بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!..

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 02:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-14-2010, 06:32 AM

عبدالغني كرم الله
<aعبدالغني كرم الله
تاريخ التسجيل: 07-25-2008
مجموع المشاركات: 1323

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!..

    ...

    بيت أبي:
    (موت الشاعرين العجوزين!!..)





    عتبة الباب:
    (بيت أبي)!! قلتها لنفسي، في صيغة تعجب، ما أحلى هذا العنوان، الذي اختاره المجلس الثقافي البريطاني كعنوان لمعرضة الشامل والكبير، "بيت أبي: معمار التراث المعاري"، كم أحب بيتنا، القديم، يسكنني، قبل أن أسكنه، وكنت أتعجب، كيف كتبت قصيدة عني قبل أن أولد بقرون (كم منزل يألفه الفتى، وحنينه أبدا لأول منزل)، وإلا لم صار ذلك البيت البسيط، كظلي، أرسمه على حواشي كتبي، كراساتي، وأشم رائحة جدرانه، وأحس بدفء قلبه، أنى كنت، وأدنا أدلف له ، أحس بمنح عظيم، أمومة، وأبوة، وأخوة، تلفح وجهي، وترقى بي، من كائن في مجتمع، إلي كائن فردي، عند عتبة الباب.

    وأنا أتجول في أروقة المعرض الضخم، (سوق واقف من 24 فبراير 16 مارس) أحسست ، بأن الأسرة البشرية، تسكن بيت واحد، فالأب آدم، والأم حواء، بيت بيضاوي، من الطين، هي أمنا الأرض!!..

    سأحكي لكم، بأسى وحزن نبيل، بل وأمل، حكاية موت الشاعرين العجوزين، في قلب المدينة المعاصرة، وبين شوهد أهلها، امتدت يد المدن، كلها، في الغرب والشرق، وخنقت القصائد البكر، وكف قلب الشاعرين العجوزين، الحكمين، عن الخفقان، قصائد حية، ترتل في صدر اليوم، وعند رحيله، استقبالا له، وتوديعه!!..

    (1)

    لم يخطر ببالي، أن العين الزجاجية العوراء، التي تشبه العين الوحيدة، في جباه الحيوانات الخرافية، التي كانت تخيف طفولتنا، وهي تهجم علينا في ليل القرية، من أحاجي الحبوبات، في ليالي السمر، على ضفاف النيل الأزرق، أن هذه العين الزجاجية، قادرة على تصوير الروائح، ولغط الأطفال، وأنين الفقراء، وطيبة بيوت الطين،..

    العين العوراء، التي تبرز في جبهة كاميرات (بشرى المتوكل، وود عبدالجواد، وحافظ على، ولمياء قرقاش، وتيم هيدزينجتون، وتيم لفليس، وهيزل ثومبوسون، وكاميل زكريا)، أحسستني، بالخوف، وبالفرح، مثل عصى موسى، والأكسير، يبرق ضوء الفلاش، فيجلب لك في لمح العين عالم، بل عوالم، في صورة ذات بعدين ( طول وعرض)، وذات ألف بعد، وبعد، مجازا، فبعصى موسى تضرب العين السحرية سير الزمن وتوقفه، عجبى؟ فمن يبتسم في الصورة، يظل مبتسما فيها طوال حياته، "ما أسعده"!!.

    يظل وجهه مبتسما، في صورته، حتى لو مات، ،كأنه يرى نفسه هناك، ينعم بالفردوس الأبدي، فجدي لا زال يضحك، في صورته المعلقة في الصالون، والتي يعلوها الغبار، وهو لا يزال طفلا صغيرا، في الصورة، وقد توفي قبل عشرة سنوات، عن عمر يناهز التسعين!!، وكان جدي حافي القدمين في الصورة، (ينهي عن فعل، ويأتي بمثله)، هل كان والده يوبخه؟ (ليته) كما كان يوبخني حين أكون حافياً!..

