|
د. عبد الوهاب الأفندي: خيار التقدم إلى الوراء في الخرطوم
|
خيار التقدم إلى الوراء في الخرطوم د. عبد الوهاب الأفندي
(1) ليس من الصعب التكهن بما قصد إليه الزعيم الإسلامي السوداني الشيخ حسن الترابي حين أطلق تصريحاته الأخيرة التي أيد فيها اتهامات المحكمة الجنائية الدولية ضد حليفه السابق الرئيس عمر حسن البشير وطالبه فيها بتسليم نفسه للمحكمة. فالشيخ كان يقصد توريط الحكومة عبر دفعها إلى ارتكاب انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان تهز صورتها أكثر. وقد نجح في ذلك لأن الحكومة سقطت في الفخ الذي نصبه لها كما توقع تماماً،حيث قامت باعتقاله مما سلط الضوء السالب على سجلها الحقوقي، وأعاد الشيخ إلى دائرة الضوء. (2) المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الشيخ الترابي يكاد يكون الحزب الوحيد بين الأحزاب ذات الوزن في شمال السودان الذي ظل يصرح بوضوح عن تأييده الكامل للملاحقة الدولية للرئيس السوداني، كما أنه ظل يعبر بوضوح عن هذا الموقف كما فعل أحد أقطابه الدكتور بشير آدم رحمة (الذي اعتقل مع الشيخ الترابي الأسبوع الماضي) في مؤتمر دولي عقد في لندن في كانون الاول (ديسمبر) الماضي. وعليه فإن الاعتقالات لن تنفع الحكومة في شيء، بل على العكس، تساعد حملة المؤتمر الشعبي التي تهدف على المدى البعيد إلى إسقاط حكومة المؤتمر الوطني. (3) معظم الأحزاب السودانية (بما فيها الحركة الشعبية الشريك في الحكم) ظلت تعترض على إجراءات المحكمة الدولية من منطلق عملي بسبب الخوف من انعكاسات هذه الإجراءات على عملية السلام واستقرار البلاد. وهذا هو نفس الموقف الرسمي العربي والافريقي. ولكن المؤتمر الشعبي ظل يرفض هذا المنطق، لأنه لا يرى من جهة أن استقرار السودان يعتمد على وجود الرئيس البشير، ومن جهة أخرى يرى أن عدم الاستقرار ثمن يستحق الدفع للتخلص من حكمه. (4) حين تقوم الأجهزة الأمنية باعتقال الشيخ الترابي فإنها تعترف ضمناً بوزنه السياسي وقيمة تصريحاته التي لا تعادلها تصريحات أخرى في هذا الخصوص لأنها تصدر من شخصية إسلامية يصعب أن تطلق في حقها الاتهامات المعهودة من كونها بوقاً للغرب. من جهة أخرى فإن عملية الاعتقال نفسها سترفع من قيمة التصريحات وتزيد من أهميتها بسبب الجدل الذي سيثيره الاعتقال. إضافة إلى ذلك فإن الحكومة تدحض إحدى حججها الأبرز حول قدرة النظام العدلي السوداني على التصدي لأي تجاوزات مزعومة في دارفور أو غيرها. (5) التيار المهيمن في المؤتمرالوطني يبدو أنه لم يتعلم شيئاً من تجارب العشرين سنة الماضية التي طبعها النهج العقيم الذي يتوهم إمكانية حسم كل المشاكل عبر استخدام العنف والقوة. وقد أثبت هذا النهج فشله في الجنوب، ومع القوى السياسية المنافسة الأخرى، ثم في دارفور حيث الكارثة الكبرى الحالية. وكما هو الحال في دارفور فإن ما تحقق عبر العنف يكاد يكون معدوماً، بينما الثمن الذي دفع وسيدفع مقابل أوهام إمكانية الحسم العسكري