|
Re: اضغاث السنسميليا5 ..تاريخ العنف (Re: Tagelsir Elmelik)
|
تأريخ العنف (2)
أشرقت الشمس كعادتها كل صباح تحمل قدرا من أحزان مؤجلة و أخرى عاجلة ، أشرقت فى صمت و سكون ، خالية المحيا من غضون البارحة ، القت بضوءها على ستر رقيق تختفى تحته تفاصيل عبث الزمن و غلظته الفادحة حيال رونق الأشياء و صفاءها. صنعنا مصائد للطير و الأسماك ، قال أخى ان القيامة تأتى عصر الجمعة ، فضاعفنا الجهد فى الأحتيال عليها ، الطيور ( الغبشاء) ، ترتعش فى اتون محرقة النهار تجهد فى الفرار من الحدأ المحلق فى غبرة السماء ، تقف على سطح المزاريب الملتوى و سقوف المنازل التى تختزن اللهيب ، ترقب فى حيرتها قلق الحتف الحافز على مرمى حجر ، ظل المذياع يلهث بغناءه غير عابىء بالقيامة ، ظل يبث الأغنيات التى لا يترنم فى متن لحونها مطرب ، أغنيات ترزم بهزيم طبول نائية و نحاس أخرس الطلعة كئيب ، موسيقى تحمل رائحة الحذر و الفوضى ، باعثة على السقم ، اندفق نبض الأرق فى الطرقات الخالية ، ترصد الحدأ بالحمائم ، تحدث المذياع مرة دون موسيقى ، التفت ابى الى اصدقاءه و قال ( لقد اعدموا !!) ثم عاد المذياع الى الغناء الذى الفناه بعد ايام قلائل و كأن شيئا لم يكن ، عاد يغنى غناءا فى ملوحة القيلولة ، و ضجر الأمسيات ، عادت امى الى اراجيزها التى تحتلبها من جذوة الحب و الخوف و العنز الوحيدة ، ترتجل لحونا و شعرا يتحدر من شغاف القلب متحديا الموت ، نردد من حولها جذلى فى امان انفاسها ( الليلة شوفو سماحة الزول...الزول وداعة السيده نور ) بيد ان الأغنيات التى نام عن تلاوتها المغنى تظل عالقة فى القلب مثل حصاة معلقة فى حلق العدم ، تمعن فى الشجار و تغرق فى الدم المسفوح و المكيده ، اغنيات ترتعد حين سماعها الطيور الغبشاء ، و تتحنط فى متاهتها وجوه الرجال . جاءوا يدقون على الباب فى الصباح الباكر ، أخذوا ( فاروق) فى معيتهم ، رمى بمتاعه القليل و لحافه على ظهر عربة النقل الفاجرة ، بكت (آسيا) بكاءا مرا ، غطت وجهها باثر قشور الحناء على طلل أصابعها الجافة المعروقة ، ثم ما لبثت ان عادت الى سماع اغنياتهاالتى يبثها المذياع صباح الجمعة قبيل حلول عصر القيامة بقليل، اغنيات لا تلامس شغاف القلب ، اغنيات كاذبة مثل مشهد الموت على شاشة السينما العريضة ، موت يتبدد حالما تشتعل سيجارة فى الظلام ، كنا نقتصد من مصروفنا لنجلس فى ظلمة دار العرض نتسلى ببطولة الخارجين على القانون و عيونهم الزرقاء اللامبالية ، يجالسهم ابى فى غرفة الدرس يحلم معهم بعالم سعيد ، عالم تنطق فيه الحيوانات ملء فيها ساعة انفصال اليابسة عن اليابسة وحين تتخلق القارات ، نقتتل و جيش ( ابى سرح) ، حتى انفضاض الضجر عن النهار ، و شهد الحجر بذل الفىء لرجال يمتهنون الشجاعة ، رجال يزومون فى مشهد الموت الحقيقى دون خشية . عاد ( فاروق) الى ( آسيا) ، يسرد على سمعها اغنية العنت ، تكدرت ، فصفعها ، رمت بمتاعها القليل على ظهر عربة النقل و مضت ، بكى ( فاروق) بكاءا مرا ، اصبح عليه نهار الجمعة التى لم تقم القيامة فى عصرها .
