آخر المحطة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 08:34 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة هشام ادم(هشام آدم)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-14-2011, 12:35 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آخر المحطة (Re: هشام آدم)

    الفصل الثامن

    تلك الليلة، استطاع أن ينام بعد مجاهدة مُضنية؛ إذ لم يكن باستطاعته تغطية وجهه كاملًا أثناء النوم؛ لاسيما عندما يكون الجو حارًا، ولكنه فعلها مُضطرًا بسبب بعوض الكلاكلة الشرس. استيقظ، على صوت بائع الخضروات الصباحي، آتيًا من مُكبِّر صوت مزعج، وهو يُكرر بلا هوادة: "عَجّوُر .. جَرْجير .. لَيْمُون .. بَطَاطِس"، نظر إلى السقف دون نيّة مُتعمِّدة، فرأى ضبًا مُعلقًا، لا يُحرك ساكنًا. شعر بشيء من القشعريرة إزاء لونه، ونظراته المتحفِّزة تلك، وبطريقة مُفاجئة تذكر موعده مع صديقه طه شريف في آخر المحطّة. نظر إلى ساعته الاسكواتش، فوجدها تشير إلى التاسعة والنصف. نهض مُسرعًا، وأخذ حمامه الصباحي البارد، وبدَّل ملابسه، وتأكد من تهذيب شعره، وخرج على الفور.

    انتبها على صوت العم خليل، وهو يتشاجر مع أحدهم "الجَّرِيده دَا بِتَاع حَبّوُبْتَك تَقْرَاهُو وتَخَلِّيهُو؟" فابتسم بلا اهتمام؛ بينما أخذ طه شريف ينظر إلى ساعته مرّة أخرى "يَا زُول هُوي، السَّاعَه عَمَلت حِدَاشر إلاَّ! حَ تَمْشِي مَعَاي آخر المحَطَه، ولاَّ نِجلِّي الموضُوع؟" هزّ جلال هاشم رأسه موافقًا، وانطلقا في طريقهما إلى موقف المركبات العامة؛ حيث كان صبي وسيم القسمات يردد بنبرة موحدة: "شَرِق ... شَرِق ... شَرِق" فركبا الحافلة، ولم يفت على جلال هاشم تلك الابتسامة المنتصرة التي رسمها صديقه على شفتيه، ولكنه لم يأبه له كثيرًا.

    عبر مذايع الحافلة، كانت الأخبار عن تداعيات انفصال الجنوب، تشغل جُل الرُكاب، ولكنه لم يهتم لذلك كثيراً. جلس إلى جوار النافذة، التي من خلالها رأى الكلاكلة، وكأنها مدينة أشباح استوطنها البشر. لا شيء يبدو مرحًا في هذا المكان. كل شيء فوضوي وعابث، ولكنه لاحظ اختفاء البهائم السائبة من الشوارع، وظهرت، بدلًا منها، ركشات كأسراب غراب متوحشة، تجوب شوارع الحي الأسفلتية، وطرقاتها الترابية، حتى لم يعد بإمكان أحد، هنا، الاستغناء عنها. كما لم يعد الناس يهتمون بتربية الدواجن والحمام كما في السابق. الأرض الترابية تمتد على مرأى بصره، وكان بإمكانه أن يسمع أصوات الانفجارات الآتية من منشأة التصنيع الحربي في الحزام الأخضر شمالًا، مُضيفةً بذلك عنصرًا ضوضائيًا إلى قائمة الضوضاء التي تعج بها الكلاكلة، منذ الصباح الباكر، وإلى أن تغرق الشمس في مياه النيل الأبيض في المساء، لينطلق بعدها كورال الكلاب، والضفداع، وصرصور الليل الموحي بالشجن والوحشة.

    تذكر تلك الأمسية التي قضاها مع شاهيناز حسب الرسول، بعد عودتهما من كافتيريا الومبي بالمهندسين، على متن حافلة ركاب صغيرة، بالكاد تتسع لعشرة أشخاص، كان سائقها يصيح مُرددًا: "إسْعَاف .. إسْعَاف" كلّما رأى حشدًا من الناس في انتظار المواصلات العامة. كانا يجلسان متلاصقين، فأحس بجسدها البض: مثيرًا ومغريًا، وانتبهت إلى ذلك؛ فأخذت تقترب منه أكثر فأكثر: "بِتْ الكَلب، كَان عِنْدَها مَزَاج تِهيِّجْني" هذا ما أسرّه في نفسه، وهو يبتسم لتلك الذكرى الحميمة، التي تقافزت إلى ذهنه دونما مبررات واضحة.

    عاد من غيابه الروحي بلكزةٍ من طه شريف، وهو يقول: "أَرَح يَابن خَالي، وِصِلْنَا آخر المحَطَّه خَلاص." بدا سعيدًا، ومنتشيًا لهذا المشوار المفاجئ، ولم يخب ذلك البريق الماكر في عينيه. سار به مُسرعًا، حتى دخلا سوقًا مبنيةً من الرواكيب المتراصة، وطغت الأجواء الاحتفالية على المكان: صوت أحمد الصادق ينطلق من محل لبيع العصائر الطازجة، متغنيًا بصوته الشجي:

    "القِطار دَوَّر حَدِيدو
    مِني شَال زُولي البَرِيدو
    الفُرَاقُو عَليَّ حَار"

    وصوت جمال فرفور آتٍ من محل آخر، ورجل يرش الماء أمام محلِّه الذي يبيع فيه المراكيب الجلدية، وملابس الرجال الداخلية، وصوت أنثوي مثير يُردد من مكان ما: "شَرِيحَه زين بجنيه، ورَصِيد باتنين جِنيه. أرقام مُميزه"، وموسيقى أجنبية صاخبة ومتداخلة، تأتي من محلات لتحميل نغمات الهواتف المحمولة.

    رغم حرارة الجو في الخارج، كان السوق كواحة ظليلة، وقد حجبت المشمّعات، الممدودة على طول رواكيب السوق، أشعة الشمس، مخلفةً، بذلك، ظلًا وارفًا وباردًا. تمنى جلال هاشم أن يطول مقامهما في هذه السوق، وألا يخرجا منها إلاّ مساءً. هنا يُباع كل شيء تقريبًا: أجهزة كهربائية، ملابس جاهزة، أحذية، إكسسوارات الهواتف المحمولة، معدات رياضية، حقائب سفر مختلفة الأحجام، إكسسوارات وأدوات تجميل نسائية، أقراص مدمجة لألعاب الأطفال (PlayStation)، منظفات منزلية، محلات لتجهيز العرائس، وأخرى لبيع وإيجار فساتين الزفاف، أدوات الخياطة ومستلزماتها، الملابس الرياضية والأزياء المدرسية، كتب دينية وأخر ثقافية متنوعة، أشرطة كاسيت، أجهزة كمبيوتر بإكسسواراتها، وأجهزة كمبيوتر محمول. كان طه شريف يقول، وكأنه يُكلِّم نفسه: "دَايِر أشْتَري لَي بَنْطَلَوُن جَدِيد، بَدَل البَنْطَلَوُن عَبْد الوَاحِد العِنْدِي دَا!" يُقال إنه بإمكانك أن تجد في السوق المركزي أيّ شيء تبحث عنه: من الإبرة وحتى الصاروخ!
    على الطرف الآخر من السوق المركزي، ثمة رواكيب أصغر حجمًا، تجلس تحتها فتيات حبشيِّات جميلات، يبعن الشاي والجَبَنَة الحبشيِّة المشهورة. ما أن تمر أمامهن حتى يرمقنك بنظرات متغزلة، وابتسامة مُرحبة، يستقطبن بها الزبائن. كان طه شريف، كعادته، يتنقل بنظراته بين الحسناوات، ويبتسم لهذه، ويتغزّل بتلك، وفي سبيل ذلك، كان يمشي بتهمّل مثير للملل؛ حتى أنّ جلال هاشم أحسّ أنهما أمضيا في رواكيب السوق المركزي دهرًا كاملًا. شعر أنهما لن يتوقفا حتى ينتهيا إلى أطراف الكرة الأرضية، وأن مشيهما هذا لن يتوقف ولن ينتهي. لم يشأ جلال هاشم أن يُقاطع طه شريف أو أن يستوقفه، فقد كان المكان يبدو له مألوفًا، وكان منسجمًا معه بطريقة حميمة، وبدا أنه يعلم تمامًا وجهته في هذا المكان الأشبه بالمتاهة.