باهظ جداً. (6) قبل اندلاع الحرب الحالية في دارفور كانت مطالب أهل الإقليم تتلخص في السماح لهم باختيار الحكام وبقية المسؤولين في الولايات بحرية، وإعطاء دارفور تمثيلاً ملائماً في المركز مع المزيد من الاهتمام بالمشاكل الاقتصادية والتنموية العاجلة والملحة في الإقليم. الآن تم القبول بكل هذه المطالب وزيادة، ولكن المشكلة في تفاقم، والمطالب في تزايد، حيث بلغت حد ملاحقة رئيس الجمهورية قضائياً في الخارج، ولم تنته هناك. والعبرة من كل هذا أن النهج التصادمي العقيم يهزم نفسه بنفسه. (7) لنا بالطبع رأينا المنشور والمعروف في قضية المحكمة الجنائية الدولية الذي يخالف رأي الشيخ الترابي وحزبه، ليس من منطلق التعاطف مع النظام أو التبرئة له مما ارتكب من كبائر في دارفور وغيرها، ولا قبولاً لدعاوى الحصانة أو الاستشكالات القانونية حول الصلاحية والاختصاص، وإنما حرصاً على ما بقي من السودان. فالذي سيدفع ثمن المواجهة بين المحكمة والنظام سيكون غالبية الشعب السوداني، تماماً كما كان الحال في العراق. ولا يمكن أن يقبل عاقل أن يطحن الأبرياء في مواجهة دون كيشوتية بين أدعياء مبادئ مجردة هم أول من يتهرب من مقتضاها، وبين نظام لن يهمه أن يهلك نصف الشعب السوداني ليبقى في السلطة. (8) دخول المحكمة كطرف ثالث (أو رابع أو خامس) في الصراع الدائر في دارفور سيعقد القضية المعقدة أصلاً ويسحب أوراقاً مهمة من أيدي المتفاوضين وحتى الوسطاء والمتطفلين الدوليين. فكما هو الحال في أي نزاع آخر، يجب أن تكون أساليب محاسبة مرتكبي التجاوزات في الصراع جزءاً من التسوية النهائية، وأن يكون خاتمة للصراع لا استمراراً له بوجه آخر، لأن استعادة السلم يجب أن تكون الأولوية القصوى للجميع. (9) ولكن المؤتمر الوطني لا يخدم قضيته إذا كان يرتكب تجاوزات جديدة غير تلك المتهم بها دولياً. وعليه فإن استمرار حبس الشيخ الترابي والتلويح بمحاكمته ليس فقط مضيعة للوقت وخدمة لقضية حزبه، حيث أنه اعتقل في السابق بتهم أكبر ثم أطلق سراحه من غير محاكمة، بل هي أيضاً إدانة ذاتية للنظام بالتهمة موضوع النزاع (أنه لا يتورع عن شيء لحماية سلطانه). فقد أثبت الجناح المهيمن حالياً في الحكم أنه يمتلك قدرة مدهشة على التقدم الصاروخي إلى الخلف، وإعادة النظام إلى نقطة الصفر كلما حقق إنجازاً ذا بال، مثل سلام الجنوب أو بعض التنمية. (10) القضية إذن ليست في اعتقال الشيخ الترابي، وهو حدث عارض لن يقدم ولن يؤخر في شيء، ولكن في هذه العقلية التي تمثل ومن يجسدها التهديد الأكبر لاستقرار البلاد ومستقبل النظام نفسه. وأنا أكرر هنا وربما للمرة العاشرة أن على الرئيس لو أراد أن ينقذ نفسه والبلاد مما هو أكبر من المحكمة الدولية أن يرسل هذا الفريق إلى تقاعد إجباري مريح هو خير لهم وله وللبلاد. وعليه أيضاً أن يطلق سراح الشيخ الترابي وبقية المعتقلين السياسيين من غير تأخير. خيار 'الدول الثلاث'... سيناريو بائس ومخاوف مضخّمة
|
|
|
|
|
|
|
|
|