    يسرح طرفي، في السنين الغابرة، هل كان البدوي، صارم التقاسيم، من زهد الصحراء، وشظف العيش الجاهلي، وهو قادم للتو من قصيد أثار لغط عظيم، علق على كعبة إبراهيم، بسوق عكاظ، والذي كان يراقب بعينيه الصغيرة، القوية، حدأة "صقر"، في أعالى السماء، من تحت خيمة الوبر، متكئ على جنبه على رمال ناعمة، تتموج كبحر ذهبي، غاصت فيه كوعة، يراقب بحميمية كبرياء الحدأة، وهي تفرد بسكينة جناحيها الطويلة، سوى هزة واهنة لأطرافه، وذيلها، ماهرة!! تحلق في جيرة السحب والسماء والملائكة، أكان يحلم بأنه سوف يسكن هناك، معها، وينام، أو يجلس في بلكونة، قربها، يراقب موج البحر، والسفن المقبلة من بعيد، ويرى تحته أرتال السيارات، كأنها اسراب نمل، ويصعد لتلك التخوم، ليس بملاك الموت، أو براق نبوي، ولكن بالاسانصير، والدرج، في ثورة الهندسة المعاصرة، وناطحات السحب الاسمنتيتة؟؟..

    فالعين العوراء لكاميرا بشرى المتوكل، أحسستني بالخوف، حتى من ضميري، كأن الصورة واعظ صامت، يعظ العين "أيها المشتكي، وما بك داء، فكيف تغدوا إذا غدوت عليلا"، أذا غدوت أحد سكان هذه الغرف التي أشاهدها أمامي، على حائط المعرض، والتي شيدت حوائطها، كلها من بقايا الزبالة، أعتى مراسم السوريالين، في عصرها الفتي، حتى برتون، لن يتصور، مهما جنح خياله الذكي، أن أسرة "في اليمن السعيد"، تسكن تحت جدار مشيد من علب النيدو، والسيريلاك، وإطارات اوكلاهما، وعلب الأنناس الفارغة، الصورة أمامي، تصلح لوحة سوريالية بحق، وليس واقع معاش، تصد ضراوة الرياح والشمس والمطر، وفضول الناس..

    (2)

    ما أعجب مساكن إيها الأنسان، ففي تاريخك المديد، من أين أتيت، وإلى أين تمضي، في رحلة لا نعرف متى بدأت، ولا متى تنتهي، سوى ظنون، وأفكار، ولم سكنت رحم الأم، وصلب الرجل، ثم سكنت الأرض، والكهف، والطين، وستسكن باطن القبور، وفي تقلبك الطويل، وقديما، في أيامك الغبابرة، أنت تستل روحك من الطين، سكنت القواقع، والنهر، والعش، ما أعجب سكنك، وفي غدا البعيد، بعد سكن القبور، كيف سيكون مثواك وسكنك؟..

    ***

    تناسلت خواطري كالشلال، في دفق جميل، اصطادت هذه الصور بسنارتها آلاف من أسماك الصور الملونة في ذهني، لم أكن أحسب أنها تعوم وتسبح في ظلمة أعماقي، غابت في قاع النسيان، (الحوائط في طفولتي، لها روح، ونغم، كانت شاشة سحرية، ترسم برزاز المطر على صدرها الخشن قرود لها ذيل منخوف كالبطيخه، ولرسوماتها رائحة الطمي، والدعاش،أشكال الظلال ترقص عليها، حين تحمل أمي الفانوس)،

