إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 01:24 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-13-2009, 06:30 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    إطـــار:

    في البدء اكتشف المكان نفسه ومنْ ثَّم تعرف على الأمكنة المحيطة به فاختلطت الدماء والأرواح فتعثر الأمل في رحم النبوءات ممهداً لانفجار مخاض قاسي انبثقت عنه المدائن على وادي النهر وعمق الصحراء فتشكلت حياة توالدت منها حيوات عبرت عن وجودها في الرمل والطين ذلك الأصل جذر التناغم والانسجام فصار ثوابت متحركة تتفاعل في ثابت متغير حرك هدير عميق كفعل العواصف فنشأت علاقات وأفلت علاقات ومن ثم تماسكت النفوس بعد إن همدت الحناجر الهاتفة بالأحلام الخائبة التي عجزت عَنْ شق وعثاء الأزمنة فتحررت العقول من الخوف فنفضت الأرواح عن نفسها أغبرة التوهم فمنذئذٍ تاهت المفاهيم والتصورات في أنفاق التوسل المسدودة بالرعب خشية عودة الطوفان لذا تلاشت المسافة بين الحقيقة والخيال واندثرت المعالم عدا ما هو مكتوب في جب هابي فالتصقت الأماني والرجاءات بالأرواح والعقول حتى صمت الهدهد واعترف بما يعرف لسليمان ..

    رسم الأمل ملامحه جنوب الشلال الأول على النهر العتيق فقد كونت رواسب الطمي أرض صالحة للزراعة فابتدع إنسان الوادي العمل فتطورت تانحسي بعيداً عن سلطة الشمال العريق مع الاحتفاظ معه بصلات عميقة عبر الحروب والتجارة والاتفاقات هنا يكمن جذر رغد العيش والعمران ، فانتظم وادي النهر حيويةً تشكلت خضرة وأتاحت فرص الرعي أكثر مما هو عليه في العصور السابقة تلك النعم امتدت إلى الجنوب عبر الحروب والمعاهدات والتبادل التجاري الذي انتظم حتى شلال السبلوقة وملتقى الأنهار حيث تقطن قبائل أرثن فصار الوادي شمالي بالكامل فأخذ الناس نظام الشمال الأقصى وديانته ومعابده وطرق دفن موتاه فانتشر الفخار والأواني الخزفية فصار أدنى الوادي محدود المجال كشريط ضيق على الشواطئ يتسع إلى حد ما في بعض البقاع ويضيق أحيانا جراء تراكم الصخور النارية عند هذا المنعطف اندلعت النزاعات ودارت الصراعات فشهدت تلك الصخور الانتصارات والهزائم وإراقة الدماء لعقود طويلة في حقب متباينة فتأثر سكان المدن في حياتهم الاستهلاكية الناعمة بتلك الحروب فصاروا يتذكرونها كحلم مؤلم فقد دون ذلك وغيره حسن النور في أسفاره البريئة التي جمعها عن الذين عاشوا وطأة الحروب بحماس مثقل بالأوهام الشخصية فمن مما ورد في تلك الإسفار أن مَنْ في الريف لم يسألوا أنفسهم من يحاربون ولأي شيء تدور الحروب ؟ فإنسان الريف الأمر عنده سيان لديه لان شح الموارد وسلطة الطبيعة أنجبا التهور القاتل ومن بعده نما الحقد الذي أغشى العيون وأعماها بالكراهية فتشكلت سحابة صارت غشاوة دموية غطت على العقول فترك الصبيان والصبايا المعاول وهجروا الأرض وامتشقوا السلاح وتزاحموا على ساحات الحرب فطحنتهم وأدمي الوادي دون أسباب معقولة أكثر من مرة لان شباب الريف أدهشته الأسلحة والأنظمة العسكرية والانطلاق عبر المدن البائسة بأغاني بسيطة ساذجة فاحشة فأتون النار هذا ما قاد حسن النور للبحث والتنقيب الصبور المضني عن مكونات شخصية إنسان الوادي بقواسمة المشتركة وتناقضاته وعقده القديمة والجديدة .
