من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 09:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-07-2003, 06:02 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)



    التحدي الذي يواجه العالم
    بقلم طه أبوقرجة
    إما المجتمع الكوكبي الإنساني الواحد، وإما الاستعمار والحرب والدمار
    يجب إقامة العلاقات الدولية على القانون والعدل بدل القوة والمصلحة
    ولمصلحة مجتمع كوكبي واحد بدل مصالح دول قومية متضاربة

    حاولت في الحلقتين الفائتتين أن أبين بطلان ادعاءات الحكومة الأمريكية وأن أفنِّد ذرائعها للحرب، كما دعوت إلى مواجهتها وشريكاتها بالأساليب السلمية. ولم يكن ذلك نتيجة غفلة عن سوء نظام صدام، ولا مشايعة له لأنه حاكم عربي أو مسلم، وإنما عن قناعة بأن خطأ الدول المعتدية أكبر من أخطائه، وأن النهج الذي سنَّته هو أشد وبالاً على شعب العراق وعلى شعوب المنطقة وعلى السلام العالمي. وقد قلت هنالك أن نظام صدام سيئ ولكن سوئه لا يبرر العدوان، ولم أشعر بحاجة إلى التفصيل في سوئه، لأنه معروف. وقد لمست من الرسائل التي وردتني، ومن التعليقات التي طالعتها في بعض المنتديات، أن كثيراً من القراء فهم رأيي حول هذه الحرب. لكن بعضهم ربما فهم أن دعوتي لمواجهة العدوان مبعثها حسن ظني بنظام صدام أو نقص إدراكي بسوئه وخطره على جيرانه وعلى السلام العالمي. كما أن بعضهم يرى أن شعب العراق وغيره من شعوب المنطقة، بما فيها الشعب السوداني، قد رزئوا بأنظمة رديئة، قتلت معارضيها، وأضعفت شعوبها، وأذلتها، وبددت ثرواتها، وسدت كل سبل تغييرها من الداخل، فلم يعد من سبيل إلى تغييرها غير التدخل الأجنبي، رغم مثالبه. وبعض هؤلاء يرون أننا يجب أن نساند الجيوش الغازية معنوياً ليكتمل تحرير شعب العراق من صدام، كخطوة أولى نحو تحرير بقية الشعوب الرازحة تحت نير أنظمة مماثلة. وهؤلاء يسلِّمون للإدارة الأمريكية بمزاعمها حول مهمتها النبيلة نحو شعب العراق.

    هذه الآراء حملتني على تعديل هذا الجزء من المقال الذي كنت أريد الحديث فيه عن المجتمع الكوكبي وعن مدنية السلام، لمزيد من الحديث حول الموقف من هذه الحرب. ذلك لأننا لن نسهم في خلق المجتمع الكوكبي إذا كنا لا نرى عيباً في سياسات الحكومات الوطنية الحالية، القاصرة، التي تجر المجتمع البشري جراً إلى حافة حرب لا تبقي ولا تذر.

    كلا الطرفين مبطل، ولكن :
    وأبدأ بتأكيد أمر لا يزال يحتاج التأكيد، هو أن هذه الحرب ليست بين طرف محق وطرف مبطل، وإنما هي بين طرفين مبطلين، أحدهما الحكومات المعتدية، وثانيهما نظام صدام. وكلاهما لا يهتم بشعب العراق، وإن ادَّعى غير ذلك. وللشيعة في مصادرهم حديث قدسي أراه ينطبق على هذه الحرب، يقول:- (الظالمُ جندٌ، أنتقم به، وأنتقم منه). وهم يرون أن أمريكا ظالمة الآن في موقفها، وهي مجنَّدة للانتقام من ظالم آخر هو صدام، وأن الله سينتقم من أمريكا بعد ذلك. وللسنيين في معجم الطبراني حديث مماثل:- (الظالمُ عدلُ اللهِ في الأرضِ، ينتقم به، وينتقم منه). وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الحديث في معرض تفسيرهم لقوله تعالى: (وكذلك نولِّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) سورة الأنعام/ 129.

    هذا يعني أن علينا أن نرى باطل الطرفين، وأن نأخذ موقفاً من كليهما. وإنما دعوت إلى مواجهة أمريكا وشريكاتها لأسباب ثلاثة: أولها أن باطل أمريكا وشريكاتها في هذا الأمر أكبر من باطل صدام، وخطرهم أعظم من خطره. وثانيها أن باطلهم مغطى بمظهرهم الحضاري الكبير وبحديثهم عن الإرهاب وادعائهم الاضطلاع بالدور الأكبر في السلام العالمي، هذا في حين أن سوء صدام ظاهر. وثالثها أن خطر صدام قد ظل المجتمع الدولي يواجهه منذ عام 1990، بإخراجه من الكويت، وبإصدار ومتابعة تنفيذ القرارات الدولية التي تجرِّده من أسلحة الدمار الشامل وغير ذلك.

    وإنما كان خطر أمريكا أعظم من خطر صدام لأنها مسئولة عن أفدح أخطائه وبصورة خاصة تهديده لجيرانه كما سنرى، ولأنها لا تحارب الآن من أجل مهمة نبيلة كما تدَّعي وإنما من أجل تحقيق مكاسب لها ولحليفتها الأساسية في المنطقة-إسرائيل. وأهم من ذلك، أنها بهذه المهمة النبيلة المدَّعاة قد سنَّت سنة سيئة هي عدوان الدول على بعضها بدعوى تغيير حكوماتها الجائرة، كما أنها أضعفت المنظمة الدولية، وجعلت العنف هو الوسيلة الأساسية لحل النزاعات الدولية رغم أنه وسيلة بادية القصور وعظيمة الخطر. وينبغي على كل من يريد تحديد موقف من هذه الحرب أن لا يغفل هذه الأمور. ولتبيين أن خطأ الإدارة الأمريكية وخطر حربها الحالية أكبر من أخطاء صدام وخطره، أسوق مزيداً من الحديث عن محورين من المحاور الثلاثة التي بررت بها الإدارة الأمريكية عدوانها الحالي، وهي: (1) المهمة النبيلة لتحرير شعب العراق، (2) خطر صدام على جيرانه. وقد تحدثت عن ذريعة أسلحة الدمار الشامل بما يكفي.

    أولاً : مهمة الديموقراطية النبيلة ومحك الشيعة العراقيين :
    إن تعاطف كثير من السودانيين مع حجة الإدارة الأمريكية بأنها قادمة إلى العراق في مهمة نبيلة هي تحرير العراقيين من صدام هو تعاطف مبعثه الرغبة في أن تقوم الإدارة الأمريكية بعمل مماثل في السودان، لتحريره السودانيين من نظام الإنقاذ، الذي لا يقل سوءاً عن نظام صدام. وذلك أمر سأتحدث عنه في حيز آخر، ولكني أحب هنا أن أرد كل من تنطلي عليه هذه الخدعة الماكرة إلى ما قلته في هذا الشأن في الجزء الأول من المقال، وخصوصاً إلى قولي بأن الأساس الفكري والأخلاقي (Ethical) الذي تقوم عليه السياسة الأمريكية لا يعترف بمثل هذه المهام النبيلة، ولا يعرف إلا المصلحة الخاصة التي تحقق على حساب الغير. هذا الأساس القاصر هو الذي أملى العدوان، وهو الذي أملى الاستعمار، وهو المسئول عن الضرر الذي تلحقه السياسة الخارجية الأمريكية وسياسة الدول الغربية الأخرى بالشعوب، وهو المحك الذي يتضح فيه عجز الحضارة الغربية الراهنة عن تحقيق السلام، وتبرز فيه الحاجة إلى مدنية جديدة يحب فيها الإنسان أخاه الإنسان ويؤثره على نفسه. وقد كنت احب أن يتطرق المناقشون إلى هذا الأمر.

