لصلاح, وهيامه بشعره ونثره, ومعاركه السياسية, وجسارته في أن يقف فرداً في الساحة شامخاً.. كان أمة وحده!!..
    وفي الصفحة التالية وجدتُه يناجيني في حزن عميق.. شعرتُ كأنما يرثيني.. أخذ يتمثل روحي, ويدير حواراً بيننا, هو أشبه بدنياه الداخلية بكل ما يعتمل فيها, دون تحفظ.. كتب:
    اختفيت يا صديقي فجأة, وبلا مقدمات تستدعي ذلك.. ودون أسباب.. سألت عنك طوب الأرض, لأعرف مكانك, ولكن كانت كل محاولاتي تنتهي إلى شيء غامض, ثم أكثر غموضاً..صرتُ كمن هو في رمال متحركة.. كل محاولة وحركة للخروج والنجاة, تعيدني جذباً إلى أسفل.. تمردتُ وثرتُ ولعنتُ, فاتهمت في إخلاصي ووطنيتي, وانتهى بي الأمر إلى الشارع.. وجدتُ الشارع يكتظ بالكُثر مثلي.. هناك أمر خطأ!! شيء غير طبيعي هبط علينا كدخان بركاني كثيف, فحجب عنا الرؤيا.. تناولني اليأس, كما تناول الملايين.. ورغم ذلك ظلْتُ على يقين بعودتك يوماً, لتدخل هذه الغرفة, وتجلس في هذا المكان..
    بدأ الفراغ مع الفاقة والإهمال, يقودني, لأغوص في ذكرياتي متأملاً وناقماً.. تذكرتُ قريبك فرحات.. ذلك الرجل المُبهج العاشق للتاريخ وقصصه.. إنه يملأ عليَّ الآن هذه الغرفة.. أكاد ألمسه, وأراه رؤية العين, في ذلك الركن الذي اعتاد أن يأخذ موقعه فيه, جاذباً كرسي الخيزران بحركة سريعة, وهو لا يكف عن الحديث, حتى يجلس عليه.. ويصيح بعدها وقد أنهى حديثه بسؤال أطلقه في الهواء..
    أتذكر ذلك يا صديقي؟ أظنك لا تنسى تلك المشاهد.. وقريبك فرحات شخصية لا تنسى.. يتمتع بشباب دائم, رغم سنواته المدبرة التي تركت أثرها على سحنته.. رجل حكاء ممتع.. أتذْكُر؟! لقد قلتُ لك يوماً, أن فرحات هذا كان مشروع قاصّ متمكن من أدواته, لو فطن إلى موهبته التي نسيها, فنسيته..
    في غمرة تداعي أحزاني, سطع فرحات يحكي لنا مغامرات شبابه عندما بُعث إلى الإتحاد السوفيتي.. له ملكة مؤثرة في التشويق, ونسج الحكاية, واختيار الكلمات التي لا تبرحك, حتى تترك أثرها فيك, وتفعل في أحاسيسك الأفاعيل التي رمى إليها.. يومها تركنا شواغلنا وجلسنا نستمع.. لعلك الآن تذكرت فتاة قطار محطة موسكو..أخالك ترد علىَّ: وهل هي تنسى؟!.. فرحات ذهب من الخرطوم إلى هناك.. فقير من كل شيء إلا من فحولته, وشيء من الدريهمات الأمريكية.. وبعد أن جاس خلال الديار, وعرف مظانها, تنفس في داخله قريبه مصطفى سعيد.. ولكنه على خلافه, جاء غازياً بحُب.. لا حقد يضمره لهذه الديار, إذ لم تورثه ضغينة, ليحقد وينتقم.. هذا البياض الثلجي, حرك فيه نوازع جده عمر بن أبي ربيعه, فأخذ ينشد:
    سلام عليها إن أرادت سلامنا

    وإن، لم ترد فالسلام على أخرى

    جاء إلى محطة القطار, قاصداً أصدقاءه في مدينة تبعد عن موسكو مسافة تستغرق إثنتى عشرة ساعة.. صحب معه حقيبة محمَّلة بأنواع خمور شتى.. وجد قمرته, ووضع أشياءه, ثم ترجل ثانية من القطار, ووقف على الرصيف, يرقب تصرفات الناس, وتحركاتهم.. له فهم خاص في دراسة البشر.. إنه يعتقد أن محطات القطارات, من الأماكن التي تتيح لك معرفة شعب معين, والإلمام بثقافته..
    رغم زحمة المحطة, وكثرة روادها, إلا أن بصره وقع عليها هي وحدها.. وركز عليها بعين صقر.. قامة متمددة, وصدر طافح كالمياه العميقة, ووجه كالبدر المكتمل, سبحان المبدع.. وشعر بني غامق قليلاً, تركته مضفوراً في خصلة واحدة, ملفوفة عدة لفات حول الرأس كالتاج.. يسير إلى جانبها ضابط مهيب جميل المُحيا, يحمل حقيبة.. الرصيف طويل, وهو يتابعهما منذ أن دخلا المحطة, وحركة سيرهما تتجه إليه.. قال في نفسه, هل تبتسم أيامي يوماً, ويكون لي مثل هذا الفرس الجموح؟! مجرد إحساس داعبه لهنيهة ثم توارى..
    أمام عربته وقفا.. دار بينهما حديث لبعض الوقت, ثم ودعها بقبلة سريعة وقفل راجعاً من حيث أتى.. فأخذت هي الحقيبة, ودخلت العربة تبحث عن مكانها.. وعينا الصقر يتابعان, بحرص وحذر.. وقفت أمام قمرته, تراجع تذكرتها, ويا للمفاجأة, حين فتحت الباب ودخلت!! خفق قلبه سريعاً, حتى كاد يقفز من صدره.. أي قدر تخبئه هذه الليلة.. فالقمرة مخصصة لشخصين فقط..
    تحرك القطار في الثامنة مساءً. في مواعيده المحددة.. ركب عند تحركه, وظل مراقباً من النافذة, ليتأكد أن الضابط لن يركب القطار, ليتمتع بوهمه الذي حركه خياله المبدع.. ظل شاخصاً في مكان مراقبته, حتى إختفى الرصيف تماماً, واعتدل القطار في سرعته.. بعدها أخذ نفساً عميقاً, ودخل القمرة في إطمئنان.. وبلغة روسية متقنة سلم وجلس..
    في هذه الأثناء, دخلت المرأة المفتش, لتراجع الركاب وتذاكرهم.. وبعد أن إطمأنت على صحة الوضع. وضحت بعض التعليمات والإرشادات, والطريقة التي تتم بها الطلبات من البوفيه..
    كانت المفتشة امرأة في الخمسين تقريباً, ممتلئة, ذات وجه صبوح ضاحك, بعيدة عن أية صرامة معهودة في من هم في مهنتها.. استقبلها فرحات بمرحه المعهود, ثم ألهمه خياله إلى كرمه الشرقي, فأوقفها وفتح حقيبته المشحونة بالوسكي والكنياك والجن والفودكا والبولص.. وقصد أن يكون هذا الاستعراض أمام رفيقته التي شكَّلها إلى حورية في وهمه وخياله.. فأعطى المفتشة قنينة شيفاز تلهب الرغبات..
    شاهدت الحورية الاستعراض, ثم تحركت للحمام الملحق بالقمرة لبعض شؤونها.. وحينما أصبح لوحده مع المفتشة, همست له بخبث ضاحكه (هذه ليلة فريدة فلا تفلت منك) إنها من أهلها وتدعونني إلى مائدة شهية, كأنما تقف على جوع من يأتون من خط الاستواء أمثالي.. وإنني في مثل هذه الموائد لقوي جوَّال.. هكذا حدثته نفسه.. وانتظر قدومها, بعد أن أصبحا لوحدهما في القمرة, والليل يقبل عليهما بأجنحة الستر والخصوصية..
