ما أن نتعدى «خور السواعير» ذاك ونمر عبر بيوت «البغاديد» إلا ونكون قد وصلنا إلى منطقة «القرونة» حيث بيوت أعمامي وجدودي لأبي.. وبالمقابل لهذه البيوت تقع ساقية «القرونه» حيث نخيلهم وأراضيهم وكل ما يربطهم بالمكان.. هنا يعيش أهلي وسط نخيلهم ودوابهم وترابهم.. هنا العالم لا تحكمه قوانين «البندر» تلك.. لـ«العُرف» هنا قوة تفوق قوة القوانين التي تنظم الدولة إداريا.. الحياة تسير في تناغم غريب وعجيب.. رقعة الأرض الممتدة من أطراف البيوت عند الصحراء وحتى خاصرة النيل هي الحياة هنا.. لذا تجد القوم هنا يتشبثون بأراضيهم ويدافعون عنها حتى لو كلفهم ذلك حياتهم.. يتوارثون ذلك «الطين» أبا عن جد بقوانين يعرفونها هم فقط.. إنه الانتماء الوحيد الذي يحسونه ويقدرونه: يا ولدي دي أرضنا وأرض جدودنا.. يحفظون كل نخلة وتاريخها ومن زرعها.. جبت وسط غابات النخيل هذه شرقا وغربا مع عمي الطيب.. كان يحكي عن كل نخلة وعن نوع «التمر» الذي تنتجه.. كان يكرر كل تلك الحكاوي على مسامعي في كل عام دون كلل.. ودائما ما يختم كلامه بجملة اصبح لها رنين خاص في داخلي: يا ولدي مهما قريت ومهما سافرت مافي شي بيديك قيمة غير أرضكم ونخيلكم دة.. كانت حكاويه تلك سلواي الوحيدة في غربة لا أدري متى ستنتهي، أو إلى أين ستقودني.. كنت ولا زلت حين يعتصرني الحنين إلى أهلي أتذكر ملامح وجهه وهو منكبا على معوله.. وحين ينال منه التعب يضع ظهره على إحدى «تمرات» «القنديلا» ووجهه يتصبب عرقا.. ثم يترنم: شتيلة قريرا الفجر نبحن بوابيرا حليل تغريد عصافيرا بلاها أصبحنا في حيرة يازهرتنا النضيرة حرام نقلك من الجيرة دهب زادوه تجميرا لفة خاتم ضميرا شبيهة البدر المنيرة ليك تاجوج ماها سيرة نزلت العقلات الضفيرة تداعب رمان صديرا نظرتك قاسي تفسيرا فيها انذارات خطيرة ست الكل يا أميرة روحي كفاها تدميرا ضاقت وغلبت بصيرا خلاص اتحقق مصيرا فراقكم زادتي تعكيرا وبلاك ما عندي تفكيرا يا صلاح أم شديرة تعود ونشم من عبيرا
ما أن يبدأ ترنيمته تلك إلا ويتجاوب معه بقية القوم على إمتداد النيل.. بعضهم يصفق وبعضهم يرقص طربا والبعض الآخر يتأوه متذكرا طيف «حبيبة» رحلت عن المكان.. إنهم يخلقون من «القراعة»* فرحا هنا..
حين نصل إلى دار عمي الطيب يتملكني إحساس بالإنتماء إلى هنا أكثر من هناك «البندر» ما أن يتحرك «الكُشر»** في باب الصنط ذاك إلا وتتفتح كل«طاقات» الحنين في داخلي.. ما أن أخطو خطواتي الأولى في ذلك «الحوش» إلا وأجدني وسط كما مهولا من الفرح.. ثم تلفحني رائحة نار «الجريد» في «الدونكة».. لا بد أن «نورة» بدأت «تعوس» في «الفطير».. «الفطير» بـ«الروب» هنا يوازي كل مطاعم «البيتزا» والـ«ماكدونالدز» إن لم يفوقها مذاقا.. أدخل خلف «حبوبتي» متثاقلا بحثا عن «المبروك» ابن عمي وخالتي «نورة» زوجة عمي.. حين يظهر «المبروك» ويذكر جملته المشهورة «ياخينا».. حينها فقط أحس أن قطر كريمة ترجل عن رحلته المضنية تلك.. «نتقالد» ونحضن بعضنا بعضا بشوق يُبكي أحينا «حبوبتي».. ثم ما نلبس أن نضع «عناقريبنا» في وسط الحوش بعد أن أصافح جميع من في البيت لتبدأ حكاوينا الليلية تحت سماء «شبا».. وحين تصلنا لعنات «حبوبتي» لعمي الطيب... نتمرغ في «عناقريبنا» من الضحك: لا بد أن عمي الطيب مارس شغبه اليوم وخرج باحثا عن «الحياة» في «إنداية كريمة».. وحتما سيعود من «خفساته» تلك منفرج الأسارير.. ثم يطلق ضحكته التي أصبحت جزءا من ليل «شبا»: هاهاهااااااااااااااااي أنا الطيب ود قرنين.. ضحكة تتبسم لها كل القرية وهي في سكونها.. حيث رجع الرجال إلى أحضان زوجاتهم وأطفالهم ينشدون السكون والطمأنينة.. كان دائما يقول لي: نحن يا ولدي من التمُر للتمُر... اليوم كله نزرع ونقرع تحته ووكتين الشمس تغيب نمشي نشرب عرقي التمُر.. كان حين تتوقف حمارته يعلم أنه وصل إلى بيته.. ينزل من الحمارة يجرجر «قبانته» ثم يغني: ود قرنين في عُلُو يا خلايق الله خلُو عندي صيدا في «الكُرو» خايف العين لا تحصلو ثم يتبعها: هاهاهااااااااااااااااي أنا الطيب ود قرنين.. وتتبعه حبوبتي: ان شاء الله العرقي اليغمتك... يا الله هوووووووووووووووووي تهديك يا الطيب حبيب قساي.. .... ــــــــــــــــــــــــــــ * القراعة مرادفة شايقية لسقي الزرع ** الكُشر مفتاح من الخشب تُفتح به الأبواب في منطقة الشايقية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة