|
Re: السيّدة الأولى (مقاطع) (Re: هشام آدم)
|
مقاطع متفرقة من رواية (السيّدة الأولى) المقطع الثاني
في إحدى المقاهي المشهورة بمظلاتها الحمراء، ومقاعدها التي من الحديد الخفيف، يجلس الشباب والعجائز والموظفون بعد الظهيرة، وهم يحتسون الشاي والموكا، ويتعاطون السياسة. الجميع مستاءون من تدهور الأوضاع. ثلاثة أشهر مرت الآن منذ خلع الرئيس والإطاحة بحكومته، لطالما ظنوا أن سعادتهم ورخاء معيشتهم مرتبطان بزوال الحكم العسكري، ولكن يبدو أن الأمور تزداد تعقيداً.
عشرات التصريحات، وحالة الطوارئ، وأرتال الجنود المنتشرين في الشوارع والطرقات ونقاط التفتيش، وحظر التجوال الليلي؛ كل ذلك يوحي بأن الأمور لم تزل في طور لا يمكن التكهن بنتائجه. وأولئك الذين رفعوا أعلاماً ملونة على أسطح منازلهم ليسوا إلاّ محض متفائلين أو سذج فرحين بزوال دكتاتورية فيليوباوتش. سعادتهم بزوال الحكم العسكري مرهون الآن بما ستسفر عنه المماحكات السياسية التي تدور في كواليس القصر الرئاسي ومبنى البرلمان، والأسعار ما زالت في ارتفاع.
تصبح السخرية بديلاً منطقياً للسخط في مرحلة ما من مراحل اليأس، عندها يسخر الجميع من كل شيء، ويلتف الناس داخل ذواتهم الخاصة، يغرقون في القشريات، يتناقلون التفاهات، يهتمون باللامُهم، يضحكون من أنفسهم وعلى أنفسهم، وهذا ما كان يفعله رجلان جلسا في المقهى يحتسيان الموكا الساخنة:
- قبل ثمانية أعوام خلت تقدمت للزواج من فتاة راقت لي كثيراً. وقالت لي إنها ستفكر في الأمر. - وماذا حدث بعد ذلك؟ - من الواضح أنها ما زالت تفكر!
في ساحة مونوبوليس؛ حيث تنتشر الحمامات الأليفة -التي لا تخشى الناس، ولا مشاغبات الأطفال، وكأنها اعتادت كل ذلك- يقف قسٌ بمعطف أسود وياقة بيضاء متأبطاً الكتاب المقدسة ورزمة من الأوراق، رافعاً يده اليمنى إلى السماء:
"فليتمجد الرب في الأعالي، ولينعم المؤمنون بالراحة التي لا تخالجها الريبة، أتبحثون عن السعادة في الرغيف والرب يقول: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون. الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟ تأملوا الغربان إنها لا تزرع و لا تحصد وليس لها مخدع و لا مخزن والله يقيتها؛ كم أنتم بالحريّ أفضل من الطيور، ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحداً؟ فإن كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر، فلماذا تهتمون بالبواقي؟
تأملوا الزنابق كيف تنمو؛ لا تتعب ولا تغزل و لكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويطرح غداً في التنور يلبسه الله هكذا؛ فكم بالحريّ يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان، فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا؛ فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم، وأما أنتم؛ فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم. لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سرّ أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة، اعملوا لكم أكياساً لا تفنى، وكنزاً لا ينفد في السماوات حيث لا يقرب سارق، ولا يبلي سوس، لأنه حيث يكون كنزكم هناك؛ يكون قلبكم أيضاً"
في سخرية بادية تبسم شاب بوهيمي ذو شعر متموج، وأشار إلى صاحبه بالنهوض ومغادرة المكان إلى حيث لا يمكن للقس أن يزعجهما، في الوقت الذي لمح القس فيه الشابين وهما يغادران وعلى عينيهما نظرات ساخرة، وقف أحدهما وصاح بالقسّ: "يا أبت دعك من هذا؛ مشكلاتنا هنا على الأرض، وليست في السماء." وانصرفا ساخطين.
كلامهما ذلك فجر أحاديث متفرقة بين الجالسين؛ مما جعل صوت القس لا يبدو واضحاً كفاية كما في السابق، ولكنه لم يصمت، بل مضى في كلماته الواعظة؛ وكأنه لم يسمع شيئاً. كان الحمام كذلك لا يأبه لكلامه أو لوجوده فلا يطير، كان يبحث بين أقدامه، وعلى حافة نافورة كانتو مورنيك عن الحبوب، وكسرات الخبز المتناثرة. بعضه فقط كان لاهياً بمغازلة حمامات أخريات؛ فيفرد جناحه، ويرفع ذيله إلى الأعلى، وهو يدور حول نفسه، وأصوات حويصلاته تضيف زخماً على زخم الأصوات المتعالية، وصوت القس أكثر انخفاضاً.
|
|
|
|
|
|
|
|
|