تجول ووَّل وسارة في كافة أنحاء فانكوفر برغم حرصهما الشديد بالتركيز على بقاع بعينها لكي لا يستهلكا نفسيهما في كثرة الطواف والزيارات إلاَّ أنهما تورطا إلى ابعد الحدود في فانكوفر كمدينة وفي برامج اتحاد الكتاب فأتاحت لهم الفعاليات الاحتفالية فرصاً نادرة للتعرف بأناس جدد فحظيا بأصدقاء حتى أن ووَّل كتب مذكراته هذا القول عن مضيفهما الأستاذ ريتشارد :
صديقي الجديد كاتب وشاعر عمل سياسي لهذا يعرف جيداً الأوساط الرسمية وشروط الحياة وأخلاق هذه المنطقة من خلاله تعرفنا على فانكوفر الحقيقية لا فانكوفر المباني والشوارع والميناء ففي طوافنا على المدينة كانت معه دائماً زوجته سلفيا امرأة شابه ذات لكنة لاتينية عذبه تنطق الانجليزية بطريقة أهل الكاريبي ، لن نجد دليلً أفضل منهما بغيرهما سنكون أنا وسارة مجرد زنجيان في مدينة نائية فكنا في وجهة نظر ريتشارد وسلفيا مثقفان يهمهما ادارك كنه المدينة فأمتعانا فهما يعتبران مرافقتنا تسلية جميلة . كان ريتشارد يشرح ليَّ أن مهنة المحاماة من مهنة الكتابة فهي مهنة حرة تسمح بالدفاع عمّن تريد الدفاع عنه مع الاحتفاظ بخصوصيته فهو يحاول آن يقول أنه مازال شاعر ومحامي برغم من اهتمامه بمناكفة العدل ليل نهار في محاولته الحفاظ على حقوق أناس متعارضة أو متفقة مع فكرة النظام القضائي..)
دعا ريتشارد وزوجته للعشاء في مطعم يطل على أحد الشوارع الرئيسية فانتهوا من العشاء التاسعة وقرروا حضور أمسية أدبية خاصة في صالون ريتشارد فاستمعوا لأشعار ريتشارد مما أتاح لووَّل التسرب في عوالم ريتشارد الشعرية فتلذذ بكلماته وأفكاره حتى حفظ الكثير من شعره حتى أنه أصبح يردد هذا المقطع :
حمقاء أيتها الأرض
لأنك طمرت وادي الغجر باللعنات
برغم ذلك لم تحافظي على ماكياج القوانين
فغمرتك طوفانات الفوضى
لذا ادعوك بنبوءات إسرائيل
أن تنفضي الصدأ وتخاصمي الوهم
وتعبقي طرقات اورشليم وحواري بيت لحم
العنبر وبخور الصندل
أدعوك بتوراة موسى أن تكفي عن الحمق
وتزرعي البراءة في الغناء البدوي وتنزعي عنه التهور
أيتها الحمقاء لما لم تحطمي الحوادث البونابرتية وقصائد
الجنرالات الدموية فتوقدي مشاعل الحق وتملى الكؤوس
بالخمرة الجيدة لما مازلتى تتجرعي الخمرة الرديئة
أيتها الأرض الساكنة أنت موعودة بالبروق والرعود
والزلازل لما لا تشتري الفرح قبل السقوط الأخير
أيتها الأرض لأنك قاسية ومكابرة أجدبتي وظل البحر
غارق في أوهامك والسماوات تسخر من جهلك وتكبرك
يا أيتها الأرض ياصانعة الإلهات والاله لما لا تتوبي وترجعي
للوادي المقدس من جديد لأنك حمقاء علمتي أولادك
العبث بالسنابل العنقودية فاعتمدوا على قهر الفسفور
ياأرض متى تفرحي بصدق ومتى تنشري الأمان ؟ ولما تأسريني
بالكلمات الملونة والأماني الوردية وأسوار خيال بنيل أغلال
وقيود ودماء فجرعتيني الكرى والآهات الباكية ودموع الدماء
أيتها الأرض
لما لا تنطقي الكلمة الأخيرة بعد أكثر بنوك الأحاديث النبوءات
هل مازلت قادرة على تمييز صوت الحق بعد أن اختلطت الأصوات
وارتفعت صيحات الهزائم والانتصارات
أيتها الأرض
يا أمنا وأم كل البسطاء الودعاء
أدعوك باأبناء يعقوب وبالأنبياء وبمحمد والمسيح
أدعوك بموسى وأنبياء إسرائيل أن تحطمي صورة البعل
حتى لو غمرتي نفسك من جديد في طوفان نوح
فالناس اكتسوا بالغازورات والأوساخ ولابد من الطهارة
ياأرض انفضي عن نفسك غبار الحماقة وأكاليل الزيف الدموية
يا أرض طهري نفسك من الانكسارات والألم والأحزان
وضمدي جراح الحزانى حتى أرتجي عند قدميك زاد المسير الطويل
المقطع طويل لكن ووَّل جعل منه ترنيمة دائمة يكررها دون ملل على مسامع سارة حتى أنها حفظته فصارت تردده في خلوتها فالمقطع ينتهي بهذه الكلمات :
ما أروعك ما ابهاك يا جبل الزيتون
الأرض وملتها
المسكونة والساكنين فيها يشتهوا الحج إليك طمعاً في الأمان
يا جبل الزيتون لست وحدي أرمي ألامي وهمومي في ذرى
سهلك ورباك فكل من وطء الثرى يشتهي الصعود
إلى علاك
يا جبل الزيتون يا جبل التجلي ما أجملك وما أروعك
ما أبهى صخورك حين ترشدي عابري الصحراء كملاك .
*********************
تلذذ سارة ووَّل بالتجوال في تفاصيل فانكوفر ثم جاءت ليلة الاحتفاء بالدكتور ووَّل التي عرضت فيها تفاصيل القضايا التي يتناولها منتدى ووَّل وتجربته مع الكتابة فلم يكن أمام ووَّل متسع من الخيارات لرفض طلبات الحضور بأن يقرأ لهم نماذج من مجموعته القصصية أطفال على جبل البركة التي تحدث عنها النقاد باهتمام وتفصيل شمل لغتها المتحررة ومن قوالب الانجليزية ومن الصور التقليدية .وبعد إلحاح أرسل ووَّل صوته الجهوري ممتطيا صهوات خيول المفردات مندفعا كبناء حازق أحصى النققة فبني هيكلاً شامخاً فقرأ ووَّل قصصاً عديدة عرض في بعضها أغاني الحرب والسلام ـ الحنين إلى مريال ثم قرأ القصة الرئيسية في المجموعة التي نختزل منها الجزء :
( .. آه من رياح الليل التي أوصدت الطرق بين الناصرة ووادي الملوك فدفع الرياح العاتي أخرج من جوانحي الخبايا وأسدل على غطاء الهموم. فماذا وراءك يارياح الليل الثقيلة من أمنيات تبرق في الأفاق كترق المياه على ظهر النيل الكرستالي المخبوء بالكنوز وخيرات الأجداد . ويحك أيها الليل العتيق الملبد بالقيود إلاَّ تعلم أنيّ في انتظار قطار الشمال وأنت تلفحني بزمهريراتك الثاقل أليس لك التفاته عابرة تدرك أنيّ ما زلت في أول الطريق مصطلي بحرارة الدواخل وبرد العتامير ؟ قل ليَّ ياقطار الشمال ماذا أصابك هل وهنت قواك أم تخلفت عن ميعادك بضغط رياح الليل الثقال أم هل انغرست في ردف الصحراء واستسلمت للرَّمال ؟ ألاَّ تعلم أن قلوبنا اكتشفت نفسها عند عبورك الشلالات والجنادل وتوليك ؟ ألا تدري انك ياقطار الشمال عندما تعبر الجبال السمراء تصبح ضفلاً غراً كما النيل وديعاً سهل الترويض ... ألاّ تعلم أنه لا خيار لك إلا التوجه بالتضرع للسماء ونسيان الأرض هناك اورشليم السماوية لماذا لا تنزل من علاك ياقطار الشمال لتلمس معنا الثرى فتجترع عصير المانجو كما تجرعت عصير العنب في القديم أو تتناول معنا صدى المواقف الأحداث الخضراء في وجبة طعام خضروات وكايمود .. ألاَّ تدري ياقطار الشمال عندما تلتفت إليك الجموع هاتفة فإنها حقاً تهتف لك بأن لا تتراجع وتتقهقر فتكبح جماح اندفاع النيل الدفاق فتحجب الشمس عن القاهرة . ياقطار الشمال السريع أوعدنا بفجر جديد وأصيل هاديء فتهرب الثعالب جائعة إلى اوبارها الصحراوية النتنه حتى تعود البسمة إلى مروي معانقة قرن الشمس قبل الغروب . ياقطار الشمال قل لنا متى موعدك فقد طال الغياب ولابد شروق تبلج فيه الشمس تطلعات تطارد وحوش البرية فتنحدر صعيداً باحثين في كهوف البركل عن الذهب والحديد والنحاس .
رياح الليل المغامرة جعلت فرح الأصيل في المصب مخنوقاً لقرون في أحلام الودعاء برغم أن عجلات قطار الشمال تجرجر الآمال عابره بها الوهاد والأودية متجاهلة صيحات العسس ومجرة عجلات الهكسوس وصائدي البشر وغطرسات أسور باني بال ورعونة مطاردي الصبايا وملتوي الالسنه المعبرين عن الفراغ أولئك الذين لم يشيدوا هرماً ظل باقياً كحبل النور ففي هذي الأيام السوداء فاض النيل دماء قانية ابتلعت الأرض وما صنعه الإنسان ونشرت الروائح الكريهة فلم تبق وقتئذ يابسة هذا يطابق نبوءات اسفار الصحراء الجافة الجارحة التي قادت البؤساء للعبث وإراقة الدماء ففاض نهر الهاربين من القيود والسلطان الاخرف وخرج كهنة أمون حفاة حلقاء الرؤوس من قبل جبل البركل توقاً للنجاة بعد أن ضاقت بهم الكهوف والمغارات ولم يعد يحتمل جبل التجلي المزيد من الصراعات والبكاء وانهارت سراديب مغارة جبل الملوك التي يلجأ إليها كهنة أمون عند الأزمات فتلك السراديب تحفظ إسفار جبل الزيتون التي قيل أنه مكتوب فيها الطريق المستقيم الذي يربط اتجاهات الدنيا الأربعة فيمر تحت البركل فمنهم يأخذ الناس سلالهم مملوء عسلاً ولبن وطيور برية قبل هطول عتمات الليل الثقال فتحجب أشعة الروح النافذة التي تصلي معبد جبل التجلي فتضاء الدنيا كلها .. ففي الهزيع الرابع من الليل يبرق البرق بضوء ناري فتنحسر المياه ويتراجع الظلام اللهيب الضوئي أمام الأشعة الخارجة من جوف جبل الزيتون وقتئذ يصل الناس وحداناً وجماعات دون نظام فتتراجع ساحات الأعماق اليابسة في دواخلهم وقتئذ ينكمش الظلام وتتمدد الخضرة في كل الأرض نوراً وتكسو الجيزة ومدينة الاسكندر المقابلة جزر البحر الأبيض فتعيد الحقول اليباب حيويتها وتهرب خيول التسلط إل ما وراء الظلام .. برغم إعياء الصبر تنحسر رويداً رويداً بدءاً من وادي الملوك وهرم الملك الكبير خوفو هذا ما يعطي مروي اشراقات الفرح للحياة التي تظل متمددة ببطء يقاوم الحجم الخرسانية وتوحش الإنسان بصناعاته وتسلط الفسفور فينطلق من جديد رشيقاً ، قطار الشمال يجبر المكسور ويضمد الجروح ويجمع الشظايا فتبدد عن الأرض الظلمات التي أعمت الأرض وساكنيها من أقصاها إلى أقصاها وتزيل تلوث هيكل الأرض بعد أن دفق النيل دفقته المرتجاة التي جعلت الصخور الصماء تتراجع عن المجرى فمياه النيل غسلت الضغائن وبذلك انفتح الطريق لقطار الشمال بين الأرض والسماء .)
إنحدرت الأمال لدركاً سحيق في خضم العنف الذي ضرب منابع النهر فلم تسمو التطلعات مما أدى لانهيار الإرادات فتراجعت الرجاءات إلى قاعات سحيقة فوجدت الأوهام لها مسارات فتفجرت الذواكر القديمة فصارت الحياة لوحات رقطاء يطغى فيها اللون الرمادي بخداعه فانفجرت كل أنماط العنف مما جعل البدايات والنهايات تختلط حتى أن فكرة العودة للبدايات صارت تمثل تطلعاً عاماً للمساومة والتسوية فجمدت المواقف وتصلبت الأرواح والإرادات وانعكس ذلك تكلساً للمواقف واصفرت حقول التفاوت الخضراء وكان الانزلاق العظيم من الضياع للضياع بذلك تصدعت نظرات ورؤى كانت متماسكة حتى الأمس الغريب فتلبسها الشعور بالفشل هكذا كانت أعماق مادوت تغلي كمرجل وهو حاضر في رحلته إلى أوتاوا جسداً فارغاً محاصراً بسيل جارف من الذكريات المؤلمة التي لم تفارق مخيلته فمادوت لم يستطيع أن يتحرر من دوي الرصاص ويد العنف التي طاردته وهو بعد طفلُُ بريء حين عمَّ الموت دون مقدمات يومئذٍ كان الهدوء مسيطراً على مريال المكسوة بالخضر من أثر الخريف تبدد ذلك كله مع أحذية المقاتلين التي حاصرت مريال فنشرت الدماء وغطت أصوات الرصاص على الأذهان السوية ومن ثم التهب حريق هائل التهم كل شيء حتى أن الجد دينق دفع مادوت للابتعاد عن مريال مبعداً إياه من موتٍ محقق بعد وصلت السنة اللهب العمياء الغاضبة إلى المساكن في مريال فلم تتبق نسمة حياة فهرب مادوت من مريال فقد ظل هروبه ذاك راسخاً في ذهنه مؤثراً إلى حد بعيد في سلوكه فقطعاً هذا ما أثر في ذهنه فصار يميل نحو المواقف المتطرفة المحتده ربما مرد ذلك لشعور عميق بالضيم والظلم . فالحقيقة أن مادوت لم يغادر مريال وحده فقد فعل ما فعل الجموع فماذا يعني إذا أطلق أعزل ساقيه للريح هل هذا جبن فقد ركض مادوت بفرع إلى أويل التي أدركها بعد جهد بآخر أنفاسه فقد سقط مغشياً عليه فاقد الوعي وأمه تحاول استنطاقه لتعرف منه ما حدث بالضبط : فأشول لم تكف عن لجاجة الأم مابك يامادوت ؟ ماذا أصابك ؟ أين تركت جدك وجدتك ؟ من الواضح أن حادثة مريال قد زرعت بعمق الخوار النفسي في عمق أعماق مادوت فهو يحمل نفسه المسئولية لأنه لم يدافع عن جديه بما يكفي ولم يبادر لحمايتهم فهل كان بإمكانه أن يفعل شيء فمادوت استخدم قدراته الفطرية في التخيل هو لا يقصد مطلقاً أن تتحول إلى صفه ملازمة له طوال حياته فقد أعتاد أن يلوم نفسه مبكتاً إياها فمن تخيلات مادوت أنه كان بإمكانه أخذ زمام المبادرة وأن ينجي جديه من الهلاك فالحقيقة أن مادوت استسلم للأكاذيب التي صورها له خياله ولم يختبرها بذهنه فمن غير المنطقي أن يغير طفل كمادوت آنئذٍ مسار هجوم لقوة مسلحة منظمة فمادوت لم يكن مؤهل لتغيير ما حدث فببساطة لا يمتلك القدرات والإمكانات التي تهزم العقل العدواني مهما كان فعالاً وثابتاً فأن حاول مادوت بتلك المقدرات الدفاع عن جديه فإنه يكون قد وقع في مغامرة فاشلة كانت ستلحقه في عداد الموتى لهذا ما كان لمادوت أن يعمق في نفسه الشعور بالذنب لأنه مجرد طفل أعزل لا يملك أي شيء يجعله يسيطر على العنف أو يحول دون وقوعه فمادوت مجرد ضحية لم يشارك في صناعته وغير مؤهل لإيقافه هذا من جانب فمن الجانب الآخر فبيس مجدياً على الإطلاق اعتبار أن حادثة مريال قد حددت سمات مادوت فيه شيء من المبالغة إذ لا يعقل أن حالة الرعب التي سيطرت على مادوت ودفعته للهرولة إلى أويل ظلت تتحكم فيه دون تبدل فلكي نعرف مادوت ليس كافياً النظر إلى مادوت من هذه الزاوية الضيقة لأنها تقدم صوره غير حقيقية لمادوت فحادثة مريال مهما بدت عميقة فإنها مجرد حادثة سطحية محدودة الأثر فمادوت في يوم حادثة مريال عندما أصبح في حضُن أمه سيطر عليه شعور طاغي للامان حتى أنه في لحظات أخرى أنكر كل ما شاهده أعتبره كوابيس تتفاوت في عمقها وأتساعها غير أن علامات الفزع المرتسمة في الوجه ووجوده في أويل تؤكل الحادثة المروعة ولا تقل المكابرة من حدوثه كما أن تساؤلات أشول عن مصير بقية الأسرة التي لم يعرف عنها أحد شيء بعد ذلك ، لم تسمح لمادوت بمزيد من المكابرة فقد عاد مادوت للواقع الذي فرض عليه الانسجام والتركيز الذهني وقد تراجع مادوت عن حالة المغالطة للنفس التي أوجدتها لحظات الأمان فأدرك مادوت أن لا سبيل سوى مقاومة فكرة سيطرة الرعب ويبدأ ذلك بالاعتراف بوقوع الحادثة فلا سبيل لمواصلة الهروب والاختباء من الحادثة التي فرضت عليه ولم يكن بمقدوره أن يفعل إزاءها شيء ولا ذنب له فيها وفي نتائجها المأسوية .
*********************
عاد ووَّل لأوتاوا من فانكوفر بروح مستعدة للتعاطي مع الحياة فهو يشعر بأنه استعاد طاقته واستجمع قدراته لمواجهة الضجر والروتين حتى أنه يحسب أن أوتاوا صار لها رونق خاص وبريق وهاج يلمسه في أعماقه هذا ما جعله ينظر للمدينة بعين مختلفة فوجدها كحبيبة تاهت منه وسط الزحام فلم يمل البحث عنها ولم يتحسر عمَّا أنفقه من وقت وطاقة كي يجدها أكثر باء فاكتشف ووَّل أن السعادة لا تأتي من خارج الناس بل من دواخلهم فالسعادة قرار إرادي واختيار مجرد يتخذه المرء بنفسه في كل ما يحياه فإما أن يمتلئ بالبؤس أو يمتلئ بالفرح فيعيش السعادة فالأيام القلائل التي قضاها ووَّل في فانكوفر أزالت عنه حواجز كادت تفصل بينه وبين زوجته سارة كما أن أنسام فانكوفر أكسبته هو وسارة حيوية جعلتهما في شوق لدوامة الأعمال اليومية التي هربا منها بحثاً عن التغييرَّ فما الذي حدث لهما فلم تتبدل أوتاوا ولم تتغير الأشياء فيها فالأشياء كما هي الأشياء لكن ووَّل وسارة تغيرا فقد وجدا متسعاً من الوقت للتحاور والتصالح وتفهم إيضاحات بعضهم البعض فزالت كل الأسباب التي تزرع الإحباط الذي إذا لم يواجهانه في الوقت المناسب فكان سوف يتحول إلى شعور بخيبة الأمل وغالباً ما يتحول إلى امتلاء بالبؤس لذا أصبحت سارة وووَّل يعتقدان أن إيقاع الحياة بعد عودتهما مختلف حتى أنهما اعتقدا أن حركة الناس في الطرقات لها تعبير لذيذ ممتع فتفاعل السابله في الطرقات خيل لهما من فرط سعادتهما أنه فعل من المعتاد وذا دلالات أعمق مما هو ظاهر فالتغيير حدث في حياتهما وفي داخل كل منهما لذا صارت نظرتهما لما حولهما منفتحه تغوص لأعماق الأمور بعد أن تركا النظرة الجافة المرهقة التي ودعا بها أوتاوا .
تغير أسلوب حديث سارة وووَّل فصار دافئاً عذباً يميل لأنغام الموسيقى ويبتعدا بهذا القدر أو ذاك عن لغة البشر المعتادة المشحونة بالقلق والتوتر فمن فرط السعادة تملكهما شعور بالتفرد المميز الذي أعاد إليهما حرارة أيام ماضية محفورة في ذاكرتيهما وقد رحلت تلك الأيام مع غبار الحياة القاسي ربما بارزها ذلك الشعور الذي سيطر عليهما وهما يهبطان لاوتاوا لأول مره مملوءتان بالتطلعات والطموحات والآمال فاندهشا بالمدينة وشوارعها الهادئة وحركة السابله الغامضة وقتئذ بدت لهاما أن الشوارع مضاءة بأضواء متباينة فبعض الشوارع بدت ضيقة وبعضها الآخر أكثر اتساعاً يومئذ تحركت في لغتهما كل الانفعالات فعندما دلفا ذلك الشارع الرئيسي المشهور بمطاعمه ومحلاته السياحية وبتصرف لا إرادي ودون أن تصدر منهما كلمة اتجها ناحية المنعطف فسارا في صمت وهما يداعبان بعضهما كمل لو أنهما يسيران تحت تأثير قوة جذب مغنطيسية لا يستطيعان الفكاك منها بل تجعلهما يسيران هما نائمين إلا أن حالة الابتهاج جعلتهما خارج زمن الواقع أي أنهما دخلا زمنهما الخاص الذي يفوح عطراً معبقاً بأريج الأزاهر حتى خطاهما صارت تغني للبراءة فتخطيا السابله في الطرقات وتجاوزا السيارات فقد سيطر عليهما وقتئذٍ شعور الانتماء للمستقبل فأدركا المدخل المفضي للحديقة العامة فتخطياها بعد توهان فوجدا نفسيهما منفردين تلفهما رغبة التمتع بالحياة وارتشفا معانيها الموغلة في التداخل والتعقيد واثبات الوجود .
*********************
أستيقظ ووَّل من النوم بشعور عميق بالرضي بعد أن تجاوز أثار الوعكة التي ألمت به في فانكوفر فاستجمع طاقته وغادر فراشه للحمام فهو محتاج ليراق في جسده الماء ففي الحمام وهو تحت الماء أخذ يتأمل في أحوال بيته بعد مجيء مادوت وما يتوقعه من تبدل نفسي في سلوك سارة فمن الراجح أن مادوت سيلبي احتياجهما للولد وربما يكون العكس بالنسبة لسارة فبضغط مطلب الأمومة عندها بإلحاح أكثر وتقديراته تعتمد على أن مادوت صعب التكيف لشعوره العميق بعدم الأمان هذا يعني أنه يفتقر إلى الفرح فمادوت واحد من جيل عانى آلاماً قاسية بسبب الحرب فسيطر عليه شعور عميق برفض الآخرين فمادوت من الذين يبحثون عن الإعجاب واستحسانهم ذلك كردة فعل طبيعية للتغلب على الشعور بالرفض والاضطراب الذي تسرب في جيله عميقاً مما اكسبهم شعور بالعجز والوحدة كل ذلك وغيره جعل ووَّل يتشكك في أن يكون مادوت تعويض لسارة عن حلمها بالولد فيغطي حياتها بالدفء والحيوية كما أن سارة ربما لا تتفهم اختلافات مادوت من حيث نشأته ونظام حياته حتى أن ووَّل نفسه لا يعرف عن مادوت كثيراً إلا ما استنتجه من خلال رسائله التي اوحت لووَّل أن مادوت نقي السريرة ـ حي الضمير له نظرة ثاقبة وجريئة وصلابة في إبداء الرأي فتلك الملامح الايجابية في شخصية مادوت قد تصبح عامل عدم انسجام مع سارة فما تحلم به سارة أن يكون لها ابن سهل وديع مطيع تشكله كما تشاء فتصادقه على طريقتها الأمومية فهي تحلم بأن تتدخل في نظراته وتطلعاته وأحلامه فتخطط له برامجه ومستقبله فقطاً لن يكون ممكناً مع رجل مكتمل الشخصية كمادوت . فما يجعل ووَّل مطمئناً معرفته الدقيقة بسارة فمما تتميز به سارة أنها تمتلك قدرات غير محدودة في تفجير إمكانيات من حولها ذلك لطاقتها العاطفية المتسقة فحتماًَ سيلتصق مادوت بوجدان سارة لهذا توصل ووَّل أن وجود مادوت معهما سيكون مصدر سعادة له ولسارة وعنصر إثراء لحياتهما .
كانت سارة مسترخية في حديقة المنزل تتصفح مجلة نسائية منسجمة مع مزاجها الهادي فسارة في مثل هذا الظرف المزاجي تكون مستعدة لإرضاء غيرها بالإجتهاد من أجل راحتهم . جلس ووَّل مقابل لها وبعد المقدمات الروتينية التقليدية سألها بوضوح وصراحة :
- كيف سينسجم مادوت مع حياتنا المركبة ظ
كانت سارة صادقة ومحدده.
- سأعمل على استيعابه في تفاصيل حياتنا .
- هذا يعني أنك سترضينه على حساب مبادئنا ونظام حياتنا.
- سأُعِامله كابني الضال الذي عاد إليَّ ليملأ حياتي بالحبور .
- ألا تخشي أن تقعي تحت سيطرة مادوت وتحكمه وربما استغلاله .
- إذا تحررت من الخوف فلا أخشى غضب الآخرين وعدم تقبلهم لذا فأنا لا أقع فريسة السيطرة والاستغلال.
- أفهم وجهة نظرك لكن مادوت شخص محمل بمرارات الحرب .
- مهما يكن فأنا متفائلة أن مادوت سيملأ حياتي بمعاني ومشاعر أنا في امس الحاجة إليها .
- فليكن ما يكون كل الذي يهمني ويشغل بالي أن تشعري بالحرية وأنت تمارسين اتخاذ قراراتك المتصلة بمادوت وأن لا تشعري بالذنب لعدم إرضاءه
- أنت تعرف أنيَّ لا أعاني من التردد أو الخجل فأنا لا أعمل إلا ما أومن به لأن رأي حول نفسي أهم عندي من أراء غيري فيما أفعل .
- أخشى أن يكون مادوت من الأنانيين الذين يسرقون الأحلام ؟ قد لا يتفهم مادوت حياتنا أو قد لا يتفق معنا
- لا تخشى شيء فالحياة ستسير من أفضل لأفضل إذا تفاءلنا وتركنا التشاؤم جانباً .
*********************
من كثرة حديث ووَّل عن تأثر مادوت بأوضاع الحرب توقعت سارة أن يكون مادوت شارد الذهن غير قادر على التركيز فيما يدور حوّله من قضايا مما رسخ لها ذلك الانطباع معرفتها أن ضحايا الخروب يقضون سنوات حياتهم بأذهان شاردة غير قادرة على التركيز حتى أن بعضهم يبدو كمن أصيب بقصور ذهني . المفاجأة أن سارة عندما تعرفت على مادوت عن قرب صرفت النظر عن كل تصوراتها عنه فوجدت في مادوت شخصية حيوية ذات تأثير هادي قدرت أنه يملأ مساحة خاصة في دواخلها تعمق عند سارة هذا الإحساس عندما حدثها مادوت عن أمه أشول وقلقه عليها لأنه تركها مريضة فقد ترك ذلك الحديث الهامس في نفس سارة انطباعاً يلخص شخصية مادوت باعتبارها شخصية مسالمة لا تبدو عليها علامات الخلل أو الارتباك التي تحدث عنها ووَّل بعد رسائل مادوت الأخيرة لذلك أصبحت سارة مترددة تسال نفسها بإلحاح أن يكون ووَّل مبالغاً في توصيفه لحالة مادوت ؟ أم أن مادوت في حالة ذهنية مثالية عارضة تظهره في حالته الطبيعية فيعود منقلباً رأساً على عقب ؟ ربما أن ووَّل أعتاد التطرف في الاستنتاجات والاعتماد على الشكوك والانتقادات في النهاية قدرت أن مادوت شخص طبيعي وأن تعبير ووَّل عنه أرتكز على طريقته المعتادة في تناول الموضوعات بالاعتماد على الخلفيات والملابسات المرتبطة بالموضوع . فمن حيث مادوت فهمت سارة مدى تشوه الصورة التي رسمتها عن مادوت قبل أن تلتقيه لهذا ظلت لوقت طويل تعمل على تصحيح كل فكرة خاطئة رسمها ذهنها عن مادوت قبل أن تلتقيه من خلال السلوك العملي فحررت نفسها بهدوء من كل الصور التي رسمتها مسبقاً عن مادوت . المدهش أن سارة توصلت إلى أن مادوت له رأي متماسك عميق حول كل شيء حتى تفاصيل ثوبها الذي ترتديه هل يناسبها أم لا . لم يترك مادوت فرصة ليعبر فيها عن رأيه في لون وخامات وتصميمات ثياب سارة إلا ووظفها بشكل أفضل .
ظلت سارة تراقب عن كثب حوارات ووَّل ومادوت باهتمام للتعرف على مادوت فالحقيقة أن سارة تأثرت بكلمات مادوت التي تسربت في أعماقها فقد ظلت سارة تشهد لمادوت بتفكيره المركز المحدد رغم أنها لاحظت طابع الحزن المرتسم في نبرة صوته واختياره للمفردة اللاسعة فأن سارة تأكدت أن مادوت يعيش في سلام داخلي لثقته من الاتجاه الذي يسلكه في تصريف تفاصيل يومه فقد أصبحت سارة تعرف طريقة تفكير مادوت واتجاهه في اتخاذ القرارات أدركت كل ذلك من استراقها السمع لمناقشات ووَّل ومادوت التي تتخللها حكاياته التي تصور معاناة مريال مع الحرب فقد كان مادوت يسرد حكاياته بعفوية تفصيلية مدهشة ثم أن ووَّل كان يحتملها بصبر لا لأنه لم يكن شغوفاً بتفاصيل الحكايات يبدو أنه كان يحاول الولوج إلى ذهن مادوت عبر الأسئلة والمقاطعات التي أتاحت لمادوت الاستطراد في التفاصيل الجزئية هذا ما أتاح لووَّل التعرف على ذهن مادوت وطريقة تناوله القضايا فالذي كان يجبر ووَّل أن مادوت كان يعبر بوضوح عن امتلائه بالمخاوف والقلق والاضطراب وفي ذات الوقت أن سلوكه هادئاً مستقراً مما يعبر عن ذهن صارم هادي مطمئن فالحقيقة التي توصل لها ووَّل عن مادوت أن نبرة الحرب لا تعدو كونها إطار خارجي لذهن متماسك معتمد على المعرفة العقلية فمادوت لا يكبر المسافة بين انفعالاته كإنسان والواقع الموضوعي بكل قسوته فمادوت يعرف الموازنة والمعطيات الآمال الممكن تحققها أو التي يمكن الاستفادة منها فمادوت لا يسمح بأن يجعل من ذهنه أرض معركة فالتطلعات والآمال إذا لم تخضع لعمليات ارتقاء وتهذيب تقضي لإرباك للذهن يحطم إمكانياته ويرهقه بأمور غاية في الاستحالة لا طاقة له بها فقد استطاع مادوت أن يحافظ على أن يكون ذهنه حرَّاً منفتحاً هل أدرك مادوت هذا المستوى ليسير دون معاناة ؟ فالحقيقة أن مادوت تعلم تهذيب أفكاره وأماله وتطلعاته بكلفة باهظة حتى أدرك المستوى الذي جعل ذهنه يحافظ على سلامة يقظاً بعيداً عن الانشغال بأمور لا طاقه له بها فمن ملاحظات سارة عن مادوت أن مادوت يرهق نفسه بجدية لكي لا يفقد اتزانه فيظل يلاحق قضايا الواقع الزاخرة بالمدهش فقد لاحظت سارة أن مادوت لا يهتم ولا يتوقف عن الإحداث الطارئة والتناقضات الموضوعية والتفاصيل الإجرائية فقد اعتاد مادوت أن يعطي ذهنه التدريب والتمرين والترهيب الضروري الذي لا يجعل ذهنه يتحرك دون هدف محدد أدركت سارة ذلك عندما لاحظت أن مادوت وووَّل أصبحا يفهم بعضهما الأخر دون زيف أو تصورات مسبقة فمراقبة سارة لتطور علاقة مادوت وووَّل قد احدث في نفسها انشغالاً عصفاً ذهنياً جعلهما يغوصان عميقاً بلا تحفظات في شخصية بعضهما البعض كما أعطت سارة الإشارة في التفكير فيما تشاء وقتما تشاء لكنها تحررت من نظرتها لمادوت باعتباره قابعاً في زوايا العنف والضغط فمادوت عند سارة أصبح يعني رجاحة العقل رغم قناعتها بأن ماجوت مازال في حوجه للمزيد من التدريب العملي للتخلي عن كثير من عاداته القديمة وتشكيل عادات جديدة بالجملة شعرت سارة أنها ناجحة في استيعاب مادوت في حياتها الأسرية .
*********************
استفاد مادوت من مندى ووَّل المنزلي فقد حوله للمنبر الذي يعرض فيه أفكاره وينتقد فيه أفكار وتصورات غيره بمنهج غرائبي ينصرف عن تناول مفهوم الظواهر ويظل مرتهن إلى وثائر نتائجها يظهر ذلك بجلاء عندما قدم الدكتور ووَّل فكرية تناول فيها ظاهرة الإرهاب الأصول والجذور تجاهل مادوت أطروحات الدكتور فقدم ورقة موازية اعتبر فيها أن الإرهاب ناتج للحالة العالمية التي سيطرت كما اعتبرها مادوت الطور الراهن لدينامية ثقافية ابتدأت قبل أربعة قرون مع بزوغ آليات التوسع التجاري والهيمنة الملاحية ومن ثَّم أدت هذه الدينامية إلى توسع اشتمل فيه السيطرة المباشرة والإشباع الاقتصادي فأحدث ذلك انقلاب في القيم المعرفية فترتب على هذا الوضع توجهات عامة وجدت ترجمتها في دول حديثة لا تمتلك مقومات البقاء وصارعت من أجل أولويات الدولة ثم جاءت مرحلة تصارع الكتل فانتصبت مفاهيم الحرية للغة سادت العالم ثم انحسرت هذه النزعات المتفائلة أمام الهزائم المتتالية والنتائج البائسة للتجارب التي نفذت على أرض الواقع عملياً كل ذلك وغيره أدى إلى تحول بالغ السرعة يظن البعض أن ذلك تراجع عن الأوضاع القديمة لأنظمة الرعايا فتقلص دور الدولة في كافة المجالات أدى هذا إلى تهميش ونبذ أفكار التخطيط واستعيض عنها بترتيبات التعديل الهيكلي وإيلاء مهام الدولة إلى منظمات غير حكومية بذلك انتصرت فكرة السوق فتم تجريد الفرد واستلابه بشبكة من العلاقات الوحشية في سوق دائرية مجرده من أي مسئوليات أدى هذا إلى نزوع متزايد نحو المحافظة وتغذية الانطوائية الدفاعية المنبعثة من أسباب الانهيار فارتدى هذا النوع لباساً دينياً سلوكياً مظهرياً فتعمق الادعاء بأن للمجتمعات طبائع سابقة على التاريخ تتمثل في أوهام الفرد والخصوصية والأصالة الاستمرار مع الماضي ونبذ كل المكتسبات الجديدة وأن المجتمعات والحضارة تتباين تباين النباتات دونما جامع تاريخي بينها في سياقاتها فالعالمية بهذا الفهم تعني حركة رأس المال الذي تحول إلى وحش في غياب البدائل هذا ما خلق الممانعة الثقافية باسم الدين والتراث باعتبار أن أقصى ما يمتد إليه بصر الإنسان لا يتجاوز حد الموت ن فالموت يضع حداً لكل تدابير البشر وأمالهم وأفراحهم ، هذا ، والعقل البشري لا يستطيع أن يهتك أسراره أو تعلن أسراره ، فالآراء التي فاقت الحصر لم تستطيع أن تبدد ظلامه الحالك ، أنه سحابة كثيفة قاتمة تخيم على العقول ، وليس إلى اختراقها سبيل من هنا تأسست فكرة الإرهاب التي تقود إلى الموت فأصبح الحوار حول قضايا الحياة مؤسس على الموت لأن الناس تخلوا تخلياً مطلقاً أو محدوداً عن فكرة أن كل الناس سواء أكانوا أبراراً أو أشراراً هم خالدون بالوراثة ، وعليه عند الموت تنطلق نفوسهم إلى عالم الخلود كما تخلو عن فكرة أخرى تدعي استحالة خلود النفس الوراثي أو الطبيعي وهم يعتقدون بأن الخلود هبه مجانية لا يعطاها إلا الذين يقبلونها بالإيمان ، فالمؤمنين هم وحدهم الذين سيظفرون بالخلود ، وأبعد من ذلك أن الذين لا يحصلون عليه من هذا الطريق فليس لهم خلود قطعاً ولن يكون لهم هذا يعني أن لا احد في الأرض بات يؤمن أن الإنسان حياته وجيزة زائلة بالتطور العلمي والهندسة الوراثية فأصبح بوسع الإنسان الضعيف المتداعي أن يقول : أيضاً أنا حي إلى الأبد فهل الإرهاب جاء ليثبت عكس ذلك بأن لا خلود للإنسان والبقاء لله الواحد وما الإنسان إلا هالك يستمد حياته لحظة بلحظة من الله فالإرهاب ليس فكرة وليدة الجنوب أو الشمال أنما هو ابن شرعي للخصخصة الاقتصادية التي صارت خصخصة ثقافية فانسحب حكم الأولي على الثانية على صورة متسرعة ميسره حقاً فقد انشطرت الثقافة في دول الجنوب الفقيرة كما انشطرت الثقافة في دول الشمال باعتبار أن الثقافة نصاب طبيعي يرتكز على تحولات التاريخ الكامن في سجايا غرائزية ثم افترض الغرائز المنسوبة هنا يمكن التقاط أطراف عدم التجانس والعصيان وتختزل إلى الدين فيؤدي على العموم إلى الإلهام بذاكرة ثقافية دينية متعصبة تترجم تلقائياً إلى عنف يوظف العلوم الاجتماعية والتقنية للبحث عن عصر الإيمان الذهبي وما لهذه الدعاوي إشعاعية جمالية وقيميه تتراجع الحساسية تجاه البيئة التي يراد لها الحماية من التلوث فتلك الذاكرة المتسلطة قطعاً تتماشى مع اتجاهات الإيغال في الخصوصية فتتسع دائرة الاشتطاط لعنف مؤسس باعتبار لغة الحوار الوحيدة فحديث الخصوصية هو أنجب العنف الإرهاب الذي هو اعتراف ضمني بممانعة هذه المجتمعات للترقي القيمي . وهنا جذر أخر للإرهاب هو استبدال الشأن العام بالشأن الخاص إلى عام ومن ثم يتضعضع البناء الوطني بالمخصصات دون اعتبار للأهلية كما أنه يفتح المجال للعنف والعنف المضاد باعتبار أن السلطة المجردة تصبح هدفاً في ذاتها هذا ما يجعل أصوات الهوسا والأقباط والامازيع والأكراد والأرمن تتعالى فيتأسس العنف على الهوية فيتحطم الوضع الطبيعي للمجتمعات فتلد الفوضى العنف والعنف المضاد فلا أمل في نهاية الإرهاب وتوظيف الفشل لمقاصد خاصة أو كسر إدارة الخصم باسخانه بالموت مالم يتأكد للناس كل الناس أن الموت ليس تعديلاً يطرأ على الحياة . وليس هو استمرار الحياة في حالة أخرى وليس هو تحرير من قيد الجسد إلى حياة أوفر. ليس الموت بحياة الشقاء أو الهناء فالموت ليس حياة على الإطلاق بمعنى أن يعرف الناس أن الموت هو نهاية الحياة ـ الانقطاع التام عن الحياة وأسبابها. فيفهم الناس أن الموت لا يعني بحال الانتقال إلى النعيم والجحيم إنما يعني انقطاع الحياة فحين يموت الإنسان لا يعيش في مكان ما ، في السماء أو في الجحيم لا يعيش على الإطلاق ـ لا روحاً ولا نفساً مع التأكيد أن بعض الناس سوف يعود إلى الحياة في المستقبل . إلا أن تلك الحياة المقبلة تكون استمرار لهذه الحياة الحاضر هانما حياة جديدة حياة أخرى لا تبدأ بالموت إنما عند قيامة الأموات .
