|
|
 الرأي العام: دبلوماسية البنج بونج وحجارة كرة القدم... د. صلاح محمد إبراهيم
|
دبلوماسية البنج بونج وحجارة كرة القدم
د. صلاح محمد إبراهيم
عندما ابتدع الدكتور هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق 1969 - 1977 دبلوماسية «البنج بونج» في السبعينات ، ووافق على إرسال فريق البنج بونج الأمريكي إلى الصين، كان الهدف اكبر من مجرد مبارة في لعبة «البنج بونج» فأمريكا كانت تعلم أن الصينيين يتفوقون في اللعبة ، وقد ثبت للعالم كله بعد ذلك مدى بعد نظر الوزير الأمريكي ، فقد أيقن بذكائه إن الصين الدولة الممعنة في الانغماس في هوس الشيوعية والتمسك بها ، لا يمكن اختراقها إلا بأسلوب دبلوماسي جديد ، وقد نجح بالفعل أسلوب كيسنجر في كسر الستار الحديدي الذي كانت تتمرس خلفه الصين ، وانفتحت الصين أمام الاستثمارات الغربية ، وتحولت الآن إلى اكبر دولة في العالم تستقبل الاستثمارات الغربية ، وهي اكبر دولة مصدرة الآن للولايات المتحدة الأمريكية ، وبعد أن كان هم الدبلوماسية ا لصينية هو محاربة الاستعمار وإذنابه أصبحت الصين الآن تركز على المنافسة التجارية وعقود البيع والشراء .
نجاح دبلوماسية «البنج بونج» قاد أمريكا إلي تكرار ذات التجربة مع الاتحاد السوفيتي السابق ، ويعتقد الكثيرون أن الفضل يعود إلى جورباتشوف وزملائه في تخليص الإتحاد السوفيتي من آفة الشيوعية ، ولكن الحقيقة إن اختراق الاتحاد السوفيتي وتفككه يعود إلى «دبلوماسية الهمبرجر»، التي استبدلت بها الولايات المتحدة في الثمانينيات سياسة المواجهة مع الإتحاد السوفيتي ، بعد إن وافقت الإدارة الأمريكية لشركة «ماكدولاند» التي تبيع المأكولات السريعة بفتح أول محل لها بمدينة موسكو ، ووقفت طوابير الروس لمدة ثلاثة أيام بلياليها تحت البرد القارس لكي تتحصل علي سندوتش الهمبرجر، ودخلت الثقافة الأمريكية إلي عقر دار الشيوعية التي كانت تجاهد من اجل توفير قطعة الخبز للناس ، وأمام هذا الغزو الثقافي وبعد تذوق الناس لطعم السكر الأمريكي رويدا رويدا ، ظهرت سياسة » الجلاسونست والبيروستويكا » أو سياسة المصارحة وإعادة البناء التي أدت إلي تفكك الاتحاد السوفيتي .
لماذا نجحت دبلوماسية «البنج بونج والهمبرجر» وكلها أدوات ثقافية إلي النجاح في الصين وروسيا وفشلت في أحداث التقارب في كل من الجزائر ومصر والسودان وهي بلاد بينها ما يجمعها أكثر مما يفرقها، لماذا تحولت مبارة في كرة القدم بين فريقين عربيين في ارض السودان إلي معركة سياسية أوشكت بالفعل أن تؤدي إلي أزمة دبلوماسية عاصفة ، هل هو الإعلام الذي شحن الجمهور واختزل الأولويات الوطنية والقومية في مبارة لكرة القدم المكسب والخسارة فيها متساويان باعتبار إن النصر في النهاية هو لصالح فريق عربي سيتأهل لنهائيات كأس العالم. أمر مؤسف إن يحدث ما حدث بين مصر الجزائر لدرجة إن يتم اختزال كل العلاقة بين البلدين في مبارة لكرة القدم تسبب في أحداثها المتعصبون في كلا الجانبين ، لقد سبق للجمهور الانجليزي أن ذهب إلي اسبانيا وألمانيا بالآلاف لتشجيع فريقهم وتسببوا في إحداث شغب في الشارع الاسباني والألماني ، ولكن بقي الأمر في حدود المعقول والمقبول ولم يتطور إلي أزمة سياسية ومشاحنات إعلامية .
