إن عين المايكروسكوب العوراء!!، والتي بمقدورها أن ترى نقطة الدم الضئيلة، المتكورة على شريحة زجاجية، وكأنها بحر أحمر بلا شواطئ، وفي قعره تسبح حيتان الملاريا وهي مكشرة أنيابها في تلك الإغوار المظلمة لإلتهام كريات الدم البيضاء الضخمة المذعورة، هذه العين الزجاجية العوراء، التي ترى ما لا يرى ، وبكل وضوح حزين، لا تستطيع أن تميز.. هل الذي أمامها هو مريض محتضر بمستشفى الذرة، أم سجين بكوبر، أم مجنون بعنابر التجاني الماحي، فشوارع الخرطوم المكلومة، تحمل على ظهرها المتورم المجعد الهرم، كل هذه الذوات المتعبة، من كبد قديم، مكتسب وموروث، وعصى الانقراض، عصي الفهم!! أهو(دبيب النملة السوداء في الليل الظلماء).
كما تتناثر حبات الذرة من ضربات المطرقة، تناثرت القرى، من ضربات سنوات عجاف، هاجرت الحبيبات الحية من سنابلها الآمنة الوديعة، سنابل تحتها جذور، وحكايات، وأرض خصبة وزغاريد وحنان، وفوقها نسيم، يداعبها، كما يشاء، مستغلا لدونتها الفطرية، هاجرت الحبيبات، ووقعت لقمة سائغة على حواشي الخرطوم، تلك المدينة الدولة، وذلك الغول والملاك، كي تضحن ذاتها، وكيانها الجميل، كي تئن مرة أخرى تحت ظلال الاسمنت القاسي...وتهرب ذكريات الحقول القديمة، وونسة الاماسي الندية، وكبرياء الفطرة....
على الأرض، أما الأثير، ببغاء يكرر صدى العنت، صورة طبق الأصل والحزن والتجهم، غبار عالق طوال اليوم، يعاند الجاذبية الأرضية، كما يعاند هؤلاء القوم شباك الموت، والجنون، وتتصادم في الأثير موجيات الضجيج الأزلي (... لله يا جماعة ... برد برد ... نفر الحاج يوسف .. والله نحن مع الطيور الما بتعرف ليها خرطة... العدناني العدناني مفتاح الجنان.. آآآآخ عفصتنا ياخي.. الأيام الرأي الأخر قوووووون... دفاعنا الشعبي ياهو ديل.. السكر ده مالقى شوال... وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار... يا مجنون أنا مش ليلى...1500 جنية بس يا فردة... حقير تافه ما شايفني...)...
(برد برد) كانت هذه الكلمات تخرج من فمها الصغير بآلية، كانت تعلب بحصى قرب صفيحة الماء، إحدى عشر حصى، أقل من عمرها بحصى، فتدحرت حصى حتى اصطدمت بشنطة شاب، شنطة تحمل كتاب لمسرح العرائيس وبورخيس، وبوذا، وكيس صعود، وقلم جاف، وعملة معدنية، وسيرة ذاتية، اقترب منها الشاب، وقد أخذ الحصى الضائعة، وقد سارت الحصى نحوها وكأنها رجل عجوز، كانت أنامله ذكية في التعامل بالحصى ككائنات بشرية، ضحكت الصغيرة بخجل منقطع النظير، (أنفطر قلب الشاهد المجهول)، وقال لها الشاب بصورة جادة (الحصى عشطانه) وقد أحست الصغيرة بجفاف ريق الحصى، ضحكنا الأربع، الفتى والصغيرة (والإله وأنا)، فشربت الحصى العطشى 7 أكواب وهمية، وكأنها جاءت من الحاج يوسف واقفة على قدميها في زحمة الدفار، فأعطى الشاب الفتاة ثمن السبعة أكواب، الوهمية، كانت مسرورة، وهي تنظر للحصى، ، نظرة طفولية ساحرة، و بحنان بالغ للحصاية، للرجل العجوز العطش، والذي التهم سبعة أكواب، سبع قطرات، إنه عجوز مشرد صائم..زحت الحصى للأرض الرطبة قرب الصفيحة... وهي تصيح بآلية( برد برد).. منشغلة بري الرجل العجوز، حتى لا يلحق جدها الميت عطشا في رحلة الحج لرمضاء الخرطوم من نار التصحر والمجاعة والهوان بأطراف البلاد المنسية.
أما الشاب فمضى، وهو يفكر بالحصى الصغيرة، وقد ارتطمت بشنطته، وهي تلف حول ذاتها، ثم تلوت بشكل عشواي مثير، ثم استقرت على بعد 5 سنتمتر من الشنطة، رقصت حول نفسها، ثم تكاسلت بصورة منتظمة حتى هوت ساكنة..أحس بتلاشي القوى التي أرقصتها، قوى غير مرئية، بمقدورها ترقيص حصى بصورة رائعة، وشاعرية، أين ذهبت هذه القوى!!؟.قوى شعرية لا محال.. يد خفية، دوخه كنهها، وقد تجمعت كل قواه للمس تلك القوى الخفية وتجسيدها بخياله... ألم يحس بأنها قوى شعرية.. فكيف يدرك كنهها..وجف قلبه لحيظة، فأحس وكأنه رأى ما لم يُرى!!..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة