الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوهاب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 06:05 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-31-2008, 11:32 AM

محمد الواثق
<aمحمد الواثق
تاريخ التسجيل: 05-27-2003
مجموع المشاركات: 1010

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها (Re: Frankly)

    هذه محاولة لقراءة معاصرة للثورة المهدية

    منشورة في موقع زراف للكاتب عماد البليك

    الثورة المهدية في السودان – رؤية جديدة لأسباب قيامها

    عماد البليك



    تمهيد :

    الوعي التاريخي يشكل واحدة من طرق تفكيك قضايانا السياسية والأيدلوجية التي تظل غير محسومة، ويكون تعاملنا معها بنهج غير سليم لا يساعد في فهم مجريات الأحداث ودوافعها الحقيقية، وتمثل قضية الثورة المهدية في السودان إحدى هذه القضايا التي يجب بحث أغوارها، فهي حتى الأن لم تُدرس الدراسة التفكيكية اللازمة لبنيتها وفق العلوم الإنسانية الحديثة، فمعظم الذين درسوا الثورة المهدية تعاملوا معها وفق إطار رؤيوي ضيق، أو تعاملوا معها كمقدس لا يحق بتر مفعلاته، بينما الرؤية الحقيقية توضح لنا أن الثورة في حد ذاتها ليست إنجازاً مطلقاً، هي فعل بشري من الممكن التفكير في زحزحة كثير من مؤطراته ومركباته الأساسية وتفكيك هذه المركبات كي ّما يتسنى لنا دراستها بوعي تاريخي مجرد عن الأسطرة والمخيال الجماعي الذي يتوجه وجهة قداسوية تجاه هذه الثورة.

    المعالجات التي تمت جاء معظمها ظاهرياً مع بنيات الثورة من غير حفر واضح للتكوين السيكولوجي لمفعل الثورة (محمد أحمد المهدي) والذي اكتسب هذه التسمية (المهدي) بعد أن خلعها هو على نفسه. إن البحث العميق في طبيعة النفس البشرية من شأنه أن يزيح كثير من الغبار العالق برؤيا الذات في التاريخ، ومن خلال ذلك يكون من الممكن فهم التاريخ بوعي فعال وإيجابي، والثورة المهدية بوصفها ظاهرة ارتبطت بالدين كمسبب لها، يصبح البحث في بنية انسانها ضرورياً لفهمها كظاهرة موازية للدين والمعتقد، لهذا فإن الدراسات الحديثة في علم النفس تركز على أن " البحث العميق في طبيعة النفس البشرية أصبح ضرورياً لفهم الظواهر الدينية " – إشارة 1 - وهذا ما يمكن أن يبسط المسألة للنظر إليها وإدراكها بوعي تاريخي مجرد عن القداسة والخوف من مواجهة العنف التاريخي المنعكس على الواقع الآني.

    ولكي ندرك أبعاد هذه الدراسة التي تقوم على إعلان الدوافع الأساسية لثورة (الإمام) المهدي في السودان، يجب أن نجرد أنفسنا من كل الظواهر الآنية المترتبة عن ذاك الحدث التاريخي القديم، ونخلع ذواتنا من إطار وعيها التاريخي التراكمي، وهذا لا يحدث ما لم تكن هناك حيدة تجاه الحدث التاريخي ومفعله.

    أولا : البحث عن أسباب ودوافع ذاتية لثورة ( الإمام):

    يذكر نعوم شقير في كتابه (تاريخ السودان) أن أسباب الثورة انحصرت في العنف الذي مارسه النظام التركي ونظام الضرائب ومنع تجارة الرقيق – إشارة 2 – كل هذه الأسباب أدت لزحزحة الوعي الجماعي ليخرج عن طاعة النظام. هذه الأسباب لا يمكن نفيها كمسببات مفعلة لقضية الثورة في خطوطها العريضة، لكن هذه النقاط التي أثارها شقير وغيره من المؤرخين والباحثين، كما يقول الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم " تصف في جملتها الظروف التي تستدعي قيام ثورة أو خلق احتجاج عام ولكنها لا تقف دون إبراز الظروف الذاتية والملابسات التي جعلت محمد أحمد دون غيره من الناس يقوم بالثورة " – إشارة 3 – أي أن أبو سليم يرى أن هذه الأسباب التي أوردها شقير وغيره ليست من شأنها أن تصف لنا لماذا تمت الثورة كنتاج فعلي على يد محمد أحمد دون غيره من السودانيين، وهذا السؤال هو الذي تطمح هذه القراءة في الإجابة عليه من خلال البحث عن دوافع ذاتية لثورة (المهدي) في السودان، ولكي يتسنى لنا التمهيد الحقيقي لفهم الدوافع يجب أن ندرس بعض المركبات الهامة في شأن علاقة الدين بالمجتمع في السودان، ودور الدين في تفعيل الشعوب وتكوين وعيها الجمعي الذي من الممكن أن يتخذ كوسيلة لإدراك مآرب جهة معينة من الجهات.

    الدين والثورة :

    إن أهم ما يلفت النظر إلى الحركة الإصلاحية التي قام بها محمد أحمد، أنها تعمل وفق منظور الديني حسب ما يفهم، فقد كان محمد أحمد " يعمل لبناء مجتمع ديني مقوماته من المجتمع الذي أقامه الرسول (ص) وصحابته" – إشارة 4 – باعتبار أن هذا النموذج هو الذي يمكن أن يمهد للوعي الجماعي في قبول منطلقات الثورة، ويرى الوعي الجماعي في مثل هذه المجتمعات " أن الحقيقة كلها متضمنة في الوحي وتجربة المدينة" – إشارة 5 – كما ذهب محمد أركون في كتابه (الفكر الإسلامي – قراءة علمية). ويشير أركون إلى أن تجربة المدينة تمثل نموذجاً للموقف الإصلاحي في القرن التاسع عشر الميلادي، أو ما سماها بالنزعة الإصلاحية التي بدأت منذ القرن الهجري الأول من قبل السلف – إشارة 6-.

    إن القدسية المسقطة على ذلك الزمان وباعتبار تجربة المدينة في كونها تمثل النموذج الذي يمكن إسقاطه على الحاضر بوصفها التجربة التي " جاءت في زمن مقدس يعلو على كل الأزمان" – إشارة 7 – كل هذا جعل الاستفادة من مضمونها محركاً فعلياً للجماعة، ومن ذلك يمكن بعثها لكي تشكل ثورة ضد نظام يؤمن بالعنف والضرائب الباهظة ويمنع الناس أن يمارسوا حياتهم التجارية في حرية ويحارب الرق.

    ويشير اركون إلى أن " الدين حتى ظهور الأيدلوجيات العلمانية الحديثة هو الذي يحمل وظيفة التبرير هذه والتي لابد منها " – إشارة 8 – أي أن هناك دوافع بحتة تتعلق بشخصية القائد، لكن الدين يأتي مغطياً البنية التحتية أو المركبة الحقيقية للثورة، ولذا فإن انتهاج الإسلام من شأنه "أن يقوم بوظيفة خلع الشرعية على الأنظمة والسلطات السياسية" – إشارة 9 – في مجتمعات ينظمها عرف وقيم تؤمن بها تماماً وتتعامل معها بقداسة لا يمكن تجاوزها أبداً.

    ونشير إلى أن بنية الثورة دائما ما تتعلق بجانب أسطوري يضفي عليها الفوقية ويجعل مسألة قبولها حتمياً مثلما يقبل المسلم أن الله واحد، وأن الدين هو الإسلام، فعليه أن يقبل الثورة لأن إطارها المنطقي الذي جاءت به ينتهج طريقة الوعي السائد في المجتمع. ونجد أن أسطورة الثورة التي تمثل الدين مطية لها هي من نوع الأساطير الحديثة وهي " التي لا تتكلم عن قصة الخلق أو صراع الآلهة، وإنما عن صراعات قائمة وموجودة" – إشارة 10- وهذا ما يفرقها عن الأسطورة القديمة ويجعل تعاملنا معها يجب أن ينتهج طرقاً جديدة باعتبار أن منظمات الوعي قد تغيرت، مما جعل الدوافع الحقيقية تنتهج وسائل جديدة لكي تبسط نفسها.

