|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
المنفى مثل حيوان خرافي لا مرئي يكبر كلما طال أمده وتكبر معه حاجته التي لا تنتهي من أجساد المنفيين الغرباء وأرواحهم. إنه يحصد أجمل ما فيهم. يبدأ بالعين وينتهي بحاسة اللمس فإذا العالم يخف حتى يبدو وكأن لا وجود له. عندها تغيب الفواصل، تتداخل الحدود، يختل سُلَّم الأولويات، وتندثر القضايا الكبرى تحت ركام كثيف من الحروبات الداخلية الصغيرة. المنفى حين يطول أمد بقائه يتحول تدريجيا إلى مسرح تنسج حكاياته أيدي أرباب النميمة البارعة. السلطة المخولة ضمنيا لقتل الأذكياء وصناعة أبطال من ورق من على عرش الفراغ المكتظ بروائح المقاهي ومجالس الحجرات المؤجرة كمصانع خفية لالحاق الأذي بمن لا يزالوا يمتلكون عقولا حيّة وسط سهول الموات المترامية كالأسى.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
جالت تلك الخواطر في ذهني، الوقت انتصف نهاره، بينما لا أزال أنتظر مها الخاتم، والمسافة من ضاحية مدينة نصر إلى ميدان التحرير حيث مباني الجامعة الأمريكية تأخذ وقتا. كنت في آن واحد أفكر وأحذف وأضيف إلى تلك القصة المختلقة بشأن الموت المتوهم لزوجتي المزعومة أحلام ذات الجذور السودانية المصرية وشعور قوي يعاودني من لحظة لأخرى. شعور صيّاد، جلس على حافة شاطيء نهر معتكر، رمى صنارته بمهارة ودِربة، فإذا الخيط يهتز فجأة: الضحية في طريقها الآن لابتلاع الطعم.
هكذا، باكرا، أخذتْ تتراجع من ذهنها، قضايا الحرية والهوية وتحرر المرأة والتنمية المتوازنة والمساواة والحرب والسلام، ولم يعد يشغلها في "هذه اللحظة" سوى أحد أسراري الصغيرة: "زيارة المقابر نهار كل جمعة". لم تكن تدرك وقتها أنها بتلك الزيارة، والعالم غابة مليئة بالثعالب، كانت ترتقي سُلَّمةً نحو نقطة انتحارها المأساوي أعلى تلك العمارة السكنية الضخمة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
الوجه مرآة الروح.
حوالي الواحدة والنصف بعد منتصف ذلك النهار، طرقتْ مها الخاتم أخيرا باب مكتبي الفخم، للمكان تأثيره على مشاعر الناس وأفكارهم، لعل الوضع يختلف إذا جاءت لزيارتي قبل أكثر من عام في تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر. أحسُّ بتغير طفيف طرأ على نظرتي للناس والعالم. كنت قد آثرت السكنى في أحد الأدوار العليا. كان بوسعي أن أرى من كل ذلك البعد العلو المهيب لكُتلة جبل المقطَّم وهي تشرئب وسط المساكن الآدمية المتناثرة أسفل قدميها الصخريتين. لقد مرَّ من هنا ولا ريب، فراعنة، أنبياء، صحابة، فاطميون، أتراك، مماليك، جيوش نابليون، انجليز، وغيرهم الكثير، لكنَّ الكتلة لا تزال قائمة كشاهد على سير القوافل البشرية عبر التاريخ. لعل صمتها المطبق عما رأت وسمعت هو ما ظلّ يكفل لها الحق في البقاء حتى الآن.
هناك، بين جدران تلك الشقة الأرضية الضيقة كقبر، من نواحي عين شمس الشرقية، كنت سجين الأشياء اليومية الصغيرة، لا أنظر عادة إلى أعلى مما أضع عليه أقدامي، أقل همسة تزعجني، أدنى إيماءة من عابر سبيل تثير الهواجس في نفسي، كنت في سبيلي لوضع نهاية مأساوية لحياتي في أية لحظة، لو لا الكتب.. زيارة المقابر من حين لآخر.. وتلك الطقوس المذهلة لممارسة العادة السرية على حواف اليأس أوالجنون. والوجه مرآة الروح.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كان على صفحة وجهها آثار بثور سوداء متفرقة هنا وهناك. لا بد أن جدار روحها قد أخذ يتآكل في غضون سنوات قليلة. التي تجلس قبالتي الآن، لم تكن مها الخاتم، تلك الحسناء التي رأيتها وهي تعبر وقتها بوابة مكتب الأمم المتحدة مثل حلم بعيد المنال. هي إذن التجربة، اللعنة، مقياس إنسانيتنا، وتيرموتر ضعفنا البشري العظيم، البعض يخرج منها قويا مثل طائر الفينيق يهب من رماد حرائقه، والبعض الآخر يخرج منها مثل قنطرة لا تغري سوى وقع الأحذية ووطأة الأجساد الثقيلة ليل نهار. لكنَّ جسدها بدا ممتلئا قليلا. جسد يشع منه نداء غامض. نداء رغبة مَن عرف وخوف مَن لا يزال يدفع ثمن رغبة لا ثمن لها سوى العار أوالضياع. بدا لي في أحيان كثيرة أن ثمة علاقة عكسية بين الروح والجسد. كلما زاد وهج الروح كلما زادت عتمة الجسد. كنت أتابع حياكة الشراك في حضورها هذه المرة، راسما علامات الحزن والأسى والحسرة على رحيل عشق وهمي ضيَّعه موت مختلق، كان دمع الحنين إلى مابين ساقيها يسعفني، اختلاج جسدي ذعرا من فكرة السقوط في براثن الفقر في مدينة كبيرة مثل القاهرة مرة أخرى يُضفي على نبرتي مسحة صدق، والمصائب يجمعن المصابين. أثناء حديثي، كانت تتوغل بعيدا داخل عينيَّ، لا يكاد يطرف لها جفن، لا عن حياء غادرها مرة واحدة وإلى الأبد في زمن مضى، بل عن محاولات خفية للبحث في مكنوناتي القصيَّة عن نثار حكاياتها القديمة مع عادل سحلب، هذا ما قدرته في سري، لكنني مع مرور الوقت وأنا أرى دمعة تعاطف عميق مع مأساتي تسيل فجأة من عينها اليسرى أدركتُ أن الضحية لا محالة واقعة، وقد كان.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
"يا أخانا حامد، الرحلة طويلة والزاد قليل، وهذه البلاد يفتح فيها الشيطان للمرء ألف باب وباب، كل باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، نعم يا أخانا حامد، لقد علمنا من أخينا الفاضل عمر (وهو يحبك لوجه الله) أن جماعة من المبشرين بالمسيحية يزورونك هنا، بل وتذهب معهم لحضور صلواتهم في الكنيسة أحيانا، وفي هذا قال سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين: لا يجوز للمسلم دخول معابد الكفار كالبِيَع والكنائس والصوامع والديارات وأماكن تعبدهم؛ لأن في ذلك إقرارا لهم على عبادتهم وتشبها بهم، ودعاية للجهال إلى غشيان أماكن عبادتهم مما قد ينخدع بهم بعض الجهلة، ويتقربون بمثل عباداتهم ويقلدونهم، لكن إن كان الداخل من أهل العلم والإيمان والمعرفة التامة بتعاليم الإسلام ودخل لسماع ما يقولونه حتى يرد عليهم، أو يعرف اختلافهم واضطرابهم ليحذر منهم، ويبين تفاهتهم وما يفعلونه من الخرافات والخزعبلات، ليكون على بصيرة من دينه، ويعرف الفارق الكبير بينه وبين أديان أهل التحريف والتبديل، أو دخل الكنائس للنظر في بنائها، وكيفية تأسيسها حتى يحذر المسلمين من التشبه بهم في معابدهم وخصائصهم؛ جاز له ذلك، والله أعلم".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
"اللعنة على عمر"، قلت في سري، وفجأة تسربتْ من خلال احدى نوافذ الصالة الزجاجية المواربة أفقيا ذبابتان خضراوان أخذتا تحوِّمان حولنا بلا طنين، لقد بدا لي بمثابة أمر مثير للدهشة تماما: وجود الذباب في كندا. سنوات عديدة، مرت وقتها على وجودي في كندا، تجولت خلالها بين أكثر من محافظة، لكن تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها الذباب، دهشة لا تقل عن دهشتي عند رؤية الجليد لأول مرة. كان اللهاث وراء "أماندا" والغثيان الذي أخذ يصيبني في أعقاب مضاجعة العابرات قد دفعني إلى الإقتراب كثيرا من جماعة مسيحية تدعى "شهود يهوا". كنت أذهب معهم إلى الكنيسة صباح كل أحد. أُرتِّل معهم أهازيجهم الدينية وصلواتهم بصوت منغَّمٍ تحمله الجوقة بعيدا داخل نفسي. ذلك القرب من الناس في أعلى تجلياتهم الروحية بدأ يهبني بعض السلام الداخلي لبعض الوقت لو لا أنهم أخذوا يزعجونني بزياراتهم المتكررة إلى شقتي متأبطين كتبهم ومجلاتهم ومواعظهم التي لا تنتهي. لكن شيئا آخر جعلني أُقلِّب لهم ظهر المجن فانقطعوا عن زيارتي بلا رجعة. لقد علمت منهم بمرور الوقت أن المرأة منهم تظل عذراء إلى أن تفض بكارتها بعد كتابة عقد زواج رسمي تباركه الكنيسة. "اللعنة"، لقد كانوا متشددين في ثياب برَّاقة من التسامح وعشمي منذ البداية قد بُنيت صروحه على أمل أن الإقتراب منهم في ثوب المريد قد يملأ فراش المنفي الغريب بعلاقة دائمة. كنت أتابع حديث الهاشمي بذهن غائم. عمر أخذ ينظر إلى ساعته. لعله يتهيأ لأن أصحبهم لآداء صلاة المغرب التي غدت غاب قوسين أوأدنى. فجأة طلبت أذنهما لدقيقة. أحضرت ثلاث كأسات زجاجية. واحدة لي، واحدة للهاشمي، وواحدة لعمر. عدت بزجاجة ويسكي ماركة "ريد ليبل". ملأت الكأسات بهدوء شديد. ثم جلست ووجهي ناحية الهاشمي كمن يتابع حديثا جرى قطع تسلسله. رأيتهما وهما يتبادلان النظر في دهشة وحيرة وغيظ مكتوم وبلادة قبل أن يغادرا الشقة من غير أن يلقيا عليَّ السلام حتى. لا شك أنهما ظنا أن الشيطان يتقمص روحي في تلك اللحظة. كان الظلام يخفي ملامح الأشياء وراء النوافذ الزجاجية الواسعة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
- "تصور، يا جيري، لقد أخبروني في فرع الشركة، هنا في أتوا، أن عليَّ أن أبدأ العمل معهم كحارس مستجد، قالوا إن الإنتقال من محافظة لمحافظة قد أفقدني الأقدمية وبقية الإمتيازات الأخرى، بمعنى أن كل سنواتي التي قضيتها في خدمة الشركة في "وينبيك" كحارس أمين قد ضاعت هباء، هذا غباء..
قاطعني "جيري" بشيء من الضيق، قائلا:
- "يا، إلهي، ألا تسمع هذا الصفير، يا هميد"؟.
- "أي صفير، يا جيري"؟.
- "لا بد أنني أفقد عقلي، هذا الصفير، اسمع اسمع"؟.
- "لا شيء، فقط أسمع صوت أنفاسك اللاهثة، ربما أن سماعة الهاتف لديك بها عطل ما، هل أنت بخير، يا جيري"؟.
- "أبدا، سماعة الهاتف جيدة، لكنني بعد رحيلك بيوم واحد من المدينة بدأت أسمع أصواتا وطنينا غريبا أقرب إلى الصفير، الآن الصفير يملأ أُذنيَّ، إنه يتابعني أينما ذهبت، الصفير الصفير، يا هميد، أكاد أفقد عقلي، ليتني كنت أصما، من غير المعقول ألا أحد غيري يسمع الصفير، هل يعقل أن الصفير يختارني أنا فقط من دون الناس كلهم؟، الصفير الصفير".
- "جيري؟، كل شيء على ما يرام، فقط دعنا نتحدث بهدوء، ما المشكلة الآن"؟.
- "حسنا، في البداية ظننت الأمر مجرد حالة عرضية، لكن الأمر بدأ يتحول خلال اليومين التاليين إلى جحيم لا يطاق، طبيب الأسرة المعالج كشف عليَّ بالسماعة وبأنبوب غريب أدخله إلى أذنيّ، قال لا توجد أي التهابات، أومادة شمعية قد تسد الأُذن، أجريت بعدها فحوصات عديدة بعد أن أحالني على وجه السرعة إلى أخصائي أذن وأنف وحنجرة، معدل الضغط طبيعي، الغدة الدرقية تؤدي وظيفتها على ما يرام، شكوكهم حول وجود خلل في الدورة الدموية تراجعوا عنها، لكن الأخصائي أمام حيرتهم وحيرتي سألني إن كنت قد تعرضت لدوي انفجار أوتناولت عقاقير معينة ، أجبته بالنفي، ثم شكك في احتمال أن لدي التهاب في الجيوب الأنفية أوفي الأذن الوسطى أوما بين الأذن والبلعوم، لا أدري، يا هميد، لقد فعلوا بجسدي ما لم يكن يخطر على بالي من قبل، لكن الصفير الصفير...".
وضعتُ سماعة الهاتف في وجوم شديد. بالكاد أقاوم الرغبة القديمة في البكاء. قلت في سري: "مسكين "جيري" المحب". الصفير يملأ العالم الآن. كان ذلك آخر عهدي به.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أقف خلف النافذة الزجاجية الوحيدة المطلة على منور البناية القاتم. لا أكاد أرى، أوأسمع شيئا، مما يدور داخل الشقة وخارجها، سوى صوت أفكاري، سوى وقع ذكريات متفرقة من هنا وهناك. الوقت عصرا. الشمس غائبة في مكان ما. ثمة شعور بأن كارثة مثل انهيار هذه البناية في طريقها إلى الوقوع في أية لحظة. أحاول تجنب الأمر ما أمكن. أغمض عينيَّ. أفتحهما ببطء. لا شيء تغير. نفس الشعور يتضخم. يتمدد نحو أعماقي. يغوص شيئا فشيئا. هكذا، دون مقدمات، ومثلما يفعل مد البحر في يوم عاصف ببيوت الصبية الرملية، قد ينهار البناء وينتهي كل شيء. هو الموت إذن. أنا، لا أهابه. قد أصافحه وقتها غير آسف مثل صديق أقبل بعد انتظار طويل. وجودي أوعدم وجودي بمثابة حدث لا يؤثر على حركة الأسهم في بورصة نيويورك أوطوكيو. مجرد حشرة أكملت دورة الحياة بين جدران شقة ضيقة على أطراف القاهرة. تلك مسألة لن تغير رحلات القطارات داخل بلجيكا. أمر لا يؤثر حدوثه على لقاءات العشاق المختلسة في بلادي. لن آسف حتى على مباهج أضحت مجرد رؤية مصحوبة بالحسرة لإغراء إعلان تلفزيوني شديد الجاذبية. ما أخشاه الرحيل كما جئت من قبل إلى هذا العالم من غير إرادة، ما يقلقني الرحيل من دون رأي مسموع لما يحدث، ما يقض مضاجعي الرحيل خلسة من غير وداع لقبر شقيق تنهض بيني وبينه آلاف الأميال.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أقترب من النافذة أكثر. "الغرفة باردة كالشوارع"، لا تزال. أنفث ملء صدري على سطح الزجاج البارد كأنف كلب. بقعة من بخار كثيف تتكون. أتراجع من النافذة خطوة. أمد طرف إصبعي السبابة صوب البقعة. أرسم أشكالا من البشر. أقترب من النافذة نصف خطوة. أشرئب. أنفث مرة أخرى حول الأشكال بحرص شديد. أتراجع مفسحا حيّزا لمتابعة عمل اليد ومجالا للرؤية. أنشغل بخلق سماء وأرض ونهر يسير منحنيا. يدركني التعب. أتهاوى على سرير الحديد الضيق كجثة. أجذب بطانية الصوف السوداء الرخيصة. أحكم جوانبها حول جسدي. الظلام يتكاثف. لا أقوى على النهوض وإضاءة النور. مزيد من الظلمة والبرد وصوت الريح والمطر. هو الشتاء إذن. لا شيء باعث للذكرى، لا شيء يوقظ الرغبة في الأنثى، سوى لوعة هذا الفصل الحزين، والنساء في وحشة هذا المكان، حيث الكتب والعناكب وصراصير الصيف وآثار العادة السرية واللاءات الثلاث، مثل "عشم إبليس في الجنة".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أغادر السرير ببطء وإنحناء ممض. ثمة محيط يتراكم داخل مثانتي. تكاد تنفجر. أضغط على مفتاح النور. لا تزال الغرفة غارقة في فوضاها. بكل ذلك الثقل، تناهت إلى مسامعي برغم شدة الزنقة، خطى الشيخ إبراهيم العربي، وهي تصعد في طريقها إلى الطوابق العليا، حيث الشمس والدفء المقيم صيف شتاء، في مثل هذا الطقس يتضاعف أجر الصلاة في المساجد ولا ريب. أباعد بين الساق والساق. أجذب سروال الصوف إلى أسفل. أتنفس الصعداء أخيرا. جذبت السروال إلى أعلى. كان البول يتدفق دافئا متقطّعا ناثرا على قدميّ بعض الرذاذ.
عقارب الساعة تشير إلى العاشرة ليلا. لا رغبة بي في طعام أوشراب أوخروج، لكني فتحت الباب وألقيت نظرة وسط دفقة من تيار بارد إلى خارج البناية، كان المطر قد توقف مخلفا وراءه بعض البرك الصغيرة الداكنة. أعود إلى الداخل. أغدو وأروح داخل الشقة مشبكا ذراعيّ حول صدري بلا سبب واضح. أتوقف بين الحين والحين خلف النافذة الزجاجية. أحاول النفاذ إلى ما وراء ظلمة المنور المطبقة. لا أثر لأرض أوسماء أووجه أونهر يسير منحنيا. كان يتناهى إلى مسامعي من وقت لآخر صوت أنابيب الصرف الصحي وهي تحمل من الطوابق العليا البول والخراء وأشياء أخرى قبل أن يغمرني الصمت من جديد.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
مر الآن، أكثر من ثلاث سنوات على أول لقاء لي بمها الخاتم. رأيتها قبل ثلاثة أشهر على الأكثر من على البعد. كان ذلك في ضاحية الميرلاند بمصر الجديدة. كانت خارجة للتو من مطعم لبناني في صحبة عادل سحلب. كان الوقت على مشارف الغروب. يتمشيان ببطء على الرصيف أسفل أشجار البونسوانا الكثيفة المتتابعة بزهورها الحمراء في اتجاه ميدان المحكمة القريب. هي تسند رأسها على كتفه وتضع يدها اليسرى حول وسطه في تراخ. هو يلف يده اليمنى حول خصرها النحيل بينما يتكلم. هي ظلت تمسح على شعرها الطليق بيدها الخالية من آن لآن دافعة برأسها كله إلى الوراء قبل أن تعاود النظر إليه بملامح حالمة. كانا في حالة استغراق عشقي تام. كنت وقتها أقف ملاصقا لعامود نور في انتظار مركبة عامة تقلني إلى ناحية حي عين شمس الشرقية. كان في عزمي شراء نصف زجاجة من خمر محلية يقوم بتصنيعها بعض المنفيين الغرباء في شققهم المؤجرة خلسة. كانت تلك الشقق تسمَّى "بيوت العرقي". لكن أكثر المثقفين وبعض من ذوي الحساسية المرضية الذين حولهم المنفى إلى شعراء في سبيل الحرية ظلوا يدعونها "واهبة الفرح المعبأ في الزجاج".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
كانت بيوت العرقي كشقق إيجار مفروشة تحتل موقعها في الطابق الأرضي أوالأخير من كل بناية سكنية لأسباب تتعلق بمحاولة إخفاء الروائح القوية المنبعثة من داخلها ما أمكن. لقد ظلت هذه البيوت تكتسب منذ البداية أهمية متزايدة بعد أن فقد عدد من المنفيين الغرباء الأوائل أبصارهم في أعقاب شراء خمور مصرية مرة واحدة وإلى الأبد.
أذكر هنا أن بعض أولئك العميان بدأ يخبر معارفه الجدد تحوطا من حدوث اختراقات أمنية قد تتم من قبل النظام الديكتاتوري وعيونه الكثيرة التي جرى بثها في القاهرة وسط المعارضين أن يقوموا بالضغط على رسغه بصورة معينة إذا حدث وأن صادفوه في مكان عام. كان يقول "هذه شفرة تأميني".
