|
محمد المكى ابراهيم .....الأصالة ومواصلة الاتجاه دارسة فى ثلاث حلقات
|
الحلقة الأولى
صورة الرعب فى قصيدة (لا خباء للعامرية ) للشاعر الفيلسوف محمد المكى ابراهيم هى البطل فى تلك الملحمة. كان الرعب هناك... رعب تصطك له الاسنان وترتعد له الفرائص. كانت العامرية، فى مخملها المصون، وقصرها المنيف، مكرمة، عزيزة، شاهقة كشجرة بلوط، عريقة... كانت خصبة، وكان الشاعر يحتفل بها، يطرب بها، يغنى ويعشق العامرية العامرة بالحياة، لكنهم دائما، كانوا هناك، كانوا خلف الاشياء، كان الشاعر فى خدرها، والخدر خدر العامرية، بفضائها الواسع اذا بالباب يكسر أنظر قوله جرس الباب يقرع والعامرية تجمع أثوابها وتخبئ صهباءها فى الدواليب والباب يقرع يسقط عن ظهرها الثوب، لا تتقيك بعنابها بل تعود وتلتقط الشال، تأخذ رافعة النهد، تأخذ جو الأنوثة من غرف البيت. والباب يقرع، يركل، يكسر، يهدم.... ان القيامة تقترب هذه صورة صاخبة الانوثة حتى ظنها الناس هكذا، لكن الرمز واقف (ألف أحمر). هكذا صور الشاعر عملية الاجهاز على السلطة فى السودان، كم هو غريب أمر محمد المكى ابراهيم، فالمشهد الرمزى هنا يعبر عن حالة احتفال بحب الوطن درجة من العشق... (تأخذ رافعة النهد)، حب الشاعر لهذا الوطن لا يوصف، دونه المفردات، والتعابير الطوال والكلمات الممقنطة. أبحث عنه بشدة، وما راعنى فيه الا تحوله لـ(جميل وطن) الوطن فى كل مفردة وحرف. الوطن والشاعر متلازمة العشق والبكاء والحرية أنظر الرعب مرة أخرى ثم ينقصم الباب والعامرية تذهب أسمع فى غرفة الثلج صوت محركها وصرير اطاراتها وأرى يدها لا تلوح لى، اناملها لا تكور لى قبلة خرجت من ثقوب الجدار ولكنها لن تعود فقد وضع الذعر فى وجهها الشمع والخوف أفسد فى جوفها مضغة الحب والقهقات، ذهبت والصباح يداهمنا والرجال المهمون يندفعون من الباب نحوى، ويقولون شيئا بذيئا ويبدأ يوم من الخوف تحت ضياء جديد هكذا تم القبض على الشاعر متلبسا بحب الوطن بعد أن ذهب الوطن الى الابد، شئ عجيب تتحول القصيدة بمفرداتها من حالة الانوثة الى حالة الوطن، تحول فجائى لكنك لا تحسه....ماهذا التكنيك؟، وتأكلنى يدى أكلا شديدا، والعقل مثل النافورة يبدأ الشاعر قصيدته بعنوان بيت القصيد قائلا لا اسميك وهما فما فى الحقائق أكثر حقا ورعبا من الموت تحت السنابك، أنت الحقيقة كالمزابل حتى يجئ الخريف ويكنسها بالمطر والقصيدة سياق. هذا السياق يستوجب الادراك الكامل، والمعرفة العميقة. وقصيدة (بيت القصيد) فى ديوانه لا خباء للعامرية محتشدة بتفاصيل ازمة الوطن، وأسئلته الكبرى، ليطل علينا سؤال الهوية والتمزق أنظر قول الشاعر قال واحدهم: كانت العامرية ملكا لنا ولأحفادنا ثم صارت لأعدائنا - وبكى ويترك الشاعر بصماته وآثاره رثاءً لوطن يخرج عنه مكرها ولا حيلة له، ولاخيار. أنظر قوله: اننى آخر الراحلين أنشر الآن أجنحتى ذاهبا عن بلادى، وأشياء قلبى، وأبناء سربى وقافيتى المزهرة. لم أقرأ - من قبل ذلك - حزنا مثل هذا الحزن بهذا الطوق الماكن. كم كان الشاعر مسكونا بالوطن، كان الوطن الحبيبه، والثورة، والقبلة وحناء العرس. لكنه اليوم يذهب بعيدا عنه بقنوط، فهو مثل شيخ مسح حذاءه ثم نفض قدميه وعقلهما عليه بيأس ثم مضى ليقول: اننى ذاهب فأهنأوا أيها الظافرون لم تكن هجرة (الشاعر الوطن) محمد المكى ابراهيم مثل غيرها من الهجرات، كان شيئاً مثل سقوط أورشليم كما وصفه انتونين آرتو فى شرحه لطبيعة القسوة، شئ اشبه بانهيار جدار مبنى كامل أو أنهيار برج التجارة الدولية. فالذين يعرفون محمد المكى ابراهيم يلجمهم الذهول فى امكانية غياب هذا الشاعر عن وطنه وكيف يحيا. ديوان لا خباء للعامرية يتحرك من حالة القنوط الى حالة الفجيعة الى الثورة والحلم. ينتقل الشاعر من حالة الرثاء الى حالة الثورة التى نلمسها فى قصيدته (احملينا أيها الخيل) احملينا أيها الخيل الى شرق عدن احملينا وبأبواب المتاريس اتركينا فالمتاريس قرار وسكن والمتاريس وطن وطن خارج اسوار الوطن هكذا تكتمل الدائرة الابداعية، ونحس نفس الشاعر ذاته منذ الاكتوبريات فى ديوانه أمتى.تلك هى النقطة التى ظللت ابحث عنها، وبفضلها أعيد قراءتى لمحمد المكى ابراهيم، نعم جوهر هذه المقاربة هو اكتشاف (الاصالة ومواصلة الاتجاه) Originality and Maintaining of direction.... يمكننا اليوم أن نجرى مقارنة بسيطة بين نبض ومفردات قصيدة (احملينا أيها الخيل) فى ديوان (لا خباء للعامرية) وقصيدة النشيد الاول فى ديوانه (أمتى) الذى طبع لأول مرة فى عام 1969.
|
|
|
|
|
|
|
|
|