    كانت تجربة محمد أحمد المهدي مستمدة من تجربة الرسول (ص) وصحابته، وهذه التجربة كما قلنا هي العامل المفعّل لتحريك بنية الوعي الجماعي لأي حركة سياسية تتخذ الدين كوسيلة لتحقيق أهدافها " فحياة الرسول (ص) تمثل مرتكز السلوك الإسلامي" – إشارة 11- الذي لا يمكن لأي مسلم أن يرفضه ما دام منتميا لهذه الجماعة، ولهذا تكون للتجربة فعاليتها وقوتها في التمكين لذاتها. وهذا ما فعله المهدي بوعي تام عبر مراحل من الوعي التراكمي وعبر دراسة مستفيضة لبنية الوعي لإنسان السودان في نهاية القرن التاسع عشر، فمذهب المهدي هو " عبارة عن آراء كونها عن الإسلام والمسلمين أثناء تجواله وإطلاعه ومخالطته للعلماء (الصالحين)" – إشارة 12-.

    ثانيا : البحث عن قاعدة للدوافع الذاتية :

    يذهب نيتشه إلى " أن دعاة الزهد في التاريخ كانوا أبعد الناس عن الزهد وأنهم كانوا يضللون البشر بهذه الدعوة الزائفة" – إشارة 13- ويدعم هذا القول ما يقول به مذهب اللذة السيكولوجي الذي يقف نيتشه ضده وهو " أن الإنسان ينشد دائما ما وراء أفعاله لذته ومنفعته" – إشارة 14 – فهل يوجد في حياة محمد أحمد ما يؤيد هذه النظرية في سبيل البحث عن قاعدة للدوافع الذاتية للثورة المهدية التي قادها.

    يستدعي ذلك إلقاء نظرة على ثقافة محمد أحمد المهدي، وبعضاً من القضايا التي ارتبطت بحياته المبكرة قبل تفجيره الدعوة، وهي تساعد في إدراك ما تهدف إليه هذه القراءة، من البحث عمّا أسميناه بالدوافع الذاتية – كما أشار لها الدكتور أبو سليم- تلك الدوافع التي نحتاج لكي ندركها " إلى مزيد من الحقائق والبيانات عن حياة محمد أحمد الأولى ومدى ارتباطه بالحياة العامة، وإلى إبراز العوامل التي دفعت به من الحياة السلبية التي يمارسها المريد الصوفي إلى الحياة الإيجابية الهادفة إلى بناء مجتمع جديد" – إشارة 15-.

    *************

    1- بدأت الحياة الفاعلة لمحمد أحمد والخطوة الأولى لبسط فكرته التي تجمع بين الدين والسياسة أو تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق أهداف سياسية عملية سنة 1871م، وذلك عندما أنشأ خلوته في الجزيرة أبا، وكان إنشاء هذه الخلوة " من أول خطواته وأخطره" – إشارة 16 – إذ أن الخلوة تمثل المرجعية الأولى لتفعيل الحياة في السودان الشمالي والأوسط، وتخرّج الفئات التي من شأنها أن تتحكم في تسيير الحياة في المجتمع.