    لم ننكر وحدة الوجود، والمعارف، والانفعالات، والأشياء مضفورة في وشاح غير مرئي، يشدها بعضا، لبعض، وما التنافر، سوى خداع حواس محدودة، بل الصورة تشم، وتذاق، وتلمس، ثم تكون الرؤية، هل شممت صورة مثلي؟ أحس بأنك فعلت أكثر من ذلك، إليس هذا صحيح؟ أمامي صور لليمن، لعمان، نزوى، للإمارات، للبحرين، كلها، كأنني عشت فيها، وأنا المولود على ضفاف النيل الازرق، بالسودان، العربي، الأفريقي، ماهذه الشبكة من الاحاسيس، ترتق بإبرتها خرائط المكان، وفتوق الزمان، وأحقاب الدهر، في حاضر أبدي، هو ا لآن، ما كان وماسيكون، فهو كائن أمامي، ألم يكن بيت أبي، قبل تشيده، يسكن حلم أبي، ألم تخلق الحياة موهبتي (الذاكرة والخيال)، أليس في الذاكرة (صور الماضي، معلقة على جدار التذكر)، أليس في الخيال، (صور الغد، والحلم)، ترقص على جدار المنى، ما كثر الصور الفتوغرافية بداخلنا، وما أعجبها، صور تشم، وتتذوق، وتحس!! آلاف من مناظر الغروب تزخرف الداخل، ومن الدعاش،ورسومات السحب، كلها في جاليري الذكرى، والحلم، والخيال، ما أسعد الصور، فأعظم كاميرا (هي العين، هي القلب)، هي الجسد كله، فالماضي، والمستقبل، صور في الداخل، معلقة على حوائط جاليري النفس البشرية، في إطارات الحنين، تتأملها كل حين، في خلوتك، أو جلوتك، في العتمة أو في النور الباهر، فالذاكرة والخيال، لهما ضوء سحري، يرى في الظلام، وفي أحلام المنام!..

    الذهن يفكر عن طريق الصور، عبر حروف "الصور"، نصيغ وعينا بأنفسنا، وبالكون، ومن بصور الكائنات الأولى، خلقت اللغات الأم، الهيروغلوفية، والمسمارية، كنت مجرد روسمات تشير للأحياء، والمعاني، والأفكار المجردة، ، لكون هو صورة، في البدء، صورة تشم، وتذاق، وتثمل، وترى..

    (3)

    في لوحة "بن حنيش"، هناك غرفة طينية، لحاف على الأرض، طفل ولمبة نيون، ضعيفة يكاد تقضي عليها فلول الظلام، بالغرفة فانوس (لطوارئ انقطاع التيار، وما أكثر ذلك)، مسجل (مذياع) قديم، أشرخ الصوت، وهو يغني لام كثلوم، أو ميادة (أتسمعه معي؟، فللصورة صوت ولون، في خيال الرائي، والمذياع قديم، قبيل نانسي، وإليسا، وشعبان عبدالرحيم، ما أسعده )، هناك سجادين معلقتان على الحائط، الأول به غزالة، والأخر (الحرم المكي، وبحرمه ألاف المصلين) داخل تلك الغرفة الطينية..

    ***
    يا إلهي، من الحميمية، التي رأيتها في صورة باسم (باب الصباح)، 3 أسرة بالغرفة، ودولاب، ما أطيبها من ليلة سمر، بين الإخوة، رأسك قرب رجل أخيك، في السرير الأخر، وبالأعلى صورة الوالد معلقة على الجدار،، وملاءة بيضاء، وشهادة (أظنها ثانوية، أو ابتدائية"، كل فتاة بأبيها معجبة، ثم فازلين، تشع رائحته من الغرفة.. وتحس بالألم في كتفك، فأي مشاهدة هذا، تدفع ثمنها في جسدك، أيها "الرائي"، وأذا اشتكت "صورة"، تداعى سائر جسد المشاهد بالسهر والحمى"...

    هناك درج لعمارة قديمة "سلم"، أن اكثر المهندسين خيالا (زهاء حديد)، لا يمكنها ان تتصور أنه سيكون مسكنا لأسرة، فقد ترى أسر تسكن شوارع أفقية، بالأحياء الشعبية، وكن تسكن طريق "رأسي"، وقع الأقدام الطالعة، والنازلة، قرب لحافك، فتلك هي الغرابة، الحاجة أم الاختراع، تسكنه أسرة، جركانات الماء تنافسهم في الدرج، الأطفال الذين رأيتهم في الصورة (ناهيك عن النائم، أو الذي يفرش بضاعته بأسواق صنعا، أو المريض)، فأنهم تسعة أطفال، في درج سلم، ومعهم امرأة تتشخ بالسواد،ألموت "العدالة، الاجتماعية"، في الكوكب المحزون..

    المطبخ، عبارة ركن في الغرفة، طربيزة خشبية، فوقها أخرى، وفوقهم البتوجاز القديم، المتهالك، وعلب الحديد، فهي في مهات أخرى، فعلب البوهية، والأنناس، صارت علب بن، وفول، ردة لها لها.(أي مهمات العلب، أم "تطوير" وقفزة للأمام؟، هناك باب مغلق للأبد، وتحت المطبخ، قد تكون غرفة غيرت وظيفتها، وصارت تفتح على الشارع، كدكان، من يعلم؟ حاولت عد أعواد ثقاب في الأرض، فلم أقدر..

    وحدة وجود، لكل شئ، علاقة بكل شئ، حين وقفت متسمرا، أمام لوحة (الجدف)، وهي صورة بسيطة لدولاب، فوقه حقيبة حديدية، مزخرفة، وفوقها هي الأخرى، مراتب حتى السقف القصير، فهذه الحقبيبة، ححجت بي، كبساط السندباد لقطار الشرق، في بلدي السودان، حين كنت طفلا، وأمضي لأختي من الخرطوم إلى بورسودان، على القطار،وأجلس على هذه الشنطة الحديدية، بزخارفها، وتفوح منها رائحة الزوادة، (من الطحنية، والطمعية، والمربى)، التي رتبتها أمي قبيل السفر، هناك صورة لزعيم عربي ممزقة، مقصودة أم عفوية، الله أعلم بالسراير!، هناك أسما الله الحسنى، وفتاة تدعو ربها في صورة على الحائط، يعني "صورة داخل صورة"، ما أجمل ذلك..

    (4)

    في بيت (المقولي)، فراش على الأرض، رائحة الفازلين تصيب المشاهد، يصبك الملل من المشهد، فهو مشهد صباحي، مزعج، فوضى البطانية، والساعة والمخدة على الأرض، تصيبك بصباحات الأحد، وأنت مقبل على العمل، بعد إجازة يومي الجمعة والسبت، والنعاس يشدك للسرير، والواجب يشدك للصحو، هناك مخدة، تبدو لي في حضنه؟ أهي الوسادة الخالية، رواية إحسان عبدالقدوس، الشهيرة.

    ***
    الجسد، بيت الروح، أشادت فيه أعمدة من العظام، هيكل عظمي بارع، (حتى القدرة على الرسم، الهرب، المداعبة، لم تنساه) ثم كسته لحما، ورقة، وشعور، وفتحت في قمته، نوافد على العالم، على الداخل، حواس سبع، ثم سعت، تمشي وتجري، بهكيل عظمي، مدسوس بين اللحم والعصب، بيت متحرك، رشيق، فاتن، وحساس، إنه بيت الجسد، حين تسكنه الروح الفضولية،..

    البيوت، روحها الانسان، حيث كان، مثل العش، والقوقعة..

    (5)

    من بنى البيت، أحلام أبي، أم المهندس (التربال)!!..
    في طفولتي، حين قرر أبي أن يشيد لنا بيت واسع، لأننا كن نسكن مع جدتي، كان يقودني من يدي اليسرى، فاليمنى بها بلحة كبيرة، يثم يمضي للشرق، وبيده اليسرى معول، وكنت اتعجب لم؟ والمشروع الزراعي جنوب القرية، فضمينا معا إلى خلاء واسع، يملكه الله وحدة، وبمعوله ظل يحفر ويحفر، حتى ظننت أنه جن، وبعد أن تعرق سرواله، وقميصه، حفر مستطيل ضخم، لو حفر داخله دائرة، لصار معلبا لكرة القدم..