    لا يذكر حسن النور متى أصبح مسكوناً بقضايا وموضوعات الوادي ولا يعرف لماذا اهتم بتلك القضايا بصفة محددة فحسن النور يُقرَّب ذلك تقريباً على أساس مدينته التي تبدو في ميدانها الرئيسي كواحدة من أروع وأفخم المدن فكل شيء مبني بصورة عظيمة ليترك انطباعا بالفخامة والثراء . لكن بالنظرة الأقرب تتضح حقيقة مختلفة تماماً . فخلف عظمة المباني الرسمية تكمن العشش المنهارة والفقر المدقع ومبالغات القيادة القاسية . فاغلب الظن إن حسن النور تحمس لمعرفة تفاصيل حياة الوادي وليسجلها في سجله بلغته حيث اشتد البرد والجوع بالأجساد المرهقة من جراء المشي الطويل في الظلمة لقد تعود أن يذهب في الظلمة إلا أنه ضل طريقه تماماً واخذ يدور حول نفسه ولم يعد يهمه أن يعثر على مفتاح حل للواقع المحيط به لكنه يتوق جاهداً لمخرج من هذا التيه ذلك بإيجاد منظور يفسر له لماذا هذا الوادي منهك قاحل برغم النهر والخصب ؟ لماذا الإنسان هنا فريسة في شبكة من الصراعات والانقسامات والخلافات والممارسات الخاطئة ؟ لماذا يُستخدم الإنسان ألعوبة في عبث مصالح حتى ضربت الزلة الجاهلة على الوادي من أعلاه إلى أدناه ؟ يُرجح حسن النور في كتاباته التي جمعها أن كل ذلك يرجع إلى ثقل سلاسل الظلم الذي وقع على أطفال المجاعات التي ضربت الوادي مراراً وتكراراً وبسبب العصيان ، قد يكون حسن النور كتب تصوراته على ضوء ما جمعه من معلومات لكنه كان يعتقد أن وادي النهر يقطنه قوماً لا أمل فيهم لأنهم بلغوا درجة من الشَّر لا يستطيعون معها أن يتغيروا فصاروا سفاحين مغتصبين أقطاب الإرهاب قساة مملئين حقداً وكراهية فالمهم الذي يدعونا إلى إعادة النظر في مدونات حسن النور ليست قيمتها العلمية المعرفية بل لأنها كتبت بمهارة عالية تجذب الانتباه كما أن مدونات حسن النور تناولت مناطق غير منطقته,أسس علاقات وصداقات مع عشائر بعيدة عنه بالارتباط والتبادل والمعاشرة ومن هنا توصل حسن النور إلى أن الإنسان واحد مهما اختلفت قبائل الأرض وان البداية الحقيقة لكل الوجود واحدة قبل بداية الكون المادي فحدثت الانقسامات والصراعات والممارسات الخاطئة التي قسمت الناس إلى جذر متحاربة فطبيعي أن يتشطى وادي النهر العتيق إلى جذر مبعثرة بعد أن تعمقت الجراحات من أقصى شمال الوادي إلى حيث لا يُعلم له نهاية فقد أعترف حسن النور بعد أن تقدمت معرفته وتقدمت به السن وأمتلك جراءة المراجعة لما جمعة من مادة خام مهولة عن إنسان الوادي أن كل ما جمعه انطباعات شخصية وقصص عاطفية ووقائع معممة وأخيلة حافلة بالمزاجية وأفكار شخصية جامحة فكل ذلك مادة غنية غير أنها ليست كافية للبناء عليها أو التعويل على صدقيتها وأن تكن تصلح للنظر فيها بعين صابرة على المراجعة على نحو نهاية الوادي التي تتكرر في مدوناته فإذا كان الحديث عن وادي النهر فقطعاً له منبع ومصب فقد يصلح مجازاً المصب أن يكون نهاية غير النهاية فلا يعقل منطقاً أن يكون المنبع نهاية بأي حال لأن المنبع يوحي فيما يوحي باحتياج إنسان أصيل للانتماء خلافاً للنهاية التي تعني الموت والاختفاء بالرغم من كثافة المادة التي رصدتها مدونة حسن النور إلا أنها مشحونة بكلمات متهورة تخترق الهواء دون أن يلقي لها بالاً في فترة الاضطرابات فالمهم أن مدونة حس تحوي جهداً صبوراً على المراقبة المستمرة المرتكزة على