    بيد أن الناس إن لم يروا فساد البذرة التي أنبتت السياسة الخارجية الأمريكية، فقد يكون عليهم انتظار ثمرة هذا العدوان بعد الإطاحة بصدام. فحينئذ ستنفضح أمام أعينهم مزاعم تحرير الشعب العراقي. فالإدارة الأمريكية تعرف أن الشيعة يشكِّلون في العراق نسبة تتراوح بين 60% و65%، وهي لم تخض هذه الحرب لتمكينهم من السلطة عن طريق الانتخابات، بل هي لا تحتمل ذلك، ومن أجل ذلك أحجمت عن إسقاط صدام عام 1991 حين أخرجته جيوش الحلفاء من الكويت بهزيمة منكرة. وقد يتضافر عدم احتمالها تسلم الشيعة مقاليد الحكم مع دوافعها الحقيقية للغزو لتعتمد إحدى خطتين: إما محاولة حكم العراق مباشرة بواسطة أمريكيين، أو محاولة حكمه بطريق غير مباشر من خلال عراقيين ضعاف لا يهمهم إلا مظهر السلطة ينتشون به ويعطونها ما تريد وتحرسهم بجيوشها بعد أن تختارهم بالتعيين أو بانتخابات تشرف هي على تزويرها. وأي واحد من هذين الخيارين الصعبين سيفضح دعواها، كما سيجرها إلى حرب طويلة ومريرة مع شعب العراق، ستكون فيها وحدها، لأن بريطانيا بدت غير راغبة في التورط في العراق ثانية بعد إزاحة صدام.

    ويبدو أن هذا الوضع المعقد قد اضطر الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في خطتها الأساسية الرامية إلى حكم العراق بواسطة أمريكيين يتبعون مباشرة للبيت الأبيض إلى حكمه بواسطة وزراء أمريكيين لكل منهم أربعة مستشارين عراقيين، ثم إلى حكمه بواسطة حكومة عراقية مؤقتة تعمل تحت حاكم أمريكي بدعوى إشرافه على الجوانب العسكرية والأمنية. وهدف الإدارة الأمريكية، في تقديري، هو حكم العراق بواسطة أمريكيين أو عراقيين ضعاف بغرض إبرام اتفاقيات تعطي أمريكا أكبر حقوق ممكنة لأطول فترة ممكنة في العراق وخصوصاً فيما يتعلق بثرواته الطبيعية. وهي قد تحاول الحصول على بعض الحقوق بواسطة اتفاقية استسلام مع نظام صدام، خصوصاً أن التجارب قد دلت أن صدام ظل بغبائه المعهود يخدم المصالح الأمريكية على طول المدى من حيث لا يدري.

    وطمع الإدارة الأمريكية هذا يوجب على العراقيين وأصدقائهم أن يضيقوا صلاحيات أي حكومة انتقالية، مهما كانت طبيعتها، فيحصروها في معالجة المشاكل الإنسانية الملحة الناجمة عن الحرب وعن الحصار الطويل الذي سبقها، وفي إرجاع النفايات النووية التي جلبتها الحرب إلى أمريكا، وأن يتركوا مشاريع إعادة الإعمار التي ينفق عليها من أموال العراق وكذلك مشاريع إعادة تأهيل قطاع النفط إلى الحكومة المنتخبة التي يؤمل لها أن تباشر أعمالها بعيداً بعض الشيء عن الضغط الأمريكي.