بالطبع يشكر السودان علي ما قام به ، ولكن ينبغي عند مراجعة أحداث هذه المبارة إن نتحمل نصيبنا من الخطأ ، وفي اعتقادي إن نصيبنا من الخطأ كان كبيرا جدا وساهم في توسيع الشغب الذي حدث.
استمعت إلي فريق شرطة يتحدث في قناة «النيل الأزرق» يقول إن عدد الجزائريين الذي وصلوا عبر مطار الخرطوم لتشجيع فريقهم وصل إلي 9600 فرد ، وهناك إحصاءات تقول إن عدد المصريين وصل إلي أكثر من 3000 مشجع حضروا من مصر ، مع ملاحظة إن هناك في السودان أكثر من 300 ألف مصري يعملون في السودان معظمهم يعيشون في الخرطوم .
اعتقد إن الخطأ يعود إلي الموافقة السودانية علي دخول هذه الأعداد الكبيرة دفعة واحدة خلال أيام معدودة لا تزيد عن ثلاثة أيام ، والمضحك أن كلهم أو معظمهم كان يريد المغادرة في نفس ليلة المبارة ، هل هذا معقول في ظل ظروف السودان الحالية .
لم يكن من الممكن لمطار الخرطوم أو العاملين فيه التعامل مع هذا الموقف في ظل ظروف تفويج الحجاج القائمة ، و جدول السفريات اليومية المبرمجة ، كما إن الطاقة الاستيعابية للفنادق والخدمات المرتبطة بها يستحيل أن تتعامل مع هذه التدفقات في وقت واحد ، واعتقد انه كان علي المسؤولين أن يعتذروا عن استقبال هذه الأعداد الكبيرة ، وان تكتفي الدولتان بإرسال مجموعات رمزية من المشجعين مع الأخذ في الاعتبار بالنسبة للجزائر إن لمصر أصلا جمهوراً ضخماً مقيماً في السودان وان عدداً كبيراً منهم سيدخل المبارة .
في كل الدول العربية والأفريقية لا توجد دولة يمكن إن تستقبل هذا العدد الكبير من المشجعين في وقت واحد وتتعامل معهم وتديرهم بصورة مرضية ، لذلك كان من الواجب أن نتعامل مع المبارة التي سبقتها أصلا أحداث عنف وشغب ورشق بالحجارة وحملات إعلامية ملتهبة بقدر من التقدير السليم لكل الموقف ، وكان من الممكن إن يسهم السودان في نزع فتيل الأزمة بين مصر والجزائر ، بدلا من أن يقع في دائرة الاتهام في أزمة تسبب فيها جمهور لعبت أجهزة إعلامه المحلية دورا كبيرا في شحنه بالغضب ، وكان لابد من الأخذ في الاعتبار أن الجمهور الجزائري هو أصلا جمهور يشبه الجمهور الانجليزي في تشجيعه لكرة القدم ، وان العنف يحدث حتى في مباريات كرة القدم داخل الجزائر . لا ادري ماذا كان رأي الاتحاد العام السوداني لكرة القدم ، عندما تقرر أن تقام المبارة في السودان ، فالدكتور كمال شداد رئيس الإتحاد العام السوداني كان هو مراقب المبارة التي جرت في القاهرة نيابة عن الإتحاد الدولي (الفيفا) وهو لا شك يعلم كل خبايا وتفاصيل الحكاية من أولها ، وقد تولد لدى انطباع أن قرار إقامة المبارة في الخرطوم كان قرارا سياسيا أكثر منه قراراً رياضياً مبني على معطيات موضوعية ، ولعل ذلك هو ما أدى إلى سقوط دبلوماسية كرة القدم .
عن صحيفة الرأي العام - الإثنين 23 نوفمبر 2009م، 6 ذو الحجة 1430هـ
http://www.rayaam.info/News_view.aspx?pid=450&id=33150
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
Mohamed Yassin Khalifa
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست