جـامعـة الخرطوم .. عـبق الـزمـان وروعـة المـكان.. دعـوة للتلاقي

Quote: الذگرى «34» لاحتلال جامع الخرطوم في 11 مارس 1971م د. أحمد شريف عثمان * حتى اواسط السبعينات كان لشهر مارس نكهة خاصة عند طلاب جامعة الخرطوم لانه شهر الامتحانات وبالتالي كان الطلاب يحتفلون بمقدمه في آخر ليلة لشهر فبراير عند الساعة الثانية عشرة منتصف الليل بالخروج في مظاهرات هزلية يلبسون فيها الجلاليب بالمقلوب، ويحملون الصفائح وكل الاشياء التي تصدر اصواتاً مزعجة، اضافة لاوراق الجرائد والكراتين واغصان الاشجار لزوم اشعال النار ضمن طقوس هذه المظاهرة الهزلية. وكانت مظاهرة مقدم مارس الشهيرة تبدأ عادة من وسط داخليات البركس بطقوس محددة ثم تخرج لشارع الطابية لتذهب لداخليات الطالبات وهنالك تتوقف لفترة طويلة ثم بعد ذلك تتجه نحو مبنى الجامعة الرئيسي وتبدأ الخطب الهزلية والاغاني، وحريق الورق امام قاعة امتحانات جامعة الخرطوم الرئيسية. ثم ينفض سامر تلك المظاهرة الهزلية عند الساعة الثانية صباحاً ليعود الطلاب لداخلياتهم لمواصلة المذاكرة استعداداً لامتحانات شهر مارس. * مارس 1971م جاء فريداً في نوعه حيث اجاز فيه مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة المايوي تقرير اللجنة المكلَّفة بتطوير جامعة الخرطوم وربطها بالمجتمع والتي جاءت توصياتها مخيِّبة لتطلعات الطلاب ولاسرة جامعة الخرطوم ولكل اهل السودان. * حيث في الجانب الاكاديمي كل الذي اقترحته تلك اللجنة ان حولت اسماء كل الكليات لتصبح مدارس حيث تحوَّلت كلية العلوم لتصبح مدرسة العلوم، وكلية الطب لمدرسة الطب، وكلية الزراعة لمدرسة الزراعة، وكلية القانون لتصبح مدرسة القانون، وكلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية لتصبح مدرسة الاقتصاد والدراسات الاجتماعية، وكلية الهندسة لتصبح مدرسة الهندسة، وكلية الآداب لتصبح مدرسة الآداب، وكلية البيطري لتصبح مدرسة البيطري، وكلية الصيدلة لتصبح مدرسة الصيدلة! ودون شك فإن مجرد التفكير في تعديل المسميات من كليات لتصبح مدارس تحت مظلة التطوير الاكاديمي لجامعة الخرطوم وربطها بالمجتمع يعكس نوعية وتركيبة وعقلية تلك اللجنة!! * في جانب شئون الطلاب وبما أن جامعة الخرطوم في العام 1971م وكالعادة كانت مصنَّفة انها ضد النظام وقلعة للرجعية فلقد جاءت توصيات تلك اللجنة في اتجاه تضييق الخناق على الطلاب وشغلهم بقرارات تهدد حقوقهم المكتسبة حيث اقترحت الغاء نظام السكن والغذاء بالداخليات كحق مكتسب لطلاب جامعة الخرطوم وجاءت توصياتها بأن تتولى المجالس الشعبية المحلية دفع تكلفة سكن وغذاء طلابها بداخليات جامعة الخرطوم واقترحت اصدار استمارات توزع على كل الطلاب توضح المعلومات الاساسية لاولياء امورهم تعتمد من شيخ وعمدة المنطقة ثم المجلس الشعبي المحلي وعلى ضوء تلك الاستمارة يحدد قبول طلاب وطالبات جامعة الخرطوم بالداخليات بالمجان او المصاريف المخفَّضة او المصاريف القصوى وهي «180» مائة وثمانون جنيهاً في العام.. والله ببلاش!! * وقعت توصيات تلك اللجنة على جماهير طلاب جامعة الخرطوم وقع الصاعقة ودبت الحركة في الفرق العامة بداخلياتها او ما يعرف بالإنجليزية بـ «Common Rooms» وامتلأت اقسام النشاط بجماهير الطلاب وسط مناخ الامتحانات والاعصاب المتوترة وبسرعة قررت الجبهة الوطنية التي كانت تضم احزاب الاتحادي الديمقراطي والامة وجبهة الميثاق الدخول في اضراب مفتوح عن الدراسة والامتحانات واحتلال مبنى جامعة الخرطوم الرئيسي! وبما أن جامعة الخرطوم لم يكن بها اتحاد طلاب في ذلك الوقت بعد ان جمدت سلطة مايو الاتحاد وسمحت لقبائل اليسار في ذلك الوقت بتكوين جبهة الهيئات التقدمية كممثل لطلاب جامعة الخرطوم حيث كان اتحاد الطلاب برئاسة الطالب علي عثمان محمد طه آخر اتحاد شرعي لطلاب جامعة الخرطوم