|
في استذكار الشهيد محمود محمد طه: الإرتقاء إلى الحياة !
|
لولا الشغف البالغ والجهد المضني الذي بذله لويس ماسينيون وآن ماري شيمل، لذرت الرياح تراث أبي الحسين بن المنصور "الحلاج"! ولولا جهود المخلصين من تلاميذه، إضافة إلى بعض الجامعات الغربية، لا سيما الأميركية، لضاعت جهود الشهيد محمود محمد طه هباءا منثورا ! منذُ محاكمة الفيلسوف الإغريقي سقراط وإعدامه، وإلى غاية محاكمة الشهيد محمود محمد طه وإعدامه، وهو آخر حكم قضائي يقضي بإعدام مفكر في عصرنا الحالي على حدّ علمي، وهذه القضية تثير جدلا ساخنا في المجتمعات البشرية بأسرها. وبين سقراط ومحمود عددٌ من الفلاسفة والمفكرين جرى إعدامهم بواسطة السلطة السياسية، ولعبت الظروف السياسية ذاتها دورا كبيرا في "التآمر" عليهم وإعدامهم تحت مزاعم شتى. سقراط أتهم بإفساد عقول الشباب، وكذا "الحلاج" الذي أُتهم بالتأثير على "العامة" والردة والكفر الصريح، وبين "الحلاج" و"محمود" أوجه شبه عدة، فكلاهما كان زاهدا بسيطا ومؤمنا بـ"اللا عنف"، وكلاهما حاول معالجة الفكر الإسلامي من زاوية أخرى، وكلاهما تكالب عليه السياسيون ليحاكموه ويقدموه قربانا لوضع سياسي مزر، وكلاهما جرت محاكمته بـ"الردة" مرتين، أفلتا في المرة الأولى من القتل، وواجها الموت في المرة الثانية بالطريقة ذاتها: الشجاعة الفائقة الدالة على إيمان عميق بالفكرة، واللامبالاة بالموت، إضافة إلى الإيمان باستمرار حياتيهما بطريقة أخرى عبر الفكر ! الحلاج، وهو يتأرجح على "صليبه" مقطوع الأطراف، وجذلا، كان يرد على أصحابه وتلاميذه الواقفين تحته:"ركعتان في العشق، لا يصح وضوءهما إلا بالدم". ومحمود كان يرد على قضاته قساة القلوب والفاسدين بعبارات تشير إلى رغبته في "الإرتقاء" إلى الحياة، بل وحب الحياة على نحو إستثنائي، حياة ملؤها الشرف والكرامة والحرية، ليس له، وإنما لشعبه بأسره. يجدر فعلا تأمل هذه الوشيجة العميقة بين محمود والحلاج.يجدر دراسة أوجه الشبه، فمثلهما عادة يشكلون "إشارات" كبرى في مسيرة الأمم.إشاراتٌ، لأن إعدام مفكر بحد ذاته يُعد فعلا عنفيا بامتياز، وهو فعل عنفي إستثنائي لأنه لا يستهدف سياسي عادي، وإنما يسعى لاستئصال الفكرة ذاتها بأقسى الأدوات وأكثرها دموية وبطشا، وهو عادة فعل ينتج عن بيئة - أو نظام سياسي - منغلقة تسعى للحفاظ على إنغلاقها وتقاوم أي تغيير بالقوة الفالتة، إضافة إلى هشاشتها الداخلية المفرطة، التي تعوّضها بفعل عنيف يتوسل إشاعة تأييد والتفاف جديد.وهي غير قادة بطبيعة الحال على مقارعة الحجة بالحجة، منطقها القوة، وتعوزها قوة المنطق. إعدام محمود يشكل لحظة فارقة في حياة الشعب السوداني، لأنه لم يمثل إعداما حسيا، وإنما المغزى العميق له "الإعدام المعنوي"، الإعدام المعنوي لكل ما يمت للفكر والفلسفة بصلة، وهو يشكل لحظة فارقة لأن العملية بحد ذاتها تمثل تحولا جذريا و"مستمرا" في حياة وتشكّل المجتمع، نتيجة ردات الفعل المتولدة عنها، ودوائر الوعي التدريجي التي تصنعها، ما يخلق حالة مستمرة من المراجعة الناتجة أحيانا عن "عقدة ذنب جمعية"، وأحيانا أخرى عن الإنتباه العميق للأسئلة الوجودية والمجتمعية التي تطرحها "المحاولة" وأسميها "محاولة" لأن مهمة "الإعدام المعنوي" ليست سهلة، ولم تتحقق في التاريخ البشري، بل أن كل محاولة شبيهة - ناتجة عن القصور الذهني للمنفذين - ولدّت ردات فعل قادت في أحيان كثيرة إلى خلق الوعي ! رُغم إعدام الحلاج قبل قرون (309 هجرية)، ورغم قناعة قاتليه أنهم أفلحوا في إستئصال شأفة أفكاره، إلا أن فكره بقي حتى اليوم، بل وأضحى الحلاج بفكره وسيرته أسطورة في التاريخ الإنساني كله، وليس التاريخ الإسلامي فحسب. ومؤدى إعدام سقراط لم يكن نهاية الفلسفة اليونانية، بل على النقيض، أضحى سقراط أحد الآباء المؤسسين للفلسفة الإنسانية بأسرها. ومحمود، على الرغم من مضي 25 عاما على إستشهاده، إلا أن رؤاه ما تزال حية، ودوائر الوعي والإستنارة المنتبهة لفكره وتراثه المكتوب و"فعل الحياة" الذي فجره بإستشهاده تتسع تدريجيا. ولئن كان تعويل تيار الإسلام السياسي على نفي محمود - جسديا ومعنويا -، فإن هذا التعويل يضمحل يوما بعد يوم، لأن محمودا لم يعد مفكرا في حدود السودان فحسب، بل أضحى مثار اهتمام مراكز الأبحاث الغربية. وحين يُكمل مشروع الإسلام السياسي دورته، ستبدأ دورة الإهتمام بمحمود محمد طه، وفكره، وإستشهاده، ليس بالضرورة عن طريق الإيمان برؤاه الفكرية، وإنما - وهو الأهم - وضع الفكر في المكانة التي يستحقها، وإيلاء المفكرين والتنويريين عناية خاصة من قبل المجتمع، وكل ذلك كان يحتاج إلى تضحية عظيمة مهرها الدم، أو بعبارات الحلاج: "وضوء الدم" لكي ينهض الفكر بدوره الحقيقي، وتصبح الحرية حرية حقيقية ويصبح الإنسان نفسه حرا ومسؤولا عن كل قراراته وأفكاره في مجتمع حر لا يخشى "التفكير الحر". محمود - بإستشهاده - كان يمنحنا جميعا مستقبل "حرية الفكر"، فما أعظمه من فداء وما أعظمها من تضحية.
|
|
|
|
|
|
|
|
|