    ولم يمر أسبوع حتى أتى المهندس السيط، "المقاول"، لبناء جالوص من الطين، ومعه أخوالي بخيت ودفع الله، إنها قبيلة واحدة، فكل الناس أخوالي، وأعمامي، قسرا، وحفروا أساس البيت، حول هذه الملعب الضخم، ثم شرعوا في بنات الحوش والغرب.وكنت أتعجب، من أبي، وهو يظل يراقبهم طوال اليوم، وهو يسير بهدوء وقد وضع يديه خلف ظهره، ماذا يفكر؟ إنه بيت بسيط، ولكن خيال أبي، يسبق البناء، بل يسكنه، ويتخيل الضيوف، والنوم في المساء، وعريشة لامي، والضيوف؟ ماعددهم، كيف يكون حجم الصالون، ثم الخراف، والنعاج، أين تكون الحظيرة،؟ كأنه يرى الغد، واضحا، في أحلامه، حتى تساءلت صادقا، من بنى البيت، أحلام أبي، أم المهندس البسيط..


    (6)

    قرن الثور، وكف الدم على الحائط، ماهذا؟ دم ملطخ على الباب. (صور نزوى تيم لفليس).. إنها بيوت طينة بسيطة، تشبه الرحم، من مادة عضوية، تكاد ترى الحبل السري، بين الساكن والسكن، بيت له رائحة في الصبح، وفي الظهيرة، وفي الرطبوة، وساعة المطر، إليس الطين أسير المناخ، وأبواب ذات زخرفة زاهدة على ضلفتيها، (ما أكثر الاشياء التي لا احتاجها، كما قال سقراط)، زهد حقيقي، يرفع الكلف عن الحواس،ما أشبه الليلة بالبارحة، بل ما أشبه هنا، بهناك، ففي نزوى، بعمان، رأيت السحر، والخوف منه، فأعلى الباب هناك كف، لطخت ا لحائط بدم ذبيحة خوفا من العين، كما علق، على ضفاف النيل، على بعد أكثر من 2 ألف كيلو، ناس سعد، جارنا، علقوا قرن ثور على بوابتهم الطينة، فهي تنطح أي جن شرير، يسعى لدخول الحوش، وإن بنات سعد الصغار، الثرثرات، لن يصيبهم مكروه من حراسة القرون أعلى الباب، كما لن يتسلل للبقرة والخمسة نعجات، وليته يتسلل، في غفلة من القرون، ويخنق كلبه سعد، والتي جعلتني امشي للهند، برأس الرجال الصالح، وليس قناة السويس، وأقصد دكان جلي، قرب بيتنا، بل كنت أمشي لدكان آخر، خوفا من الكلبة.

    ***

    حمام جميل، وبه كرسي،وسطل، يوحي "لمرأة عجوز، تستحم فيه"، وهي تراقب عري جسم مجعدت، ولسانها حالها يقول "ليت الشباب يعود يوما)، وهيهات.. فطريق الزمن يمضي قدما، ولا يتراجع، ولايعرف صفة اسمها التوقف، إلا في الصور، وهنا يكمن سرها، وسحرها، توقف الزمن، في لحظة صغيرة، تعيد طلاوة الماضي..

    ***

    سرير، به مخدة، تبدو لللأم ومخدة عرضية، خوف ان يسقط طفلها في الأرض، فالنوم سلطان، ياترى ماذا تفعل الملائكة بنا، ونحن نووم..
    ***
    ستارة من قطعة قماش فستان، اليد اليسرى ترقص مع نسيم الشباك، (أتعجب الفستان النسائي من جلوسه في النافذة)، ومرأى الرجال؟، وهو "خليق ذهنية الحريم"، لست أدري، فمن يقرأ طالع الفساتين، ويدرك ما يدور بخلدها؟..

    صور تيم هيدزينجتون:.
    مدينة شبام القديمة المسورة، والتي انشئت في القرن الثاني قبل الميلاد، وهي عاصمة مملكة حضرتوت، وبها بيوت ينضحها السحاب، فهي أعلى منه، بل لا تعرف هل خلق الله المطر، أم لا... فالأمطار تحتها، أللهم ألا ان تنكر المطر لعادته، وتهمى للأعالى، كدخان البخور، وهيهات..(قيل عنه: أعلى بيت طين في العالم، واقدم بيت طين)، "وأروع" بيت طين أيتها المعلومات الجافة، فلو خرفت الجاذبية الأرضية، مثل جدتي، كي تسقط أمطارها للأعلى، فسوف تصل لتكم البيوت الطينة فوق الجبال،
    ****

    نظرات ابي نحو القبلة شرقا، ألف كيلو من البيت هي، فكان الباب قبالتها، بركة، وتيمنا بها وبالشمس، وكأننا قدامى النوبيون عبدة الشمس، والقبلة، معا..

    كل بيوت القرية تفتح ابوابها ناحية الشرق، القبلة، وكأنها وجوه سرب من قرود، نظرت كلها، فجاة لكثمرة وقعت في الأرض، بل حتى بيوت المقبرة، توضع على جنبك، في مواجهة الشرق "القبلة"، حيا، وميتا..


    هذه الزاوية، ذكرتني قراءة كوخ العم توم، أول مرة، وأخي نائم قربي، وهو يتحدث في نومه، على كل الاشياء التي جرت له بالنهار، ما اسعد الضابط الذي يحقق معه، لو كان اخي معارض سياسي، فما على ضابط التحقيق القاسي، سوى وضع مسجل تحت مخدة أخي، ليسمع في الصباح، أكثر مما يريد، من معلومات وأسرار، وللحق حين أمشي مع أخي، لا أغازل أي فتاة، حتى ولو كانت مثل القمر، قد اعجب بلسان حالي، وهذه لايفضحها باعترافاته الليلية حين يكون شجاعا، ومتهورا، ويقول كل شئ، كل شئ، حتى عن نفسه، ما أشجعه نائما..

    ***
    المقابر، البيوت، الانارة، النوافذ، ملاعب الصبيان، هي هي، في مدينتي، أو هنا (وأنا اشاهد صور لمدينة صنعا القديمة) وهناك حيث لا أعلم، حيث وجد بني آدم، فلم الشرق شرق، والغرب غرب، إذا كانت الحاجات الضرورية هي هي، يتشابه بني آدم فيها، مثل الحزن، والبيت، والسكينة، والموت، والمقابر، والنوافذ، وعشق الشعر، (لا أظن 80عام كافية، وأن اختلفت أنماط الفكر، والمعيشة، والتربية، قادرة على محو ملايين من السنين، التي ضرفت روح، وجسد بني آدم)، فلم الشرق شرق، والغرب غرب؟ لم؟...

    ***

    في الليل، تكون السماء هي سقف البيت، فنحن ننام في الحوش، سماء مرصعة بالنجوم، أعلى سقف في العالم، حتى الشهب والطائرات تمر تحت سقف بيتنا، دون أن تهزه، أو يتداعى كبرج التجارة العالمي، كانت السماء شاشة أفقية، تشاهدها وأنت نائم، ولا نهاية لشاشة الفلم، أو بداية، كان الراعي يقود أغنامه فوق الجبال، هكذا قالت جدتي عن الأشكال المرسومة على وجه القمر، كم غبطت تلك الماعز التي ترعى في السماء، ولن تصل إليها يد أطول جزار في القرية، فكم تؤذي رؤيتها معلقة في المسلخ قلبي..

    كما كنا نرى الشهب، تنطلق كسهم ذهبي، ورغم صدقية التحليل العلمي للها، إلا أن شاعرية التأويل الشعبي تسر طفولتي، حيث ينطلق ذلك السهم الذهبي الماهر، نحو مجموعة من الشياطين، تتسلق بمهارة روؤس بعضها، كي تسترق السمع لما يجري في العرش، في ملكوت السماء..
    وكنت أتعجب، كيف يرى هذا النبال الماهر، سلم الشياطين في هذا الظلام الحالك، كي يصوب سهمه بدقة متناهية، والظلام أخفى ببطانيته السوداء، قبة ومئذنة الجامع كلها، قربنا.؟..

    ***
    كنت اغبط شعر جدي في الصورة، فهو لا يطول أبدا، ولا يجلس ساعة كاملة دون أن يتلفت في دكان الحلاق، حتى لو سمع هرج الحاوي يمينه، ما أسعد جدي في الصورة، أو في الواقع، فقد كان رأسه أصلع..
    ولو لا حركة عيني، يسرى ويمنة، وأنا جالس للحلاقة، لحسبتني تمثال، أو صنم، ما أبشع ذلك، أن لا تمتد يدي للعب ولمس أدوات الحلاقة أمام المرآة، ثلاثة أمشاط، ومقص، وماكينة حلاقة، تشبه رأس الضفدع، لو لا قرنيها الحديدية...