أشرقت الشمس.. دهور مضت وهى فى سيرورتها ، تغضنت جباه ، انحنت جباه ، تعفرت جباه بالرمل و الحصى ، غير ابى جلبابه مرات عددا ، و ذهب حين انسربت المسبحة من بين أصابعه كالأثير ..نفخ فى الصور .. ولولت امى فرقا ، فطارت العصافير نحو الحدأ فى الأعالى !!!
وقف رجال الحزب بعيدا يرمقوننا بأعجاب ، و نحن فى ثورية الأردية الزرقاء نردد فى حماس ابله ، هتاف تقطعه نقرة واحدة على طبل مرحى لينين مرحى لينين مصفدى الرقاب بالمناديل الحمراء ، تتدلى من اعناقنا كعناقيد دم ، بعد العرض و الهتاف ، تحدث الينا الرجل السرى ذو اللحية الداكنة المهملة عن قصد ، اللحية التى لا تنم عن ورع ، و تكشف عن تهذيب و صلابة و غرور ، كان اعذب حديثا من خليفة سيدى (محمد عثمان) ، فى حلقات المولد التى كنا نؤمها كل خميس ، تحدث عن قيود و طبقة ، اكتست وجوهنا فرحا حينما تحدث عن مهرجانات قادمة فى بلاد بعيدة . رايناهم جميعا يذهبون الى حيث ذهب ( فاروق) ، و لكنهم يلتقون بذويهم و اسرهم فى مستشفى المدينة ، يخرجون من الحبس ، بحيلة التظاهر بالأعياء و الأغماء حتى ، يبدوا الثبات على وجوه معظمهم ، و الخور على فئة أخرى ، قلة غائرة العيون مضطربة الجوانح فكأنما تطلب الصفح و الأعتذار و المساومة ، و لكن ما ان يمر اسبوع على اقامة المستشفى ، و تدفق الطعام و الشراب و النكات، حتى تطمئن الكباد المرتعدة ، و يسفر الجلد الخادع عن نفسه مثل شبح يتحين الفرصة للفرار و الأنزواء. أخذنا وعد الرجل السرى مأخذ الجد ، تيارينا و تنافسنا بشرف طمعا فى اختيار احدنا للمهرجان فى البلد اليوتوبى البعيد ، عشر سنوات مضين قبل ان يركلنى رجال امنه فى نقطة الحدود بسبب من لونى الأسود ليعيدوننى مشيا على الأقدام من حيث اتيت فى ظلمة ووحشة و عاصفة من الجليد . حلمنا بركوب الطائرة ، و اعددنا اكياسا من النايلون تحسبا للقىء ، قيل انه يداهم من يركب الطائرة للمرة الأولى ، ثم مضى زمن المهرجان و انقضى و نحن فى حلمنا و الطائرة ، و أعلمنا ان قريبا للرجل السرى سافر الى المهرجان ممثلا لجماعتنا التى لم يكن عضوا فيها ، سأل ( محمود) مرة المشرف عمن يكون ( مرحى) ؟؟ فحدثنا الرجل السرى حديثا طويلا لا اذكر معظمه عن الرجل الأصلع عظيم الهامة الذى يرقد فى مخيلاتنا الهشة مثل مسيح يحمل صليب الخلاص ، عاد الصبى و عادت معه احلامنا الخائبة ، احلامنا التى دفعنا ثمنها من جولات مضنية فى الريف و المناحى البعيدة ، من ما اقتصدناه من زمن و جهد و بعض فنون ساذجه ، كنا صغارا لا نعرف اين يسوقنا الغضب و الغيظ ، كنا احرص ما نكون على الرداء الأزرق و الشارات و المناديل الحمراء ، وصحبة الفتيات الصغيرات نؤدى معهن ادوارا مسرحية ، و نتولى ايصالهن الى منازلهن فى آخر المساء مثل رجال حقيقيين دون شوارب او لحى داكنة مهملة ، و فى طريق العودة تحملنا الخرافة الى مسالك الخوف و الحدأ الرابض فى غبرة السماء ، فنبدأ فى انشاد ( يا حارسنا و فارسنا ) ..الى اليوم الذى لم نعد فيه ندرى الى اى الفريقين ينتمى النشيد.
|
|
|
|
|
|
|
|
|