تشعبت المناقشات بين مادوت وهاله حول مداخلته التي صرح بها في المنتدى حوَّل جذور الإرهاب مختلفاً مع ورقة الدكتور ووَّل ولم تكن مناقشات هاله ومادوت ولدت بالصدفة فقد ترسخت بينهما الصداقة وتمددت بينهما خطوط الثقة أبان الفترة التي قضاها مادوت في استضافة دكتور الطاهر حتى أنه لم تعد هناك أسرار تفصل بين هاله ومادوت ـ حتى أن هناء ابنة الدكتور الطاهر أخذت تبتعد عن مجالستهما ومحاورتهما لاعتقادها أن حياة هاله ومادوت جافه ـ صارمة ـ واقعية أكثر مما يجب ولا تناسب تطلعاتها وأن نمط حياتهما تحسبه ضرباً من العبث الذي يستهلك الوقت والطاقة دون ناتج عملي واضح كما أن هناء لا تهتم بالقضايا الذهنية المركبة باعتبارها قضايا ثقيلة حسب اعتقادها .كانت الغرفة تستطع من الداخل فقد كان الجو رطباً في الخارج . وقف مادوت يراجع مع هاله أفكاره التي أفضى بها في المنتدى كان ينظر من النافذة إلى الحديقة المخضرة يغمره إحساس بسعادة لا متناهية لم يكن يفكر فيما يحصل الآن فقد كان يفكر في أن الحجج التي أطلقها في مداخلته كانت دامغة حتى أن هاله تشجعت لمواجهته فهو يعتقد أن أفكاره أثرت فيها كما أثرت في غيرها . لو كان مادوت يفكر قبل اللحظة لموقع رأيه على غيره فأنه كان سيعتبر ذلك مضحكاً . فلا مجال له في إبداء الرأي في مريال فالوضع التراتبي يفرض عليه أن يضع أصابعه في فاهه بل يبتلع لسانه فالكلام مسموح به للعجائز من النساء والرجال . لكن مادوت الآن هو في أوتاوا حيث يحق لرجل مثله في مقتبل العمر أن يقول أفكار حول مطلق الموضوع . كذلك فتاة فاتنة رائعة كهاله يمكنها أن تتفهم رأيه ذو قيمة قابل للمناقشة والحوار أن كان في مريال تجرأ وتحدث بجرأته التي تحدث بها في المنتدى لسمع من بعض ذوي التأثير في مثل هذه الحالة عليك ابتلاع لسانك قبل أن يقطع نرجو إلا تصرفنا عن عظائم الأمور بتقشتانك ولغوك الموغل في لزوجته ربما كانت ستنتابه رغبة في الضحك فيظهر خبثاً بائن فيتساءل كيف لرجل في كامل رجولته يمكنه أن يستسلم لمثل هذا النوع من الحماقات مع ذلك لم يتجرأ على إبداء رأيه لأنه يعرف القوانين ولا يمتلك القدرة على مخالفة التقاليد فهو فرد من القطيع لا يحق له الشذوذ عنه . القدر قاسي حقيقة والإنسان مخلوق في غاية الضعف أمام المحن التي يصنعها أو يصنعها غيره فتصبح سجناً مؤلماً لا يعرف سبل الفرار منه.
انصب نقاش هاله حول فكرة الموت التي عرضها مادوت بقالب متيولوجي يفترض أن الإنسان لا يستوعب فكرة الموت والخلود لهذا يعبث بأرواح الناس ويقرر إعدَّامهم وإعدَّام نفسه ليحث أثراً ما في أعداءه فيتراجعوا عن مواقفهم كاستجابة لما فعله من عمل دموي في غاية القسوة لا يحترم اهتمامات المحكوم عليهم بالموت من قبل أن يلفظوا بكلماتهم المهمة التي تعرض أحاديث الخلق والخالق والحية ومقارعة الظلم من الواضح أن الذين انغمسوا في لعبة الموت الفاشلة لا يعرفون ما يقولون وإنما يلفظون الكلمات دون معاني أو دلالات محدده.
الأفكار التي طرحتها هاله كانت جوهر اهتمامات مادوت ومشروعه لذلك استطرد معها وتناولا الموضوع من كل جوانبه وإبعاده وأصوله وجذوره ونتائجه وتداعياته ـ إلا أن الذي خطر بذهن مادوت حقيقة أثر اختلاف المكان ، فإذا صرّح بأفكاره التي القي بها في المنتدى في مريال فإن طريقته الموضوعية في الدفاع عنها كانت ستكون التنازل عنها والتضرع بالعفو من جمهور المستمعين لأصبح التعبير عن الرأي الأكثر ابتذالاً عن السعادة . كان ذلك هو الموقف الجديد ـ خصوصية المكان ـ جعلت مساحات اليأس تتضاءل في داخله . لقد اهتم مادوت برأيه واكتملت المعجزة فعبر عنه بسهولة لذا كان سعيداً في دخيلته. هذا الشعور لم يجروء على الإفصاح عنه فيكشف ما يدور في دواخله لهاله ـ ربما لم يكن مطمئناً تماماً للنتيجة التي توصل إليها ـ أنه في مكان مختلف عن مكان نشأته فعليه أن يتجنب التعميمية ـ فهاله نفسها هي في أوتاوا لأنها لم تكن تقدر اختلاف الأجواء فقد كانت تعرف من خلال دراستها في علم الآثار تأثير الشمال في الجنوب هذا جذر مروي فكتبت أطروحتها في نهاية دراستها ، لم تكن تطابق النتيجة إليها بعد الاستهداء بالحفريات الأخيرة مع رأي الأستاذ المشرف وخلال مناقشة عقائدية بينها وعميد القسم اعترضت على تصوراته ومسلماته هذا كان سبباً لتعطيلها وإرسالها للعمل في المتحف للعناية بالآثار وحتى تدرك مسلمات العميد وافتراضاته . لم تستطيع بعد ذلك أن تجد وظيفة إلا بعد وساطة خاطبت الرئيس. لم تكن تتوقع أن تطرد من الوظيفة وتدان بوصفها عميلة إستخاريه للشمال ومعادية لمشروع الحضارة . لقد تعرضت هاله لصعوبات عديدة خلال سع سنوات قضتها في سجن النساء قبل أن تبرئها المحكمة الإيجازية لعدم كفاية الأدلة وقلة الأدلة للتحقق من الاتهام. قالت عندما عادت قريتها القديمة إلى أوتاوا .
- لا فرق كل العالم محشو بالصعوبات والمرارات لابد أن أجد ليَّ مكان على ظهر هذا الكوكب بعد أن منحت فرصة جديدة للحياة .
سردت هاله قصتها لمادوت عندما كان يعاني أسوأ حالات الإحباط والتضعضع النفسي ـ في تلك الفترة تغيّب عن الجامعة وساءت حالته هذا ما أثار انزعاج سارة التي تابعت منذ فتر تكرار كوابيسه التي كانت تنتابه أثناء النوم فكم مرة أوقظته كي يقف عن الصراخ الذي يملأ البيت فتسأله مابك يامادوت عادة كان يجيبها باختزال هرولي :
مجرد أحلام مجرد أحلام.
ألحت سارة على مادوت بعد أن تكررت الكوابيس . فاخفي لها بكل شيء فاستعانت سارة بهاله أول أصدقائه في أوتاوا . فقد التقاها في منزل الدكتور الطاهر الذي عرفه بأنها ابنة أخيه أستاذ مساعد في كلية الآداب .