    ***
    عيون أبي لا ترى سوى عيوب الدار، يقوم بحملة تفتيشة من الصبح، فدارنا مثل "حمار الحطب"، كثيرة الأعطاب، ولم؟ فكم أسرة تسكنها!!، كما ان بنات اخواتي الصغار يفضلن النوافذ على أي باب، للخروج والدخول، كما ان حبل الغسيل، يتحول لمرجحانية حينا، ولشبكة كرة طائرة، حينا آخر، كما ان باب الحوش يتحول لمرمى كرة قدم، وتصرخ ضلفاته المتهالك من الكرات غير المتقنة، وما أكثرها.. نسمع الصراخ يوميا من أبي (من الذي كسر ضلفة الباب)، (ومن الذي قطع حبل الغسيل،) ولا أدري من الذي علم هؤلاء الصغار أخلاقيات التضامن؟ فهن مهما جلدن بسوط العنج، لا يعترفن لأبي بالمذنب، وهن يعرفن، "ما أعظمهن"، في هذه التضامن بالذات.. ولكن حين يصيح أبي، بأن الأمطار قادمة، وبأن سقف البيت يحتاج لردم تراب فوقه، كنت اصعد السلم فرحا، كي أرى القرية والنهر تحتي، بعذر مقبول، هذه المرة، وأتكاسل في الردم، حتى تنزلني قطرات المطر الساحرة!!..


    ***
    لا أدري لم تقدس جدتي الرقم خمسة، بالخط الأنجليزي، فهي تسعى للمرحاض قربها مباشرة، سبع خطوات، ولكنها تتكئ على الحائط، ثم تمضي معه جنوبا، شرقا، ثم شمالا، وتعود غربا، حتى تدخل المرحاض، انها تقدس الرقم خمسة، وتتبع الحائط، وتصل مقطوعة الأنفاس.

    ***

    ابن خالي، يسكن معا، مصاب بداء السرنمة (حمار النوم)، وكان يتجول في البيت ليلا، وهو مغمض العيون، ذاكرته تحفظ الطرق المتعرجة للبيت والأبواب، مثل القمر يدور حول الأرض، منذ ملايين السنين، بلا عصى الأعمى.. أو عين، كنت حين أحمل الشاي لأبي في الصالون البعيد، أغمض عيني، واسير بضوء الذاكرة، كي أحاكيه، وكنت أضع الشاي على الطربيزة، وانا لا ازال مغمض، سوى مرة واحدة، هويت من إطار، وضعته أختي كي تضع الطشت عليه، ولم يكن ضعف نور ذاكرتي..

    ***

    في خلاء القرية، وقبل أن نبني البيت، كان هناك محراث، امتدت له القرية، وكان نصيبه ان يكون في بيتنا، وجاء موقعة في الحظيرة، جنوب غرب الدار، كانت امي تربط فيه السخول الصغيرة، خوفا من رضاعة أماتها، وتربط الاغنام على جذع شجرة النميم الكبيرة في الحظيرة، كما كانت تعلق أمي على المحراث بعض الشوالات الرطبة، أتطور المحراث بهذه الوظائف الجديدة، أم ارتد؟ أسألو (دروان، ذي اللحية والوجة المتأمل اللطيف، هو وفرويد، بل حتى ماركس"، أحب صورهم ووجوههم المتأملة اللطيفة، تبدو غارقة في شئ تراه بداخلها، شئ متناسق، باهر، أسرايرهم تشئ كأنهم يرون ويمسعون ويلمسون هذا الشي، هذه "الصورة"، بدخلهم، صورة واضحة لهم، وإلا لم يسطروا الكتب في توضحيها، ورسمها بالحروف، والكنايات...

