|
Re: وداعاً حسن عطية...مبكراً أن تقول مع السلامة ... لك المجد في الخلود وفي الأعالي (Re: رهف)
|
لم أكن أراه إلآ ليلاً, حتى لتتماهى صورته فى مخيلتى عند الصباح, فاخلط بين تفاصيل ملامحه وملامح الوجوه التى تطفو أمام عينى. كان يأتى ليلاً, يطرق الباب برفق وكأنه يلمس نهد صبيةٍ, نكون وقتها قد عدنا من رحلة الليل اليومية إلى ما تسوقنا إليه الأقدار والترتيبات الأخرى التى لم يكن لنا فيها كثير (يدٍ), أو إرادة, فمرة تنحدر بنا أقدامنا صوب برى القريبة, وفى اخرى بإتجاه بحرى الرحبة, نقطع كبرى النيل الأزرق بخطواتٍ وثّابة لا تعرف التريث حتى تصل تلك الأزقة التى تفوح بشتى الروائح المتداخلة, ومنها رائحة ذلك الشئ الذى لا تكاد خياشيمنا تتعرف إليه حتى تنتصب شعورنا بقشعريرة الطعم المرّ للكأس الأولى التى كانت كريهة الطعم, لكنها حلوة الأثر. كنا نقطن بــ (إكستنشن تهراقا) وقتها, ذلك البيت الصغير الذى يحده من الشمال داخلية تهراقا, ومن الجنوب مكتب القبول, من الشرق دار النشر والدراسات العليا, ومن الغرب ذلك الشارع الحميم الذى يفصلنا عن معهد الدراسات الإضافية, وصبياته الغيد الحسان. كانت الغرفة خاصة الزملاء هشام سليمان وجيب الله, لكنها ظلت تأوينا جميعاً, ذلك الخليط العجيب المتباين الأشياء. حامد الزين, جمعة محمود, أحمد فضل والكثيرين الذين ظلوا (يحجون) إلى تلك الغرفة الصغيرة الحميمة. كان يأتى فى بعض الليالى, محملاً بتلك الأوراق السريّة التى يخبئها فى بطنه الضامر, يدخل بتلك الطريقة الهامسة, يسلّم ويضّجع كيفما إتفقو لكنه لا ينام دون أن يبدأ حواراً هامساً ودفاقاً مع من يصدف أن تكون إضجاعته إلى جانبه. كان جلّ الأحاديث ينحصر فى الشأن السياسى, ويدور حول المناخ السياسى الطلآبى الذى يجتاح الجامعة فى تلك الأيام, أيام الإنقاذ الأولى ومحاولاتها المستميتة لتلجيم الحركة الطلآبية وإخراسها لو تيسر لها ذلك. كانت الجامعات مشحونة بتلك الروح المصادم للإنقلابيين الجدد لا سيما أن القاصى والدانى كان يعرف معدنهم, ومكونهم, ما همّ ما ظلوا يخدرون به الناس من الدين والورع والزهد فى الحكم وسيرة انهم إنما جاؤوا لنصرة الدين الذى ذبحه العهد الديمقراطى على أعتاب الحكم والسلطة. مع الأيام, كان من الحتمى أن نبتدر أنا وحسن تلك الحوارات المتشعبة, والتى كانت تفضى لا محالة إلى الشأن السياسى. كان يحيرنى بيقينه العاتى, كان أغلبنا, وحتى من قبل سماع مارشات البيان الأول للإنقلاب قد أصابه يأس وإحباط مريع, كنا فتية صغار يتعجلون النتائج, وكنا لا نرى إلآ ما هو أسود أو أبيض, كنا غير قادرين إلآ على النظر بإتجاهٍ واحد, لكن حسن, برغم صغر سنه وحداثة عمره كان قادراً على النظر فى الإتجاهين, وكنت كلما خضت معه تلك النقاشات التى (تفوّر) دمى وتجعله يغلى على ما هو عليه, وكلما واجهنى هو بنعومة حديثه, وبرودة اعصابه, كلما أقنعنى منطقه القوى, لم يكن يستخدم تلك المفردات التى درج "القياديين" بالحزب على إستخدامها كلما تخيلوا ان محدثهم إنما "يجدّف" فى حديثه, تلك الأكليشيهات على شاكلة "إنضبط يا زميل" و "هذا تفكير برجوازى" و "بلاغ" , "نقد ذاتى" و و وكل تلك اللغة (التأديبية), بل كان حديثه مختلفاً, كنت أحس بالغيظ لأنه كان قادراً على رؤية القناعات التى تترسب فى اعماقى ما هم ما ينطق به لسانى, وفى مرة قال لى بهدوئه المعهود ذلك (هل نقول أنهم قد هزمونا وإنتهى أمرنا), وحين قلت له لا قال لى إذن ماذا تقترح من أدوات صراع حتى نقارعهم وننازلهم بها, فأسقِط فى يدى وسكت. ظلت الحلقات التى تجمعنى بحسن تتكاثر وتتسع, ففى زيارة لى لأحد الأصدقاء بالمغتربين بحرى (د. السر, الأستاذ بمدرسة العلوم الرياضية جامعة الخرطوم وقتها) وجدت حسن يجلس معه, تعجبت من هذه المصادفة, فعلى حسب معرفتى بأن ليس هناك ما يربط بين حسن ود. السر, فلم يكن معروفٌ عن الأخير إنتمائه لأى تنظيم سياسى, بل هو رجل ليبرالى, لكن عجبى زال حين ذكر لى د. السر أن حسن عطية قريب له من ناحية والده, فالسر من مدينة الباوقة التى ينحدر منها والد حسن عطية. طفقت ألتقى حسن كثيراً فى منزل العزّابة ببحرى, حيث يقطن صديقى عماد عبد الرحمن (شقيق الشاعر , وعضو المنبر عادل عبد الرحمن), وسراج إبن عمهم وخطيب شقيقتهم وقتها, فهم جميعاً يتصل أصلهم ونسبهم إلى مدينة الباوقة برغم سكنهم فى مدنى. فى مرة, ونسبة لإحتياجنا الملح لبعض المال, أسررت لحسن بان لدى بعض الدولارات بالمنزل, كان المناخ مرعباً وقتها, فالعملة الحرة كانت أكبر جريمة وصلت عقوبتها وقتها إلى حد الإعدام عند طغمة الإنقاذ, وإمتلاك أى مواطن لعملة حرة تعد جريمة أكبر من حيازة المخدرات, المهم قال لى بطريقته الهادئة, "جميل خالص, أنا بقدر اصرفها ليك" وبالفعل, أخذنا النقود من منزلى ببحرى ليلاً وقضينا الليلة بالداخلية, وفى الصباح توجهنا إلى جنوب السوق العربى, إلى تلك اللوكاندات المتهالكة حيث يعيش الكثيرين من أبناء الأقاليم الذين قذفت بهم الدنيا إلى العاصمة. دخل حسن وإختفى طويلاً, وحين خرج طلب منى أن أتبعه ففعلت. سرنا فى حركة دائرية فى تلك الأزقة لقرابة الثلث ساعة, ثم ذهبنا إلى شارع فرعى بجوار صينية القندول وإنتظرنا حيث حضر أحد الأشخاص و خلسةً دس فى يد حسن شيئاً أخذه حسن دون أن ينظر إليه وإنطلقنا فى رحلة العودة عبر الكثير من الشوارع حتى إنتهينا إلى (إكستنشن تهراقا) حيث وجدنا ما يعادل مبلغ المائة دولار بالعملة المحلية. نسيت ان أذكر أن أكثر ما كان يميز حسن هو الدقة والحرص والحذر الشديد, فقد كان الحس الأمنى عنده عالياً لدرجة أنه كان يفضل أن يسير أغلب الوقات وحيداً دون مرافق قد يؤخر إيقاع خطواته السريعة القافزة. تلك أيام, وها شخص نادر قد إنسرب منا ككل الأشياء الجميلة التى طفقنا نفقدها مرة تلو الأخرى. نم هنيئاً قرير العين يا حسن فى مثواك الأخير. فما أمثالك إلآ من نحسبهم من أهل الجنان والفردوس بقدر, وحق ما بذلوا من ذواتهم وإنسانيتهم, بقدر ما زرعوه من نبل ذواتهم الطيبة, وقد وجبت فيك شهادة الناس الذين عرفوك هنا يا حبيبى الراحل الجميل. رحمك الله رحمة واسعة, والهم آلك وذويك ومن عرفوك الصبر الجميل والسلوان.
|
|
|
|
|
|