أدبيات من تلودي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-19-2024, 04:33 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
منبر الشعبية
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-17-2015, 10:09 AM

حسن إبراهيم حسين
<aحسن إبراهيم حسين
تاريخ التسجيل: 08-17-2015
مجموع المشاركات: 88

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أدبيات من تلودي

    10:09 AM Aug, 17 2015
    سودانيز اون لاين
    حسن إبراهيم حسين-
    مكتبتى فى سودانيزاونلاين



    دينج (1)

    تمثل مدينة تلودي نموذجا مصغرا للمدينة الفاضلة بل السودان كما ينبغي ان يكون ولعل لأهمية موقعها الإستراتيجي إختارها الإنجليز عاصمة لجبال النوبة إبان الأستعمار
    المجال هنا ليس نبذة عن تلودي و ـتأريخها الثر وإنما هي ومضة من شعاع تلودي الذي يكشف قمة ترابط النسيج الإجتماعي الذي كان سائدا والتلاقح الثقافي والأثني وقتها.

    "موسم الهجرة للمدينة يبدأ عندما تنقرض ذبابة التسي تسي بعد أن دفنت بيضها لحفظ النوع من الإنقراض تحت الصعيد الهش بفعل الرمال المخلوطة مع الطين وروث البقر ... وهو موسم يتحرر فيه المجوك ( 1) من سجن الواكات(2) إلي حيث المروج الواسعة علي مد البصر لا يحدها إلا زئير أسد أو عواء ذئب .

    دينج حزم متاعه في "القجانج"(3) وهو من صنع يدي زوجته نامكير ربما أو الزوجة التي ورثها من أبيه بعد وفاته " الشول" أو تلك التي ترملت بعد وفاة أخيه فورثها ايضا " الروب" .


    جائنا دينج وفي لسانه عقدة ولكنا وبصفاء طفولة عقولنا كنا نفصح عما يعني وهو يخاطبنا فيناديني " أتن" وينادي إخوتي حسين والزين باسم واحد وهو " دين" ..جاء المدينة ليعمل في فترة الصيف . وتتعدد وسائل وسبل كسب العيش لأمثاله فهو من دينكا " النبقاية " منطقة جنوب قردود أمردمي ضاحية مدينة تلودي.

    جاء بعد أن ودع زوجاته وأبنائه وقد قطع علي نفسه أن يحقق حلمه وحلم أهله ..ثور أصفر علي جنباته بياض مبعثر ( منيل) .

    تسلق دينج شجرة الهجليج العتيقة و التي لم يجرأ أحدا منا يوما في تسلقها إذ نتفيأ بظلها صيفا ونقتنص لالوبها طمرا عند الرشاش نعم تسلقها بمهارة متفاديا غرز شوكها وفي يده فأس صغير . وكنت أتأمل ماذا يريد إذ لم تحل عقدة لسانه بعد كي يفصح بمبتغاه . وفي لحظات قفل متدحرجا وفي يده عصا محدودبة وقد تخلص بما علق بها من أغصان وأوراق .

    وبمهارة خلق من الغصن عصاة محدودبة باطنها أملس وفي نهاياتها نتوئات سرعان ما عرفت أنا عصا توضع في الكتف لحمل "جوز الماء" .

    ولكن دينج لم يستفد من العصا بل لم يكن في حاجة إليها إذ تولي رعي ابقارنا فوجد ضالته في تدليلها وهو في متعة ويحرق روثها الذي ينبعث منه دخان لازع يطرد الناموس الذي يتقاطر قرب مغيب الشمس ويتخلل شعر رؤسنا فنشارك بهائمنا ذاك الدخان كما المستجير بالرمضاء من النار . دينج يتولى حلبها وربطها وفكها وكل ما من شأنه راحتها .


    لقد إتفق مع الوالد علي الأجر الشهري بكذا قرشا شهريا ...

    دينج لا يعرف الشهور لا رجب ولا قصير أو رمضان. لا أيلول أو حزيران فكيف يحفظ حقه ويعرف إستحقاق أجره

    كنت ألاحظ دينج حينما يصحى من نومه كل صباح أول ما يفعله أن يأخذ قشة ويهذبها ويغرسها بمكان معين داخل القطية المخصصة له .. لم أعط الأمر إنتباه وحسبته شئ من طقوس أو كجور .. مرت ثلاث أشهر ودخل الرابع وارتفع صوت ابجندي وبدأت السحب تخفف عنا لفحة حر الصيف إيذانا ببداية موسم الأمطار .. عندها جلس دينج ذات مساء ووضع قطعة القماش وهي إزاره الذي يغطي ما تحت السرة أرضا وهو عار كما ولدته أمه وأخرج كمية من عيدان القش الصلبة وبدأ يوزعها إلي مجموعات كل مجموعة تضم عشر عودا عندها أدركت أنه التقويم الذي ينتهجه كي لا يضيع حقه .. فعجبت لتلكم الطريقة البدائية وتلك الفطرة التي تنم علي المواظبة . لم ينس يوما واحدا لم يغرس فيه قشة ذلك اليوم ... وكانت ديباجة تقويمه في علو بحيث لن تصل إليها أيادينا الهبيشة وتنالها عبثا ..



    جاء الرشاش ونبتت الشوقارة وقرر الوالد هذا العام أن نخرف بالصعيد وحرمنا من المرحال واكتفينا ببضع بقرات حلوب لم يكتف بذلك بل قرر إلهائنا بزراعة النجاض(4) بدلا عن الرعي في مروج قيزان الغرة . وكانت تلكم أول تجربة لنا بخريف تلودي ..

    دينج بارع في حراثة الأرض علي الطريقة الصعيدية . المحراث عوده قصير ذو مقبض محدودب . كم عانيت وأنا أمسك محراثي محولا عبثا مجاراة دينج إذ لم أعتد الركوع علي ركبتي والزحف عليها في أرض طينية قد تنبعث من تحتها عقرب أو أبودفين .

    دينج تولي أمر الزراعة بجانب البقيرات الحلوب لم يتضجر لم يشتكي بل كان مستمتعا بمداعبتنا له سعيدا بيننا فأصبح فردا من أسرتنا .

    دينج غير كسوته إلي فرملة (5) وسروال بدل اللاوي الذي كان يغطي نصف جسده من الكتف إلي الركبة فقط والذي لن يصمد إذا ما هبت ريح ولو خفيفة فتنكشف كل عوراته ولم يكن حينها آبها ولم نأبه أيضا والكسوة الجديدة هي إهداء من الوالد له مقابل نشاطه وإخلاصه . إغرورقت عيناه وهو يرتدي ملابسه الجديدة وجلس علي الأرض وأخذ حفنة من التراب ثم تفها وعرفنا أن ذلك هو قسم الولاء والإخلاص.

    تعلمنا من دينج كيف نأكل السمك ونسلم من خنقة عضيم الحوت لا بينبلع لا بفوت . وكيف نغرس السنارة ونصداد أم كورو من البركة وبفضله اصبحت رائحة السمك شهية لنا بينما يكون يوم نكد للوالدة التي لا تطيق رائحة الحوت فتضرب علينا حجرا في أواني الأكل والشرب . ولكن دينج استطاع وبمهارة أن يغنينا عن أواني البيت نذهب إلي حيث قطية البقرات ونطمر ما اصدنا من سمك تحت رمضاء روث البقر المحروق ويتم الشواء ثم يدخل النجاض وينتزع شئ من ورق أم أباط(6) العريض وهي سفرتنا للإستمتاع بالسمك المشوي علي الملة .

    بدأت بواكير خيرات الدرت بنضوج النجاض وكثرة الذباب لدرجة أنك لا تستطيع أن تمشي في الشارع دون أن تحمل غصنا لهشه من علي كتفك أو ظهرك نسبة لعلو الرطوبة . ..