    2- كانت الخطوة الثانية هي تفجير الخلاف مع شيخه محمد شريف والذي كان محمد أحمد من اتباعه المقربين وأخذ عنه الطريقة السمانية، وقد حدث هذا الخلاف سنة 1878م، ويرى أكثر من كتبوا تاريخ السودان أن هذا الخلاف لم يكن دافعه الأول ديني أو أنه بُني على المرتكزات الإسلامية، يفسرونه بسبب التنافس الذي حدث بين التلميذ (محمد أحمد) ومعلمه ( محمد شريف) لأن التلميذ عندما أسس خلوته المنفصلة سالفة الذكر استطاع أن يجمع من حوله اتباعاً أصبحوا يحملون اعتقادا جازما فيه، تحول إلى اعتقاد شخصي وليس اعتقاد في طريقة صوفية ينتمي لها التلميذ، هذا التصاعد الحادث لشخصية محمد أحمد أدى إلى إحساس من جانب محمد شريف بخطورة منافسه الجديد الذي برز على الساحة، فرأى أن يصعد من حدة الموقف بأن أشاع " أن محمد أحمد أفصح عن مهديته وأنه طرده بعد أن فشلت محاولاته عن إثنائه عنها" – إشارة 17 -.

    3- الخطوة الثالثة هي الحركة الإصلاحية التي بدأها محمد أحمد سنة 1880م، وهي حركة عميقة الجذور والإشارات حولها صعبة، وكذلك محاولات تفسيرها، لأن " محررات المهدي في هذه الفترة لا تعطي إلا إشارات قليلة" – إشارة 18- وفي هذه الفترة بدأ محمد أحمد دعوته السرية عبر حركة دائبة في الأقاليم ودعوة الناس إلى الالتفاف إلى الدين الحق، وحتى ذلك الوقت " يبدو أن حركته كانت ذات أهداف دينية خالصة وإنها كانت تخلو من الغرض السياسي" – إشارة 19- غير أن الغرض السياسي الذي لم يتمظهر في الدعوة وقتها كان يجذر نفسه في ذات محمد أحمد، وكانت القاعدة التي تحمل دوافعه الذاتية قد بدأت في التأسيس لذاتها، فلم تكن المسألة في بساطة القول : " استجابة لمشاعر الآهلين التي انطبعت بما تركه حكم الأوربيين من أثر سيء "- إشارة 20- لكن لا نتغافل أن التكوين الذي دعمه الدين شخصية محمد أحمد كان له آثره في التفاف الناس حلو دعوته، ومن هنا كان المناخ ممهداً لإعلان الثورة من قبل محمد أحمد.

    4- في مارس 1881م كانت الخطوة الرابعة والفعالة واكتساب محمد أحمد لصفة المهدي " وكان الناس على استعداد لتصديق هذا الأمر واتباعه لكثرة ما أصابهم من ظلم ولحقهم من أذى، ولأنهم كانوا قد بلغوا نهاية القرن، وقد شاع أن القرن لا ينتهي قبل أن يأتيهم المنقذ الموعود" – إشارة 21- . ويشار إلى أن هذه الخطوة قد سبقتها الحركة عبر الأقاليم التي قام فيها محمد أحمد بتوثيق علاقات مع رجال الدين سيكون لها آثرها الفاعل فيما بعد، خاصة في أقليم كردفان عندما يهاجر إلى هناك، ونجد أن إعلان محمد أحمد لمهديته كان قد أحاطت به هالة من الأسطرة والدعم المتمثل في استغلال مركبات العقل الجمعي لإنسان السودان في القرن التاسع عشر عبر بيئته التي عاش فيها وألفها.

    البيئة والثورة :

    لم تكتفي دعوة محمد أحمد ببعدها الميتافيزيقي في دعم مسارها (نشير له لاحقا) إذ أنها أول ما قامت كان يدفعها عامل التشكل البيئي في العقل الجمعي، وقد استفاد محمد أحمد من هذا العامل في ثورته، كان الدين في تلك البيئة التي نشأت فيها الثورة " ينهج له كممارسة روحية وعمل لا علم ودرس" – إشارة 22 – وهذا ما استوعبه محمد أحمد وحاول أن يطبق به منهجه الدافع لهمه السياسي الذي شكل ثورته فيما بعد، تلك الثورة التي " كانت ثورة بالمعنى العلمي – والاجتماعي طورت مؤسسات السلطنات، وعلى رأسها الطرق الصوفية في سبيل تحقيق أهداف سياسية وعملية" – إشارة 23-