أذكر أنني تلقيت منه ذات مرة صفعة عمياء بعد أن قمت بالضغط عن طريق المزاح على مكان يقع ما بين صدره وبطنه. لا أذكر أنني عدت لاحقا إلى تكرار مثل تلك المزحة الثقيلة. لكن ما أذكره جيدا الآن أن للأعمى يد حَمَّال في الميناء. لم تكن أبدا يد عاملة خياطة في مصنع للملابس الجاهزة.
أجل، هذا العالم من الجدية بمكان. لقد بدأ يفقد حس الفكاهة لديه منذ أمد بعيد. أحيانا أتساءل بينما أتحسس موقع تلك الصفعة عند منتصف وجهي تماما:
ما الذي يمكن أن يحدث لو أنني قمت وقتها بالضغط على مؤخرته؟.
لا شك أنه سيعتقد آنئذ أنه وقع هذه المرة في قبضة "ل.. و.. ط.. ي"، لا محالة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أخيرا، وصلت إلى "بيت أشول" في نواحي "الألف مسكن"، إمرأة سوداء بدينة تلف ساقها اليسرى دائما بشريط طبي، ما إن تبادلك العرقي بالمال حتى تعود تجلس بلا مبالاة على كنبة في الصالة وتتابع النظر بمسكنة وتسليم غريبين إلى شاشة تلفاز صغير تتبدل مشاهدها المصوَّرة بلا صوت، لا تستجيب بعدها إلا لطرقات قادم جديد، كنت أجد عندها من حين لآخر بعض المنفيين الغرباء ممن يؤثرون تناول ما يعرف في "أدبيات العرقي" بمصطلح "كأس الطريق"، حتى هؤلاء لم تكن تتبادل معهم كلمة واحدة، اللهم إلا حين يطلبون مزيدا من الشراب، هذه المرة وجدت في معيتها ما بدا لي مثقفين غريبين في منتصف مناقشة حول ما أخذ يدعوانه في حوارهما المشتبك "مفهوم الحرية". كانا من الاستغراق بمكان أنهما لم يلتفتا حتى إلى وجودي على مقربة كما لو أن مسألة دخولي ومغادرتي لبيت أشول مسألة من شأنها أن تهدد استمنائهما الفكري في أية لحظة. لكنني لسبب ما رغبت في إيذائهما قبل مغادرتي مباشرة. قلت لهما وأنا أقف فجأة بينهما مستشهدا بأسماء مفكرين وفلاسفة من وحي خيالي المحض: "أيها الأصدقاء: ما سمعته منكم لمدة ربع الساعة لا ينتمي إلى مفهوم (المناقشة الايجابية) كما حدده وليم الإسبارطي، (فضاء المناقشة) يتم تصويره وفق جدلية ستيفن كولجاك الشهيرة كلقاء سريري يجمع بين إرادتين كما لو أن معركة صغيرة تنشب بين رجل عارم الشهوة وإمرأة شبقة لتوليد ما أسماه بيتر كوبنهاجن (الدلالة المثمرة)، ليلة سعيدة".
تركتهما آنذاك وهما يتابعانني في صمت وحتى النهاية بنظرتين مختلفتين: واحدة مصدقة وأخرى متشككة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
لا بد أن الصيني قد أفشى له شيئا من أمري أثناء تلك الليلة المشهودة.
حدست ذلك من وقع نبرته والطريقة المختصرة التي أنهى بها المكالمة الهاتفية.
وقد كان.
قال إنه يريد أن يحدثني عن أمر ما على انفراد.
وحدد منطقة محايدة للقائنا عصر ذلك اليوم:
مقهى في الهواء الطلق عند ملتقى نهري "أسيني بويني" و"الريد ريفر".
حين رنَّ جرس الهاتف صباح نفس اليوم، كنت وحدي داخل الشقة، أشاهد برنامجا عبر إحدى قنوات التلفزيون الإخبارية يتناول من وجهات نظر تخصصية مختلفة مسألة "زيادة كمية الكربون في الغلاف الجوي"، وما نتج عنها من ظواهر جديدة مثل "الاحتباس الحراري"، لكن الذكريات قبيل أن أرد على مكالمة عادل سحلب بدقائق أخذت بالفعل تبعدني عن متابعة ما يحدث على الشاشة شيئا فشيئا.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
في المساء
كانت تحب حضور الاحتفالات الراقصة
كيما تقتنص لحظاتها السعيدة.
...............
...............
كانت تحب التدخين
بينما تؤدي واجباتها المنزلية.
.................
.................
كانت تحب ارتداء آخر الموضات
في عالم الأزياء الجميل.
...............
...............
وكانت تحب كل هذه الأشياء الصغيرة.
كانت أغنيات "بوب مارلي" تتناهى من قلب ذلك المقهى على مدار الموسم الصيفي. ثمة شيء مثير للأسى يتخلل روحي كلما رحت أنصت إليه من حين لحين. "عند تحققات هذا المستقبل العظيم.. لا تنسى ماضيك.. ولا تحزني يا إمرأة". الشمس حانية. الأشجار تلقي بظلالها على المياه الهادئة والناس والأشياء بعدالة بدت لي في تلك اللحظة كدعوة صامتة للحب والإخاء والنسيان. عادل سحلب يجلس على مائدة طرفية في انتظاري على قلق، لا يتوقف عن التدخين بشراهة، أمامه زجاجتا بيرة باردتين من ماركة "ملواكي آيس" المحلية، أشار لي من على البعد، لكأنه يلفت انتباهي إليه، لقد بدا لي في أي وقت بعد حادث انتحار مها الخاتم وديعا مسالما وعلى قدر كبير من الطيبة، قلت في نفسي لسبب ما إننا نخطو في بعض الأحيان خطوة، نفعل ذلك بكامل وعينا وإرادتنا الذاتية، لكننا لسبب من الأسباب نفقد بقدر أوآخر قدرتنا على التحكم في ما يلي ذلك من خطوات، لعله سوء التقدير، لعله إغراء اللحظة وفتنة الإغواء.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: الطيب شيقوق)
|
حللت أهلا ونزلت سهلا أخي الطيب.
كنت أرتشف بيرتي متفقدا المكان من حين لآخر والمقرن يعج بحركة دائبة على غير العادة. كان هناك خيمة للرقص الفلكلوري تعاقب عليها راقصون من دول وألوان مختلفة، داخلون إلى المطاعم المتناثرة وخارجون منها يبحثون عن شيء أوآخر، "يوم كندا"، بداية الاستقلال القريب من بريطانيا، شيء ينفصل من جسد الانجليز، مثل كتلة الجليد الضخمة تبحر بعيدا ببطء ولا عودة، الأمر حدث في أمريكا بقذيفة مدفع، لكنه بدا هنا أقرب إلى تلك الآثار التي تحدث بفعل الزمن وعوامل الطقس والبكتيرياء على جسد قديم.
كنت أصغي وسط تلك المباهج إلى عادل سحلب بلا مبالاة وهو يخبرني بآخر تطورات الصيني، لقد بدا لي جليا أنه عاجز عن الذهاب خطوة واحدة نحو موضوع جاد من غير أن يتزود بجرعة خمر وأخرى، فكرت في نفسي أنه دعاني لأمر آخر ولا بد، لا يمكن أن أطوي كل هذه المسافة لسماع أمر روتيني من حكايات المنفيين الغرباء. قال إن اليوناني قام بطرد الصيني من داخل النادي الليلي على نحو مهين. كل ذلك التدريب الشاق والشدة التي أخذ الصيني نفسه عليها لفترة طويلة وسعيه الجاد للعمل كمحترف في كندا ضاع هباء منثورا. قال الصيني "الآن" داخل الشقة، يوصد عليه باب غرفته أغلب الوقت، ونادرا ما يتبادل معه الكلام، "إنه مكتئب". أخبرني، حين سألته عن السبب، أن الصيني تبين له أن اليوناني كان يعده سرا لوظيفة أخرى، لا تلك الوظيفة المعلنة، لقد كان وقع المفاجأة عليه عظيما. قال عادل سحلب إن اليوناني حسب ترجمة الصيني كان يعده للعمل في وظيفة "الحفَّار الذهبي". ترجمت إلى الانجليزية حرفيا ما أخبرني به عادل سحلب للتو "غولد ديغر". ولم أفهم.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
فجأة، أخذ عادل سحلب يتلوى في مقعده، ضاغطا على وسطه بكلتا يديه من شدة الضحك، بعد أن سبقني بثلاث زجاجات من البيره، قبل أن يخلد على حين غرة إلى صمت حزين، "لكأنه لم يضحك"، قلت في سري، وقد خطر لي أنه يتقدم في العمر بسرعة مثيرة للشفقة. بالنسبة لي، لم تكن واقعة الصيني مضحكة إلى تلك الدرجة، أكثر ما لفت انتباهي إليها أنني بدأت أفكر في وجود معارف في هذا العالم لم ألتفت إليها من قبل، "حتى هذا يحدث في كندا". وقتها أخذ عادل سحلب يسرد لي مجمل الحكاية ببراعة كادر خطابي سابق. قال إن هناك بعض النسوة العجائز يذهبن إلى النادي الليلي بحثا عن رجال في أعمار صغيرة ليمارسن معهم الحب لقاء مبلغ كبير من المال، يُطلق "على الواحد من هؤلاء الرجال" لقب "الحفَّار الذهبي حمانا اله ". وأخيرا سألني عما إذا كنت أعتقد أنه السبب المباشر في انتحار مها الخاتم؟.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أحسَّ منذ دقائق بالخدر يثقل باطن قدمي اليسرى. أبدأ في نفضها وتحريكها يمنة ويسرة. أجذب نفسا عميقا. أُبقيه داخل رئتيَّ لحظات. أنفث ملء صدري. بقعة كبيرة من البخار تتكون على زجاج النافذة. أرسم عليها هذه المرة رجلا وإمرأة في حالة عناق حميم لا يتسلل إليه ملل. تحتهما أُجري برأس البنصر اليمنى نفسها نهرا تحف جانبيه الخضرة. "هل أضع الشمس والقمر معا"، أتساءل. يدركني التعب. أتهاوى دفعة واحدة على سرير الحديد الضيق وأفرد الغطاء. الفراش بارد كما لو أن الملاءة نُسجت من مئات الأنوف الكلبية. لدي مقابلة غدا، في الجامعة الأمريكية، مع دكتور عراقي يدعى ريسان الكوفي، خلالها يتحدد مصيري إلى حد بعيد، هذه فرصة العمر والحياة أضحت باهظة التكاليف لتعاش.
الظلام يتكاثف.
المطر يعاود السقوط في الخارج بعنف.