    حينما يشتد مطر الليل يخرج دينج خلسة ثم يعود محملا بقناديل الذرة الشامية ويطمرها كما يطمر السمك دون تعريتها مما اكتست به حبيبات القناديل من أوراق . تغمرنا المتعة ونحن نحتسي الشاي شرفة بعد كل صف من صفوف حبيبات الذرة الشامية المتراصة بعناية علي القندول ...

    كان يوما لا زال محفورا في ذاكرتي ولن أنساه حينما كنا بالنجاض البعيدة نستمتع بالعقيق الحلو .. أسمع نداء دينج بين سيقان القصب (أتن..أتن .. وهي متلاحقة بصوت عال .. فجئت مهرولا ..فإذا به يشير إلي عش عصفور يغير لونه إلي أحمر قان (أحمر إنجليزي ) في موسم الخريف وهو موسم التزاوج والتبييض . دخل العصفور للعش ليطعم صغاره من حبات الذرة وكم كنت متشوقا أن أملك عصفورا بهذه الألوان البهية . فمد يده ليهجم علي العصفور في عشه ويقتنصه ولم يدري أنه كان في سباق مع قانص آخر يقشعر له البدن ..
    نفض دينج يده وفي راحته رايت حمرة الدم بدل العصفور فرفعت رأسي لأجد أنه ثعبان ( البرل ) الغير سام ولكن عوضه الله بقوة أسنانه ... عندها أنتقمت لدينج وقررت هد العمارة وذلك بكسر القبصة ليهوي القندول وعش العصفور والبرل فلم أهتم بالعصفور بقدر إهتمامي للنيل من البرل الذي إنقطع إلي نصفين حينما سكبته بالساطور .
    أما دينج قد طفق يمص في اصبعة وبسق باستمرار كنت أحسب أنه واهما أن هنالك سم فطمئنته بأنه ليس من الثعابين السامة .
    شاب وجه دينج حزنا عميقا وشئ من خوف وقد اشمئز من فعلتي بدلا أن يشكرني وتمتم كثيرا فعرفت فيما بعد أنهم يقدسون الثعبان وظهوره في موسم الدرت نذير خير ..



    بدا الحصاد ومللنا ملاح المفروكة في الغداء وكنت بكل جرأة أفتح كل الصواني متفاديا البامية المفروكة ويخيب أملي فهي بديلة ملوخية الرشاش . الضرا عامر بأخبار مزارع القطن وجلب عمال الحصاد . ..
    فتحت المدرسة فلبسنا الدمورية الجديدة ولبس ذوي الرقشة الدبلان .. دينج يتأمل دايما في كراساتنا وكيف نقرأ ونكتب بل كيف نصلي ..

    عدت ذات يوما من المدرسة ووجدت دينج مسجيا علي برش في قطيته وهو يتألم ودماء تسيل من تحته .. ففزعت عندها جاءت الوالدة وهي تحمل شوربة وبعض الطعام إلي دينج .. وهي تبتسم بينما دينج يتألم وأنا محتار فأزالت حيرتي وبدلت فزعي بالفرحة حينما علمت أن دينج قد أسلم ووافق أن يتم ختانه وأن إسمه الجديد محمد بدلا من دينج ..عجبا قد أسلم دينج دونما مجهود فوالدي أميا يحفظ من القرآن ما يكفيه لأداء صلاته وكذلك الوالدة . أسلم دينج دونما وعظ أو خطابة .. أسلم دينج لأنه أراد أن يتخلق بأخلاق من عاشرهم بداية من أسرتنا التي أصبح جزءا منها وجيراننا وأهل الحي وطيبة عشرتهم ..


    هطلت الأمطار ودار الرشاش فحزم دينج بعد أن جمع غلته واحقق هدفه بشراء الثور وانهالت عليه الهدايا من أهل الحي من كساوي ومصاريف .. حينما ودعناه جري خلفه أصغر إخوتي ( الزين) وهو يبكي .. وقف دينج أو محمد ووضع كفه علي خده وقال بحزن عميق " دين ..بوت أنا بجي ) يعني يا الزين إنت أقعد أنا سأعود لكم ..

    غاب دينج مننا للأبد ولا ندري أين هو حتي اليوم فلم يعد ربما جرفه تيار التمرد وكان أحد الضحايا.."
    دينج (1)

    تمثل مدينة تلودي نموذجا مصغرا للمدينة الفاضلة بل السودان كما ينبغي ان يكون ولعل لأهمية موقعها الإستراتيجي إختارها الإنجليز عاصمة لجبال النوبة إبان الأستعمار
    المجال هنا ليس نبذة عن تلودي و ـتأريخها الثر وإنما هي ومضة من شعاع تلودي الذي يكشف قمة ترابط النسيج الإجتماعي الذي كان سائدا والتلاقح الثقافي والأثني وقتها.

    "موسم الهجرة للمدينة يبدأ عندما تنقرض ذبابة التسي تسي بعد أن دفنت بيضها لحفظ النوع من الإنقراض تحت الصعيد الهش بفعل الرمال المخلوطة مع الطين وروث البقر ... وهو موسم يتحرر فيه المجوك ( 1) من سجن الواكات(2) إلي حيث المروج الواسعة علي مد البصر لا يحدها إلا زئير أسد أو عواء ذئب .

    دينج حزم متاعه في "القجانج"(3) وهو من صنع يدي زوجته نامكير ربما أو الزوجة التي ورثها من أبيه بعد وفاته " الشول" أو تلك التي ترملت بعد وفاة أخيه فورثها ايضا " الروب" .


    جائنا دينج وفي لسانه عقدة ولكنا وبصفاء طفولة عقولنا كنا نفصح عما يعني وهو يخاطبنا فيناديني " أتن" وينادي إخوتي حسين والزين باسم واحد وهو " دين" ..جاء المدينة ليعمل في فترة الصيف . وتتعدد وسائل وسبل كسب العيش لأمثاله فهو من دينكا " النبقاية " منطقة جنوب قردود أمردمي ضاحية مدينة تلودي.

    جاء بعد أن ودع زوجاته وأبنائه وقد قطع علي نفسه أن يحقق حلمه وحلم أهله ..ثور أصفر علي جنباته بياض مبعثر ( منيل) .

    تسلق دينج شجرة الهجليج العتيقة و التي لم يجرأ أحدا منا يوما في تسلقها إذ نتفيأ بظلها صيفا ونقتنص لالوبها طمرا عند الرشاش نعم تسلقها بمهارة متفاديا غرز شوكها وفي يده فأس صغير . وكنت أتأمل ماذا يريد إذ لم تحل عقدة لسانه بعد كي يفصح بمبتغاه . وفي لحظات قفل متدحرجا وفي يده عصا محدودبة وقد تخلص بما علق بها من أغصان وأوراق .

    وبمهارة خلق من الغصن عصاة محدودبة باطنها أملس وفي نهاياتها نتوئات سرعان ما عرفت أنا عصا توضع في الكتف لحمل "جوز الماء" .

    ولكن دينج لم يستفد من العصا بل لم يكن في حاجة إليها إذ تولي رعي ابقارنا فوجد ضالته في تدليلها وهو في متعة ويحرق روثها الذي ينبعث منه دخان لازع يطرد الناموس الذي يتقاطر قرب مغيب الشمس ويتخلل شعر رؤسنا فنشارك بهائمنا ذاك الدخان كما المستجير بالرمضاء من النار . دينج يتولى حلبها وربطها وفكها وكل ما من شأنه راحتها .


    لقد إتفق مع الوالد علي الأجر الشهري بكذا قرشا شهريا ...