    خرجا، أخيرًا، من رواكيب الحبشيِّات، وقطعا مسافةَ عشرة أمتار؛ كانت هي المسافة الفاصلة بينها وبين خط طويل من الفرندات المبنية من الطوب الأحمر. كان الأمر أشبه بدهليز حجري طويل لا نهاية له. كانت الفرندات مبنية على شكل مربعات متجاورة على جانبي الطريق، وفي كل مربع ثلاثة غرف تستخدمها ستات الشاي كمطابخ صغيرة، يضعن فيها أدواتهن، ويغسلن فيها الأكواب المتسخة، ويصنعن فيها الماء البارد بعد إضافة مكعبات الثلج العملاقة إليه، وفي بعض الأحيان لاستقبال الشخصيات الخاصة. أمام كل غرفة من هذه الغرف، تضع كل بائعة شاي كراسٍ بلاستيكية ملوّنة لجلوس الزبائن، في شكل مُربع غير منتظم الأضلاع تمامًا.

    تتراص مربعات الكراسي هذه، بجوار بعضها على الجانبين، لتصنعا طريقًا ضيقةً في المنتصف، يتنقّل عبرها المارون، من بين بائعات الشاي المنتظرات للزبائن، ليستقر كل واحد منهم، أخيرًا، أمام بائعةٍ منهن. من الناحية العُليا تمتد مشمّعات زرقاء تربط بين أطراف الفرندات، وفي نهاياتها فتحات مربعة صغيرة تسمح بمرور السَّبَلُوقاتِ المتدلية من أعلى الفرندات، وتتدلى كذلك أشعة الشمس، من تلك الفتحات، على طول جدار الفرندات، مربعاتٍ ضوئية آسرة؛ لتترك الأمر برُمَّته كلوحة سريالية في منتهى الروعة.

    كانت، بالفعل، عوالم جديدة بالنسبة لجلال هاشم، الذي كان مبهورًا بتلك الأجواء، ومأخوذاّ بما يجري من حوله. فرندات آخر المحطة كخلية النحل، لا تتوقف فيها الحركة، ولو لثانية واحدة. تدخل روائح الشاي والجَبَنَة والبخور ودخان الشيشة، في تمازج غريب، أنوف العابرين، وتداعب أدمغتهم المشتاقة إلى كوب من المفترات الساخنة. الجميع هنا في حركة دائمة، وبائعات الشاي يتفنن في عرض ما لديهن من مشروبات وخدمات، بابتسامات أنثوية رائعة ومُحببة. جُلهن يرتدين ثيابًا تلف أجسادهن في إثارة بالغة، وبعضهن يضعن الحناء على أيديهن وأقدامهن.

    تهتم كل واحدة منهن برشّ مربعها، غير المنتظم، بالماء بين الفينة والأخرى، وتنظيفه من بقايا السجائر، والسعوط المبصوق، وأعواد الثقاب المحترقة، ورماد الأبخرة وبقايا الفحم، وبصقات الزبائن المخاطية المقززة. تنحي النسوة، هنا، لكنس الأرض من الأوساخ أو لمساواة آثار أقدام الكراسي التي ترسمها على الأرض. كل واحدة تكنس منطقتها الخاصة بمكنسة تقليدية. تتراوح أعمراهن بين الثالثة عشرة، وحتى الخامسة والثلاثين، ولكل واحدة منهن صبيّة تساعدها على حمل الطلبات إلى الزبائن، وجلب الثلج والسكر والشاي، وربما في بعض المشاوير السرّية الخاصة. كان يسمع ضحكات النسوة المتعالية في غنج غير مصطنع، وبعض الأحاديث الهامسة من شباب بدوا، بالنسبة إليه، في لحظة استجداء للجنس العاجل، وأصوات اصطكاك الأكواب الزجاجية، وخرير ماء الشيشة الآسن المنسكب على الأرض، وحتى كشكشة مُلمِّعي الأحذية، وباعة السجائر والعطور المتجوِّلين.