    كيف نفهم استيعاب محمد أحمد للبيئة وتطويرها لعامل الثورة ؟ يستدعي ذلك فهم مركبات التطور الإنساني في أي بيئة وهي " المركبة الاجتماعية – الاقتصادية (مركبة الإنتاج ) والمركبة الاجتماعية – الثقافية (مركبة العقل) والمركبة الاجتماعية – التاريخية أو العناصر الحضارية" – إشارة 24- فكيف انعكست كل واحدة من هذه المركبات عبر التشكل البيئي مما أتاح استثمارها في تفعيل الثورة؟

    · مركبة الإنتاج :

    أول ما نلاحظه أن الإنتاج الزراعي هو المشكل الأول لهذه المركبة، والزراعة ارتبطت في ذلك المجتمع بالوسائل الطبيعية المباشرة كالمطر، معدل سخونة أو برودة الجو الخ.. وكلها عوامل لا تتعلق بمعرفة الإنسان المباشرة وقتذاك إنما تستند على قوى عليا يعلق الإنسان أمله بها، يؤمن الإنسان بدفعها للنجاح في سبيل تحقيق الإنتاج، أما الفشل فهو من عنده باعتبار أن الإنسان كائن عاجز ومقصر أمام قوى مطلقة لها مقدرة فاعلة على مستويات واسعة في حياته، وارتباط المركبة الإنتاجية بالعامل الفوقي يجعلها من الممكن أن تستجيب لأي قوى من شأنها أن تعمل على تعديل الإنتاج عبر مسار فوقي يستمد قوته من الدين، وهذا ما استفادت منه الثورة المهدية عندما رفضت أساليب النظام التركي الاقتصادية، ووما يدعم أن الغرض الحقيقي لم يكن التعديل للمربكة الاقتصادية هو أن المهدية " أقامت دولة أكثر مركزية وأكثر ضرائب ، واكثر قدرة على قمع المتمردين " - إشارة 25- .

    · مركبة العقل :

    سيطرت على العقل الفعالية الميتافيزيقية الفوقية، حيث أن البنية كانت صوفية خالصة تعمل وفق قانون التعالي الصوفي، وقد وعي محمد أحمد هذه المركبة واستفاد منها أكثر عندما أدخل الوعي الديني المتمثل عبر الصوفية في إطار ثورته، هذا الوعي الذي عندما تمكن من موقعه السلطوي، جرّد الصوفية من أبعادها ليمركز نفسه على منهج يستمد ذاته من المركزية الجديدة، التي اتخذت الصوفية كوسيلة لغاية. ويظهر هذا الدعم الصوفي في استمداد محمد أحمد لبنية الوعي الصوفي واستغلالها، فإعلان مهديته سبقه تصوفه، وإنشاء خلوته، وعندما أعلن المهدية كان أول ما دعمها ما يعرف بكرامات الأولياء – أي البعد الميتافيزيقي / للصوفية عندما تتسامى عن بعدها المادي عند أهلها أو كما يرون – ولم يكن محمد أحمد هو الذي بسط لنفسه الطريق بمفرده حيث ساعدته جهات لتدعيم فكرته عبر مستوياتها الغيبية، وحاجتها إلى التمكين السياسي لنفسها، وهذا ما فضحه المستقبل، حيث أن الخليفة عبد الله عندما قابل محمد أحمد لأول مرة وهو يبني قبة شيخه القرشي ود الزين :" قيل أنه لما رآه وقع مغشياً عليه، ولم يفق من غشيته إلا بعد ساعة أو أكثر وأغمي عليه ثانية لما نظر إلى إليه محمد أحمد، وحكى عبد الله لمحمد أحمد أن له أب صالح من أهل الكشف وقد قال له قبل وفاته إنك ستقابل المهدي وتكون وزيره وقد أخبرني بعلامات المهدي وصفاته فلما وقع نظري علك رأيت فيك العلامات التي أخبرني بها والدي بعينها " – إشارة 26. ويتضح من المشهد ( الدرامي ) أعلاه مجموعة من القضايا الهامة، والتي تعكس لنا كيف كان أول لقاء بين رجلين قادا مسيرة الثورة، ذلك اللقاء الذي بدأ أشبه بحكاية أسطورية، بيد أنه واقعي، واستخدمت فيه كافة أساليب مركبة العقل الجماعي ليفعل منطلقاته الخفية، ويسلط خطابه، لكن الخطاب يفضح نفسه من داخله حيث يتضمن داخل بنيته رائحة البعد السياسي " وتكون وزيره " – وهذا يفسر كل القصة التي لا شك أن الخليفة قام بنسجها متماشيا مع موقع هذا الخطاب الذي ينتهجه المهدي لتأييد نفسه، فكيف لا يرتضيه، عندما يأتي ليدعم حالته من رجل يريد منصبا معينا وقد فاز به. واستغل محمد أحمد كما أشرنا مركبات الوعي الصوفي في العقل الجماعي، ليمهد ليقام حكومته، كأنما بنى أمره على قاعدة علم الاجتماع الديني التي تقول " أن الدين يختلف عن الحكومة التي تهتم بالسلطة والفوقية " – إشارة 27 – فلم يكن باكر الدعوة يدعو لإقامة حكم بديل للحكم التركي ولكنه كان ينادي بالعدل بدلاً عن الظلم، ومفهوم البحث عن العدل المتخذ من الدين لم يكن له موقعه من الجماعة وقتها كوسيلة للوصول إلى الحكم، فلقد استند العقل الجماعي على أن الدين يحمل في محتواه خلاصاً، لكنه لم يكن يفكر في أن هذا الخلاص سيتحول إلى دولة بديلة للدولة القائمة، وربما ظهرت هذه النية عندما بدأت معارك محمد أحمد في أبا ومن ثم هجرته إلى قدير.