    دكتاتورية صدام أم إبادة شعب العراق ؟!
    بيد أننا لا نحتاج كل هذا الانتظار لنحكم على مزاعم الإدارة الأمريكية بأنها قادمة إلى العراق في مهمة نبيلة هي تحرير العراقيين من صدام. فأمريكا قد دللت بالحرب نفسها أنها لا تبالي بحرية الشعب العراقي، بل ولا بحياته. فالكبت والتقتيل الشنيع الذي مارسه صدام ضد شعب العراق لا يساوي شيئاً مما يتعرض له شعب العراق اليوم من إبادة طويلة المدى على يد الإدارة الأمريكية. ولا أعني ضرب المدنيين، ولا استخدام القنابل العنقودية، وإنما اعني ضربهم باليورانيوم المنضَّب الذي تحتوي عليه الصواريخ والقنابل وبعض الذخائر الأمريكية الأخرى. وهذه جريمة صمت عنها نظام صدام لأنه يخشى إثارة الشعب العراقي عليه في هذا الظرف، كما صمت عنها المجتمع الدولي، رغم أنها جريمة أعلنت الإدارة الأمريكية عن نية ارتكابها قبل اندلاع الحرب.

    ولمزيد من التعريف بخطر هذا السلاح أحيل القراء إلى مقابلة أجرتها قناة الجزيرة بتاريخ 7/2/2001 وأعادتها بتاريخ 19/3/ 2003 مع البروفيسور الأمريكي دوج روكه، المختص في الفيزياء النووية، والمدير السابق لمشروع اليورانيوم المنضَّب بوزارة الدفاع الأمريكية، وإلى مقابلتين أخريين بتاريخ 2/11/2000 و 9/11/2000 مع بعض المختصين (وكلها بموقع الجزيرة على شبكة الإنترنت). فقد وردت حقائق مفزعة في هذه المقابلات عن نتائج قذائف اليورانيوم، منها أن 160,000 (مائة وستين ألف) من الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية في مطلع 1991 أصيبوا بالسرطان وغيره من الأمراض الناتجة عن التعرض لليورانيوم المستنفد (والتي يشار إليها إجمالاً بأعراض حرب الخليج)، وأن حوالي 8000 منهم قد ماتوا. وقد ذكر البروفيسور الأمريكي أن العسكريين الأمريكيين أخفيت عنهم الحقيقة لوقت طويل، ولم يدركوا إلا مؤخراً أن ما تعرضوا له كان بسبب اليورانيوم المستنفد. وقال أنه شخصياً مصاب بالمرض، وأن جسمه يحتوي على شحنة إشعاع تعادل خمسة آلاف الشحنة العادية في الجسم. كما قال أن منطقة البصرة قد باتت منذ 1991 مكاناً غير صالح للحياة، بسبب معدلات الإشعاع العالية الناجمة عن ضربها بصواريخ وقذائف تشتمل على اليورانيوم المستنفد. وأوضح البروفيسور الأمريكي أن الإشعاع الناجم عن اليورانيوم المستنفد يبقى لمدة 5/4 (أربعة نصف) بليون سنة، وألمح إلى أن استعماله يهدف إلى زيادة فعالية الذخائر في اختراق الدروع والتحصينات، كما يهدف إلى تخليص الولايات المتحدة من النفايات النووية الناجمة عن استخدم اليورانيوم داخلها للأغراض السلمية والعسكرية، وقال في هذا الصدد أن استخدام اليورانيوم في الذخائر هو جزء من خطة وزارة الصناعة الأمريكية في التخلص من النفايات النووية. وهناك كتب صادرة عن هذا الأمر، ومواقع بشبكة الانترنت يمكن الرجوع إليها. وحين ندرك أن أمريكا أسقطت حوالي 350 طن من اليورانيوم المستنفد في حرب تحرير الكويت ونرى ارتفاع معدلات السرطان في العراق بعد ذلك، وأنها الآن ربما أسقطت أكثر من 4000 (أربعة آلاف ) طن من اليورانيوم المستنفد، ندرك حجم مأساة الشعب العراقي، وعدم مبالاة الإدارة الأمريكية بحياته، بله حريته.

    ثانياً : أمريكا شريك صدام في حروبه على جيرانه :
    معلوم أن صدام شكَّل تهديداً على جيرانه. وهو يدفع الآن ثمن تهديده إياهم وتعديه عليهم. ففيما عدا سوريا (التي أعلنت مساندتها للشعب العراقي وليس لصدام)، فإن كل جيران العراق إما أعطوا دول العدوان تسهيلات عسكرية، أو وقفوا موقف المتفرج على صدام، المؤمل الخلاص منه. لكن يجب أن لا نغفل أن أمريكا هي التي ساقت صدام معصوب العينين إلى تهديد جيرانه والاعتداء عليهم، لتتمكن منه في نهاية المطاف. فهي التي حرَّكته عام 1980 لمحاربة إيران، بهدف وقف مساعي تصدير الثورة الإيرانية إلى بقية الدول الإسلامية حين بدأت بعض الجماعات تهتف (إيران إيران في كل مكان)، ووجهت الدول العربية بدعمه، حتى أن تلك الدول حبَتْه يومئذ بلقب "حارس البوابة الشرقية". وقد عملت أمريكا على تزويده خلال تلك الحرب (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) ببعض تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل ليستخدمها ضد الإيرانيين وضد شعبه. كما أغرته بغزو الكويت عام 1990 لتتخلص منه (وبُعَيد غزو الكويت قامت بمحاسبة سفيرتها في العراق أمام الكونغرس على فعلتها، لتتبرأ الدولة الأمريكية من الجريمة وتصورها كخطأ فردي وقعت فيه إحدى موظفاتها). خلاصة القول أن أمريكا شريكة صدام في جرائمه ضد جيرانه، ومسئولة معه عنها.. هي مسئولة عن التخطيط، وهو مسئول عن التنفيذ. إن خطر صدام على جيرانه يوجب ذهابه، ولكن أمريكا أخطر على جيرانه منه.. وذلك بنفس القدر الذي به أن خطر صدام على شعبه يوجب ذهابه ولكن أمريكا أخطر على شعبه منه. وكنت آمل ممن يؤيدون الغزو الأمريكي على العراق بحجة خطر صدام على جيرانه ألا يغفلوا أن أمريكا شريكة في ذلك الخطر، وأنها استغلت صدام وتلاعبت به مثل دمية.

    العنف لا يحل مشكلة :
    إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه أمريكا هو خروجها على الشرعية الدولية من أجل مصالح اقتصادية ومن أجل تأمين نفسها وحلفائها من خصومهم بتجريدهم من السلاح بالقوة. ومن الواضح أن أمريكا شرعت منذ نهاية الحرب الباردة في تجريد خصومها السابقين من قوتهم العسكرية. ورغم أن تقليل مصادر الخطر العسكري هو نتيجة مبتغاة لمصلحة الإنسانية قاطبة، إلا أنها يجب أن تتم بوسيلة مشروعة، ولغرض مشروع. والوسيلة المشروعة هي القانون الدولي كما تطبقه الأجهزة الدولية، وليس وفق الاجتهادات الفردية. والغرض المشروع هو إحالة البشرية كلها إلى القانون كوسيلة لحسم النزاعات بعد أن ظلت طيلة تاريخها تعتمد على القوة. لكن أمريكا شرعت في تجريد خصومها من السلاح بوسيلة خطأ ولغرض خطأ. فهي، من حيث الوسيلة، خرجت عن الشرعية الدولية في حالة العراق، كما تسعى للخروج عنها في حالات أخرى. وهي، من حيث الغاية، إنما تريد تجريد غيرها من السلاح لتحتفظ به هي وحليفاتها ليفعلوا ما يشاءون. ويمكن أن نلاحظ أنها رفضت التوقيع على معاهدة حظر الألغام، وعلى قانون محكمة الجزاء الدولية، وأنها ما تزال تطور في شبكة دفاعها الصاروخي، وفي أسلحتها.

    هذا اتجاه خاطيء وعقيم. فالدول لن تتخلى عن السلاح إلا إذا قامت العلاقات على القانون الدولي الذي يحفظ حقوق الدول مثلما تحفظ القوانين الوطنية حقوق الأفراد داخلها. لكن إذا ظلت العلاقات تقوم على الأطماع والمناورات الدبلوماسية وإساءة استخدام النفوذ في الساحة الدولية وحسم النزاعات بالقوة المسلحة والاعتداء على سيادة الدول، فإن الدول ستلجأ إلى التسلح. وقد كان على أمريكا أن تستفيد من حادثة 11 سبتمبر 2001 فتعلم أن العنف أصبح لا يحتاج إلى دول، وإنما يمكن لأفراد قليلين إحداث أضرار هائلة تفوق طاقة الدول. ومعلوم أن تكنولوجيا الأسلحة الخطرة باتت شائعة، وفي متناول أيدي الكثيرين. وحين لم تفهم أمريكا من حادثة 11 سبتمبر، ساق لها الله رجلاً قالت أنه كان يخطط لضرب مدينة أمريكية بقنبلة "قذرة". رجل واحد يمكنه أن يدمِّر مدينة!! ماذا يعني هذا؟ إنه ببساطة يعني أن محاولة احتكار القوة والسلاح هي محاولة غير ذكية، وخطرة، ومحكوم عليها بالفشل. وقد كان على أمريكا أن تفهم ذلك وتسلك طريقاً آخر، لكنها لم تفهم حتى الآن. إن أمريكا تتحدث عن النظام الدولي الجديد، ولكنها لا تعرفه. فالنظام الدولي الجديد هو النظام الذي يقيم العلاقات الدولية على القانون والعدل والسلام، وليس على منطق الغابة، الذي هو سمة النظام الدولي القديم. إن أمريكا لم تفهم منطق العصر حتى الآن، وهي إن لم تفهمه ستخلي مكانها إلى دولة أخرى تفهم منطق العصر وتصاقبه وتحدو ركب البشرية إلى مدارج العدل والسلام، فالبيئة الكوكبية الحاضرة لا تحتمل سوى العدل والسلام.


    الحضارة الغربية تفقد المشعل :
    إن هذا الغزو غير المشروع، رغم أنه يحقق نتائج يبتغيها شعب العراق وجيرانه وكثير من الشعوب والدول، إلا أنه من الناحية الأدبية قد أفقد أمريكا زعامة العالم. ولما كانت أمريكا هي زعيمة الحضارة الغربية، فإن هذا الغزو قد أفل به نجم الحضارة الغربية، مؤذناً ببزوغ فجر مدنية جديدة قادرة على نشر السلام في الأرض. وهناك رمزية في هذا الغزو. فهو قد قامت به أمريكا، التي تمسك بمشعل الحضارة، ومعها بريطانيا التي سلمتها المشعل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما يلاحظ أن معهما أسبانيا، وأن قمة الحرب عقدت في الجزيرة البرتغالية. ومعلوم أن أسبانيا والبرتغال كانتا من أعظم الدول الأوربية في عصر الكشوفات الجغرافية التي تسلم الغرب خلالها ريادة القافلة البشرية واستلم مشعل الحضارة الإنسانية. إن أهل الحضارة الغربية قد أسقطوا من يدهم هذا المشعل اليوم، وسيلتقطه من بعدهم شعب يحمل فكرة قادرة على تأسيس مجتمع كوكبي تسكنه إنسانية واحدة تربط بينها فكرة العدل مثلما ربطت بينها وسائل المواصلات والاتصال التي بدا أن الحضارة الغربية لا تستطيع أن تعطي أكثر منها.

