القطر.... القطر ... !!

Quote: استوعبت هذه الشركات الكثير من الأيادي العاملة المحلية من الرجال والنساء ولأن الماكينات كانت تدار بواسطة ( البخار ) قبل ظهور الديزل فقد اقتضى ذلك استعمال الخشب الأمر الذي هيا المزيد من فرص العمل للمواطنين في المدينة والقرى المجاورة , في بادئ الأمر كان الأجانب يسيطرون على كل مظاهر الحياة المدنية , وكان المواطنون يظهرون وكأنهم غرباء مغتربون في هذه المنطقة يؤدون عملهم ويلوذون بمساكنهم العشوائية ويمارسون طقوس حياتهم الخاصة , ولكنهم بمرور الشهور والسنين وباختلاطهم مع غيرهم في مجالات العمل ومعاملات السوق , استطاعوا أن يزيلوا الحاجز النفسي وينافسون الأجانب في بعض الأعمال التجارية وأخذت أحوالهم في التحسن وظهرت أحياء (الجالوص) للسكن الخاص وللأجرة وتكدست الأسر في مساحات المنازل التي لا تزيد عن مائتي متر بالرغم من مناخ المنطقة الجافة وسمومه اللافحة وعقاربه ( المجنحة ). كان الكادحون المتعبون يجدون قدرا وافرا من الحريات لممارسة رفاهيتهم في مجالاتها المتعددة , لذلك كانت الأمسيات في المدينة كلها صخب وضجيج ولكن السلطات كانت تلجأ إلى حظر التجول عند ساعة معينة في المساء لكي يلزم الكادحون منازلهم بعدها , يخلدون إلى النوم مبكرين ويصحون مبكرين عند الفجر , حيث تنطلق صفارة الورش معلنة بدء يوم جديد للعمل . وكان العمل مجهدا والنقود عزيزة لا يحصل عليها الكادحون إلا نهاية الشهر وكانوا يحصلون على احتياجات معيشتهم من التاجر وغيره ( بالجرورة ) ويجرى الدفع يوم ( الماهية ) وقد نتج عن هذا الأسلوب الضروري في التعامل بين المشتري والبائع ارتباط في المصالح بين السكان أدى إلى التعارف والتآلف والتكامل بين قطاعات السكان , كانت المقاهي والمطاعم وغيرها من اماكن السوق تشكل شبه أندية يلتقي عندها المواطنون. أنشأت السلطات عددا من خلاوي القرآن للأطفال و زودتها بألواح وأقلام الأردواز, وبعض أدوات التعليم كمبادئ الحساب وكانت تدفع مرتبات لشيخ الخلوة وتهتم بصحة الأطفال وتجري عليهم كشفا صحيا دوريا , وفي حوالي العام 1910 أنشأت السكة الحديد أول مدرسة أولية بأراضي السكة الحديد وإلى جوارها مدرسة وسطى تقاسمتها مع مدينة بربر وكان التلاميذ يتخرجون بمستويات معقولة فيجدون فرص العمل المناسبة , وكانت السكة الحديد تستوعب معظم خريجي المدرسة الولية الذين يطلبون العمل وتعينهم في وظائف ( مساحين ) و( مراسلات ) و( محولجية ). أما من كان يرغب بعد إكمال دراسته الوسطى فقد كان يقبل فورا موظفا بمكاتب المصلحة ليتدرج في سلك الخدمة المعاشية. ونظرا لحاجة البلاد والسكة الحديد على الأخص إلى عمال صناعيين محليين للعمل في الورش , أنشأت السلطات مدرسة صناعية بمدينة كسلا في العام 1902 التحق بها في بادي الأمر عدد من أبناء السر الأجنبية وعندما اتسع التعليم جرى نقلها في العام 1912 إلى مباني كلية غردون ( جامعة الخرطوم الآن ) لتستوعب عددا أكبر من التلاميذ , ونظرا لحاجة السكة الحديد المستمرة إلى خريجي هذه المدرسة جرى نقلها إلى أتبرا عام 1924 فأقامت لها السكة الحديد ورشة مكتملة للتدريب الصناعي واختارت لها معلمين أكفاء تحت إشراف مدير بريطاني وخصصت للتلاميذ داخلية رحبة وبدأت قبول دفعات سنوية من تلاميذ المدارس الوسطى يصل