حق كل البشر في إعمار الأرض والتمتع بخيراتها لهذا نقطع منها هذه الأجزاء التي تكشف الحدس الإنساني العميق والرغبة المحبة للتواصل والعمل المشترك فعن ادني الوادي نجده كتب صعد ملوال مادوت ربوة أعلى التونج مخاطباً جموع القنوك المحتشدة في الهزيع الرابع من الليل في (ليلة السَّبر الكبير ) محطماً كل الثوابت والقواعد التقليدية متجهاً لهدفه دون مواربة وبعيداً عن صناعة الكلام ونسج الأساطير لتخرج من فمه عبارات واضحة محددة تصل إلى سامعيه هكذا ( ياأبناء القنوك أهتفوا بصوت العزم فلا يغرنكم استسلام الغابة وخضوع الجبابرة فأنتم رجاء المسكونة والساكنين فيها كي تبنوا المدينة المشرئبة للسماء تطاولاً وعلواً فعليكم تشييد ملجأ الخائفين ومأمن الودعاء فنفضوا عن أياديكم الكسل والتواكل وتابعو انبثاق الحياة ليتجدد وادي النهر المنهك من الفوضى والمجاعات والحروب . فعلى أيديكم تنكسر الأقواس وتضيع معاول العمل لن يكون ذلك فبل تهاجروا لجبل الكواليب بقية الخروج من أطواق العزلة وسلاسل الظلم الكريهة هذا يعني نفض غبار الأزمنة القاسية بروح الحب المتطلع لنور العدل الذي جاء زمانه فقط أطلت عليكم النبوءات وحان حصاد الوصايا المترعة بالرجاء . فلا تهنوا في مطاردة الثعالب حتى اوجارها الباردة ) .
    خرج صوت من بين الجموع هاتفاً محتجاً على دعوة ملوال مادوت للهجرة لكنه تلاشى في جوفه الهتافات المساندة لموال دون تحفظ فعاد صوت مادوت قوياً مخاطباً الجموع المحتشدة )... لا خلاص لكم ولا نجاة بدون الهجرة شمالاً فتعبروا النهر كما جاء في النبوءة القديمة فتدفعوا بالثعالب لتعود إلى اوجارها وتشيدوا حصن الودعاء في جبل المرخيات فينبثق النور من قرن الشمس ليملئ الأرض من أقصاها لأقصاها فلا تتراخوا وعجلوا معي بالهجرة منذ الغد ) .
    هطلت الأمطار فالتجأ القنوك إلى أكواخهم يتجادلون حول الهجرة والبقاء في مريال ياي فظلوا هكذا في أكواخهم طوال موسم الرياح الغربية لا ينزلون للغابة إلا في أوقات نادرة بحثاً عن الطعام أو لملاقاة القوافل الشمالية النازلة من أعلى الوادي حاملة الطعام والرجاءات وألوان قوس قزح التي تسربت رويداً رويداً للأكواخ مثلما تسربت في القديم مع الرياح الشمالية من بحر القلزم حتى بحر الظلمات حتى أدركت لشبونه شبه جزيرة إيبيريا . مع رائحة المطر وردت البهائم انتشرت أريج بخور الطلح والجاو والقدنَّي فقبل شروق الشمس خرجت نساء القنوك ينشدن أهزوجة سهلة اللحن في المقدمة الجدة أموم نصف عارية رافعة يدها للسماء ومتوكئة بالأخرى على عصا غليظة مُخِفيَّة قوامها الفارغ فعند منتصف التونج رفعت الجدة أموم رأسها الضخم مظهراً انفها الأفطس فخرج من أعماقها صوتُُ حاد عليه حشرجات الانفعال وضغط العبرات مخاطباً الجموع التي احتشدت : (.. يا أبناء القنوك لا تهاجروا وتتركوا أرض أجدادكم فهنا ولدنا فولد على ذات البقعة أبناءنا وقبلهم ولد الأسلاف الأقدمين فعاشوا وعشَّنا من عطاء الأرض في اكتفاء فاتركوا خدعة ملوال الذي يقودكم بها للسبي والشتات فلا تخدعكم كلماته المعسولة ففي جوفها العنف والحروب فأنا أقف أمامك باسم أمهات الرجال الذين سوف يدفعهم ملوال للموت ياأبناء القنوك أكاد اسمع صيحات الأرامل والثكالى وانكسارات القلوب وتمزق الأرواح . أتركوا ملوال يرحل وحده ولا تعطوه أولادكم ..) .
    للجدة أموم أسلوبها في الكلام فلسانها قادر دائماً على تبسيط الأمور وفضحها فهي (تطعن في الفيل لا في ظله) كما أنها بارعة في عبارات التشجيع التي تفيض لطفاً ووداعة فأسلوب الجدة قوي ناعم يتسرب إلى شقاق الروح فيملكها ويبعد عنها غبار داكن خالي من الذرات في ظاهرة الأمل في جوفه الدمار لهذا استقبل القنوك كلمات الجدة أموم بفرح كالرقص على الحان (المردوم ) ، ( والجراري) وشعر الصحراء .
    عادت الجدة أموم لدحض دعوة الهجرة التي أطلقها ملوال (... مادوت هذا يدعوكم لهجر أبقاركم وملاحقة أسراب الطيور الهاربة من المحل بعد انقضاء فصل الخريف فإذا حملتنا الأرض في لحظات ضعفنا فلا نحملها في لحظات ضعفها وغضب الطبيعة فحتى أسراب الطيور عادة ما تهاجر من (السافل) إلى (الصعيد) ملتمسة رزقها فلماذا يريدنا ملوال أن نهاجر كي نلبي حلمه ونبوءته فلا تستسلموا لأوهامه لا تهجروا أرضكم فتجعلوها مرتعاً للثعالب لا تطيعوا ملوال فهو منذ ميلاده يعيش القلق وعدم الاستقرار لم يرض عن نفسه ولا عنكم انتم قومه فهو دائماً يبحث عن قوم آخرين وعن أرض أخرى فاحذروا الضياع والخروج خلفه فلن يرحمكم الخراب فمن أراد الحياة وطاعة أرواح الأجداد عليه تجاهل دعوة مادوت وإلا فأن المصير الوبال الوبال.. ).شعر ملوال أن الجدة أموم قد فرغت مشروعه من كل مضمون حتى أنها أظهرت فكرة الهجرة فكرة عبثية خرساء لهذا أراد ملوال أن يرد على الجدة بإظهاره لا تعي ما تقول من فرط الشيخوخة وأن فكرة الهجرة من نبوءاتها وأنها تتنكر لها من تأثير الهرم .
    (... كلكم تعلمون أن الجدة قد بلغت من العمر عتيَّا فطبيعي أن تصاب ذاكرتها فهي من غرس فينا حلم الهجرة فقد جرعتنا نبوءة الهجرة منذ نعومة الأظافر فكم مرة حدثتنا عن الخبر السار (خبر الهجرة ) عندما يطل النور ويظهر في الشمال أبلج ظاهر كنداء للعدل فقد أكدت أن الأحياء وحدهم يتركوا كل شيء فيهاجروا للجبل والقنوك هم أول من يلبي النداء وينصروا النور ويرسخوه فما نقوله الآن لا يعدو كون حديث أملته عليها الشيخوخة فالجدة قد فقدت ذاكرتها فصارت تنسى كل شيء فالحقيقية التي لا جدال حولها أن الجدة امرأة صالحة لكن الكبر قد أشتغل شغله في عقلها فلو كانت بكامل قواها العقلية لما رضيت لنا بالقعود والانتظار دون مناصرة النور الذي صار يشع ليملأ غداً الدنيا كلها من جبل الكواليب حتى جبل الزيتون فيا أبناء القنوك انتم أحرار في اختيار الهجرة أو البقاء في مريال ياي فأنا قررت الانطلاق من الغد فمن أراد منكم الحياة فليرافقني غداً أما من اختار البقاء والانتظار راكداً ساكناً فلينتظر مع الجدة وأخي ميار فلن أحزن عليه ..) اختار ريك ملوال معارضة فكرة الهجرة التي دعا لها والده ملوال مادوت فهو على قناعة بصحة عقل الجدة أموم كما أنه يؤمن أن لا مستقبل للقنوك بعيداً عن مريال ياي وأي تطلعات شمالية هي عبث وأن أفكار والده ملوال لا تشكل له حلم شخصي فحسب بل أن ما علمه له الواقع والجدة أموم يكفي لأن يجعل كل الكتب تصغر تفقد محتواها وتنزوي في المتاحف أو تتبخر أفكارها ونبوءاتها فتصبح تاريخ هذا ما فرض عليه أن يصرّح برأيه أمام جموع القنوك المحتشدة في اجتماع التوتج :(..لا يهمني مطلقاً أن كان أبي جاداً في الهجرة أما أنها مجرد دعوة طيبة فانا أتمنى له التوفيق والسداد لكني عزمت الإقامة في مريال ولن أهاجر مهما حدث ولن أطيع فكرة أو نبوءة حتى وان صدرت من أبي لأني أومن أن كرامة الإنسان تعادل تمسكه بأرضه فالأرض هي الحياة لهذا سأظل في الأرض مع من أحبوها فسابقي مع ميار مادوت الذي هجر الأوهام إيماناً بالواقع المحسوس ولا يحترم الماورائيات ..) .
    من مبادئ الأدغال العتيقة تجنب الجدال في القضايا التي يمكن أن تهدم بناء الوحدة وتزرع الاختلاف والانقسام لهذا تجاهل القنوك كلمات ريك وانسحبوا بهدوء صامت أما ريك ملوال فما زال متماسكاً رابط الجأش فتحرك عائدا يسند الجدة أموم على زراعه متدرجاً معها محاولاً إرجاعها لكوخها وبعد جهد خارق فدلفا باب الكوخ الموارب ليجد ريك نفسه وجهاً لوجه مع أباه ملوال الذي بادره بالانتقاد السَّمج كعادة القنوك في تلك الأحوال :
    - ( أشعر بأنك ياريك سددت لي طعنة نجلاء )
    - ( لا يا أبي لم اقصد جرحك فانا لم افعل الإ ما علمتني من أخلاق الأدغال بأن لا أخالف اتجاه قلبي وأنَّ لا أنطق بلساني إلا ما أومن به لهذا صرحت برغبتي في البقاء في مريال يا أبي كنت أتمنى أن أكون معك في هجرتك ولكن هذا ما كان فليس بالإمكان أفضل مما كان فحقاً من كل قلبي أتمنى أن تحقق من هجرتك أهدافك وما ترجوه وتتمناه ..)
    أحس ريك بأنه أثقل على أبيه فشعر بالذنب فالإباء عند القنوك لهم احترام خاص تحفهم القداسة والتبجيل في كل الأحوال والاختلاف معهم يعتمد على حزمة من القيم الأخلاقية التي لا يُسمح بتجاوزها لهذا أجتهد ريك في إرضاء أباه بالوداعة والحنوّ والرأفة :
    - ( أبي إني أشعر بالأسف عن كل كلمة لم تكن موفقة قلتها كما أن قلة الحيلة تجعلني اندم لأني لم أكون معك في هجرتك فأنت تعرف أن شهوة قلبي خدمتك ورعايتك بسبب هذا يسيطر عليّ الضعف والقصور )
    - ( لا عليك يأبني فأنا اعتدت على مواجهة المصّاعب وفوق كل هذا أنا احترم قرارك وأستطيع أنَّ أتدبَّر أمري )
    تملك ريك الارتياح بعد أن اطمئن لتفهم أبوه بقراره بالبقاء في مريال رغم الارتباك الذي بدأ عليه وحاول ملوال أن يبدده من إسداء النصح لريك عبر قصة مناقشة دينكمير وبلامكير فسأل ملوال أبيه ريك هل سمعت بقصة حوار الرأي الذي دار بين دينمكير وبلامكير .
    رد ريك بتفهم متواضع في لحظة وجدانية فريدة يعينها الوالد مع ولده .
    - عرضاً سمعتك تتحدث عنها مع العم ميار باختزال مختصر دون تفاصيل .
    - حسناً سأرويها لك واترك لك مضمونها وصيتي لك وأنْتَ ستكون هنا في مريال :ـ
    ساد الجفاف وأنقطع المطر فاصفرت الأشجار ومات العشب وانتشرت رائحة المجاعة فظهر في مريال جفاف مادي طال كل شيء وانعكس جفاف في الأرواح والنفوس في تلك الفترة بالتحديد في الأوقات التي ساد فيها الخوف والرعب والموت والاختفاء جراء تبدَّل الأحوال فتغيرت قيم الناس وأفكارهم انحصرت في نطاق ضيق ويبست أجسادهم وتحجرت عباراتهم وانتشرت المخاصمات وباختصار عجز الناس عن ممارسة حياتهم الطبيعية وكان لابد أن يكون لدينمكير وبلانكمير رأي وموقف باعتبارهما الرعاة الروحيين للنقوك ومحل ثقتهم الروحية لهذا بادر دينكمير مناقشة بلانكمير حول أحوال النقوك .
    -(انقطاع المطر أحرق الأرض وأهلَك الضَّرع )
    - ( أنقطع المطر لسوء أعمال الناس وعصيانهم وطغيانهم فلن يهطل المطر ليغير الناس أحوالهم البائسة )
    -( أتفق معك على الإنسان في ضَّلال فما ذنب المخلوقات ؟)
    - ( لا ذنب للمخلوقات تحمل اثر أخطاء الناس فلا تستحق الأشجار المثمرة والبهائم البكماء وسوام الأرض التي تحفظ التوازن أن تحرم من الماء فتهلك )
    - ( لما لا ندعو ونصلي للمطر ؟)
    - ( سأضمن لك أن المطر سيهطل إذا وجدت مئة رجل صالح قلوبهم صافية كقلبك وأرواحهم شفافة كروحك )
    - برغم الضلال لابد أن نفعل شيء من أجل الناس فصعب انتظار صلاح الناس دون عمل من أجل هطول المطر فالماء هو الحياة فالبذرة الصغيرة الطيبة تولد نبته تشق طريقها عبر الصخور حتى تصل إلى عين الماء فمحاولاتها تعبير عن السعي للاحتفاظ بحياتها فوجود الماء وانعدامه هو الخط الفاصل بين الموت والحياة فتلك النبتة تظل مثابرة طوال حياتها القصيرة دون أن تصاب بالقنوط فمن المهم أن يعمل الناس لرفع البلاء وليس المهم عدد المتضرعين من اجل رفع الوباء واستعادة رونق الحياة .