شيئا فشيئا، أغرق داخل موتي الصغير: النوم.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
وحدث بعد ذلك أمر عجيب. كان كل شيء قد أخذ يتم بيننا في صمت وتواطؤ وسرعة غريبة حد الدهشة والحيرة. خرجنا من المقبرة والعصر يلملم بقاياه الأخيرة. لعلنا انتهينا عبر تلك الدموع من دفن أحزان الماضي مرة واحدة وإلى الأبد. لقد خيل لي للحظة ونحن نغادر آخر القبور بسيرنا الخفيف وكأننا دخلنا كشخصين وخرجنا كشخص واحد بمشاعر مختلفة. حتى القدر نفسه بدا سخيا لحظة أن عثرنا على عربة أجرة قرب كل ذلك الموات بسهولة ويسر والجو نفسه قد أخذ يرق ويلطف كما لو أن يد الثلج تمرر يدها على جبين النار المشتعل منذ فترة. لم نتبادل كلمة واحدة حتى انبثاق صرختي اللذة معا. التواطؤ والصمت سيدا الموقف. غادرنا القبر وقد جفت بحيرات الدمع في أعماقنا. كنا نسير بين القبور وقد تشابكت يدانا بحركة عفوية. هذه المرة، بدت يدها دافئة لدنة حُلوة الملمس ومطواعة. هبطنا من عربة الأجرة في صمت. كنا نجلس على المقاعد الخلفية متلاصقين وكل منا ينظر في اتجاه نافذة مختلفة وجسدها لا يكاد يتوقف من بث اشاراته الخفية. انتظرتني خارج صيدلية في شارع الطيران قريبا من حيث تسكن. أحضرت عازلا طبيا على عجل. لم تسألني عن شيء. تركتْ لي يدها اليمنى وذراعي اليسرى تحتك بدفء صدرها المكتنز بين كل خطوة وأخرى. صعدنا إلى الطابق الرابع. فتحتْ الباب كما لو أن الأمر جرى التدرب عليه في الخيال طوال حياة كاملة. أغلقتُ الباب ورائي كزوج يسير في أعقاب زوجته بعد حضور مناسبة اجتماعية عادية. رأيتها وهي تتخفف من ملابسها بينما تواصل السير صوب الحمام. كنت أتبعها بخطى تعرف طريقها جيدا كما لو أنها لم تكن أول مرة أدخل فيها إلى شقتها. الصمت والتواطؤ سيدا الموقف. كنت أساعدها في خلع ستيانها بتلقائية أدهشتني. انحنتْ تضبط توازن الماء الباردة والحارة. آنئذ أمكنني رؤية موضوعها الخاص لأول مرة وهو يطل من زاوية خلفية ولدت في جسمي رعشة خفيفة وقدا بدا حليقا حديثا. داخل حوض الحمام، والصمت والتواطؤ سيدا الموقف، أخذت أدران النهار.. رائحة العرق الزنخة.. وآثار الشمس المدبوغة على الجلد تتحلل وتتساقط وتذوب وتنجرف مع رغوة الصابون بعيدا. قمتُ بتجفيفها. سبقتني إلى غرفة نومها. وجدتها عارية تنتظر. رأسها ساقطة صوب الحائط. شعرها ملموم إلى أعلى. وساقاها متباعدتين. وقد كان حليقا. كانت تبكي بلا صوت ودموعي تتساقط أعلى نهديها قطرة قطرة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
وصلت وقتها أسرة عمر من السودان، زوجته ذات القامة العالية وبناته الثلاث، وقد بدا عليهن تعب السفر بدرجات متفاوتة، على الرغم من تلك الأشواق المختزنة لرب عائلة غاب عنهن نحو احدى عشرة سنة متصلة، قلما اتصل خلالها بهن من منفاه الوسيط في أثيوبيا. لقد بدا وكأن الأمور عادت إلى طبيعتها الأولى. مُنحت العائلة بيتا حكوميا مكونا من ثلاث غرف مخصصا لمحدودي الدخل. عمر يعمل كعامل نظافة في شركة صغيرة يمتلكها أحد المهاجرين التشيليين الذين فروا في أعقاب سقوط سلفادور أليندي عام 1973. البنات التحقن بمدارسهن والأم بدت سعيدة بالذهاب لمدرسة تعليم الكبار في "الريد ريفر"، والاعانات (لا سيما خلال السنة الأولى) قد بدأت في التدفق على الأسرة المهاجرة من منابع حكومية مختلفة. كان أثر النعمة أكثر ما يكون وضوحا على جبهة عمر السوداء التي أضحت كما أخذ يعلق بعض المنفيين الغرباء خلال ساعات النهار الميتة في "بورتيج بليس" مثل جلد حذاء أسود جديد خرج للتو من بين يدي ماسح أحذية لا يعوزه الاتقان. كانت تلك المجالس تفيض في بعض الأحيان بالكثير من الروائح المزعجة. وثمة شيء جدير بالاحترام، شيء بدا لي غامضا لفترة، أخذ ينعكس من وجه عمر كلما رأيته، لعله المعنى الذي تمنحه الأسرة للرجل.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
لم يكن صباحا عاديا، حين استيقظت من نومي متأخرا بعض الشيء، الشمس لا تزال حانية وهي تضع أصابعها البيضاء بالكاد على عتبة النافذتين الزجاجيتين الواسعتين، "أماندا" لا تزال نائمة إلى جواري، أنفاسها خافتة منتظمة، وعلى ملامحها تعبير ميت، لعلها عادت على مشارف الصباح، بالكاد أتذكر طرفا من أحداث الليلة الماضية، ما يحضر إلى ذهني الآن أنني بدأت في تجرع البيره بعد غياب الشمس مباشرة، كنت أشرب وحدي في غرفة المكتب و"أماندا" وشقيقتها الكبرى "مليسيا" تستعدان بضجة أنثوية أليفة للذهاب وحدهما إلى أحد النوادي الليلية.
أفكر أحيانا أن "مليسيا" لا تصلح لأن تكون حجر الزاوية في بناء بيت أسري، تركتْ في معية زوجها السابق وهي لم تكمل السابعة والعشرين بعد أربعة توائم ذكرين وأنثيين أصحاء وتفرغت تماما لمغامراتها العابرة، لا أتذكر لها الآن لحظة حنين واحدة، مثل ضيف، ألقى رحاله بين قوم مجهولين ورحل صوب المجهول بلا ذكرى، لا شوق لقُبلة من فم صغير، لا قلب يهف لنداء يتلمس طريقه في الليل نحو أمومة غائبة بلا جدوى، مثلي تماما، لا أكاد أرغب حتى في تذكر أشياء من حياتي الماضية، المنفيون الغرباء لا جذور لهم ، معنى حياتهم يتكون دائما عبر سلسلة متصلة من رحلات تتم غالبا بلا معنى، التفسخ هو الصلة الوحيدة التي أخذت تربطني بهذا العالم.
منذ البداية، كان لدي شعور غامض أن طريق "أماندا" لن تفضي في نهاية المطاف إلى شيء.
لعل في داخلي نزعة دفينة للانتحار.
أذكر أنني اعتذرت من مرافقتهما، كنت مُتعبا، والبيره في نحو التاسعة كانت قد حولتني إلى مجرد خرقة على طرف حوض في مطبخ جرى للتو غسل آخر أوانيه. ومع ذلك، ظللت أواصل السُكر بعد ذهابهما مدفوعا من قبل وعد حميم همست به "أماندا" في أذني قبيل ذهابهما: "بعد عودتي أريدك أن تأكلني حية". ذلك ما كان من أمر البارحة وبين الجنة والنار قيد أنملة.
نفضت عني تلك الأفكار السوداء بهدوء. لا تزال رأسي مثقلة من أثر البيرة، كان مرأى "أماندا" وهي نائمة إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيرا لهواجس أحاول عبثا التخلص منها. طبعتُ على جبينها قُبلة خفيفة. وسرت بخطى حافية صوب الحمام. كنت دائما أترك باب الحمام مفتوحا. الوحدة أرض خلاء لا أبواب لها. لكنني لا أزال أواصل نفس العادة مع "أماندا". هكذا، بدأت أفهم بمرور الوقت معها أن التوحد بستان ينطوي على الاختلاف والعزل بين أنواعه يُميتها. أفرغت أمعائي بتمهل. أنهيت تنظيف فمي وأسناني مدندا أثناء ذلك بموشح أندلسي قديم:
عَبِثَ الشوق بقلبي فاشتكى
ألم الوجد فلبت أدمُعي
أيها الناس فؤادي شَغِف
وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف
كم أداريه ودمعي يكُف
أيها الشادق من علمكا
بسهام اللحظ قتل السبع
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أنهيتُ أعمالي داخل الحمام، فقد عدلت في اللحظة الأخيرة عن حلاقة ذقني النابتة، يوم سبت آخر، لا يزال في الوقت متسع إلى أن تستيقظ "أماندا"، كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصالة، لا شيء يعكر صفو الهدوء داخل الشقة، سوى أزيز الثلاجة المتقطع الرتيب، فجأة وقعت عيني على رجل غريب لم أره من قبل ينام بطمأنينة على ذات الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحب أحيانا، بنظرة واحدة لا أكثر أدركت تفاصيل ما حدث أثناء نومي العميق الليلة الماضية، كنت أواجه تحديات وجودي كرجل لأول مرة في حياتي على ذلك النحو السافر المستفز حد الغليان.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
كنا جالسين على حاجز الأمواج الأسمنتي، أقدامنا متخالفة معلقة في الفراغ، وأيدينا إلى حافة الحوض الخلفية مبسوطة تسند ثقل ظهورنا، بعد دقائق من مغادرتنا لتلك المائدة الطرفية حول المقهى المقام في الهواء الطلق. كان "أسيني بويني" يلوح أمامنا على بعد خطوات قليلة، مياهه راكدة معتكرة تقلقها حركة الزوارق النهرية الصغيرة من آن لآخر، على ضفته الأخرى تنهض غابة صغيرة من أشجار الآش بينه وبين "الريد ريفر"، وقد ذكرني موقعها لسبب ما بموقع جزيرة توتي في السوداني، وهي تنهض بطيبة بين نهري النيل الأبيض والنيل الأزرق، قبل أن يلتقيا ويتوحدا في مجرى نيلي واحد، وتلك بداية نهر النيل ورحلته في ما يشبه المعجزة عبر صحاري وكثبان رملية وأراض صخرية صوب مصبه على البحر الأبيض المتوسط في مصر، وأنا أعاني سريان البيره طفيفا على أطرافي، بدأت أتخيل مشهد هندي أحمر مر عبر ذات المكان قبل ألف عام، من المؤكد أنه لم يطرأ وقتها على ذهنه أن الحياة على جانبي النهر يمكن أن تشهد كل هذا التحول الدرامي. كانت أصوات المحتفلين بعيد "يوم كندا" تتناهى من غير مكان، "واسيني بويني" لا يزال يتككأ، لكأنه في تكاسله لا يريد أن يفوِّت عليه بهجة الألعاب النارية عند حلول الظلام، قبل أن يواصل طريقه للقاء "الريد ريفر" العارم المندفع في حياء وتهيب. كنت أتشاغل بمرأى أطفال صغار، أخذوا يتطلعون إلينا عبر ذلك الفضول العفوي الخالد والعالم لا يزال في عيونهم طازجا بكرا لا تشوبه الأحاسيس المعقدة، حين ألقى عادل سحلب ذلك السؤال، "هل تظن أنني المسؤول المباشر عن انتحار مها الخاتم"؟.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قلت في نفسي "الموت آخر ما يذكر في هذا المقام". أدرت رأسي صوب عادل سحلب ببطء وحذر. لم يكن ينظر نحوي. كان مطرقا يتلاعب بقدميه في الفراغ ومرأى الأرض من تحته بدا داكنا. أعدت بصري إلى مداره الأول متفقدا من حولي تلك الظاهرة الطبيعية الموحشة: "الأشياء داخل العتمة (تبدو ولا تبين)". حين التقيت نظرته، على ضوء المصابيح المتناثرة، والمحتفلون يضيقون مساحة اليابسة المنبسطة بعد النهر انتظارا لبدء الألعاب النارية الوشيك، لم تكن نظرة عاشق سابق على أبواب العزاء، كانت نظرة طائر ذبيح. قصدت أن أطيل مدى الصمت أكثر فأكثر. آناء ذلك، بدأت أدرك مدى الفجيعة بوضوح تام. عادل سحلب. إسم له شنة ورنة وسط مجتمع المنفيين الغرباء في القاهرة. لكنه يبدو الآن شأن الثوريين الآخرين في عالمنا الرابع، واجهة براقة ومحتوى معتم، وهو يعطي كل تلك الأهمية لعوامل خارج ذاته منتظرا بنفاد صبر أن تحدد إجابتها مصيره الخاص. قلت في نفسي "لا، لن أحل تناقضاته العالقة". لكنه عاد لتكرار نفس السؤال بالحاح طفل حائر هذه المرة. عندها فقط طلبت منه تأجيل إجابتي إلى حين الإنتهاء من رؤية الألعاب النارية التي بدأت وسط صيحات المحتفلين بالفعل. لم أكن أراه والأشكال النارية الجميلة تُزين سماء النهرين لكنني كنت أحسّ بوجوده البائس وقد بدا مثل لحن جنائزي نشاز من خارج جوقة الفرح العام، وتلك محنة السياسي السابق وحده.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
كنا نسير في اتجاه شقة عادل سحلب ببطء وتمهل. كان قد اعتلى منبر النظريات الكبرى ومنصة الأفكار الكبيرة على حين غرة. لا يتبادر إلى ذهنك، يا رفيق حامد، أنني مجرد كادر جماهيري سابق، لست خطيبا دينيا في مسجد الحزب فحسب، ما كان من أمري في القاهرة ليس سوى دور في مسرحية هزلية كنت قد أتقنت القيام به مكرها من باب "العيش بالحيلة"، ولو إنني اتبعت وقتها ما يمليه عليَّ فكري وقناعاتي الحقيقية لمت من الجوع أوالتشرد. العالم لا يكاد يطيق وجود الأذكياء هذه الأيام وحكمته لاءات ثلاث: لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم. لم أكن يوما في موقع الفيلسوف الآمن الذي يشير بسبابته إلى علل الأشياء بلا خشية. كان الخوف من المجهول لحظة النطق بالحقيقة ولا يزال يحكمني. أنت لا تعرف بأس الرفاق، لأنك لم ترَ حتى الآن سوى ابتساماتهم، لقد أوغلوا في تقديس الرموز حد تأليههم، ولو أنني أخبرتهم وقتها أن ما اعتبروهم مأخوذين ببريق تضحياتهم البطولية ليسوا في واقع الأمر سوى رجال دين في ثياب حديثة لانهد المعبد وتساقط على رأسي بما فيه. الماركسية وغيرها من النظريات الحديثة لا ينتجها سوى منهج عقلاني. نحن أسرى لمناهج ثنائية تقليدية قائمة على النقل والحفظ والالزام والتلقين. المأزق لا يبدأ من زعماء اليسار التاريخيين فحسب. المأزق تعود جذوره إلى رواد النهضة لدينا أنفسهم. قاسم أمين مثلا. حين نادى بحرية المرأة، أنتج ذلك بمنهج الخرافة السائد آنذاك ولا يزال، إنه حين يدعو أن تكون وضعية المرأة لدينا مماثلة لوضعية المرأة في أوربا من حيث الحريات العامة يستدرك قائلا عند كل نقطة "ولكن هذا لا يتعارض مع الاسلام"، إنه لا يحدث قطيعة تاريخية مع النظرة السائدة إلى المرأة، قاسم أمين للأسف لم يختلف مع المرجعية السائدة إلا على مستوى تأويل المرجعية نفسها، إن خطورة مثل هذه الدعاوى تكمن في كونها لا تفعل من داخل ثوب تقدميتها القشرية سوى إعادة إنتاج التخلف في قالب جديد. ما فعلته النهضة الأوروبية كان أمرا أكبر من ذلك وأكثر أصالة. إن الفعل الحاسم للنهضة الأوروبية تمثَّل في نقل تصورات الإنسان لنفسه والعالم من خارجه إلى داخله، من المقدس المطلق إلى النسبي التاريخي، وهذا جوهر العقلانية. لم يكن عادل سحلب وهو يفلسف الأمور فجأة على ذلك النحو "مثل رجل ثمل يمشي فوق جليد زلق". لقد بدا لي منطقيا إلى حد بعيد. لكنني لسبب ما لم أستطع أبدا أن أواصل الإصغاء إليه من دون التفكير في عمله كغاسل للأواني والصحاف في مطعم "سويس شاليه" ذي الشعبية الواسعة في كندا. لقد بدت لي آيديولوجيا اليسار أثناء حديثه مثل آنية حوت إيدام ملوخية لزج طَعِمَ منه الكبار ثم عبثت به أصابع طفل متخم مسافة قبل أن يترك ليجف ويتحجر على حوض غسيل جاف.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
كمن يُحلَّق بجناح قوي وحيد في سماء شاهقة العلو.
هاتفتني مها الخاتم في صباح صحو جميل. كان صوتها دافئا مترعا منسابا يضج كعادته بالحياة. طلبت مني أن ألتقيها لتناول وجبة الغذاء معا في مطعم لبناني في مصر الجديدة شهد إعلان حبي وميلاد علاقة بدت واعدة. قالت بكلمات غامضة إنها ستقوم بعدها بصحبتي في رحلة العمر. وافقتها تلقائيا على تناول الوجبة. كان عليَّ في مساء ذلك اليوم أن أكون المتحدث الرئيسي في ندوة ينظمها "طليعة الشباب" موضوعها على ما أذكر "الأمثال الشائعة كآلية للسيطرة الاجتماعية السائدة". حين بدا صوتها فجأة مثل إناء زجاجي سقط من شاهق على سطح صلب، سألتها: "إلى أين ستكون الرحلة"؟. كان ذلك موافقة ضمنية مني بتعديل خططي المسائية بشأن الندوة والذهاب معها إلى نهاية العالم. كما انتهتْ، عادت نبرتها الآسرة تطرق مسامعي من جديد بمزيد من الغموض والإغواء. قالت "ستذكر ذلك طويلا". كما يقول الأدباء الروس: الشيطان وحده يعلم كيف قضيت ما بدا لي ساعات أشبه بقرون طويلة متفكرا في كلماتها مستعيدا حلاوة صوتها متخيلا أية رحلة يمكن أن تكون بعد تلك الوجبة؟.
قبل أن تغلق سماعة الهاتف، قالت بكلمات شاعرية أدهشتني إنها ترغب لحظة حضوري أن ترى مدى أناقتي أفقا أزرق، هواء عليل وعاصف معا، سماء لا تشوب صفاءها سحب، نحن في طريقنا أخيرا للوقوف داخل محراب لحظة إنسانية خالدة. أتذكر آخر عبارة لها خلال تلك المحادثة التي أخفت في ثناياها الناعمة شيئا أقرب إلى الجحيم: "عادل!، أحبك بجنون".
لو أن الحرية مسألة شخصية فقط لا علاقة لها بما يحدث في الخارج، يا حامد؟.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أثناء سيرنا المتمهل نحو شقة عادل سحلب، خيل لي للحظة وكأنني أتوغل داخل دهاليز كابوسية لا مخرج لها، مخلوقان بائسان، في بلاد بعيدة، لا يدرك أحدهما شيئا عن تاريخ رفيقه البعيد الموغل في القدم والنسيان، التقيا في القاهرة من على البُعد خلال مناسبات عامة عديدة، افترقا كما التقيا كغريبين ثم التقيا مرة أخرى وبينهما هذه المرة جثة فتاة ألقت بنفسها من أعلى نقطة في بناية سكنية ضخمة، قبل أن تنشطر وتتخذ طريقها إلى دواخلهما مناصفة في شكل ذكرى، أحدهما لا يريد حتى أن يتذكرها، الآخر يحاول عبثا أن يتقيأها بسؤال لا يُعيد إليها حياة. كان عادل سحلب بعد نفاد صبر يتوقع إجابتي في أية لحظة. لكنه لسبب ما اعتلى منبر النظريات الكبرى ومنصة الأفكار الكبيرة على حين غرة. أخيرا، وصلنا إلى شقته المشتركة مع الصيني. الأخير، لم يكن هناك. أحضر عادل زجاجة فودكا كبيرة من داخل المطبخ وكأسين وكان قد أعد مجلسا على البلكونة على عجل حتى أنه لم يهتم بتبديل ثيابه بأخرى بيتية. لقد بدا واضحا أنه يحاول جاهدا الإرتقاء عبثا بمواقف وضيعة حدثت في الماضي بروافع فكرية وجمالية مكثفة. كنت أراقب كل ذلك بغير قليل من عدم الارتياح ولو أنه تصالح مع جوانبه الوضيعة بمثل ما فعلت لجنبني مشقة مواجهة أكثر الأشياء احتقارا بالنسبة لي في هذا العالم: جلد الذات.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
في اليوم التالي مباشرة، منتصف نهار تلك الجمعة، بدا وكأننا على موعد، جاءت داخل رداء سابغ فضفاض، على رأسها طرحة، وجلست على الأرض إلى جواري قبالة ذلك القبر في هدوء شديد. قالت بصوت خافت إنها ظلت تهاتفني طوال الليلة الماضية و"هذا الصباح" لكن هاتفي ظلّ مغلقا "لا يرد". قالت "أنا آسفة". بعد قليل، أخرجتْ من شنطة يد سوداء مصحفا صغيرا وراحت تقرأ بعينين ملؤهما دموع. لم أعلق بشيء. بل لم أفه بكلمة واحدة. واصلتُ الاستغراق إلى القبر الحجري المصمت بعينين جافتين تماما. حاولتُ وقتها عبثا تذكر تلك المناسبة. كان عقلي صفحة بيضاء ورد فعلها فوريا مباغتا. لم أشعر سوى بقالب التورتة وهو يلتصق على وجهي بعنف وبكوبي عصير البرتقال وهما يفرغان على رأسي وقبضتي يديها وهما تتهاوان على جسمي كله بلا شفقة. حين غادرت شقتها، في حال يرثى لها، كانت هناك، على الأرض، تتلوى ويداها مضمومتان بين فخذيها وفمها يُزبد. "انظر"، تناهى صوتها وصوت شنطة اليد السوداء وهي تُفتح في آن واحد. أرتني خصلات شعر كثيرة قائلة إنها وجدتها على مخدتها هذا الصباح.