    وتتجلى بعض عناصر الاستغلال لطبيعة المركبات التي تحيط بالدين كالرؤى والأحلام والرموز والنبوءات، " وهي ذات الأدوات التي يستعملها الدين لإيقاع الهيبة ولغرس القداسة في النفوس " – إشارة 28- وهي قاعدة قديمة منذ أيام (الجاهلية) فقد استخدمها عبد المطلب جد الرسول (ص) عندما استثمر كل هذه المركبات، ومراجعة سيرته تعكس لنا ذلك مثلما في حادثة زمزم، وحادثة النحر، وقد " كان عبد المطلب يعمل على ضرورة ضرب المثل بالنفس بداية وأهمية القدوة عند دعوة الناس إلى أية عقيدة، وهنا تلازمت أو تزامنت طبيعته المتألهة معه نهجه في مزج الدين بالدولة، وضرورة ذلك حتى تكتسب الدولة القداسة التي انغرست في نفوس المحكومين وأثمرت طاعة كاملة وانقيادا تاما " – إشارة 29 –.

    وقد سار محمد أحمد بنفس الخطوات تقريبا حتى فرض القداسة التي توازي قداسة عبد المطلب وأعلن دولته في مزج حقيقي بين الدين والدولة، مستفيداً من الماورائيات، واعياً لقاعدة أن " كل المجتمعات بحاجة إلى نظام من العقائد والقيم والمعارف من اجل تبرير نظامها وتأمين شرعيته والحفاظ عليه "- إشارة 30- وهذه العقائد والقيم تستمد نفسها من البيئة عبر مركبة عقل المجتمع والعناصر الحضارية لهذا المجتمع، والقيم غالباً ما تأخذ تمحورها الأسطوري بحيث أنه " عندما ننزع التركيبات الأسطورية من إطارها الاجتماعي / المادي والزمني، فقد تتحول إلى هلوسة " – إشارة 31- مما يدل على أن بنيتها تكونت كتراكم دعمته عناصر الإيمان القوي التي تستمد دفعها من مركبات الوعي الجماعي الذي من أهم عناصره الدين.