    - ( بالنسبة ليَّ أن العبادة عمل روحي يطرد قوات الظلمة ويقهر المخاوف ويحرك الثقة والرجاء في المسطر العظيم لكن التنازلات الأخلاقية والروحية تعتبر عمل فيه مخاطرة بجوهر الإيمان لهذا يسود الجفاف لأن القنوك تنازلوا عن معتقداهم بالادعاء بأنهم يودون المواكبة كي يطهروا العقول فأرى أن ذلك سبب انقطاع المطر )
    - ( أرى ما قلت فيه كثير من المنطق لكني لا اعتقد أن ذنوب الناس وحدها سبباً لهطول الأمطار أو عدم هطولها فالجفاف له أسبابه فالأشياء خلقت من العدم قبل أن يوجد شيء في الأرض فكل ما في الكون وجد بتصور يعكس طبيعة الصانع العظيم ففكرة أن انقطاع المطر جاء كردة فعل لخطابي الإنسان وقوع صريح في مصيدة أن الكون وليد الصدفة وتشكل عبر بلايين الأعوام من التطور وفي هذا إنكار لحقيقة واضحة : أن كل شيء موجود مرئي أو غير مرئي إنما هو دليلُُُُُ قاطع على تصميم متماسك شديد الترابط والدقة وليس فيه انفعالات مزاجية لصانع واعي مسيطر على كل شيء )
    - إنه لا خلاف جوهري بيننا في ذلك وحتى نتفق لابد أن نعترف أن بشارة أبا دينق أطلقها في دليب هيل أقترب مجيء المخلص لإنشاء (المُلك الالفى) الذي يسود فيه العدل وتنتهي فيه معاناة الإنسان ويتزن نظام الكون فانقطاع المطر عن مريال أراه جزء من تلك المعاناة التي تجعلنا أكثر قرباً من نبوءة مجيء المخلص وانتهاء الألم إلى الأبد فالألم من الجفاف هو خطوة نحو السعادة الأبدية.) إشتاط بلا تفكير غيظاً وبدت في ردوده اللاحقة على دينكمير شيء من القسوة والحَّدة والانفعال ).
    ( يا رجل اترك الأوهام وتعامل مع القضايا الواقعية فعدم هطول الأمطار يجعل الإنسان والحيوان والنبات يموتوا فما الفائدة عندما تتحقق النبوءة يجيء المخلص ليجد الأرض خالية وتدمرت الحياة وهلك الزرع والضرع ؟ وما فائدة أن يكون هناك (مُلك ألفي) على الخراب ؟ في ذات الوقت لا أتفق مع فكرة هطول المطر مربوطة بالرشاوى التي يقدمها الإنسان من قرابين وذبائح بأنها ترفع الغضب فأن كان لهذا الكون صانع فليفعل به ما يشاء وأفعالنا لا تؤثر في خططها وتقديراتها فلن تجلب للإنسان السعادة والشقاء )
    - ( لا أتفق معك فيما توصلت إليه فعلينا فعل أي شيء يجعل المطر ويمنع هلاك الناس فلا ضرر من الدعاء والصلاة لأجل المطر فإن لم تأتي بالمطر فإنها تبعث الأمل حتى وإن كانت الأشياء مكتوبة ومؤسسة منذ الأزل وإلى الأبد على رؤية تفصيلية واضحة لا تغير فيها بمؤثرات مزاج الإنسان وأهوائه مهما كانت إيجابية أو سلبية )
    أعتقد أنك مثلي ياريك وجدت في تلك المناقشة المدهشة كيف يدار الاختلاف دون حقد أو كراهية فدينكمير وبلانكمير كل منهما يهمه هطول المطر ولكنهما مختلفان في الكيفية لهذا يديران الاختلاف بموضوعية دون أن يجعلا من الاختلاف مصدراً للتباغض والمتاعب فلا معنى للحياة نفسها إذا لم يدار بذاكرة متسامحة تغرق بين التصادم والتكامل في التعاطي مع الرؤى المتباينة فالتسامح يكون بمثابة الصمغ الذي يلصق الناس في علاقتهم يبعضهم البعض فالاختلاف حينئذ يظل من الذكريات المشتركة التي لا تثير الحنق والحقد والكراهية بل تفهم على أنها جزء من علاقتنا بالوجود الذي يعايش بصدق وإخلاص محب للآخر هذا يعنى أن هناك بوناً شاسعاً بين الاختلاف والتضاد لهذا لابد أن نكون ممتنين لدينكمير وبلانكمير لأنهم أكدوا لنا أن هناك غير يختلفون معنا ومع غيرنا دون افتراض إن ما يرونه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو خلفه .
    يبدو أن إعادة ملوال مادوت لسرد مناقشة بلانكمير ورينكمير قد جردته هو ابنه ريك من أي روح للغضب جراء المواجهة التي دارت بينهما بسبب الهجرة باعتبار أن المناقشة أبرزت الرأي المختلف لا يلغي القيم الراسخة وعلى رأسها المحبة والحرية باعتباره في قضايا الرأي ليست هناك اختيارات خاطئة فمن حق الكل اكتشاف طريقة نحو المعرفة من زاوية شخصية تستند على وعيه وخبرته فمن المهم أن يعرف الشخص كيفية عرض رأيه بوسائل لا تهضم الآخرين حقهم في الرأي . فالمناقشة التي عرضها ملوال على ابنه ريك هي بحث دءوب عن المثل والمثاليات كما أن فيها جوع للشفافية وإشباع لرغبة التواصل الايجابي بين الناس ذلك التواصل الذي يحترم الاستقلالية وحرية الاختيار فهي تساهم النماء الفكري والروحي للفرد والجماعة .
    أنصرف ريك ملوال للقاء المهاجرين الذين تدافعوا لمريال ياي من كل حدب وصوب بحثاً عن الأمان والاستقرار وهرباً من تقلب الطبيعة وثوراتها المميتة فقد جاء لمريال المهاجرون كالأحجار لحظة ارتطامها بالجسد المُسخن بالجراح فقد سكن المهاجرون ضفاف النهر في القاع التي تتكاثف فيها الأمطار عادة فطاب لهم المقام ونسوا عذابات الهجرة لذا صارت الصيّحات تعلو على الصيّحات بين قراهم برغم من هجمات الذئاب التي ظلوا يتعرضوا لها بين الحين والحين فالذي دعا ريك للذهاب إليهم هو أنهم صاروا موضوعياً جزء من مريال لهذا يسعى ريك لمواجهتهم حول موقفهم من قتل الذئاب والذباب فيعتقد المهاجرون أن القتل من اكبر الخطايا سواء كان المقتول إنساناً أو حيواناً فما يعرفه القنوك ونشأ عليه ريك أن الحياة في الأدغال تحتاج إلى قدر عالي من الصرامة والشَّدة فلكي يحافظوا على الأطفال والأبقار لابد من أن يقتلوا الذئاب المهاجمة لهذا اشترط ريك على المهاجرين للإقامة تعلم كيفية نصب الفخاخ فان لم يهتموا بنصب الفخاخ والمصائد للذئاب والذباب فأن الذئاب سوف تصطاد أبقارهم وأطفالهم والذباب سيورثهم الأمراض لهذا لن يجدوا الحماية من القنوك لأن ريك لا يعرف وسيلة غير المصائد والفخاخ لحمايتهم من خطر الذئاب والذباب . فتلك الكائنات الوحشية إذا شعرت بالتساهل توحشت وصارت خطراً على الجميع وبعد طول جدال وضرب أمثال علمية بأن الذئاب والذباب خطر لابد من لجمه بالقوة تراجع المهاجرون عن اتجاهاتهم حتى لا تهلك القطعان والأطفال من هجمات الذئاب والذباب وأباحوا قتلها مع الكراهية والضرورة القصوى .

    ****************************************************
                  

العنوان الكاتب Date
إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-13-09, 06:29 PM
  Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-13-09, 06:30 PM
    Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-13-09, 06:35 PM
      Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-22-09, 01:49 PM
      Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-22-09, 01:51 PM
      Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-22-09, 01:54 PM
      Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-22-09, 01:56 PM
      Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري02-22-09, 02:25 PM
        Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد salah awad allah02-22-09, 03:38 PM
          Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري03-02-09, 02:03 PM
            Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد salah awad allah03-02-09, 07:17 PM
              Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد salah awad allah03-03-09, 06:35 AM
                Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري03-23-09, 12:27 PM
                Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري03-23-09, 12:34 PM
                  Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري03-23-09, 12:48 PM
                    Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد فتحي البحيري03-23-09, 02:38 PM
                      Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد salah awad allah03-25-09, 03:56 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de