هل تحبون مثلي صوت المكشاشة؟!!، إنها تعني لي الأرض، تغوص شعيراتها في تراب وطني الصغير، دارنا، كي تمسح عنها بقايا حياة يوم كامل، آثار حيوانات، ودجاج، وإنسان، ووضوء خالي (دفع الله)، وأثار ترابيز وسراير، بقايا طعام، وفوضى رياح (جلبت معها اوساخ فطرية، ورقيات نيم وبعر وقش وشعر مشاط سعدية)، وبول وبراز وخربشات (مدثر الصغير)... فهو يفعل ما يحلو له، (حر من كل القيود) كعادة الطفولة المقدسة... (بل هاهو عاريا، أمام البوابة المتهالكة ويلعب بشحمه ذكره، وكأن شئ لم يكن)!!. بل مستمتع برؤية كارو (هيبات)، وهي تحمل الماء لحوش الناظر، وقد أخرجت له لسانها وهي تصيح (دثوري العريان كلب الجيران)...
يبدأ عزف المشكاشة في الصبح، حين يعلو بالون الشمس الذهبي من الشرق، كعادته كل فجر، وينتهي طرف المكشاشة الأعلى بيد (رشا)، او (سوسن)، أو (سارة)، حسب وردية كتبها عرف تالد، (أعباء للفتاة، وبراح للأولاد)....
تزيح بشعيراتها، كفراشة الفنان، ضباب الفراغ والاوساخ، تجلو الصدأ عن تراب بيتنا، وتسمح، كالبشاورة من السبورة، بقايا حياة يوم كامل، وقد غرقت، وللأبد في فم الماضي، كما مسحت معها بقايا كوم تراب لعبة (السيجة)، ودفنت معها ضحكات خالي (صديق) المنتصر، وتأوهات جدي (سعد) المنهزم دوما في السيجة، ولكنه ينتصر (في قتل فراغ عريض في حياة قرية ساكنة ومسالمة)....
والآن، تبدو الارض نظيفة، ساحرة، كي تقبل شعيعات الشمس وجه الدار، وكي تسير على اديمه كالملوك، أمي، وأخواتي، وأهلي، وكي نكتب عليه، أحداث يوم عادي آخر، ومعنا الدجاجات والاغنام والرياح والمطر...
(كش ... كش .... كش)...
حين تكنس الدار (رشا)، ترى لوحة متسقة من الزخرفة الفطرية، ترسم شعيرات المكشاشة على أرض حواشنا، الماهل، الحنون، موجيات ترابية، تبز في سحرها، موجيات النهر، إنها مويجات ساكنة (نهر تراب متجمد)، بلا هدير أو أنين، متداخله، فيبدو الحوش وكأنه سجاد من تراب، وقد تهيأ ليوم ملئ بالعادية والمعاناة والفطرة...
ثم تأتي الأقدام، والنسيم، والحيوانات، كي تطبع على الأرض بصماتها، وزخارفها، لا أحد يشبه الآخر، حتى في مشيته، إنها سفمونية الحياة، فهدا مركوب خالي (دفع الله)، فهو يسير بصورة متعرجة، وتلك سفنجة سعد، وتلك قمزات نعال (سعدية جارتنا)، فهي في عجل، ودايما، كي تنقل (شمار حار وطازج) وهدا المجرى الصغير، الصغير جداً، لدجاجة شقية، وقعت فريسة في شبك من شعر أختي (محاسن)، فعلقت في بقايا شعرها المتساقط، فتكوت في نهاية الشعرة قطعة طين كروية، (لا أدري لمادا تحب الفيزيا والميكانيكا الشكل الكروي)، وللحق كلما نطارد الدجاجة لكي نخلصها من هدا الأسر، تجري خائفة منها، وللحق فهي (لا تأمن بني آدم، وهو في قمة فضائلة)....
(كش ... كش.... كش)..
اسمع هدا الايقاع وأنا شبه نائم في الحواش الوسيع، يالها من فنانة كبيرة، تكنس الدار بأحساس عظيم، تستشف من كل شئ جمالا، تنسج خطوط متوازية، ثم تكوم الأوساخ في زاوية بعيدة، ثم تجلس، ولمدة طويلة، غارقة في تأمل ثروة بسيطة، أخرجتها المكشاشة من باطن الأرض (بينسه، حبة سبحة، ريال، وخبايا أخر، رخيصة)، وغالية جدا، جداً!!....
وأحيانا يتوقف ايقاع المكشاشة، وقد انتظمت ضربات قلبي معها، فأرفع الغطاء عن رأسي لأرى ما جرى، فأرى (رشا) منحنية، تنظر بعمق لشي في الارض، أنها بلا شك ثرؤة كبرى، وحية، (قد تكون حشرة غريبة الشكل، فهي لم تمد يدها لحملها، بل أكتفت بتقليبها بطرف المكشاشة)، وحين حركت رشا رأسها كي تتابع اكشتافها السعيد، ايقنت بأنها حشرة، وما أكثرها في دارنا، ثم تبدأ عزفها، فيبتعد عني صوت المكشاشة، فالدار وسيعة، وحنونه!!.
للمرة الثالثة يتوقف ايقاع المكشاشة، مادا جرى؟ إنه راديو جارتنا سارة، فقد تسللت منه اغنية (فرحانة بيك كل النجوم لا نام بريقه ولا أنطفأ)، فتوقفت رشا عن القش، وهي منحنية، لم ترفع راسها، بل كانت منحنية وهي تسمع الأغنية، أحسست بأنها في صلاة، في سجود، ورأيت بأم عيني، سحب خضراء وبرتقالية تخرج من الراديو وتدخل عين وقلب رشا، وتنصب لها، قصر لا وصف له،...
إن الحياة لوحة كبيرة، والكل يحمل فرشاه، تزخرف اخواتي البرندة، والفضية ببقايا الجرايد، وتزخرف رشا الحوش (بفرشاة) المكشاشة، ويزخرف (مدثر الصغير) البيت بصراخه، وفوضاه، وتزخرف امي الدار، بصوتها، بسمتها، بسكونها، بعاطفتها الريانة، والتي تملأ كالهواء، سماء وارض الدار....
حين تكنس (رشا)، تكون اللوحة منتظمة، (فهي تستمتع بكل شئ)، وحين تكنسها (سوسن)، أو (سارة)، ترى لا مبالاة، وخطوط شائهه، وشرود كمن يفكر في اللحظة المقبلة...ناسياً لحظته الحاضر تماماً...
تنظر رشا بحبور خلفها حين تسمع (رشا رشا مششيني)، يقولها مدثر وقد افسد عليها نظافة البيت، فتعود جزلى (فلا نضج ولا نثور)....
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة