كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، (Re: Agab Alfaya)
|
نشيد الانشاد
وهنا ينبغي أن نشير إلى أسلوب الطيب صالح وما فيه من تأثرات بكتب الأديان والتصوف ، فعندما نقرأ في مريود عبارات مثل " تفاحة قلبي " و " رمانة قلبي " نتذكر " نشيد الانشاد " في التوراة ، فهذه هي روحه وهذا شذاه . وعندما نقرأ في الحوار بين " مريود " وحبيبته – في عالم الروح – قول مريود " أجعلي لي آية" نتذكر عطر الاسلوب القرآني ، أما في الحوار بين بلال وشيخه فنحن نتذكر كتاب " المواقف" " للنفري" وغيره من كتب المتصوفين اصحاب لغة العشق و " أوراد " الوصول . وقد حدثني الطيب صالح – وهو عندي صادق أمين – أن بعض مقاطع القصة كانت تهبط عليه فجأة ، وفي أوقات لا يكون فيها على أهبة للكتابة ، وعندما تهبط عليه هذه المقاطع يستجيب لها كما يستجيب لنداء مقدس ويكتبها كما أملاها عليه الهام الـروح ، وهذه " الحالات" عند الطيب هي من احوال المتصوفين وأهل العشق ، وهي حالات تفيض بالنور على كثير من صفحات مريود وتملؤها بالعطر الروحي الجميل . ومن المقاطع التي هبطت على الطيب صالح فجأة فكتبها كما هي ، عندما استيقظ ذات صباح ، فوجدها حديثاً في قلبه ، ذلك المقطع الأخير من رواية مريود ، حيث تقول "مريم" " لمريود " وكان صوتها كأنه ينزل من السماء ويحيط بمريود من النواحي كافة ، تطويه رياح وتنشره رياح :
" يا مريود . أنت لا شئ . أنت لا أحد يا مريود . انك اخترت جدك وجدك اختارك لانكما ارجح في موازين أهل الدنيا . وأبوك أرجح منك ومن جسدم في ميزان العدل لقد أحب بلا ملل ، وأعطى بلا أمل ، وحسا كما يحسو الطائر ، واقام على سفر ، وفارق على عجل . حلم أحلام الضعفاء ، وتزود من زاد الفقراء ، وراودته نفسه على المجد فزجرها ، ولما نادته الحياة ... ولما نادته الحياة ..." .
ينابيع الروح
هذه هي كلمات الصوت الداخلي الذي استمع إليه الطيب صالح " وكان كأنه ينزل من السماء ويحيط به من النواحي كافة " ، فسجله الطيب على الورق كما هو ، وهذا المقطع هو نموذج لمقاطع متكررة هبطت على الكاتب بهذه الطريقة ، وفي هذا الموقف الأدبي الروحي ، دليل جديد على أن الينابيع التي يتدفق منها عالم الطيب صالح هي ينابيع الروح والوجدان والحلم الصافي العميق ، وليست ينابيع الملاحظة الخارجية ، واليقظة العقلية التي تحسب خطوات النفس والجسم بالأمتار والسنتيمترات .
ملاحظتان
هل انتهت عطايا مريود ؟ كلا أنها لم تنته فما يزال فيها الكثير الذي يستحق البحث والدر والاكتشاف ، ولكن لابد لنا أن نتوقف هنا فالمجال محدود ، وحتى لا نفسد "الوردة" بكثرة التفتيش في أوراقها ، وكثرة البحث والتنقيب في تربتها ، وتحليل عطرها في معامل الكيمياء ، ولكنني أود أن أنهي هذه الدراسة بملاحظتين صغيرتين :
الملاحظة الاولى هي أن الطيب صالح – وقد أشرت إلى ذلك من قبل "قد نسج روايته من قماش سوداني إفريقي عربي " ، ومن هذا القماش "المحلي القومي" استطاع الطيب صالح أن يكتب أدباً " إنسانياً عالمياً " ، يمكن لأي إنسان أن يقرأه في أي مكان من الرض فيطرب له ويتأثر به ، وتجري في عينيه الدموع ، فكأن " القومية المحلية " عند الطيب صالح هي طريق "الوصول" إلى الإنسانية ، والحقيقة هي أن الطريق الوحيد للوصول إلى العالمية هو الابتداء من المحلية القومية ، ولا طريق آخر سوى هذا الطريق ، والمحلية القومية هنا هي أشبه بالصحراء العربية التي كانت تخفي في جوفها محيطاً من " البترول " ، فظاهرها صحراء جرداء وباطنها كنوز ، كذلك فان المادة " المحلية القومية " عندنا تخفي أنهاراً وينابيع كثيرة من الشعر والموسيقى والعواطف الإنسانية الفنية الخصبة ، و " مادتنا القومية الإنسانية " في وجهها الخارجي لا تظهر إلا التخلف والاوجاع والهموم ، ولكن هذا المظهر الخارجي يخفي تحته الكنز الكبير ، وقد اكتشف الطيب صالح هذا الكنز الشعري تحت السطح السوداني الإفريقي العربي ، وهو كنز تكون على مدى العصور ، كما تكون البترول من انصهار مواد مختلفة ، ومن عناصر هذا الكنز الشعري / تجارب الصوفية واختلاط الشعوب والسحر والاساطير والاحداث الكبيرة وكثرة الهموم والصدمات ... لقد انصهرت هذه المواد كلها وخلفت في الاعماق كثيراً من الشعر والفن والرؤى والاساطير ، ولما كان الطيب صالح – في أدبه – يحفر في الارض ، ولا يكتب فوق سطحها بالطباشير ، فقد اكتشف الكنز في باطن الارض ، فانساب من هذا الكنز في أدب الطيب صالح فن جديد جميل .