    ووما يشير إلى استغلال الماورائيات من فجر دعوة محمد أحمد، قصته رؤيا النبي (ص ) يقظة وأنه أجلسه وقلده سيفه وغسل قلبه بيده وملأه إيمانا ومعارف وأخبره بأنه الخليفة الأكبر والمهدي المنتظر وان من شك في مهديته فقد كفر ومن حاربه خذل في الدارين – إشارة 32 – وغيرها من القصص التي تدعم كيفية استثمار محمد أحمد لمركبات الوعي الجماعي والعقل الاجتماعي الكلي.

    · المركبة الحضارية :

    تتداخل هذه المربكة مع عقل المجتمع غير أنه يمكن الإشارة إلى أن المهدية كانت تحوي في وعيها الداخلي ضرورة إقامة نظام سياسي يستمد معارفه وقوته من الإسلام كموازي لنموذج المدينة، وقد طورت المفهوم السلطوي للنظام الصوفي لتقيم نظامها الجديد، مستفيدة من التجربة الصوفية، وكان هذا التطوير قد امتد إلى بعض العناصر ( المقدسة ) والتعدي عليها – بمعنى أنها مقدسة من قبل عقل المجتمع – حيث أن محمد أحمد " قام بأعمال أنكرها عليه العلماء إذ أحرق الكتب إلا أصول منها، كالقران والصحيحين ( البخاري ومسلم ) وأحياء علوم الدين، والكتب التي أحرقها كان يرى أنها حجبت المنبعث من القران والسنة، كما أبطل العمل بالمذاهب الأربعة.

    الإشارات الواردة مستمدة من المراجع التالية :

    1- بروفسيور مالك بدري - مشكل أخصائي النفس المسلمين – ترجمة منى أبو قرجة.

    2- نعوم شقير، تاريخ السودان، حققه د. أبو سليم.

    3- د. أبو سليم، الحركة الفكرية في المهدية.

    4- محمد اركون، الفكر الإسلامي – قراءة علمية، ترجمة هشام صالح.

    5- محمد الجندي، الأسطورة دراسة ( مجلة المعرفة).

    6- مكي شبيكة، السودان عبر القرون.

    7- د. يسري إبراهيم، نيتشه عدو المسيح.

    8- د. قيصر موسى الزين، الدولة والمؤسسات الاجتماعية في السودان، دراسة (مجلة الخرطوم).

    9- خليل إبراهيم، تطور قريش من القبيلة إلى الدولة.

    10- AKBAR AHMAED, TOWARD ISLAMIC ANTHROPOLOGY

    خاص الزراف
                  

العنوان الكاتب Date
الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوهاب Frankly01-30-08, 10:43 AM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly01-30-08, 11:17 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly01-30-08, 01:00 PM
      Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly01-30-08, 03:52 PM
        Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly01-30-08, 07:03 PM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly01-31-08, 08:11 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد حسن العمدة01-31-08, 09:17 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد الأمين موسى01-31-08, 09:20 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-01-08, 08:53 AM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد الواثق01-31-08, 11:03 AM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد الواثق01-31-08, 11:29 AM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد الواثق01-31-08, 11:32 AM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد الواثق01-31-08, 11:35 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها حيدر حسن ميرغني02-01-08, 11:55 AM
      Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها عمار عبدالله عبدالرحمن02-01-08, 02:31 PM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد الواثق02-03-08, 05:32 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-03-08, 02:28 PM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-03-08, 05:18 PM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-03-08, 08:20 PM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Omer Abdalla02-04-08, 03:57 AM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-04-08, 11:41 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها صباح حسين طه02-04-08, 12:07 PM
  Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-07-08, 11:51 AM
    Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-09-08, 09:54 AM
      Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly02-13-08, 11:53 AM
        Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها Frankly03-09-08, 06:29 PM
          Re: الثورة المهدية وتأثرها بالدعوة السلفية .. الإمام محمد أحمد وتأثره بالإمام محمد بن عبد الوها محمد حسن العمدة03-09-08, 09:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de