    بيد أن بعض مواطني الغرب قد دللوا على وعي بالبيئة الكوكبية الجديدة ومقتضياتها بأكثر مما دلل مواطنو الشرق. ومساعي العولمة التي تحاول دول الغرب الآن أن تنجزها على حساب الشعوب الفقيرة لم تعارضها الشعوب الفقيرة ولا حكوماتها، وإنما عارضها المواطنون الغربيون وسيروا ضدها المسيرات في سياتل وفي إيطاليا وحيثما اجتمعت منظمة التجارة الدولية في الغرب. إن هؤلاء المواطنين الغربيين، الإنسانيين، الذين يرفضون ظلم الآخرين، هم الذين ينعقد عليهم الأمل في إصلاح الديموقراطيات الغربية وفي إجهاض مخطط غربي يرمي إلى الهيمنة على العالم، وإفقار شعوبه، وإبادتها-بوعي أو بغير وعي. وإذا تيسر إسقاط الحكام المخبولين الصغار أمثال صدام بواسطة شعوبهم أو بواسطة عمل خارجي، فإن أخطاء ساسة الدول الكبرى ذات الترسانات العسكرية الضخمة لا يمكن تصحيحها إلا من خلال شعوبها. ورغم أننا يجب أن نتعاون مع هؤلاء لتأمن البشرية غوائل الحكومات الغربية القوية التي تملك آلة دمار هائلة، إلا أن عدم الوعي بهذا الأمر ساق تنظيماً من تنظيمات الهوس الديني الإسلامية لاستعداء الغربيين برمتهم ضد منطقة الشرق الأوسط والعرب والإسلام، وذلك بتفجيرات 11 سبتمبر التي كانت ضد الأبرياء.

    هؤلاء المواطنين الغربيين يجب أن نمد معهم الجسور، وأن نكوِّن معهم منظمات مدنية دولية تكون لها فروع في كل الدول، كخطوة إضافية نحو المجتمع الكوكبي. ومثل هذه المنظمات موجودة في كثير من بلدان الغرب، ومنها منظمة السلام الأخضر، التي تعنى بالسلم وبالبيئة وتقف ضد تدمير الإنسان بالحروب وغيرها وضد تدمير البيئة بالنفايات وغيرها. وهي تدافع عن أهل العالم الثالث بأكثر مما يدافع أهل العالم الثالث عن أنفسهم. وأعتقد أنه من المناسب أن تنتشر مثل هذه الجمعيات في العالم الثالث وأن ينتشر الوعي بأهدافها. إن هذه الجمعيات تؤكد أمراً له أهمية كبرى من أجل السلام العالمي، هو أن الغرب ليس ضد الشرق، وأن الشمال ليس ضد الجنوب، وإنما أكثر الحكومات هي ضد الشعوب، في الغرب والشرق والشمال والجنوب.

    حكام العالم ليسو في القامة الخلقية المطلوبة :
    إن الغزو قد دلل أيضاً على أن حكومات العالم ليست في المستوى الخلقي المطلوب. فحتى الآن لم تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعاً طارئاً لمناقشة هذه الحرب رغم أن ثلاثة أسابيع قد مضت عليها. وهذا يعني أن حروباً أخرى ستقع وأن دماراً سيحدث كي يتحرك الضمير العالمي وكي نعي بأن نظامنا السياسي والدولي متخلف يستوجب التغيير.