    جاءت الحورية ترتدي قميصاً واسعاً بعض الشيء.. آه!! لقد استبدلت ملابسها التي كانت عليها, إستعداداً لليل القطار الذي يطول.. طفق فرحات يتابعها بعيني صقر, ولكن, بطريقة يتظاهر فيها, بأنه مشغول ببعض أموره.. بيد أني أظن, إنها بإحساس المرأة الغريزي قد كشفته.. فهو غير مستور الحال مع النساء..
    من خلال متابعاته المتلصصة, تأكد أنها ذات جسم ممتلئ باتزان, يعجب ذوقه العربي الإفريقي.. فكانت حركاتها العفوية, تبرز تلك المفاتن المختبئة, عند ملامستها لقميصها الوردي..
    أسعفه خياله في أن يبدو كريماً.. فلِمَ لا؟! فقد رأته يعطي المفتشة قارورة شيفاز, لها مدلولها لدى هؤلاء القوم.. قال:
    - آنستي, أريد أن أطلب عشاءً, فهل تأذني بأن أطلب لك معي؟؟
    لعله مدخل موفق!! قالت ووجه البدر تكسوه إبتسامة, هطلت مطراً في أعماقه الإستوائية:
    - أولاً أنا سيدة.. وثانياً, لدينا عشاء, فلا داعي للطلب..
    بدأ الحوار يفتح منافذ الأسباب, فأناخ بعيره وتوكل.. قال:
    - معنى ذلك اطلب عشاءً لنفسي فقط..
    قالت, وابتسامتها لا تزال مرسومة على الثغر الذي يقطرُ شهداً:
    - لا... عشاؤك معي!!
    يا إلهي.. ما هذه المصادفات الطيبات؟؟ إنها إقامة ستطول.. قال:
    - وأنا سأقدم ما عندي..
    سحب حقيبته.. فتحها من الحد للحد, فظهرت الأحشاء الغنية بكل نوع ولون.. انتشت أوهامه وربت, فأنشد بصوت مسموع, بيتاً من شعر المتنبئ عاكساً كلمة قافيته:
    (إذا أردت كُميت اللون صافية

    وجدتها وحبيب النفس موجود)

    إندهشت لهذه اللغة التي لا تعرفها, ولم تسمعها من قبل.. ربما من وهلتها الأولى التي رأته فيها, اعتبرته زنجياً أمريكياً.. أما وقد جاء بلغة جديدة عليها, فإن هذا ما يثير الفضول.. فمن أي بلد هو؟!
    أخرج قارورة (البولص) وقدمها إليها.. فقد عرَّفته الأيام في موسكو أن هذا النوع, له سحره عند الفتيات.. ومفعوله عظيم الرجاء.. إتسعت إبتسامتها وبدت عليها سعادة حملتها إلى أودية أندلسية.. أما هو فقد أخرج زجاجة (نابليون) وقال لها ضاحكاً:
    - إني أفضل هذا النوع..
    ثم شرح لها أسباب تفضيله لهذا (الكُنياك).. إنه يماثل إلى حد كبير عرقي البلح, الذي كان يحرص على جلْبه من قريته في الشمالية.. وأفاض بأنه يفتح الشهية ولا يورث الخمول في اليوم التالي..
    سألته بعد أن حسـت كأسها الأولى:
    - من أي بلد أنت؟
    لايهم يا سيدتي من أي بلاد الدنيا أنا.. فالمهم عندي أن يكون (البولص) عظيماً في هذه الليلة, كما عهدته في ليالٍ خلت.. أجابها بعد أن حسا كأسين متتابعين:
    - أنا يا سيدتي من بلد اسمه السودان.. هل سمعتِ به؟
    أجابت ضاحكة:
    - لا.. في أي مكان.. في أي قارة؟
    كما هو الغالب المرجح.. بلد مجهول, وأناس مجهولون.. لا يهم!! ولكنها ستعرفني إن صدقت أوهامي.. قال:
    - بلد في قارة أفريقيا, وجزء من العالم العربي في هذه القارة..
    قالت جادة:
    - سمعت بأسماء قادة مثل عبد الناصر ونكروما ونايريري ولوممبا.. إنني آسفة على ضحالة معلوماتي, وثقافتي المتواضعة..