كيفية الهروب من كيان آدمي آئل للسقوط في أية ثانية. ذلك كل ما فكرتُ فيه لحظتها. بدأ الصمت الثقيل المطبق يلف المكان مرة أخرى. قالت قريبا لن تكون على رأسي شعرة واحدة. رأيتها تزحف نحو القبر ببطء. وضعت خصلات الشعر عند حوافه وعادت إلى مكانها. خيل لي لوهلة أنها تبكي في صمت. لم يطاوعني قلبي لمعاودة النظر إلى وجهها. نهضنا في وقت واحد بلا اتفاق وسرنا متباعدين صامتين والشمس تنحدر صوب مغيب شاحب. قلت في نفسي لو إنني فقط تذكرت أن يوم أمس قد صادف مرور ثلاث سنوات من علاقتنا معا.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أقف الآن على قمة جبل اللحظة الحاضرة. أحاول النظر إلى ما بعد الأجمة المنبسطة صوب السهل الواسع وعباب المحيط. لا أتعرف على ذاتي القديمة وراء ركام كل هذه السنوات. سوى ملامح غائمة تنحدر إليَّ أحيانا من خطاب صديق نسيت للأسف حتى ملامحه. "عزيزتي ليليان"، سألتني ذات وردية بعيدة "لماذا لم تقم حتى الآن بلم شمل أسرتك في كندا"؟. لكأني أقرأ وقتها من كتاب الحكمة "ليليان، عزيزتي ليليان، إذا لم يكن لدى المرء من الأسباب ما يجعله يغادر أرض أجداده، فلا يفعل". المنفى آكل الحواس. يبدأ بالنظر وينتهي باللمس.
ما يتبقى بعد ذلك، لا شيء.
قبل يومين، أثناء عملي الليليّ كحارس في وزارة الزراعة في "أتوا"، والساعة تشير إلى الرابعة صباحا، حدث أمر هزَّ كياني كله، كانت صورة العزيزة ليليان تتصدر كل الصحف اليومية.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
قالت إنها تريد أن تراني على نحو ملح.
وسألتني:
- "ألا تفتقدني، وليم"؟.
- "بلى".
- "لا تقلق، سأحضر الآن، هذه المرة مختلفة، إنني جادة، أحبك".
- "ولكن..
- "ماذا"؟.
- "إنني مشغول الآن".
- "لا بد أن في الأمر فتاة أخرى، وليم"؟.
- "أبدا".
- "إذن سأحضر، كن في انتظاري، اتفقنا"؟.
- "لا، أرجوك، في يوم آخر، لا بد أن أنهي المكالمة الآن، أحبك"؟.
- "سأتصل مرة أخرى، وداعا".
- "وداعا".
كان اليوم الثالث في عطلة سنوية تمتد لعشرة أيام. لقد اخذت ساعات العمل الأساسية والإضافية معا الكثير من أحمال الحزن المتراكمة على كاهليَّ بمرور الأيام والسنوات. هكذا، بعد فترة طويلة، عادت ذكريات الماضي البعيد تهاجمني دفعة واحدة، ولم يكن ثمة من معين إلى جانبي، سوى النوم لساعات قليلة.. التفكير طويلا بلا جدوى في جدوى ما حدث هنا وهناك.. ما لا يحصى من أكواب القهوة السوداء المرة خلال النهار.. القراءة أحيانا.. وتجرع زجاجة ويسكي كاملة على مدى المساء والليل وساعات الصباح الأولى. لقد بدأت الشقة منذ نهاية يوم الاجازة الأول في التحول شيئا فشيئا إلى مقلب للقمامة. رائحة السجائر المحبوسة، أواني الطعام المتسخة وصلت حتى الحمام، أطفيء أعقاب السجائر على باطن حذائي البيتي السميك وأقذفها بحركة طفولية كيفما اتفق، قشر البصل متناثر على أرضية الصالة إلى جانب قشور خضروات أخرى، الملابس المؤجلة للغسيل منذ ثلاثة أسابيع تلوح أينما وقع البصر، لقد بدا المشهد برمته أشبة بعملية طقوس سحرية لتحضير روح شيطان رجمه نجمٌ منذ عهد عاد.
لقد لهثتُ وراء "أماندا" قرابة العامين. سلكت إليها سُبل الأولين والآخرين. كل حيلي بدت معها عديمة الجدوى. كانت في كل مرة تقترب بقدر يسمح لها بالهرب في أية لحظة. كاد ذلك يدفعني إلى الجنون لو لا ركوب العابرات أحيانا وإبقاء الأمل بالذهاب إلى الكنيسة أحيانا أخرى طمعا في مؤمنة تُعيد للمنفي الغريب ورعه وتقواه القديمة القديمة. أخيرا، وطنتُ نفسي على نسيانها. لكن الله هداها بالذات في هذا اليوم الذي وصلتُ فيه إلى نقطة اللا رغبة في كل شيء. حين أشارت عقارب الساعة إلى الثامنة مساء كانت "أماندا" قد هاتفتني بالحاح لأكثر من تسع مرات. لم أكن أرفع سماعة الهاتف. أترك الجرس يرن ويرن إلى أن أسمع صوتها وهي تترك رسائلها القلقة بعد الرد الآلي. كانت تقول عند بداية كل رسالة "أعلم أنك هناك، أجبني وليم، لن أيأس معك، ألا ترغب فيَّ"؟.
بعد الثامنة، أخذتْ تهب ريح عاتية، البرق يومض من آن لآن، المطر يتساقط بغزارة، يتوقف فجأة. لقد وقع المحظور حوالي التاسعة والنصف. كانت طرقاتها على باب الشقة تحمل تصميما غريبا. كانت مبتلة تماما من شعرها حتى أخمص قدميها وفي يدها حقيبة ملابس بنية صغيرة ومن داخل عينيها أخذ يومض حبّ أمومي غامض أقرب إلى الحنان لا يتناسب ورعشة متصلة ظلت تصدر لدقائق من شفتيها الرفيعتين، كانت أشبه بقارب إنقاذ صغير في يوم عاصف.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: elham ahmed)
|
بعد مكالمتها الأولى، فاتني أن أدرك الطريقة الغريبة التي تم من خلالها إعلان ذلك الحبّ. طريقة عصرية بحتة. سمّها إن شئت "الحاجة". لا حاجة الذرات الموجبة والسالبة نحو اندماجها لإحداث طاقة ما، هي التكامل أوالحبّ، بل حاجة الذرات السالبة والموجبة معا لحماية وجودها العقيم المنعزل داخل فضاء من العلاقات الهلاميّة.
كانت قد سبقتني إلى الحمام ريثما أنهي تسوية الفراش الذي بدا بعدها كحقيقة إنسانية وحيدة داخل معمل تحضير الشيطان المزري الذي تحولت إليه الشقة بين ليلة وضحاها. هناك بدت مرحة سعيدة وهي تحاول أسفل مياه الدش الدافئة صدَّ يدي المراوغة المتجهة لأول مرة نحو مناطقها الأكثر خصوصية. لقد أنعش ذلك شجرة الحياة التي ذوت في داخلي أوتكاد. أخيرا، أقبلت اللحظة التي حلمت بها طويلا، رأيتها على بعد خطوة، وهي تستلقي على الفراش مشرعة ساقيها، لكأنها أعدت بدورها للحظة نفسها وتهيأت منذ تعارفنا الأول، كان كيانها كله مخيّرا لإرادتي، وهو يكاد يضيئ داخل العتمة بنور ذاتي، لا تدري إن كان مصدره الروح أم شدة بياضها الحليبي؟.
بدأتُ ألاطفها بمخزون شوق دفين، الثوان والدقائق تمر، حرارة جسدها الفتي وصلت إلى أقصى درجاتها، لكن "موضوعي الخاص" لم يُحرّك ساكنا، حتى وهي تستلم دفة القيادة بحذق أنثى لا تعوزها الحيل، لقد ظلّ بكلمة واحدة "ميتا"، بكلمتين "ميتا تماما"، بعبارة حاسمة "ميتا تماما كخرقة بالية". لم تبعثه من موته الذي بدا أبديا حتى ذكريات الحرمان ولاءات الحاج إبراهيم العربي وحفل عيد الميلاد الدرامي. بدأت أفقد توازني واليأس يعصرني، وهي بدأت تغمض عينيها، لعلها تحاول أن تعيد لي هدوئي، لكن الدماء لم تتصاعد إلى عروقه بعد وأعصابه ظلت مرخية، لا يحسّ حتى بقُبلاتها الجنونية، كما لو أن ما يحدث أمرا أشبه بتقوقعه أثناء محادثة رجالية.