عدد الدفعة إلى 40 طالبا وكان يجرى اختيار التلاميذ من أبناء المديريات الأخرى ثم تخضعهم لامتحان تحريري واختبارات شفهية وعلمية لمعرفة مستوى الذكاء وقوة الملاحظة , وتهتم بمتانة الجسم وطول القامة ثم تأخذ ما تحتاجه ثم تبدأ في تدريبهم الصناعي ,ويعيش التلاميذ في ( الداخليات ) على نفقة السكة الحديد ويخضعون لنظام صارم شبه عسكري , وكانوا يعيشون في مستوى واحد ويلبسون زيا واحدا للورشة وللداخلية ولا يتحركون بين الورش والداخلية إلا في طابور , وكان ابسط إخلال بالنظام أو السلوك أو المظهر يعرض التلميذ ( للجلد ) أمام الطابور وأحيانا الفصل وأما من يضبط وهو يدخن فإنه يعاد إلى أهله فورا. كانت إدارة السكة الحديد تستوعب في ورشها قليلا من مدرسة النجارة في العاصمة , وقبلت السكة الحديد في ورشها في ( أتبرا ) أبناء أمراء المهدية وأقاربهم الذين أخذوا أسرى وأرسلوا إلى معسكر خارج الحدود وتلقوا في الأسر تدريبا صناعيا وأعيدوا للسودان بعد استقرار الأوضاع وأفردت لهم السكة الحديد سكنا خاصا بأتبرا عرف فيما بعد ( بحي التعايشة ) بأراضي السكة الحديد. أصبح أبناء أمراء العهد السياسي السابق وأقاربهم وأضيف غليهم فيما بعد أبناء السلطان ( علي دينار ) أصبحوا عمالا عاديين في مجتمع السكة الحديد وانحصرت جاذبيتهم بين نفر قليل من الأتباع وبقية المحاربين القدماء المعاقين الذين تألفت منهم فرقة ( بلوك حفيان ) والتي تشكلت لحراسة ممتلكات السكة الحديد ومنازل مستخدميها , كان اثر هؤلاء وأولئك في حياة المدينة محدودا . وسط ذلك التيار ( الروحي الرسمي ) الذي ناصر قوات الاحتلال وتوجته السلطات بتلك المكاوية السحرية المزركشة والفريدة التي جادت بها عبقرية الجنرال ( ونجت ) ووفرت لها السلطات الدعم اللازم في كل الوجوه لتصل فعاليتها حدها الأقصى في مباركة السلطة. كان العمل قيمة مقدسة رغم مشقته خاصة في الورش , لكن روح تحدي الصعاب التي تحلى بها عمال السكة الحديد ومتعة المشاركة في إنجاز العمل بما يكتنفه من مخاطر ومفارقات ظريفة – كل ذلك كان يشد العمال إلى مجتمع العمل ويكسبهم المهارة والخبرة بالتكرار في أداء عمل معين , ولكن الظاهرة الملفتة للنظر أن العمال في الغالب الأعم بمجرد ما يفارقون ساحات العمل كانت تحاصرهم ثقافاتهم السلبية القديمة وتشدهم إلى نمط حياتهم التقليدي الموروث. كان من الصعب على العامل أن يعطي تفسيرا علميا لمظاهر عمله التي حفظها بالتكرار ولم يستوعب دورها وعلاقاتها العضوية ببقية الأعمال . كان العامل الوطني يؤدي ما عليه في فترة الدوام ثم ينصرف إلى نوع حياته الاجتماعية الذي اعتاد عليه والذي لا يشجع على التفكير والتساؤل عما يدور ؟ بما يفسح المجال للتجديد والابتكار , ولكن الإدارة وبدوافع اقتصادية بحتة احتضنت المدرسة الصناعية للحصول على أولئك الصناعيين المحليين المؤهلين الذين يغنوها عن الصناعيين الأجانب المكلفين. وتسرب أولئك التلاميذ الصناعيين بالتدريج إلى داخل الورش يؤثر ايجابيا في مناخ العمل من حيث الأداء الذي يبلغ مستوى الأجانب في المهارة , ويرفع معنويات بقية العمال ويحفزهم على محاولة تحسين ادائهم وتطوير مستوياتهم.واستطاع خريجو الصناعية أن يسدوا النقص الذي نتج عن تخلي اعداد من الفنيين الأوربيين عن العمل وعودتهم إلى بلادهم.