    العديد من الوجوه والسحنات التي تمر أمام ناظره، كأنها بورتريهات في معرض فنان محترف. بعض تلك القسمات تخترقها أشعة شمس هاربة من جهة ما، تتسلل من بين بعض جنبات الفرندة المتكسّرة؛ فتمنح تلك القسمات بُعدًا فنيًا. لا توجد اختلافات كبيرة بين هذه السحنات، وتلك التي رآها جلال هاشم في الكلاكلة شرق؛ فجميعها تحمل ذات البؤس الدفين، الذي يوحّد السودانيين. معظم زبائن هذا المكان هم من سائقي المركبات العامة، والكماسرة، وميكانيكية الورش الصناعية المجاورة، وبائعي السوق المركزي.

    طه شريف يتحرّك بأريحية تنم عن انتماء أصيل للمكان، وكان يُلقي التحية لبعض الجالسين والعابرين، وبعض بائعات الشاي، وجلال هاشم يسير خلفه في اندهاش كامل، مما يراه ويسمعه. تتجاذبه أحاسيس غريبة تجاه فرندات آخر المحطة، شيء خفي يشدّه لهذا المكان، وآخر يجعله ينفر منه، ولكن الأمر الأكثر ضراوة ووضوحًا، بالنسبة إليه، وربما بالنسبة للآخرين أيضًا، أنه كان ككائن فضائي غريب أو صحفي أجنبي، جاء ليلقي نظرةً على مكان موبوء، ويلتقط بعض الصور، ويستمع إلى حكايات وقصص زوّار المكان والعاملين به، ويُسجّل إفاداتهم، ثم يمضي في حال سبيله إلى حيث ينتمي.

    انتهيا إلى سيّدة ثلاثينية مكتنزة الجسم، هادئة الملامح، جميلة القسمات. لها عينيان واسعتان، وزادهما الكُحل اتساعًا على اتساعهما، يكاد حاجباها، المرسومان يدويًا، يلتقيان أعلى أنفها المصقول بعناية، وشفاهها غليظة ومثيرة، ولها أثداء مُستفزِة ومُصادِمة، وأرداف ممتلئة كأنها محشوّة بالقطن المبلول، لونها يميل إلى البياض، ولكن تشوبه حُمرة مُحببة، لها ابتسامة وادعة غير مُتكلفة. ثوبها القرمزي المتطرِّف يلف جسدها بخبث مثير، ومشيتها الأنثوية تزيد الأمر تعقيدًا. عندما رأت طه شريف، رسمت ابتسامتها المرحِبة، ومدت يدها إليه بالسلام:

    - وِين يَا المفْضُوح؟ شُنُو الغِيْبَه دِي؟ سِمِعْتَ ولا جَابُو لِيْك؟
    - إِجْلَال يَا عَسَل، كِيف؟ والله موجودون بِكَثْرَه.
    - قَالوا الحبشيِّه القَرَمْبُوزه بِتَاعَت آخر المحطَّه نَحَلَتْ وَبَرَكْ، وطَفَّشَتَك مَرَّه وَاحدَا مِنْ المركزي.
    - كِيف الكَلام دَا؟
    - يَا زُول هُوي، قَالوا حَاوَلتَ تِكَابِسَا وَرَا الحمَّامَات بِتَاعت السُّوق.
    - (ضاحكًا): الجَاب لِيْكِ الشَّمَار دَا مِنُو؟ أكِيد التُّومَه أُم جَعَبَات، مُش؟
    - مَعْنَاتو الكَلام جَد؟ أَحَّي أنا يَابْ شَنَب؛ جَابُو لي شَمَارَك وَأنَا قَاعَده في حِتَّتي. أَنَا مَا قُلْتَ لِيك زِحْ مِنْ النِّسْوَان المرَخَّصَات دِيل؟ مُكَابَسَاتَك دِي يُوم بِتْدُّقَ بِيك الدَّلجَا.
    - نَحَلت وَبَرِي شُنُو؟ وُهو أَنا عِنْدِي وَبَر يَنْحَلُوا كَمَان؟ دَا كُلُّو عَشَان كَسَّرْتَ لِيْهَا تَلِج قِدَّام بِتَّ اللزِيْنَا دِي؟ وُبَعْدِين هِي زَاتَا كَانَتْ فَاصْلَه مَعَاي أَصْلاً، وُجَاهْزَه، مَا دَايْرَا لِيْهَا حَنَك بِتَاع قُرُوش. شِلْتي حِسِّي مَع الضُّيوف، الله يَسْخَتِك.
    - الوَد الوَجِيه المعَاك دَا مِنُو: قَاطِع نُص، ومُوَرْنِش الجزْمَه، وخَاتِي جِلْ في شَعْرُو دَا؟
    - دا وَدْ خالي؛ أعرِّفِك.
    - إنتا عِندك أَهَل وأَوْلاد أَهَل يَعْني؟ قَايْلاكَ مَقْطُوع سَاي يَابْ شَنَب! ومالو مِسِيْكِين كِدَه؟
    - مَا مِسْكِين؛ لكن مُثَقَّفَاتي!
    - تَشْرَب شُنُو يُا وَجِيه؟
    - (ردّ جلال هاشم في تردد): لَو في كَرْكَدِي يُكُون كُوَيِّس.
    - وإنْتَا يَا أبْ شَنَب؟
    - جَبَنَه بَسْ مَا تُخُتِّي فِيْهُو جَنْزَبِيل.

    كان من الواضح أنهما على علاقة وطيدة، ولم يستطع، في بادئ الأمر، مجاراتهما في الحديث، أو حتى اصطناع الاهتمام. كان مايزال، وقتها، مأخذوًا بأجواء المكان الغريبة، والمدهشة، وكأنها مَشاهد مُركَّبة في مسلسل تاريخي فنتازي، أو رحلة من رحلات سندباد في بلاد الهند. جلسا إلى جوار إجلال، واستمر طه شريف في تبادل الأحاديث الماجنة معها، بينما أخذ جلال هاشم يُنقل بصره في الأرجاء.

    مجموعة من الشباب يجلسون أمام بائعة شاي جميلة، يحاول كل منهم شدّ انتباهها بطريقته الخاصة، بينما تكتفي هي بابتسامات مِهنية مُجامِلة. بائعة شاي بدينة تصرخ لأخرى بعيدة: "يَا فَوْزِيَّه؛ ثبِّتي لي بِتَاع الوَرْنيش دا، عِندي زَبون دَايِر يَضْرَب وَرْنيش"، وأخرى تتنقل بين الكراسي البلاستيكية برشاقة مُغرية، وتنحني إلى الأمام، لتسكب بعض الماء على الأرض الترابية، أمام طبليتها؛ تفعل ذلك، وهي تعلم أنها تثير، بحركاتها تلك، ثلاثة رجال، يجلسون في الجانب الآخر، يراقبونها باهتمام وصبر غريزي. صبي ينتقل بين مربعات الكراسي غير المنتظمة، وهو يُردد: "سَجِّر .. سَجِّر" حاملًا صندوقًا خشبيًا مُعلقًا، بكتفيه، بقطعة قماشية عريضة. شاب يجلس إلى جوار بائعة شاي، بطريقة حميمية، يتبادل معها أرقام الهواتف، وبعض المقاطع الغنائية عبر تقنية البلوتوث، وطفت نظرات الإعجاب المتبادلة بينهما؛ بحذر مُتكلف. مجموعة من الشباب، في الطرف الأخير من الفرندة، يلعبون الورق، ويصدرون صرخات مزعجة.

    أصوات طرقات السَّمكرجية على حديد السيارات يُسمع من وقت لآخر، من مكان ما، ليُغطِّي على صوت قرقرة مياه الشيشة، واصطكاك الأكواب، وطقطقة الفحم المحترق على نار مواقد بائعات الشاي. خليط من الأصوات البشرية المتداخلة، تعطي شعوراً بحيوية المكان وحركته الدائبة. كانت الأجواء خيالية ومُوحية، بالنسبة إليه؛ فانصرف يتأمل كل شيء بدهشة بالغة، ويلتقط الصور في ذاكرته البصرية.
    لاحظ أن أمام كل بائعة شاي طبلية سماوية اللون، عليها عدد كبير من البُرطمانيات المتنوعة، تُوضع فيها أدوات العمل اليومية: سُكر، شاي، عصير بودرة، قِرفة، نعناع، فشار، حلاوة مَلْبَن، أعواد الصندل، بودرة السَّحلب، حليب مُجفف، أكياس الكركدي. البرطمانيات ليست سوى علب تانج فارغة، وتتحرك أيادي بائعات الشاي بين البرطمانيات المختلفة بخفة وحرفية مُتعالية. تتعاون بائعات الشاي فيما بينهن، ويتبادلن الأشياء والأحاديث الضاحكة، والتعليقات الساخرة. كان الأمر وكأنه بيت عائلي كبير لأخوة ليسوا من أُم واحدة. بدا أن هذا الجو العائلي راق لجلال هاشم كثيراً، ولكن طه شريف كان مايزال منهمكاً في الحديث الهامس إيَّاه، مع صديقته إجلال، التي أخذ يرمقها بنظرات مختلسة من فترة لأخرى.

    - الحَبَشِيَّة بِتْ الَّلزِيْنَا، فَكَّت لَيْك الشَّمَار في السُّوق، مَا خَلَّتْ لَيْهَا زُول حَايِم مَا كَلَّمَتُه.
    - قَالَتْ شُنُو بِالضَبْط الزُّولَة المخَسْتِكَه دِي؟
    - القَالَتُو مَا بِتْقَال يَا وَدْ أُمِّي، إنْتَا مَا عَارِف رُوحَك عَمَلْتَا شُنُو؟
    - عَلَيْكِي الله قُولي.
    - غَايْتُو جِنِس خِفَّه! قَالُوا الحَبَشِيِّه لِقَتَك مُطَيِّر عُيُونَك فِيْهَا بِتْكَحِّل لَيْهَا شَدِيْد، قَامَتْ رَقَّدَتْ لَيْك، لَامَنْ مَشَيت بِكِرْعَيْنَك قَعَدَّتَ في طَبْلِيْتَا واسْتَنْكَحَتْ مِنْك عِشْرِين جِنَيه عَلَى أَسَاس بِتَدْيِك. وقَالوا قَعَدْتَ مُسْتَني ومُسْتَني لَامَنْ هِي قَامَتْ لَمَّتْ طَبْلِيَتَا ودَايْرَه تَمْشِي، قُمْتَ كَابستَهَا في الزُّقَاق الوَرَا حَمَّامَات السُّوق. إنْتَا البِوَدِيك تِتْشَالَق مَع الحُبُوش دِيل شُنُو؟ حَسِّي عَلِيْك الله دِي قَدْرَك، ولاَّ بِتْشِيلُو لَيْك؟ ولاَّ إنْتَا بِتَاع بَلَالِي بَعَد طُولَك وعُرْضَك دَا؟
    - (ضاحكاً): بالله ناس السوق ديل كلهم عارفين الموضوع دا؟
    - يَا زُول هَا، هُو مِنُو الما عِرِف؟ هُو سَلْمَان أبْ طَرْشَه دَا عِرِف؛ تَقُول لَي شُنُو! زَمَان قُلْنَا لَيْك: جِنَّاً تَعَرْفُو ولاَّ جِنَّاً مَا بْتَعَرْفُو.
                  

العنوان الكاتب Date
آخر المحطة هشام آدم11-03-11, 09:31 AM
  Re: آخر المحطة هشام آدم11-03-11, 09:47 AM
    Re: آخر المحطة هشام آدم11-03-11, 10:19 AM
      Re: آخر المحطة عصام دهب11-03-11, 11:20 AM
        Re: آخر المحطة هشام آدم11-03-11, 05:17 PM
          Re: آخر المحطة هشام آدم11-12-11, 09:16 AM
            Re: آخر المحطة هشام آدم11-12-11, 09:26 AM
              Re: آخر المحطة هشام آدم11-12-11, 09:56 AM
                Re: آخر المحطة الرفاعي عبدالعاطي حجر11-12-11, 08:03 PM
                  Re: آخر المحطة هشام آدم11-14-11, 12:10 PM
                    Re: آخر المحطة هشام آدم11-14-11, 12:27 PM
                      Re: آخر المحطة هشام آدم11-14-11, 12:35 PM
                        Re: آخر المحطة هشام آدم11-14-11, 12:47 PM
                          Re: آخر المحطة هشام آدم11-14-11, 12:52 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de