ما أخذ يضاعف من خيبة الأمل في داخلي، ليس لأنها المرة الأولى فحسب، ليس لأنها حدثت في أول لقاء لي بها على فراش، بل عظمة الاكتشاف في مثل ذلك الموقف وفداحة الحقيقة الماثلة قبالة كل ذلك العنفوان الأنثوي الموَّار: لم يعد "عضوي الخاص" صالحا للعمل مرة أخرى. قالت بعد أن استلقيت إلى جانبها مذهولا محطما مأخوذا بوقع المفاجأة وحدتها: "هذا أمر مرده الإرهاق ليس إلاّ". كنت أسمعها ساكنا مشلولا لا أقوى حتى على تحريك عينيّ الشاخصتين داخل العتمة كعينيّ ميت. في صبيحة اليوم التالي، دخلتُ على الطبيب بكل ذلك الفزع، سألني عن تاريخ العائلة المرضي، كشف على قلبي، طلب مني أن أسحب سروالي لأسفل، مرر يده مرارا خطفا على طول المنطقة الواصلة مابين الساق والحوض فجفلت، قال "أنت معافى، ذلك أمر يحدث أحيانا للرجال في مثل عمرك"، لكأنه أعطاني شهادة ميلاد رجولة جديدة. سألتني بعدها "أماندا"، وهي تراني أفتح باب الشقة سعيدا متحررا من كل تلك المخاوف، قائلة: "ماذا قال الطبيب"؟. قلت "لا شيء" وأنا أدفعها فجأة نحو السرير.
وقد كان.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كنت مستلق إلى جوارها داخل غرفة النوم الغارقة في العتمة. نتجاذب حديثا ناعسا أيقظته ذكرى ما حدث عصرا بين "جيسكا" وعمر. فجأة، سألتني "وليم، ألا يزال أبواك على قيد الحياة"؟. قلت لها "ربما". ما أذكره الآن أنني افتقدتها خلال السنوات الأولى التي أعقبت رحيلي. أمي بكت لحظة الوداع. أبي قال لي عند باب الحوش "لا تدع الغربة تنسيك أهلك". كان شقيقي الوحيد لا يزال نائما لحظة أن غادرتهم في ذلك الصباح. بعد سنوات قليلة، علمت أنهم ساقوه إلى الحرب ومات هناك. لقد تعودت أن أعيش منذ وقت طويل بلا جذور. لا أحد يسألني من أين أتيت وإلى أين ذهبت؟. كنت أقاوم حنيني للإنتماء بالقراءة تارة، بالشراب تارة أخرى، وبالعمل من داخل أحد الأحزاب تارة ثالثة. أجعل من فان جوخ وموتسارت ورامبو أصدقاء في زمن قلّ فيه الوفاء أويكاد. أنسج علاقة أمومة وأبوة بيني وبين الأم تريزا وغاندي ومانديلا. تزوجت في خيالي ممثلات وعارضات أزياء لا حصر لهن. أقمت علاقة عمومة وخؤولة بيني وبين ميخائيل بولغاكوف وصادق هدايت ومعاوية محمد نور وكافكا وديستوفيسكي وفرانتز فانون وألتوسير والتجاني يوسف بشير وأمل دنقل ووليم فوكنر وماركيز وغيرهم. كنت أسترسل في حديث بدا لي تلك الليلة ذا شجون. ولم أنتبه إلى شخير "أماندا" وهو يتعالى منذ فترة.
"المسكينة"، لقد بدأتْ يومها بمباراة رياضية في كرة القدم.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: محمد عيد)
|
Quote: ولكنى وددت فقط ان احييك .. واجدد شوقى وأشواق كل الزقازيقاب
وترقبهم لمرور محبب منك اليهم فى دارهم ... |
محمد أخي:
شوق لكم ولتلك الأيام، لا يحد. أطالع حروفكم كل يوم عبر زيارتي الصامتة فأطالع عالما بأكمله سبق لي وأن عشته بكل تفاصيله اليومية الحميمة. رهبتان تقفان إلى الآن بيني وبين الكتابة في وعن (ناس الزقازيق): فرحة وجودكم إلى جانبي عبر كل هذا القرب بعد تسليم لقانون الأيام وتقلبات الزمن. تخيل -مثلا- لدي أحاديث كثيرة أختزنها لمجتبى فاروق وفجأة أراه أمامي ولا أعرف من أين أبدأ ما انقطع ذات مساء بعيد. كنا وقتها في شارع متسع بين بيت الطالبات والاتحاد ناحية مساكن الجامعة. بعد أن افترقنا ناديته وودعته مرة أخرى. ورهبة مطالعة آثار الزمن على وجوه أصدقائي وصديقاتي مثل ما تكشف لي حال ودالجعلي. ثمة وعد بحضور معلن وكتابة مطولة لحظة أن أفرغ من كتابين أعمل عليهما منذ فترة. شكرا لحضور دال.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كانت تفوح منها من آن لآن رائحة خفيفة من عطر يدعى "رُمبا". لم يكن التاريخ والمستقبل حاضران. وقد أصابني منها عدوى اللحظة وثمالتها. منذ أن صافحتها عند مدخل المطعم، بدا لي على خلفية مكالمتها التلفونية في الصباح وكأننا مقبلان على نهاية حياة وبداية حياة. لمسة يدها، شعرها الطليق، إيقاع نهديها عند الخطو، نبرتها، نظراتها الحالمة، كل ذلك وغيره، وشى لي آنذاك عن رغبتها الجارفة في التحليق عاليا تلك الليلة. بجرأة، عند منتصف الوجبة، وهي تضع عينيها الجميلتين داخل عينيّ، سألتني واضعة شرفي الثوري على محك التجربة إن كنت على استعداد للطيران إلى جانبها بعيدا بعيدا. لوهلة قصيرة، خيل لي أنني أسمع صوتا يتناهي من أعماقي القصيّة يخبرني أنني لا أملك الأجنحة الكافية للتحليق في فضاء أنثى مثلها تضع وجودها كله على كف المغامرة مدفوعة بمفاهيم غامضة عن الحرية والمساواة والعدل. كنت أنظر إلى مجرى نهديها الضيق العميق حين قلت "نعم". قالت وهي تهدهد مخاوفي الخفية إنني سأرى أن البستان لم يطأه من قبلي رجل. لعلي ظللت أسوقها في طريق الإيحاء لإتخاذ تلك الخطوة كما لو أن كل شيء يتم بإرادتها. الوقت يمر. للطعام شهية. فضاء الجذب بيني وبينها يتكاثف عبر ملايين الأمواج اللامرئية وللتأجيل إطالة أمد اللذة. وا.. أسفاه، يا حامد. جمال الأنثى يظل آسرا قويا، حين نتطلع إليه في الأعالي مدفوعين بحمى الرغبة وسعيرها، لكنه سرعان ما يبدأ في الذبول ويفقد بريقه شيئا فشيئا كلما زدنا من تملكنا له. اقترحتُ عليها أن نذهب إلى شقتي في ميدان المحكمة القريب بعربة أجرة. قالت تبرر رفضها إنها تفضل أن تسير بقدميها إلى جانب فارسها نحو أكثر لحظات الحبّ قداسة. كان الوقت على مشارف الغروب، حين بدأنا السير على الرصيف ببطء أسفل أشجار البونسوانا المتعاقبة، كانت تسند رأسها على كتفي وتلف يدها اليسرى حولي بيسر، بينما أحتويها من خصرها بيدي اليمنى. كنّا نتوغل على مدارج قرارنا بين جفن العالم ودهشته و"شرف المرأة في عقلها، لا بكارتها".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
ليس هناك وسادة يضع عليها المنفي الغريب رأسه، سوى أقدام القلق وطريق الريح الباردة، وهذا الذي بدا للوهلة الأولى بيتا ومأوى، قد تكشف مع مرور الوقت عن وجه آخر للخواء والعدم. "يا لغربة بورخيس. سافر عبر بحار اختلفت من العالم ورأى أشياء رآها الناس". لكنه أبدا يتذكر وجه فتاة من بيونس إيرس. "وجه لا يريدك أن تتذكره". كان في وعي "أماندا" منذ البداية أن تقودني ببطء وحذق أنثوى إلى نقطة القبول بلا خيار طوعي آخر متاح، على الرغم من تلك العلامات التي أخفاه عن ناظريّ كل ذلك الظمأ المقيم للحبّ أوالإنتماء. هكذا، مرة أخرى، رحتُ أبحث عن عزاء مستحيل على مدارج العبارات، متغنيّا هذه المرة في ظلمة اللوعة وفداحتها برثاء بورخيس لبورخيس.
حين عدتُ من الطبيب، لم يفتني وأنا أدفع بها نحو السرير ملاحظة أنها قامت بقلب الشقة في غيابي رأسا على عقب، لقد بدا كل شيء مرتبا نظيفا موسوما بلمسة أنثوية، وقد تم إعداده وتهيئته لحياة مستقرة مشتركة طويلة الأمد، حتى أنني بدأتُ أفكر أن كل تلك العذابات المتولدة في الماضي جراء اللهث وراءها لمدى العامين تقريبا بلا طائل لم تكن سوى أضغاث أحلام. كانت لا تزال مغمورة بالعرق، تفوح منها رائحة المطهرات القوية وصابون تنظيف الأواني ذو رائحة البرتقال الأسيرة لنفسي، حين وصلنا للذروة معا وغفلنا راجعين بشعور طفلين متعبين، بينما غرفة النوم بنافذتيها الزجاجيتين الكبيرتين الخاليتين من الستائر غارقة تماما في ضوء ما قبل الظهيرة الحاد القويّ.
ونحن راقدين على جنبتينا، واضعين رأسينا على راحتينا، ناظرين إلى بعضنا البعض عبر تلك المسافة القصيرة القصيرة، بدأتْ دموع "أماندا" تسيل فجأة، رأيتها تنحدر سريعا نحو كفها، قبل أن تنزلق صوب الفراش المعجون بلا صوت. ولأنني لم أعرف في الماضي، وحتى تلك اللحظة، سوى دموع الفراق والألم الكثيف، أحسستُ بقلبي يسقط صوب هوّة بلا قاع. لعلها أدركتْ مدى ما أحدثته دموعها في داخلي، حين ضحكتْ على حين غرة، قائلة "وليم؟، إنها دموع الغبطة".
لكنَّ لمها الخاتم دموع أخرى.