بالاضافة إلى هذه الملاحظة حول القومية والعالمية هناك ملاحظة ثانية وأخيرة عن المعنى العام لقصة " مريود " ، وكما أشرنا من قبل فإن قصة مريود عسيرة على التلخيص ، واذا اردنا أن نعرف معناها العام بالتحديد الدقيق فسوف يصعب علينا ذلك ، ولكننا نستطيع أن نقترب من هذا المعنى ، إذا نظرنا إليها على أنها عمل روائي ، وأنها في نفس الوقت قصيدة في تمجيد سلطان العشق والمحبة بالمعنى الواسع لكلمتي العشق والمحبة ، ولعل اقرب المفاتيح للمعنى العام لهذه الرواية أو هذه القصيدة هو قول " الطاهر ود الرواسي " عن أمه وعن نفسه ، حيث اقترب الطاهر تماماً من النبع الأصلي للرواية أو القصيدة :
" ما رأيـت حباً مثل حب تلك الام . وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم . ملت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب . ويوم الحساب ، يوم الخلق بين يدي ذي العزة والجلال ، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم ، وهجودهم وسجودهم ، سوف أقول : يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين الطاهر ود بلال ، ولد حواء بنت العربي ، يقف بين يديك خالي الجراب ، مقطع الاسباب ، ما عنده شئ يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة " . هذا ما يقوله الطاهر ود الرواسي .
وسوف نخطئ تماماً لو فهمنا أن " المحبة " التي تدول حولها قصة "مريود" هي المحبة العادية التي تربط بين شخص وشخص أو بين مجموعة أشخاص ، فالمحبة هنا هي قوة دافعة من قوى الحياة ، وهي قوة كبرى تحرك الارادة الإنسانية وتضعها في موضع الفعل والحركة والتأثير ، وعي قوة من قوى الحضارة ، تواجه قوة اخرى هي " التسلـط " ، فالمحبون في عالم الطيب صالح يقفون في جانب والمتسلطون في جانب آخر ، والصراع بينهما قائم لا يتوقف ، فاذا انتصر المتسلطون فان الحضارة تتعثر ، ويتعرض المجتمع للتشوه ، وتنهار المدينة الفاضلة كما انهارت " ارم ذات العماد " في القصة الدينية المعروفة ، حيث كانت " ارم" جميلة جدا ولكنها كانت تقوم على التسلط لا على الحب ، وعندما ينتصر المتسلطون يتعرض الإنسان للذبول والضياع وتتبدد قواه فلا تنتج شيئاً له قيمة في الحياة ، فالمحبة عند الطيب صالح حل للمصير الإنساني ، وهي موقف حضاري وفلسفي واجتماعي ، وهي ارادة وقوة وحركة وعزم على الخلاص من عوامل الاحباط في حياة البشر ، وليست المحبة عند الطيب سذاجة وسلبية وموقفاً فردياً وتخلياً عن الارادة ... إن المحبة في عالم الطيب صالح هي الحضارة ، بكل العناصر التي تتكون منها الحضارة من إرادة وذكاء ونبل وتخلص من تفاهات المجتمعات التي تتعقد فيها الدنيا وتتعقد فيها النفوس وتتوقف الحركة ، أو تدور حول أشياء صغيرة تبدد مياه الحياة الصافية فيما لا زرع فيه ولا ثمر ولا زهر ولا عطر ولا روح ولا نبض ... الحضارة عند الطيب صالح هي المحبة والمحبة هي الحضارة ، ومريـود أغنية للمحبة أو أغنية للحضارة . "
انتهي.
رجاء النقاش
مجلة الدوحة ( القطرية) - ابريل 1978
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:17 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:18 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:21 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 12:24 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | انور الطيب | 05-16-05, 01:08 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-16-05, 09:30 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | محمد أبوجودة | 05-17-05, 01:11 AM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | newbie | 05-17-05, 01:58 AM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | انور الطيب | 05-17-05, 01:19 PM |
Re: المراة في ادب الطيب صالح | Agab Alfaya | 05-17-05, 08:57 PM |
Re: يا له من مشهد ! | Agab Alfaya | 05-17-05, 08:47 PM |
Re: النبع الجديد | Agab Alfaya | 05-17-05, 08:26 PM |
Re: ماذا قال بشري الفاضل عن مريود ؟ | Agab Alfaya | 05-17-05, 09:04 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-19-05, 07:54 PM |
Re: خواطر حول قصيدة في العشق والمحبة ،، | Agab Alfaya | 05-19-05, 07:56 PM |
|
|
|