    العرب والمسلمون :
    ثمة أمر آخر شديد الأهمية، هو أن ما يحدث الآن في العراق هو نتيجة خطأ قديم ارتكبه العرب تحت قيادة جمال عبد الناصر يوم أخرج قضية فلسطين من إطارها المحدود إلى حلبة الحرب الباردة، وذلك حين أمم قناة السويس في 1956 بطريقة خاطئة استفزَّ بها الغرب وجلب عداوته على مصر وعلى العرب، فلم يجد غير الاحتماء بالاتحاد السوفيتي. ورغم أن الرئيس السادات أدرك استغلال السوفيت للعرب كما أدرك خطأ الموقف العربي المتمثل في عدم الاعتراف الرسمي بإسرائيل فابرم اتفاقية سلام مع إسرائيل في 1979، إلا أن أكثر العرب رفضوها، وقاطعوه. وقد كان صدام من أبرز قادة ما سمي عندئذ بدول الرفض. وقد بقي العرب على رفضهم الاعتراف بإسرائيل، وحين فقدوا الاتحاد السوفيتي لم يجدوا من يلتجئون إليه، فباتوا يتلقون الضربات وما لهم من مجير. إن كثيراً من العرب يتحدثون عن هذا العدوان باعتباره حرب تقوم بها أمريكا لصالح إسرائيل. وذلك صحيح إلى حد، ويمكن أن تلام أمريكا على ذلك. لكن الأمر المهم هو أن العرب لا يحق لهم لوم أمريكا على ذلك قبل أن يصححوا موقفهم من إسرائيل، بالاعتراف بها وقبول وجودها والاستعداد الجاد لحل مشكلة الحدود بينها وبين الفلسطينيين بالوسائل السلمية، والاستعداد للعيش معها في سلام. فموقف العرب الحالي من إسرائيل هو موقف غير عادل، وغير حكيم، ومخالف للقانون الدولي لأن العالم كله ملتزم بحماية إسرائيل التي أصبحت عضواً بالأمم المتحدة بعد أن قبلت مشروع التقسيم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947 في حين رفضه الفلسطينيون وطفقوا يرددون من وراء جمال وعيده الفارغ برمي دويلة العصابات الصهيونية في البحر، وهو وعيد لم يرد به إلا بناء زعامته على المصريين وعلى العرب. ورغم أن بعض العرب قدم بعد أكثر من نصف قرن على نشوء المشكلة مبادرات تنطوي على الاعتراف بإسرائيل، إلا أن كثيراً منهم لا يزال يمجِّد اللاءات الثلاثة الخاطئة الفارغة: (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل). ولعل صدام كان من أبرز هؤلاء، وهو لا قبل له بمحاربة إسرائيل، ولكنه التهويش الذي ساقه الآن لدخول حرب بدا فيها حتى الآن أضعف من المليشيات الصومالية التي واجهت الأمريكيين في مطلع التسعينات، وهو لم يزد على أن لوث أرض العراق باليورانيوم وعرَّض الشعب العراقي لمحنة كبيرة طويلة الأمد.

    وما يقال عن العرب في أمر إسرائيل، يقال أكثر منه عن المسلمين، وذلك لأسباب شتى، منها أن المسلمين يقرؤون قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام:- (يا قومِ ادخلوا الأرضَ المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) سورة المائدة/21. إن على العرب والمسلمين أن لا يقنعوا باتهام أمريكا بالتآمر عليهم لصالح إسرائيل، بل عليهم قبل ذلك أن يصححوا موقفهم ويصلحوا أنفسهم. عندئذ فقط يمكنهم تصحيح موقف أمريكا وسوقها لإجبار إسرائيل على قبول حل سلمي وعادل ودائم بينها وبين الفلسطينيين وجيرانها الآخرين. أما الموقف الشعبي العربي والإسلامي الذي يتهم الحكومات بالضعف والتخاذل، فهو ينطلق من عاطفة وجهل بالمعلومات الأساسية. ولو قدِّر لبعض الجماعات المتحمسة المهووسة أن تمسك بالسلطة في البلدان العربية والإسلامية فإنها ستجر المنطقة إلى كوارث مثل الكارثة التي نزلت على العراقيين بسبب صدام. إن الوضع برمته يوجب التوعية الشعبية، وليس من سبيل لحل المشكلات بغيرها.



                  

العنوان الكاتب Date
من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-05-03, 05:28 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة ولياب05-06-03, 05:11 AM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة Mandingoo05-06-03, 08:55 AM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-06-03, 03:36 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-07-03, 06:02 PM
  Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة baballa05-09-03, 02:33 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de