حضرت هاله لمنزل الدكتور ووَّل للقاء مادوت بعد أن افتقدته عدة مرات فلم يشاء مقابلتها فقصت لها سارة معاناة مادوت مع الكوابيس فظلت تتردد عليه حتى التقته غرفته التي كان مظهرها بائساً يعبر عن حالة الإحباط وخيبة الأمل التي كانت تحاصر مادوت . تطرقت هاله مع موضوع الكوابيس التي كانت تحاصره في نومه لم يحكيها لها . بدا عليه الهم والخجل والارتباك.
- هي مجرد أحلام تكررت لي مؤخراً فأصاب بالرعب فاستيقظ لأجد سارة قربي مؤكدة ليَّ أني كنت أصرخ .
- ما تفسيرك أنت لتلك الأحلام ؟
- ليس عندي تفسير منطقي أو غير منطقي
- هل تعتقد أنه حديث العقل الباطن ؟
- لا استطيع أن اجزم بشيء
- هل يمكنك أن تعرض عليَّ تفاصيل تلك الأحلاَّم.
- لا أرغب أن انقل إليك قلقي واضطرابي بسردي الأحلام
- إذا حكيت ليَّ أو لم تحكي فأنا قلقة عليك فالأفضل أن أعرفها.
- خلاصة الأمر أنها ثلاثة أحرم تتكرر في تعاقب ممل فالحلم الأول : (أراني وسط حريق هائل أكُل أجساد الموتى أسخر من جدتي أموم ) أما الحلم الثاني ( أجد نفسي في غابه مملوءة بالأفاعي فتطلق أحدهما سمها في عيني فأصاب بالعمى ) أم الحلم الثالث (أراني أتبرز في العراء وأكل برازي ومن ثم تتضخم شفتاي فيزداد حجم لساني حتى أنه يخرج من فمي فلا استطيع السيطرة عليه فأحاول الصراخ فلا أفلح )
- هي حقاً أحلام مزعجة أنصحك بأن لا تحاول تفسيرها سيكولوجياً أو ميتوفيزقياً قبل استشارة أخصائي نفساني.
- هل تعرفي شخص مناسب قادر على تقديم الاستشارة الضرورية ؟
- دون شك أعرف الدكتورة باربرا .
- هل لك معرفة وطيدة بها .
- هي من أشرفت على علاجي من التبول اللاإرادي الذي أصبت به بعد خروجي من سجن النساء.
- هل كنت في سجن النساء في يوم من الأيام وخرجت بأمراض .
- هل الفترة كانت قاسية وطويلة إلى هذا الحد ؟
قصت هاله قصتها كلها على مادوت الذي أصغى إليها باهتمام ودهشة ففي ختام حوارهما أكد لها أنه متحرر من أي فكر تقليدي سلبي يتخوف أو يتشكك من الطب النفسي لكنه أبرز لها رهبته من مقابلة الدكتورة باربرا باعتبارها له تجربة خاصة معها أبان عملها مع منظمة أطباء بلا حدود في أبشىَّ فقد ساعدتها في تجاوز علتها . أتفق مادوت وهاله على زيارة الدكتور باربرا للتعارف ومناقشة تجربتها مع علاج هاله فإذا شعر مادوت بالارتياح عرض عليها موضوع كوابيسه.
*********************
عرض الدكتور ووَّل ورقته التي قدمها في منتداه المنزلي التي ناقش فيها جذور الإرهاب بمقوله مفتاحيه : أن علاج جزء من البناء المائل ليس يهدم كل البناء ـ فإذا كان الهم لدول الجنوب الارتقاء وتأكيد تحررها مادياً وروحياً ، فإن التجليات المباشرة لهذه العملية الجريئة تمس ، أو تحطم أحياناً ، قناعات ، وأحلام وعناصر التكوين النفسي ، وكلها ، تحولت بفضل الممارسة والزمن ، إلى تقاليد وعقيدة جامدة هذا ما يدفع البعض للدعوة إلى إلغاء تلك التقاليد والعقائد الجامدة بالعنف والهدم وينجلي جانب الهدم في هذه العملية كعنصر جذب للقوى بمقاييس أكبر , وأوسع من البناء من هنا يتراكم الالتباس ويزداد القلق لدى أوساط حيوية لا تنطوي مواقفها على أي نية سلبية إزاء عملية الارتقاء أو ضرورتها لكنها تفتح الباب لأصوات لا تتورع من إثبات دول الجنوب فشلت في إعمال قدرتها واستغلال إمكانياتها فحقيقة لم تفلح الدول حديثة الاستغلال في استغلال المساحات والعمق والقوى المحركة القوى البشرية والمواد الخام ورأس المال فكل تلك مازالت رهينة لدول الشمال التي تفتقر لها مما ينجب أفكار التطرف والمواجهة.
فمما عرضه الدكتور في ورقته : أن دول الجنوب ضعيفة الأداء مما يولد لا مبالاة الشعوب وحاجتها الدائمة لمن يقودهم ويوجه خطاهم عبر العقائد أو العقائد السياسية مما يبرز مظهراً من تحكم دول الشمال بل محافظه على الاستبداد والتخلف مما يرفع من قيمة دعاوى إبراز الذات ولضيق الأفق تميل للوسائل العدوانية العدمية كل ذلك يلد العنف هذا أخذنا في الاعتبار أن دول الشمال تعيش عملياً حرية الوطن والمواطن كما دول الشمال عملت على تحقيق كفاية الإنتاج وعدالة التوزيع وتتجه ناحية استدامة الرفاهية هذا ما تغذي مشاريع دعاوى العنف من منظورات التباين الاقتصادي والثقافي والروحي بحجة أن الصوت الانتخابي في دول الشمال أساسه لقمة العيش الحرة كما أن الشمال دولاً ومجتمعات تقوم على التخطيط لصالح الدولة والفرد بلغ ذلك مبلغاً ووصل إلى تهذيب رأس المال بالتامين والضمان الاجتماعي وإقرار حقوق العاملين .
تعرض ووَّل في مجمل ورقته إلى مجمل قضايا دعمت دعاوى العنف وأسست لظاهرة العنف السياسي التي يطلق عليها الإرهاب ومن تلك القضايا ما يجيء في هذه الفقرة لا يختلف اثنان في عجز الدول حديثة الاستقلال عن تحقيق انسجام ثقافي وتماسك اجتماعي كما عجزت في بناء واقع اقتصادي كما فشلت في الحياد الايجابي لهذا جاءت الدعاوي صارخة التطرف المستهدف كامل البناء باعتباره بناء غير أصيل مستورد من الخارج والعودة للتأصيل بإلغاء البناء القديم كلياً للرجوع للحظة ما في الذاكرة للبداية فهذه النظرة تركز على إعلان الحرب للانفكاك من أغلال الخارج هكذا عجزت دول الجنوب عن إبراز شخصيتها وتحقيق مستوى الاستقرار الداخلي قائم على تماسك بناء مؤسسي شرعي يستمد ثقته من الشعوب فالاستقرار الزائف الذي يسود الجنوب هو استقرار غير حقيقي وبالتالي يحدث تماسك شكلي ناجم عن القهر والبطش والاستبداد فالذي تشهده كل السلطات التي جاءت في دول الجنوب بعد حقبة السيطرة المباشرة أنها كانت عاجزة وقاصرة ومرتبكة في إدارة الشئون العامة وبناء المؤسسات ودارت حول نفسها مصارعة على السلطة ولا تحترم الخيار الشعبي مقابل ذلك أهملت الشعوب لا تملك آليات الضغط لأجل مصالحها هنا كانت الصدمة فاجعة في الحاضر فاختلطت القضايا وتاهت المفاهيم وفقدت المفاهيم مضامينها ناهيك عن تجددها بذلك اختلت آليات السيطرة على توجهات الشعوب فلم يعد من الممكن معرفة الأحاسيس التي تعتمل في نفوس إلا لنخب المؤثرة فأضحت العلاقة بين الدولة والمجتمع في حالة تغير والعلاقة بين الحاكم والمحكوم في حالة سيولة ومفاهيم السلطة كلها مائعة أو هي في طور التبدل كل ذلك أعطت الميديا الحديثة قدرة ماده دسمة تعرضها ليل نهار مصور العنف والاستبداد وبطولات سفك الدماء لهذا كانت تفاصيل التحولات الدراماتيكية في الاختلاف بين الشمل والجنوب ودفعه لأن يصبح اشتباك فوضوي عدمي .
تعرض الدكتور ووَّل في ورقته عن الصدمة على المستقبل فعرض وجهة نظره هكذا : الفاصل بين طبيعة العقائد ووظيفتها قد شكل قلقاً وجودياً لقطاعات واسعة تحس بالفجيعة على المستقبل المحدود في الحياة الدنيا وفيما بعدها فأصبح القلق متنامياً وعاماً وممياً وتبددت الثقة في اليقينيات فصار المستقبل شغلاً فردياً لقطاعات واسعة برغم ذلك وضع الحساب لعدة حوادث حدثت وغيرت طريقة التفكير واتجاهات النظر فرعت من قيمة سؤال لم يتم الاهتداء لوضع في الحساب ولما لم يتم التنبوء بها يرى الدكتور ووَّل تلك معطيات تشكل أفاق ما يميز ظاهرة الإرهاب التي في جوهرها حالة فوضى ذهنية وروحية واجتماعية فهو يعتقد أنه لم يهتم الاشتغال بفهم المستقبل بموضوع أثر الثروة المتركزة في أيدي قلة مغامرة عبثية جاهليه لا تحترم الحياة الموجدة وبهمها المستقبل بعد الموت كل ذلك وغيره عرض الاستقرار لخطر وجودي مما أنجب ظاهرة موازية ممثلة في انكفاء على النصوص الماضوية استدعاء ذاكرة الأجداد لتعالج مشاكل الحاضر ذلك لأن المنشغلين بالمستقبل تجنبوا الأمور التي تثير حساسيات السلطان الفاعلة مع أنهم كانوا يعلمون خطورتها على المستقبل فنسجو السيناريوهات لكنهم لم يستطيعوا استحضارها فيها لا لعدم تقديهم لخطورتها فحصروا أنفسهم في التأرجح بين اتجاهات التغيير إلى أسوأ واتجاهات التطور للأفضل هنا كان العجز الذي أنجب الإرهاب .
الدكتور ووَّل يرى أن الإرهاب وليد شرعي للعجز عن التنبوء بما سيكون عليه المستقبل مع التقيد بالواقعية فقد أنجب العجز التطرف في الركون للإرادة والاعتماد عليها في التحولات والركون للإرادة في تشييد المستقبل لا انطلاقاً من المعطيات التي يتشكل منها الواقع الراهن في دول الجنوب كله متغيرات مؤقتة لم تحصر الورقة جذور الإرهاب في الفشل في أدارك المتغيرات بل تتهم المخطط للمستقبل أنه ووقع في هوى العامة والمزاج فئة عقائدية لها طموحاتها وتطلعاتها التي من أجلها مستعدة للتضحية والحركة والفعل والضغط فاستسلموا لتشييد المستقبل بنفاذ الإرادات لا بالتوازنات الكمية والنوعية الحقيقية تعبرها عن نظام كوني ملامحه في التنافس مع التزام التداخل والتفاهم والصراحة وواقعية بعيد عن المزايدة . جاء في ورقة الدكتور ووَّل : الإرهاب مسئولة عنه محاولات فرض الإرادات لتشكيل المستقبل بمعنا المحاولة المفرطة لتكيف المستقبل مع الرغبات بفرض الإرادات فالمستقبل الذي دائماً يأتي على غير ما يتوقعه الناس فالمهم ليس استدعاء الإرادات لبناء المستقبل كل ذلك ألهب نيران العنف في كل الكون . كما يتحمل المسئولية أيضاً الذين يرون أن إرادة المستقبل ليست مجرد استشراقة وبناء التمنيات حول حشد الطاقات وإحداث الاشتباكات للتأثير في المستقبل بتفعيل الإرادة .
يرى الدكتور ووَّل أن الإرادة يجب أن تبعث في العقول والقلوب والسلوك لأنه ليس من بديل لكل الناس سوى إعادة صياغة قواعد ردة الفعل في ظل تطور إمكانيات الإفناء والتدمير والقتل لأنه دون تهذيب طريقة رد الفعل لمعظم الناس الفاعلين فالنتيجة الاضمحلال والفناء . لهذا فالإرادة عندما تشغل الأفكار والعقول فأن ذلك الاهتمام بالمستقبل وتوظيف الماضي بصورة عقلانية ذلك بالاستفادة من أسباب النجاح التي أحصى بعضها الدكتور ووَّل على هذا النحو : التقدم في مناهج البحث وأدوات التحليل ـ توثيق التجارب ـ ودراستها واكتساب قناعات منها تفرض نفسها فرضاً .
يرى الدكتور ووَّل في ورقته أن العالم وحدة واحده في تغير مترابط ولم يعد واقعاً في القرون الماضية فالأطراف القاطنة الأرض لابد أن تتفاهم حول مستقبلها ذلك وحده ما يضحض الوهم الذي يروجه دعاة الإرهاب الزاعمين أن حملات السيطرة المباشرة ستكرر عليهم أن يدركوا أن استنتاجهم عبارة عن خمول ذهني وسذاجة.
تحدثت ورقة الدكتور ووَّل عن التحديات ومواجهتها بتدخل العقل لمعالجة الإرهاب : قطعاً ستكون هناك تحديات ستكون مختلفة عن المعهود تفرض مسئوليات مختلفة عن ما تعارفوا عليه تحتاج المواجهات الجريئة فهل الحياة شيء غير مواجهة التحديات هذا لا يعني هدم البناء لأن جزء منه مائل فإذا فعل الناس ذلك فإنهم يكونوا قد وقعوا في حبائل أدعياء استخدام إرادة القوى لتحديد ملامح المستقبل فلا خيار سوى تدخل العقل في كل المعادلات فهذا ما يستهدفه الإرهاب تعطيل العقل لأنه تدخل العقل انهزم الإرهاب فلا معنى للتبرير تأجيل التداول السلمي بأوهام الواحد ذو الرأس الحامل بادعاء أنه الخيار الأنسب المحتوم .
كما ناقشت ورقة الدكتور ووَّل التطرف كمله واحده. المستقبل المرتقي بالإنسان لا يحتمل التطرف أي كان نوعه وموضوعه ومصدره. فلا يحتمل التطرف في استعمال السلطة وتوظيفها لمصالح عابثة . هذا يطابق التطرف في الدين أو في التعبير عن اليأس بحجة الرفض ، فالرفض ليس سنة الحياة بل هو ظاهرة مؤقتة يفعل فيها الوقت فعله . فالمستقبل ستجدده إرادة الممارسة العقلانية بتخطيطها الصبور وتمسكها بالرجاء فمناهضة الإرهاب تبدأ من مناهضة الرفض والتطرف هي تعني تهذيب النظر للأمور وإخضاعها للفعل والواقع . ومعالجتها بنظرة تجمع بين الموضوعية وهدف إعادة بناء الحياة.
تطرق الدكتور في ورقته إلى أن جذور الإرهاب تكمن في تقسيم إلى نحن والآخر بمعنى رفض النظرة التي تحرك قضايا قديمة تهرب من إعمال العقل أو تناول قضايا جديدة بنظرة قاصه مأزومة فالجذر الرئيس للإرهاب هو العجز عن استخدام العقل والاعتماد على التلقين مما يعطي الإشارة للتطرف. كما أن ورقة الدكتور ووَّل قررت أهمية تأسيس الوعي للمستقبل بنظرة موضوعية بعيداً عن التبرير والتطرف وتغيب العقل ولن يكون ذلك إلا بتجاوز سلوك الجمود واعتماد الإجابات السهلة التي تستدعي العنف هذا يعني إعمال العقل والاهتمام بالسلوك التجديدي ينظر للبشر أجمعين ككتلة واحدة لا تقبل التجزئة العدوانية والتوقف عن طرح الأسئلة المزايده والمزيفة .