    لا يهم عندي.. والمهم أن يطول الحوار, وأنال المراد.. ويكفيني فخراً أنني كنت الفارس الذي عرَّفك بأن في الدنيا بلداً اسمه السودان.. قالت في رقة ظاهرة:
    - اسمي أولجا..
    - اسمي فرحات..
    - لكن ألاحظ أنك تتكلم لغتنا بطلاقة..
    السبب للبارقات البيض, في لون ثلج سيبريا.. والتواقات لشمس استوائية متلهفة.. قال:
    - درست لغتكم في الجامعة, وجوَّدتها عندما قدمت إلى بلدكم.. أنها لغة تلستوى ودستوفسكي والشاعر العظيم فلاديمير مايكوفسكي.. إن اللغة الروسية لغة جميلة لمن ينفذ إلى روحها..
    حرصتُ في هذه اللحظة أن أبيع ثقافتي إليها, فأنشدت:
    ومحدثو النعمة والتجار
    يغيرَّون طابع المدينة
    بأوجه عابسة مهددة
    وفي الشفاه
    ينحل جسم الكلمات الميته
    لم تبق إلا كلمتان تسمنان
    إحداهما (الآوغاد)!
    وأختها الأخرى أظنها (الحساء)
    صاحت من الفرح:
    - هذا مايكوفسكي العظيم.. أنها قصيدته الرباعية (غيمة ترتدي بنطلوناً) أنت جميل!!
    أعجبها قولي وإنشادي فانتشت.. لعلي كنتُ موفقاً في (البولص) وشعر مايكوفسكي.. فأخذتُ أحدثها عن هذا الشاعر العملاق, حينما ظهر لي عشقها له.. فاستدعيت حديث صديقي (عبد الرحيم أبو ذكرى)عنه فقلت:
    - أنه مثقف غير هياب, شجاع وصادق وصاحب مبادئ وقيمَّ.. هاجم النخبة وهاجم الحُب السلعة.. هاجم الطواغيت والفن القديم.. وتحدى متطاولاً على جوته وتلستوي وبوشكين..
    تألق وجهها البدري, لحديث هذا الزنجي الذي هب عليها بريحه الاستوائية الدافئة.. وكانا قد قطعا شوطاً في إحتساء كُميت اللون.. وبفضلها إنطلق لسانها وازدادت ألفة به.. وفجأة انتبهت من بين حديثها إلى صمته وعينيه المغلقتين.. فحسبته نائماً فقالت:
    - هل نمت؟!
    رد من فوره:
    - لا!!
    ثم ضاحكاً:
    - وكيف أنام؟!
    قالت:
    - لماذا إذن أغلقت عينيك, وسرحت مع أحلامك؟!
    قال:
    - أإذا صدقتك القول ألا تغضبين؟
    قالت:
    - نعم... ولِمَ أغضب؟!
    قال:
    - كانت ظلمة عينيَّ مضيئة ومبهرة.. فقد جردك خيالي الشقي من ثيابك تماماً, ورآك كما يشتهي!!
    ابتسمت في دلال ظاهر.. فقد أدى (البولص) دوره المنتظر, وشاركه (نابليون) في هذا الاحتفال الذي ظهرت طلائعه..
    قامت الفارعة الشامخة, كشجرة مليئة الثمار, بعد أن أفرغت كأسها في رشفة متآنية متمهلة, وغابت في الحمام الملحق بالقمرة بعض الوقت, ثم طلَّت!!
    سبحان الذي أبدع كل شيء خلقه.. إنه واقع أكثر كثافة وحضوراً, من خيال فرحات الجامح في المستحيلات.. أيعقل ما يرى بعيني رأسه, أم هي رؤى مستحيلة إبتدعها (نابليون) بسحره الجميل؟!
    جاءته كما فعل خياله الشقي.. البياض الثلجي, كما فطره أحسن الخالقين.. أزاحت تاج ضفيرة الشعر الكثيف, التي كانت ملفوفة حول الرأس, وجعلتها تنسدل نازلة في خصلتين كبيرتين من الأمام ومن الخلف, فستر الشعر البني المحروق, سر الأسرار!!
    قالت في وهج يضيء كونه:
    - أهكذا يراني خيالك؟!
    ألجمته المفاجأة..فأخذ يتملى في هذه التحفة الإلهية!! فقال:
    - أنت أعظم من خيالي الشقي.. فقد كان عاجزاً عن أن يصل إلى هذا الثراء الأكثر عمقاً.. لأول مرة في حياتي أقف على واقع تفوق الحقيقة فيه الخيال.. ولو سمعت لأنكرت!! ولكني أشهد بما رأيت!!
    فأخذ ينشد:
    الثلج في السهوب
    الوقت ليل والسكون يمسك الخطى
    ويخلب الألباب
    وفي دخيلتى شيء يقول:
    لا تمش! قف بلا حراك!
    أقبلت عليه, وكل خلجة من جسدها تهتز.. فقبلته قبلة طويلة, ثم قالت وهي تتعلق بكتفيه:
    - إنك يا صُدفتي الجميلة, تنشد مطلع قصيدة (في الساعة الخامسة والعشرين) لشاعرنا (ايجور إيسايف), ما أعظمك!!
    إنك أنت الكاملة عقلاً وروحاً وجسداً.. أنت صُدفتي النادرة.. فأي حظ هذا الذي وهبتني له السماء, في هذه الليلة؟ ومن يصدقني؟ سيرمونني بالكذب واللعنة.. ومهما أقسمت, فلن أكون في نظر قومي إلا مخادعاً مخاتلاً.. لا يهم, فأنا من الشرق الذي يعيش على الخيال, والقص الخرافي.. وهذه ليلة من ألف ليلة وليلة.. أعيشها حتى الثُمالة.. فقد أتينا معاً في هذه الليلة من ليالي السحر الشرقي, على زجاجتي (بولص) و (نابليون), فازددنا ألقاً.. وانصهرت ثلوج سبيريا البيضاء بالشموس الإستوائية, فسالت أودية راببة.. وابتهج معنا الكرى, فكان كريماً في وداعه حتى لا يثقل علينا, فاحترمناه.. وتضرَّعنا للشمس ألاَّ تعود.. وللقطار ألاَّ يصل.. تجسد الزمن كله في هذه الأمسية السحرية, فنسينا العالم إلا أن نكون معاً, كتله من اللذاذات, وسر الوجود..
    حين وصل القطار إلى محطة ليننقراد, وهي محطتها النهائية, كانت الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي, ولا يزال العناق مستمراً, لكن آن له أن يكف.. توادعا على آمل اللقاء.. وعلى الرصيف قابل المفتشة, فابتسما لبعضهما ابتسامة ذات معنى.. ومن بعد تلك الليلة الليلاء ظل فرحات يبحث عن أولجا, حتى جاء إلى الخرطوم.. ولكن هيهات!!
    هذا يا صديقي قريبك فرحات, وحكاية من حكاياته. أتذْكُر؟ لقد ظل يحكيها لنا مراراً ودون أن نمل, وبسرد يتلوَّن, وطرق تتداخل, ولكنها في كل مره تظل جديدة وممتعة.. إنه شيق الحديث, ممتع الكلم, وفير الخيال, متعدد المنابع.. واسع الثقافة.. ومع ذلك فإن الحياة عنده ضحكة كبيرة, أكذوبة يسخر منها كما هي تسخر منه.. ومهما كان, فإن الفرح لا يفارقه.. ألا يسمى فرحات؟!
    ولا أدري يا صديقي لماذا أخترتُ هذه الحكاية لأدونها في هذه الكراسة دون حكاياه الأخرى ومغامراته؟ أهي جاءت هكذا, عفو الخاطر؟ أم أن منطقاً قدرياً ساقني, ليكون التدوين مقارنة بين خطاياه, وفسوق من هبط علينا كدخان بركاني ثقيل الضباب؟
    تشاء الأقدار أيضاً, أن يكون فرحات هو جسم التجربة التي تبرز حجم الفجور عند المقارنة..
    ففي يوم من أيام غيبتك الغامضة, جاءني فرحات محمولاً, محطم الجسد والروح.. هدته السنون, كأنما تضاعف عمره فجأة, وفي غفلة منا جميعاً.. وضح لي أن المرض نال منه وتمكن.. يغيب لحظات في غيبوبة متقطعة, ثم يفيق.. أجريتُ له الفحوصات اللازمة, وأخذته سريعاً إلى الطبيب.. قال إنه في مرحلة أخيرة من قرحة انفجرت, فسممت الجسم, وأحدثت هذا التورم في البطن, وبقية الأعضاء..
    حدثني فرحات عندما جاءني, وبصوت واهن, بأنه قد فُرض عليهم في الوزارة, هو وأمثاله من كبار السن, الدخول في تجمعات تدريب عسكرية قاسية.. لأن أهالي هذا البلد في نظرهم قد اعتادوا على الراحة والدعة, والروتين اليومي الممل, دون أدنى إحساس بالمسؤولية.. ومن ثم فلا بد من التربية من جديد.. قال بأنهم كانوا يصحون من النجمة, ويقفون في طوابير, تعقبها تدريبات حركية بالغة المشقة, وتحت شمس لا ترحم.. لقد سقط مرات عدة, وسقط غيره كثيرون, ولكن الرحمة غابت وتوارت، فلم يشاهدها في هذه المعسكرات المجنونة.. غابت عن الصغير والكبير.. كانت الحشود من جهات شتى, وألوان مختلفة من البشر, وأعمار متباينة. مراكز إدارية, قيادية ووسيطة وقاعدية.. إنه الإذلال بعينه.. وكسْر النفس.. والمحاربة في الأرزاق.. من ماتت كرامته فليظْل, ومن نبضت في جوفه فلْيذهب.. صحته لم تمهله فرصة ليعيد تقييم ما يحدث,فسقط مبكراً, كما تهدم وأنهار كثيرون.. تركوه أياماً على مرضه.. وعندما قرر أن يأتي إلى َّ, ظن أنه هرب منهم, ولكن واقع الحال, هم عرفوا بأنه يتسلل, فتركوه.. لقد أخذوا منه ما تبقى من عافيته وتركوه حطاماً.. من أي بقعة فيك يا سودان الأجداد, جاءوا؟!!
    دخل فرحات في غيبوبة طويلة لم يفق منها, فذهب.. من هذا البيت حُمل نعشه.. كان الموكب الصامت الحزين, تضج أعماقه بشيء مجهول غامض.. وابتلعت الأنفس الهمسات..ولكن صدى الأفق جاء يضرب أعماقنا ويصيح:
    مات هملة..............مات سمبلة..............
    شعرت أنهم أكرموني حين طردوني.. من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته.. غيابك يا صديقي ضاعف حزني على فرحات, وضخم من هوان نفسي.. لعلنا كنا نتقوى ببعضنا البعض.. أصبحت دمعتي قريبة جداً.. تسيل لأي ذكرى في أغنية أو حديث, أو فلم أو قصيدة أو كتاب أعدتُ قراءته.. غرفتك هذه ظلت عندي وستظل منبع الذاكرة لأزمنة خلت.. أعيش فيها الرجاء والوهم واسترجاع العمر المستحيل.. لا بد أن يكون لي رفيق أتوكأ عليه.. فأضحت غرفتك رفيقي الذي أتوهمه, وأستند عليه..
    تفاقمت غبينتي بعد موت فرحات.. إشتد إحساسي بالظلم.. أبناء عمومتي: محمود وعيسى وعمر, جاءوا عندما علموا بحالي.. حاولوا بكل الطرق ترحالي من هذه المدينة, ولكنهم فشلوا. صبروا عليًَّ, ولا يزالون.. إنني أشفق عليهم, وأقدر سعيهم.. مُريح أن يجد الإنسان, في هذا الزمن من يهتم بأمره.. طلبتهم أن يعودوا من حيث أتوا, ولكنهم أصروا, بأن عودتهم لن تتم إلا وأنا معهم.. هذا هو المستحيل عينه. إنني أتعذب.. لا أريد أن يعاني شخص بسببي..
    قابلني يوماً أحد الأشخاص, وعرَّفني بنفسه.. وقال إنه صديق لفرحات.. صداقة توطَّدت أيام بعثته في الإتحاد السوفيتي.. إنه شارك في جنازته التي خرجت من بيتنا. وقال بأنه يعرفك أيضاً.. وأنك في الحبس الانفرادي وهذا ما ترجحه مصادرهم.. طلب مني أمراً زلزل كياني.. يريدني أن أنضم لمنظمة سرية.. لعله وجد فيَّ صيداً سميناً!! عرض أن أكون واحداً من خليتهم.. قال: (لن تُكلف بأعمال ثورية قتالية.. ولكنك ستكون ضمن مجموعة طبية تقدم المساعدات والخدمات المطلوبة لمرضى ومصابي المنظمة السرية, وللناس أيضاً.. وسيكون عمل المجموعة في النور والعلن.. وكن على ثقة, إنك في مأمن من كل مكروه..) واضح من حديث هذا الشخص الذي قال لي اسمه, ولم يعلق بذهني, أنهم يدرسون الشخصية من خلال مراقبة دقيقة تستمر زمناً.. فالاختيار في غاية الدقة والحرفية.. وواضح أيضاً, إنني كنتُ صيداً سميناً بالفعل.. دار في داخلي حوار باطني سريع, إنتهى في ختامه بالقبول.. ربما بهذا أجد نفسي التي ضاعت.. لم أغير من سلوكي.. ولم أخبر أحداً من بني عمومتي الذين قطعوا الفيافي من أجلي, ولا أياً من أصدقائي.. آثرتُ أن يبقى أمري سراً.. وحتى الخدمة المطلوبة مني في العلن, لم أشأ أن تكون علنية, ولكن في سترمستور.. فأضحت في الخفاء, لم أعلنها صراحة إلا في هذه الكراسة لك.. إنها تجربة جديدة.. ربما لها سحر ما.. من يدري؟! ولعلي أعي بما يدور حولي!!
    لم يكن قبولي سهلاً, رغم أن ذلك الشخص قد أخذ موافقتي المبدئية, لكن طلبت منه أن يمهلني وقتاً, وقد كان.. استعرضتُ حياتي: غيابك والاختفاء المفاجئ, وتشريدي المهين, وعذاب فرحات ومرضه ثم موته.. ومحاربتي بعد طردي.. أشياء لا أجد فيها أي منطق.. من نحن؟ وكيف صرنا؟ وإلى أين نسير؟ الدخان البركاني الضبابي ملأ ساحة وجودي.. وساحة من هم أمثالي وغيرنا.. تركنا الفعل في الحياة. وأصبحنا نتفرج عليها.. آثرنا أن تلعب بنا في أمواجها العالية.. إننا هالكون لا محالة, إن فقدنا القدرة على الحركة والفعل.. هل الدخان ترك لنا خياراً, ام حصرنا في سرداب مظلم؟..
    جادلتُ نفسي.. فقبلت...
    .............................

                  

العنوان الكاتب Date
المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:51 AM
  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:55 AM
    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:58 AM
      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 10:59 AM
        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:01 AM
          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-07-10, 11:04 AM
            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-08-10, 05:57 PM
              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-09-10, 12:30 PM
                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-10-10, 12:03 PM
                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-13-10, 12:07 PM
                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-14-10, 09:45 AM
                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-16-10, 02:56 PM
                        Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-17-10, 12:04 PM
                          Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-19-10, 10:53 AM
                            Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-20-10, 11:17 AM
                              Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:37 AM
                                Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:40 AM
                                  Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 08:54 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin10-21-10, 09:03 AM
                                    Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-04-10, 07:43 AM
                                      Re: المكتبة السودانية:رواية....ثلوج على شمس الخرطوم...الحسن محمد سعيد adil amin11-24-10, 09:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de