    دينج لا يعرف الشهور لا رجب ولا قصير أو رمضان. لا أيلول أو حزيران فكيف يحفظ حقه ويعرف إستحقاق أجره

    كنت ألاحظ دينج حينما يصحى من نومه كل صباح أول ما يفعله أن يأخذ قشة ويهذبها ويغرسها بمكان معين داخل القطية المخصصة له .. لم أعط الأمر إنتباه وحسبته شئ من طقوس أو كجور .. مرت ثلاث أشهر ودخل الرابع وارتفع صوت ابجندي وبدأت السحب تخفف عنا لفحة حر الصيف إيذانا ببداية موسم الأمطار .. عندها جلس دينج ذات مساء ووضع قطعة القماش وهي إزاره الذي يغطي ما تحت السرة أرضا وهو عار كما ولدته أمه وأخرج كمية من عيدان القش الصلبة وبدأ يوزعها إلي مجموعات كل مجموعة تضم عشر عودا عندها أدركت أنه التقويم الذي ينتهجه كي لا يضيع حقه .. فعجبت لتلكم الطريقة البدائية وتلك الفطرة التي تنم علي المواظبة . لم ينس يوما واحدا لم يغرس فيه قشة ذلك اليوم ... وكانت ديباجة تقويمه في علو بحيث لن تصل إليها أيادينا الهبيشة وتنالها عبثا ..



    جاء الرشاش ونبتت الشوقارة وقرر الوالد هذا العام أن نخرف بالصعيد وحرمنا من المرحال واكتفينا ببضع بقرات حلوب لم يكتف بذلك بل قرر إلهائنا بزراعة النجاض(4) بدلا عن الرعي في مروج قيزان الغرة . وكانت تلكم أول تجربة لنا بخريف تلودي ..

    دينج بارع في حراثة الأرض علي الطريقة الصعيدية . المحراث عوده قصير ذو مقبض محدودب . كم عانيت وأنا أمسك محراثي محولا عبثا مجاراة دينج إذ لم أعتد الركوع علي ركبتي والزحف عليها في أرض طينية قد تنبعث من تحتها عقرب أو أبودفين .

    دينج تولي أمر الزراعة بجانب البقيرات الحلوب لم يتضجر لم يشتكي بل كان مستمتعا بمداعبتنا له سعيدا بيننا فأصبح فردا من أسرتنا .

    دينج غير كسوته إلي فرملة (5) وسروال بدل اللاوي الذي كان يغطي نصف جسده من الكتف إلي الركبة فقط والذي لن يصمد إذا ما هبت ريح ولو خفيفة فتنكشف كل عوراته ولم يكن حينها آبها ولم نأبه أيضا والكسوة الجديدة هي إهداء من الوالد له مقابل نشاطه وإخلاصه . إغرورقت عيناه وهو يرتدي ملابسه الجديدة وجلس علي الأرض وأخذ حفنة من التراب ثم تفها وعرفنا أن ذلك هو قسم الولاء والإخلاص.

    تعلمنا من دينج كيف نأكل السمك ونسلم من خنقة عضيم الحوت لا بينبلع لا بفوت . وكيف نغرس السنارة ونصداد أم كورو من البركة وبفضله اصبحت رائحة السمك شهية لنا بينما يكون يوم نكد للوالدة التي لا تطيق رائحة الحوت فتضرب علينا حجرا في أواني الأكل والشرب . ولكن دينج استطاع وبمهارة أن يغنينا عن أواني البيت نذهب إلي حيث قطية البقرات ونطمر ما اصدنا من سمك تحت رمضاء روث البقر المحروق ويتم الشواء ثم يدخل النجاض وينتزع شئ من ورق أم أباط(6) العريض وهي سفرتنا للإستمتاع بالسمك المشوي علي الملة .

    بدأت بواكير خيرات الدرت بنضوج النجاض وكثرة الذباب لدرجة أنك لا تستطيع أن تمشي في الشارع دون أن تحمل غصنا لهشه من علي كتفك أو ظهرك نسبة لعلو الرطوبة . ..

    حينما يشتد مطر الليل يخرج دينج خلسة ثم يعود محملا بقناديل الذرة الشامية ويطمرها كما يطمر السمك دون تعريتها مما اكتست به حبيبات القناديل من أوراق . تغمرنا المتعة ونحن نحتسي الشاي شرفة بعد كل صف من صفوف حبيبات الذرة الشامية المتراصة بعناية علي القندول ...

    كان يوما لا زال محفورا في ذاكرتي ولن أنساه حينما كنا بالنجاض البعيدة نستمتع بالعقيق الحلو .. أسمع نداء دينج بين سيقان القصب (أتن..أتن .. وهي متلاحقة بصوت عال .. فجئت مهرولا ..فإذا به يشير إلي عش عصفور يغير لونه إلي أحمر قان (أحمر إنجليزي ) في موسم الخريف وهو موسم التزاوج والتبييض . دخل العصفور للعش ليطعم صغاره من حبات الذرة وكم كنت متشوقا أن أملك عصفورا بهذه الألوان البهية . فمد يده ليهجم علي العصفور في عشه ويقتنصه ولم يدري أنه كان في سباق مع قانص آخر يقشعر له البدن ..
    نفض دينج يده وفي راحته رايت حمرة الدم بدل العصفور فرفعت رأسي لأجد أنه ثعبان ( البرل ) الغير سام ولكن عوضه الله بقوة أسنانه ... عندها أنتقمت لدينج وقررت هد العمارة وذلك بكسر القبصة ليهوي القندول وعش العصفور والبرل فلم أهتم بالعصفور بقدر إهتمامي للنيل من البرل الذي إنقطع إلي نصفين حينما سكبته بالساطور .
    أما دينج قد طفق يمص في اصبعة وبسق باستمرار كنت أحسب أنه واهما أن هنالك سم فطمئنته بأنه ليس من الثعابين السامة .
    شاب وجه دينج حزنا عميقا وشئ من خوف وقد اشمئز من فعلتي بدلا أن يشكرني وتمتم كثيرا فعرفت فيما بعد أنهم يقدسون الثعبان وظهوره في موسم الدرت نذير خير ..



    بدا الحصاد ومللنا ملاح المفروكة في الغداء وكنت بكل جرأة أفتح كل الصواني متفاديا البامية المفروكة ويخيب أملي فهي بديلة ملوخية الرشاش . الضرا عامر بأخبار مزارع القطن وجلب عمال الحصاد . ..
    فتحت المدرسة فلبسنا الدمورية الجديدة ولبس ذوي الرقشة الدبلان .. دينج يتأمل دايما في كراساتنا وكيف نقرأ ونكتب بل كيف نصلي ..

    عدت ذات يوما من المدرسة ووجدت دينج مسجيا علي برش في قطيته وهو يتألم ودماء تسيل من تحته .. ففزعت عندها جاءت الوالدة وهي تحمل شوربة وبعض الطعام إلي دينج .. وهي تبتسم بينما دينج يتألم وأنا محتار فأزالت حيرتي وبدلت فزعي بالفرحة حينما علمت أن دينج قد أسلم ووافق أن يتم ختانه وأن إسمه الجديد محمد بدلا من دينج ..عجبا قد أسلم دينج دونما مجهود فوالدي أميا يحفظ من القرآن ما يكفيه لأداء صلاته وكذلك الوالدة . أسلم دينج دونما وعظ أو خطابة .. أسلم دينج لأنه أراد أن يتخلق بأخلاق من عاشرهم بداية من أسرتنا التي أصبح جزءا منها وجيراننا وأهل الحي وطيبة عشرتهم ..


    هطلت الأمطار ودار الرشاش فحزم دينج بعد أن جمع غلته واحقق هدفه بشراء الثور وانهالت عليه الهدايا من أهل الحي من كساوي ومصاريف .. حينما ودعناه جري خلفه أصغر إخوتي ( الزين) وهو يبكي .. وقف دينج أو محمد ووضع كفه علي خده وقال بحزن عميق " دين ..بوت أنا بجي ) يعني يا الزين إنت أقعد أنا سأعود لكم ..

    غاب دينج مننا للأبد ولا ندري أين هو حتي اليوم فلم يعد ربما جرفه تيار التمرد وكان أحد الضحايا.."

    (عدل بواسطة حسن إبراهيم حسين on 08-30-2015, 08:00 PM)
    (عدل بواسطة حسن إبراهيم حسين on 08-30-2015, 08:00 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
أدبيات من تلودي حسن إبراهيم حسين08-17-15, 10:09 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de