    هذه الحظيرة كنت أجلس فيها ساعات طوال، ولا شئ فيها، سوى المحراث، وبقايا بعر، وحصى، وبراعم صغيرة، تلتوي كي ترفع الحصى فوقها، أين مضى ذلك السحر، الذي يسبيني ساعات، وساعات، مع هذه الثروة البسيطة، الكبيرة؟..

    (7)

    لم قتلي الشاعرين العجوزين، أيتها المدينة، ماذا دهاك، أيتها المعاصرة، المغرورة، مجلى غريزة القطيع، بيد من نحت جسدك المترهل، شاعر، أم تاجر؟ أم فنان حكيم، أم طامع عنيد، هاهي هامتك الأسمنتية، تمد ذوابتها فوق الجبل، وتغوص أعمدتها أعمق من جذور الشجر، تلك المدن التي يساهر فيها العامل البسيط، أكثر من صعاليك كل العصور الغابرة، إلى منتصف الليل، ويجني الكفاف، فلم يعد النهار نهارا، ولا الليل ليلا، فقدت الطبيعة مذاقها القديم،!!، نمت على عجل، وعلى طمع، وبخطى ذهن، ظن أنه روض الطبيعة، كما روض الخيل، والحمير، والنعاج، وبتهور خيال معماري، نفعي، قتل الشاعرين العجوزين، كانا يغنيان للحياة، وللإنسان، بقصائد بسيطة، بلا وزن، أو لغة، يصغي لها الأمي، والعجمي، والعربي، والزنجي، بلغة وحيدة، ، تعنى بالجوهر الواحد لبني آدم، وتسيقهم رحيق الحياة في صدر النهار، وعجزه!.

    الشاعرين، هما (الغروب والشروق)، لم يعدا في المدينة، النجار والرسام، والمعلم، والمهندس، كيف تلهم قلوبهم، وسحر الغروب، وشاعرية الشروق، قتلت بالعمارات العالية، التي تنطح السحاب، فعلا، تنطح السحاب، والشعر، وكأن علاقة الإنسان بالبيئة، ليست علاقة أم وطفل..

    لم يعد الشروق، برقته الواهنة، يلطخ الحوائط، والاشجار والنفوس، يهدهدها لنهار مقبل، يسكب الثمالة في الروح، كي تعطي، وكي تحب، لم يعد هناك غروب ساحر، يغرق النفس في نبل الرحيل، كنهر الزمن، في البحث عن عنك، ودفء حجر آمن، تأوي إليه في حكايات المساء، غروب يهب ذهب مجاني، يعلقه على السحب والحوائط، والنفوس، علاقة أم وطفل، تلك علاقتنا بالأرض، فلم تورمت البيوت الاسمنتية، وفي الأفق ما يكفي، لم صعدت، وحجبت الشاعرين العجوزين، من تلاوة قصائدها، في فجر كل نهار، وعجزه..لم؟ قتلتي الشاعرين العجوزين، لم؟...


    عبدالغني كرم الله
    [email protected]


    مقال، عن معرض: بيت أبي، أقامة المجلس الثقافي البريطاني، وعرض في عدة دول..
    ...
    ...
                  

العنوان الكاتب Date
بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-14-10, 06:32 AM
  Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-14-10, 06:43 AM
    Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. فيصل عباس03-14-10, 12:34 PM
      Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. Mohamed Abdelgaleel03-14-10, 03:14 PM
        Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-15-10, 05:21 AM
          Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. مامون أحمد إبراهيم03-15-10, 07:38 AM
          Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-15-10, 07:46 AM
            Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. فيصل عباس03-15-10, 10:43 AM
              Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. اميمة مصطفى سند03-15-10, 11:31 AM
        Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-16-10, 05:45 AM
          Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-16-10, 06:58 AM
            Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-17-10, 08:07 AM
              Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عمر عبد الله فضل المولى03-17-10, 09:23 AM
                Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. عبدالغني كرم الله03-21-10, 10:31 AM
                  Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. Osman Musa03-21-10, 02:44 PM
                    Re: بيت أبي: "موت الشاعرين العجوزين"!!.. Osman Musa03-24-10, 03:15 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de