لقد بدا الأمر لها عند نهاية اللقاء الأول المكتمل في صورة نظرة لها ملامح البذرة وُضِعت على تربة الملاحظة على نحو غامض. ثمة إحساس بدأ يكبر ويكبر مع مرور الوقت في داخلها. الرجل الذي حلّق معها قبل ساعات قليلة داخل المطعم اللبناني في سماوات بعيدة، بدتْ لغته الجسدية غريبة وغير مألوفة تماما في دنيا أحلامها الوردية النقيّة كدمعة، لقد بدا سقوطه داخل أول نظرة لها بعد أن فرغ مدويّا، وقد هوى من كل ذلك العلو دفعة واحدة. لقد بدأ يتغلغل بعدها ذلك الإحساس في أعقاب كل ممارسة بينهما. لقد بكتْ وهي تشهده على دماء عذريتها. لم تكن تنظر لحظتها إليه. لقد فعلت ذلك لحظة أن وصل إلى قمة اللذة وحيدا. لم تكن بحاجة ثانية لذلك. لأن جسده قال وأوجز. كان جسدها يتحدث لغة وجسده يتحدث لغة أخرى. لجسده روح صيّاد، أحكم قبضته على فريسة أخذتْ تتهادى نحو فخاخه المخبوءة بطمأنينة، لكأن ذلك حدث عند بدء الخليقة، حين لم تحكم الريبة بعد قانون العلاقة ما بين الصيّاد والفريسة. لجسدها روح بحث دائم متصل عن المشاركة في أرقى معانيها. وهما يسيران أسفل أشجار البونسوانا بزهورها الحمراء الآسرة، أخذتْ الطريق إلى شقته في ميدان المحكمة القريب تبدو لعينيها كمسار تصاعدي صوب الحرية، حتى أن أصوات التقاليد التي أخذت تتناهى إليها في شكل مخاوف غامضة بعد أن رأته يسقط داخل نظرته بدتْ لها مثل توابل فاتحة للشهية عند محراب الحبّ المختلس، لقد كانت ترفض التسليم منذ الوهلة الأولى بحقيقة ما شعرتْ وأحسَّت به. لكنّ الأمر اتخذ مسارا آخر، لحظة أن بدأتْ تلك الأصوات تتكشف لها عن أشياء يدعونها أحيانا "الحقيقة بلا رتوش". تلك كانت الخطى الأولى على طريق الانتحار.
( نتابع التدفق )
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: عبد الحميد البرنس)
|
Quote: رواية عن مراهق غيرت الأدب الأميركي
خمسون عاما على صدور رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» لديفيد جيروم سالنجر
ابراهيم الخطيب لدى صدورها قبل خمسين سنة، أحدثت رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» لديفيد جيروم سالنجر (1919) ما يشبه الرجة في مياه الرواية الاميركية الراكدة حينئذ. إن كاتبا آخر، وهمنغواي حي يرزق، لم يستطع ان ينسي النقاد الاميركيين تحفظهم ازاء كل اختراق استثنائي قدر ما فعل سالنجر في روايته الموما اليها، والتي اعتبرت منذ نشرها، أحد ابرز الانجازات الروائية في القرن الماضي. لقد قضى همنغواي نحبه قبل أربعين سنة (1961)، ومن المؤكد أن المفهوم التراجيدي للرجولة، كما عكسته رواياته، كان قد فقد اذ ذاك تأويله المهيمن على مقاربة الاميركيين لواقعهم الذين اخذت تساورهم شكوك بصدده. ان سالنجر لم يكتب سوى أربعة كتب ضئيلة الحجم من بينها رواية وحيدة، غير أن ذيوع صيته لا يعود في الواقع الى عزلته عن منصات الاعلام الادبي، التي غدت أسطورية، وانما لكون سروده استطاعت ملامسة مجازات راهنها المتسم بالقلق. لقد كان على سالنجر ان يبحث في ذكرياته عن صورة المراهق الذي يملك جرأة الاستخفاف بكل شيء: هكذا تبدأ رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» على النحو التالي: «لو كان يهمكم حقا ما سأرويه لكم، وتريدون فوق كل شيء معرفة مسقط رأسي، وكيف مضت مباذل طفولتي، وماذا كان يفعل أبواي قبل أن أولد، وغير ذلك من الترهات التي يمكن العثور عليها في روايات من قبيل «دافيد كوبرفليد»، فإنه لا يلذ لي أن أروي شيئا من ذلك البتة». لم تكن هذه البداية لتندرج في أفق توقعات القارئ في بداية الخميسنات، وذلك لكونها اعتمدت أساسا على صوت راو يشي خطابه بأن ما يريد حكايته ليس هو العالم كما ينتظره القراء، وانما كما ينظر اليه مراهق مشبع بأنانية لم يستطع المجتمع تدجينها. من هنا لاحظ النقاد الاميركيون أن لغة «هولدن كوفيلد» كانت تعبيرا طبيعيا عما يفكر فيه كل المراهقين في مختلف الحقب: تفكير قائم على الضجر وعدم الرضى والصفاقة، لكنه ينطوي، في نفس الوقت، على نوع من الشفقة على الذات والحنين الى تجارب الطفولة التي رسخت الوعي بآفاق وهمية.
إن سلسلة الاحداث التي شكلت مصير «هولدن» تبدو عادية، وليس فيها حدث واحد بارز يمكن تذكره بسهولة: فإثر طرده من معهد (بانسي) ـ بعد تجارب طرد اخرى ـ يقرر «هولدن» الافضاء بمشاعره لاحد أساتذته، ثم يستقل القطار الذاهب الى نيويورك فيلتقي هناك بوالدة زميل له في سنوات الدراسة، قبل أن يمتطي سيارة أجرة ويذهب الى أحد الفنادق الهامشية حيث يقيم في غرفة قذرة. يغادر الفندق للالتحاق باحدى الحانات، وأثناء عودته تتاح له فرصة التعرف على امرأة ، لكن الامر ينتهي نهاية سيئة. في اليوم التالي يتذكر «هولدن» صديقته «سالي» فيحدثها عبر الهاتف، ويقرران اللقاء مساء في قاعة سينما... على هذا النحو تتراكم الوقائع التي تشكل لحمة وسدى الرواية، دون ان تكون احدى تلك الوقائع بؤرة السرد إلا في حالة ما إذا اعتبرناها كافة مسرحا خلفيا لمزاج فتى يطمح الى اختبار انتظاراته على ضوء واقع أقل شاعرية، كما تجسده مدينة كبيرة مثل نيويورك. ان ذلك ما يبرر ايضا حدة لهجة السرد وجرأتها التي تحتل منصة خلت من كل واقعة استثنائية، عدا واقعة لقاء «هولدن» بشقيقته «فوب» التي تعتبر احدى أجمل لحظات الرواية، وحيث تغدو المكاشفة الوجه الآخر لخيبة الظن.
يتحدث مارك صابورتا، مؤرخ الرواية الاميركية في القرن الماضي، عن استقبال رواية «الحارس وسط حقل الشوفان» فيبرز كيف استطاعت الظفر باعجاب القراء، سواء كانوا مراهقين أو بالغين، بحيث صارت علامة على جيل يواجه مصاعب وجودية متنامية، وذلك ما رفع بطلها «هولدن» إلى مرتبة رمز لرجولة قيد التشكل قائمة على انعدام اليقين. إنه من الضروري القول بأن نزعات التمرد التي ميزت عقد الستينات، في أفق التدخل الاميركي في حرب فيتنام، ساهمت في التأكيد على الوظيفة الاستشرافية لرواية سالنجر وتعبيرها الضمني عن شقاءات المراهقين ازاء حماقات الكبار في مختلف أنحاء العالم. لكن ذلك لم يجعلها قط تسقط في خانة رواية تسجيلية يعتصرها الحاضر، أو يقتصر هدفها على رسم لحظة تاريخية تتسم بالتوتر.
لم تثر «الحارس وسط حقل الشوفان»، ككل نص مثير للجدل، اعجاب القراء والنقاد فقط، بل هناك من انتقدها بعنف ايضا: في هذا الصدد لا بد من الاشارة الى «ملحق التايمز الادبي الذي اعتبر الرواية «سيلا من البذاءات والكلام الفاحش»، بينما رأى ناقد انجليزي ان حساسية مواقف «هولدن» لم تكن تتطلب كل الحدة والقسوة اللتين ميزتا خطاب الراوي، فيما ندد معلق مجلة محافظة هي «العالم الكاثوليكي» بـ «دناءة اللغة التي تنم عن تلقائية غير متزنة». لكل ذلك كان من المنطقي تماما ألا تبرمج رواية «الحارس وسط حقل الشوفان»، كنص مدرسي، في المؤسسات التعليمية الاميركية حينئذ وعلى امتداد أربعين سنة: ذلك أن الرواية كانت، في العمق، تخييلا لكل المقاربات التربوية التي تستهجن استقلالية حق المراهق في ابتكار صيرورته الخاصة، ونهج سبل الذات.
بيد أن احدا لم يجادل في جاذبية شخصية، «هولدن»، سواء عند صدور الرواية قبل نصف قرن أو اليوم. فهل تكمن تلك الجاذبية في سلوكاته التي تعاكس التيار؟ أم في وجوده على طرف نقيض من الحلم الاميركي؟ أم في موقفه الصريح من طهرانيه منافقة؟ أم في رغبته في فرض نفسه كمخاطب؟
لم يكن ديفيد جيروم سالنجر رجل أفكار، بل كان يسخر من معاصريه الكتاب الذين أقحموا على تجاربهم أشكالا ذهنية غير مناسبة، لذا آثر الصمت دائما ازاء تحليل النقاد لاعماله الادبية. لقد أثرت ايحاءات الواقع القابعة تحت السطح تأثيرا بينا في نظرته القصصية، وانه من المنطقي الاعتراف بأن كتاباته رددت عميقا صدى التحولات التي كانت أميركا حبلى بها بعيد الحرب العالمية الثانية، وخاصة التحولات المتصلة بدور الفرد داخل نظام اجتماعي متكلس.
|
http://www.aawsat.com/details.asp?section=19&article=89904&issueno=8489
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عبد الحميد البرنس _ كتا بات تتشعلق وتتعنكل العقل وتسر القلب (Re: Osman Musa)
|
Quote: «لو كان يهمكم حقا ما سأرويه لكم، وتريدون فوق كل شيء معرفة مسقط رأسي، وكيف مضت مباذل طفولتي، وماذا كان يفعل أبواي قبل أن أولد، وغير ذلك من الترهات التي يمكن العثور عليها في روايات من قبيل «دافيد كوبرفليد»، فإنه لا يلذ لي أن أروي شيئا من ذلك البتة». |
Quote: وفي هوليوود ثمة اهتمام كبير خصوصا بتحويل "ذي كاتشر" الى فيلم. وقد بيعت اكثر من 60 مليون نسخة من الرواية التي دخلت ثقافة البوب الاميركية وتشكل مرجعا في كل المجالات من الافلام الى الاغاني الى كتب اخرى. |
| |
|
|
|
|
|
|
|