|
Re: بي حجرين ... (رواية) (Re: هشام آدم)
|
______________________
تحت كل غالبونة يجلس نفر من الناس موزّعين بأرقامهم وألوانهم المميزة، وكأنهم كرات بلياردو جيّدة التنسيق. يتناول الجميع وجبتهم وسط أحاديث وضحكات وسخريات البعض من البعض الآخر، بينما يجلس العم صابر تحت مظلّة شمسية واضعاً سلّة طعامه على فخذية. يتناول غدائه بأناة وهو يقلّب ناظريه بين العمّال وبين البحر. كان العم صابر كثيراً ما يرمي بنظرات عميقة إلى البحر، وكأنه ينتظر قدوم سفينة تحمل على متنها سنوات عمره التي انفرطت منه كما تنفرط الذرات في ساعة رملية. إضافة إلى الصيادين والعمّال والنمل السارق، كانت جيوش من قطط الميناء الجائعة توزّع نفسها على الغالبونات في انتظار أن يرمي لها أحدهم بقطعة خبزٍ مغمّسة بزيت الساردين، أو قطع صِير من عامل شهم. وبينما تجلس بعضها في منتهى الأدب، تتعارك في مكانٍ آخر مجموعة من القطط على لقمة تعيسة من أحدهم.
ما تراه من فوضى للوهلة الأولى في الميناء هو إنّما نمط حياتي من الرتابة بحيث يستحيل تخمين تغيّره على المدى القريب. فوضى اعتاد عليها الجميع بمن فيهم العم صابر الذي تتجمع حوله فقط عشر قطط لِما تعرفنّ عنه من كرمٍ جم، فهو قليل الأكل، سخي العطاء. وسخاء العم صابر مع القطط هو ما أغراهن باحتمال قساوة العيش في الميناء. وهذا الجو العائلي الذي يلف الجميع رغم الفقر والتعب، هو ما كان يجعل الريّس يتساهل كثيراً في البدء بمشروع الهجرة إلى الوسط. وكثيراً ما كان الريّس ينفرد بالعم صابر شارحاً له خططه المستقبلية، ووقوعه بين حلمٍ يراوده منذ وقتٍ غير بعيد، وحياة ألفها، ويصعب عليه أن يتركها. وكانت ميرامار إحدى الأسباب المستحدثة التي جعلته يعدل عن قراره رغم إلحاح هذه الرغبة عليه كوسوسة شيطانية لا تفتأ تراوده كلّ ليلة. "اللحظة المناسبة لا تتخيّر المكان" هذا ما كان يقوله العم صابر للريّس كلما حدّثه في موضوع الهجرة. وكان يقول له دائماً بأن لا وطن يُذكر، فالوطن هو حيث بيتكَ وزوجتكَ وأمك حتى وإن كان في أرضٍ لا زرع فيها ولا إنس. ولأن العم صابر عاش في بورسودان طيلة سنوات عمره التي تناهز الستين دون أن تكون موطنه، فلا أحد يعرف من أي جهة جاء، رغم أنّ لهجته توحي بأنه قادم من جنوب كردفان. وعرفه الجميع بأنه قليل الكلام، دائم الحركة، ذو ملامح حيادية في جميع حالاته. وكان راغباً عن الزواج، محباً لحياة العزوبية. قال البعض أنه ربما كان عنّيناً أو به عِلّة، إلاّ أن الجميع يتفقون على أنه دمث الأخلاق طيب المعشر. وكان دائماً يقول: "أينما ذهبت ستكون هنالك أرض تحتك وسماء فوقك، وطالما أن السماء واحدة والأرض واحدة فأي مكان يصلح لأن يكون وطناً !" جلس علي أب شلّوفة، على إحدى الصناديق الخشبية، بعد أن أسكن عكّازيه إلى جواره، وهو يقول:
* عليّ الطلاق الريّس ده داير يعرّس - الكومندة كان عرّس، الريّس ده ما ممكن يعرّس، ده زول بتاع عرس عليك الله؟! * شنو يا الريّس صحي بتفكّر تعرّس؟
كان الريّس يكتفي بابتسامات هازلة كلّما سمع هذا الكلام. أحسّ أنّ عليه أن يقوم بشيء آخر يسمح له بتوفير مالٍ أكثر، ويضمن له ألا يبتعد عن رفقة الميناء في ذات الوقت. كان كمن يحاول أن يرسم دائرة بمسطرة. فهو لا يجيد صنعة أو حرفة أخرى غير الصيّد، كما أنه لا يعشق شيئاً آخر – خلا أمّه - بقدر ما يعشق البحر، وأصوات النوارس، وأرضية الميناء الخرسانية. يحس أن قلبه واقع - كسمكة سيئة الحظ - في شباكه التي يرقّعها بيديه كل يوم. عندما يفكّر الريّس في هذا الأمر، يشعر بشيءٍ ما يشدّه إلى الأسفل أو إلى الوراء.
