توثيق :جامعة أمدرمان الاهليه : منارة علم وقلعة صمود

Quote: لهم ديناً علينا -2 - الأستاذ حسن سلك بساطة ، تواضع وعلم ...... كنا نقاوم حرارة شمس ذلك الصيف عندما دخلنا لقاعة المحاضرات لحضور مادة كانت تسمى " الأدب الأمريكي المعاصر" وجدنا المحاضر قد أعد عدته لبدء الدرس كتب على السبورة " العجوز والبحر " سألنا إن كنا نعرف عن كاتبها إرنست هيمنجواي وبدأ يتحدث . كان يتحدث بطلاقة لا يمكنها أن تفوت على أي طالب يدرس اللغة .... كان حديثه هادئاً ، يمازح بين الحين والآخر عندما إنتهى وقت المحاضرة كان الجميع قد تسمّر في مقعده..... كان الحضور عادة يتم على حسب المزاج " يعني لو عندك مزاج بتحضر لو مافي بتمشي النشاط ولا لي - جمعية - تشرب شاي ولا قهوة باللبن" ، ولكن على الإطلاق لم يفوّت أحدنا محاضرة لذلك الإستاذ العملاق : كان نحيفاً دقيق الملامح لا يهتم بمظهره كثيراً ولكن " ما مبشتن" . كان كثيف الشعر وله لحية خفيفة يمسك بالقلم في أثناء شرحة كأنه يكتب ، حركته محدودة داخل القاعة ولكن كان الجميع يحس بأن القاعة تضج بالحياة ..... كان يسخر من الكل وفي بعض الأحيان يسخر من نفسه ...... رواية العجوز والبحر تمتعنا بها ولم يترك لنا أستاذ حسن سلك جملة إلاّ و"فلفها فلفةً" ... كان يتحدث عن ما وراء الكلمات والدلالات بشدة وبحديث العارف ...... جعلنا نبحر في الرواية كأننا نشاهدها كنا ننتظر محاضراته على أحر من الجمر وكنا نتصيد تحليلاته عن الأشخاص وحتى السمكة التي طاردها الصياد كنا نراها تحوم حوله عندما يتحدث عنها ..... بمعيته سكنا البحر وسامرنا العجوز ولعبنا مع الطفل مانولن ، وغضبنا حينما منعه والداه من الإبحار مع سانتياجو العجوز لصيد اكبر صيد في حياته .... أبحرنا معه وحيداً ناحية الخليج ...... وعندما إبتلعت السمكة الطعم فرحنا ...... ودخل القلق إلى قلوبنا عندما جرّتْ السمكة القارب لمدة ثلاثة أيام وكنا نتابع الحوار بين ساتياجو العجوز والسمكة عندما كانت تحاول النيل منه بعد أن أحست بزوال قوته وتعبه....... وغضبنا مرة أخرى عندما هاجمت سمكات القرش السمكة الكبيرة وحولتها إلى هيكل عظمي ...... كنا نتابع القصة بشغف وبكل أحاسيسنا .... كان الأستاذ سلك قد ملكنا تماماً بطريقته الفذّة في جمع خيوط القصة ..... أدرج لنا عدة مقالات وكان مهتماً بتشبيه سانتياجو العجوز من بعض النقاد بالمسيح في معاناته الأخيرة ..... تحدث لنا عن الدين و علاقته بالأنسان ... تحدث لنا بسخرية لاذعة جعلت عقولنا تتفتح ونبحث عن هذا الكائن المسمى الإنسان ......... تحدث عن العلاقات الإنسانية وارتباطها بالأنانية وخصائص النفس البشرية الخفية ... كان يعدُ بعضنا لولوج مهنة الكتابة والإبحار في أسرارها ...... كانت كلماته تزن ذهباً ...... يُسقط لنا الكلمة لنبحث عن مدلولها رحمه الله تعالى بقدر ما أعطى ولم يبخل ...... علمنا أنه كان وكيلاً لمدرسة المؤتمر أم درمان لفترة من الزمن وكان يُدرس ذات المواد لعدد من الجامعات آنذاك ..... إذ أنه أكمل بعض من دراسته ب ليدز في شمال إنجلترا والتي حمل منها لكنة أهل وسط شمال الجزيرة البريطانية..... المادة الثانية والتي لم يكملها لنا كانت " كتابة القصة القصيرة " سافرنا معه في قصص عديدة ..... وضع أُسس كتابة القصة للكثيرين من طلابه وفك لنا طلاسم الحبكة والموضوع والنهاية التي لابد أن تكون غير متوقعة : فجاءت وفاته غير المتوقعة لنقع في صدمة واسى وحزن لازمننا حتى تخرجنا ......... أذكر الباصات وهي تنقلنا لتقديم واجب العزاء لأسرته المكلومة في أمبدة ........ كانت كأنها تناديه أن يبعث فيها ذات النشاط الذي كان يُفعّله فينا ...... كانت الكآبة تمشي معنا وكان البص كأنه يرجع للوراء في محاولة منه لكتم حزن من بداخله .......بكينا بحرقة بكت ندى ونهلة وحباب واشرف ومجدي وسحر ..... بكت قاعات المحاضرات ومبنى الكلية وحتى باقي القصص التي لم يكملها لنا ........ عندما وصلنا لمكان العزاء تقاطر الجيران لكي يواسوننا فإنسحبنا لكي لا " نقلب المواجع"........كان من الذين اسهموا في قلعة الصمود بآرائه وعلمه الغزير أحبنناه وتمنينا لو أن صحبته تدوم ...... ولكن ناداه الحي القيوم من فوق سبع شداد قبل أن نطفئ ظمأ المعرفة من معينه الملئ .... رحم الله استاذ حسن سلك وأسكنه الجنة وأثابه مغفرة ورحمه وأسكنه الجنة وألحقنا به في عليين..... اسامة الباز برايتون - المملكة المتحدة