بورسودان تمسك بتلابيب البورسودانيين، وتشدهم إليها كما تفعل بكرة الخيط بالخيط. كان يشعر بابتسامات الوجوه الكالحة التي من حوله وكأنها صفعة تُذكّره بأنه أفضل حالاً من كل هؤلاء: عبد الماجد طه الذي يسكن في بيتٍ من الجالوص بغرفتين وحوش صغير تقاسمه زوجته وأطفاله التسعة ضنك الحياة، يخبأ من صندوق أسماكه، الذي للبيع الرخيص، سمكة للأفواه العشرة المفتوحة. مرزوق عجوة الذي يعول، غير زوجته وأبناءه الثلاثة، أخوته الإناث. وبعد عمله في الميناء يذهب إلى السوق المركزي ليبيع العجوة وقمر الدين والقونقليز في المواسم الرمضانية، معتصم المرضي الذي ابتلاه الله بأخٍ مختل عقلياً وأختٍ مصابة بسرطان الدم وأربعة أخوة غيرهما، ولم يكن يشتكي إلاّ لله في صلوات الجمعة، عندما يكتشفه الريّس وهو يبكي في دعاءه بعد الصلاة، مبارك أب ساقين الذي أرسل زوجته وأبنائه منذ أكثر من سنة إلى أهلها في ضواحي بورسودان لعدم قدرته على توفير سكنٍ لهم بعد أن طرده صاحب البيت بأمر المحكمة بسبب عجزه عن سداد إيجار المنزل المتراكم منذ أكثر من سنتين. كان الريّس يحلم بمعجزة تنتشله من ملوحة أرض بورسودان، وتنقله بطريقةٍ ما ورفاقه والبحر وطيور النورس إلى مكانٍ آخر، حيث لا يشعر فيها بأنه مرهون إلى عدد الوريقات النقدية المبتلة بعرقه في جيب قميصه. لم يكن الريّس يحلم بأن يكون غنياً، فقط كان يريد أن يكون أفضل حالاً، حتى هو لم يكن يعرف شكلاً واضحاً لما يريده. كان كل ما يحلم به هو أن تكون لديه أموال لا تشعره بالخوف والعوز . كان يحلم أن يكون حراً كنوارس البحر الأحمر، أن يحلّق بجناحين حقيقيين، أن يرى عوالم أخرى غير التي اعتاد عليها وألفها منذ أن عرف اسمه الرباعي، كانت الهجرة هاجساً يؤرقه رغم أنه لم يكن مضطراً اضطراراً فعلياً لذلك.
.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-26-06, 10:45 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-26-06, 11:16 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-26-06, 11:46 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-26-06, 12:30 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-26-06, 01:34 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | ابو جهينة | 11-27-06, 02:16 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-27-06, 05:04 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-27-06, 06:47 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-27-06, 06:52 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-27-06, 07:36 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-27-06, 09:28 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-27-06, 10:31 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | عبد المنعم ابراهيم الحاج | 11-27-06, 08:43 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-28-06, 03:15 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-28-06, 04:34 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-28-06, 06:11 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-28-06, 06:30 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | Mohammed Elhaj | 11-28-06, 10:45 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-28-06, 12:25 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | Mohammed Elhaj | 11-28-06, 03:39 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-29-06, 03:48 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-29-06, 07:16 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-29-06, 07:20 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-29-06, 09:18 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | أحمد النور منزول | 11-29-06, 10:15 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | منى أحمد | 11-29-06, 03:37 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 03:24 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 02:39 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 04:12 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 05:32 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 07:10 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 07:55 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 07:58 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 08:02 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 11-30-06, 08:09 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | عبد المنعم ابراهيم الحاج | 11-30-06, 05:52 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-01-06, 02:03 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | أحمد النور منزول | 12-02-06, 10:34 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-04-06, 06:19 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-04-06, 06:32 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-04-06, 06:34 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-04-06, 06:37 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-04-06, 06:42 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | أحمد النور منزول | 12-04-06, 09:43 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | Safa Fagiri | 12-04-06, 12:29 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-05-06, 04:36 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-05-06, 04:32 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | ايوب عبدالرحيم | 12-05-06, 04:51 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-05-06, 11:20 AM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-25-06, 09:22 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-26-06, 05:56 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-26-06, 07:05 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-27-06, 07:19 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | أحمد النور منزول | 12-28-06, 03:25 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-29-06, 01:57 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-29-06, 02:16 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-29-06, 02:22 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 12-29-06, 02:24 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 01-23-07, 03:32 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 01-23-07, 05:13 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 01-23-07, 06:04 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 01-24-07, 03:29 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 01-24-07, 07:40 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | هشام آدم | 01-24-07, 08:16 PM |
Re: بي حجرين ... (رواية) | أحمد النور منزول | 01-30-07, 02:01 PM |
|
|
|