في مطلع عهد سلطة مايو! * على ما اذكر فإن الامتحانات لكل كليات جامعة الخرطوم كان مقرراً لها ان تبدأ يوم السبت الموافق 13 مارس 1971م وبالتالي فجر الخميس 11 مارس 1971م تقرر ونفذ طلاب وطالبات جامعة الخرطوم قراراً جماعياً باحتلال المبنى الرئيسي لجامعة الخرطوم وقفلوا ابواب المبنى الرئيسي بالعربات التي كانت موجودة داخل مباني الجامعة بعد ان فرغوا اطاراتها من الهواء وبدأت الاستعدادات لتجهيز كل ما يمكن الاستفادة منه داخل الجامعة في مواجهة قوات الاقتحام المتوقعة ان تحضر. بالفعل تطوَّرت الاحداث قبل نهاية اليوم وجاءت قوات الطوارئ والدبابات لتحاصر مبنى جامعة الخرطوم الرئيسي وتحول نادي اساتذة جامعة الخرطوم لغرفة عمليات وملتقى للاجاويد من مختلف الاتجاهات اما شارع الجامعة فلقد احتشدت فيه اعداد من الطلاب المؤيدين للنظام في تلك الفترة وامتلأت الساحة بهتافات دخلت الذاكرة مثل.. «اضرب.. اضرب يا ابا القاسم قلعة الرجعية يا ابا القاسم!» ومن داخل الجامعة المحتلة كانت الهتافات تملأ عنان السماء. الجامعة بيدخلوها بالشهادات وليس بالدبابات! وشهدت الساعات الممتدة منذ منتصف النهار حتى ما قبل صلاة المغرب ملاسنات ومواقف بطولية ومفاوضات شجاعة بين ممثلي طلاب الجبهة الوطنية من داخل الجامعة وما يقارب اربعة اعضاء من مجلس قيادة ثورة مايو انتهت بموافقة سلطة مايو على تجميد توصيات تقرير لجنة تطوير جامة الخرطوم والتعليم العالي مقابل انهاء الاحتلال وخرجت جماهير طلاب جامعة الخرطوم يهتفون.. «سجل .. سجل .. يا تاريخ .. 11 مارس يا تاريخ.. سجل.. سجل يا تاريخ تخاذل الزملاء يا تاريخ». وسهرت داخليات طلاب وطالبات جامعة الخرطوم مظاهرات النصر المبين حتى صباح 12 مارس الجمعة الشهيرة التي شهدت مطاردات لتخاذل الزملاء! * أغلقت جامعة الخرطوم بعد ذلك لاجل غير مسمى مع توقعات باتخاذ اجراءات صارمة تجاه الطلاب وخاصة القيادات الطلابية التي ظهرت خلال يوم الخميس 11 مارس 1971م. واغلبهم من الطلاب المستقلين الذين لا علاقة لهم بالاحزاب العقائدية او التقليدية! وكانت كل التوقعات تشير لتجميد الدراسة بجامعة الخرطوم لعدة سنوات لقصم ظهر القوى الطلابية، ولكن ارادة الخالق عزَّ وجلَّ كانت كالعادة اقوى من الجميع حيث حدث انقلاب اهل اليسار الشهير في 19 يوليو 1971م واصبح حلفاء واصدقاء الامس اعداء اليوم وتغيَّرت نظرة السلطة المايوية واتجهت نحو مهادنة الطلاب والجبهة الوطنية وتقرر فتح جامعة الخرطوم مرة أخرى بكلياتها وداخلياتها قلعة ومنارة للنضال كما كانت قبل ذلك.. وحفظت سلطة مايو ماء وجهها بأن اشترطت على الطلاب ملء اورنيك الداخليات ليرسل للمجالس الشعبية المحلية لتدعم تكلفة سكن واعاشة طلابها كإجراء شكلي. * دون شك فإن احتلال جامعة الخرطوم في 11 مارس 1971م قد ترك آثاراً في الساحة السياسية السودانية كان لها ما بعدها. حيث اعاد للقوى الطلابية والقوى السياسية عامة ثقتها في نفسها بعد ان اهتزت تلك الثقة كثيراً بعد ضربة الجزيرة ابا وضربة جامع السيد عبد الرحمن المهدي بودنوباوي بام درمان. ومن تلك الثقة انطلقت انتفاضة شعبان 1973م الشهيرة، كما أن احتلال جامعة الخرطوم في 11 مارس 1971م اعطى سلطة مايو درساً في عدم تجاهل قوى الوسط الطلابي حيث ان قوى الوسط دائماً تشكل ما يعادل حوالى «65%» ثلثي اهل السودان في المواقف السياسية وهؤلاء في آخر لحظة دائماً ما يقفون مع السياسات والقرارات المقفولة والمنحازة للمصلحة العامة «او ما يعرف باللعبة الحلوة» وبالتالي تجد هذه الاغلبية العظمى لا تتقيد بقرار حزبي او بتوجيه بالاشارة إنما تتحرك ببطء ودائماً تصل للهدف في الوقت المناسب كما حدث في اكتوبر 1964م وفي ابريل 1985م وايضا كمثال مصغر كما حدث في احتلال جامة الخرطوم الخميس 11 مارس 1971م! * ان ذكرى احتلال جامعة الخرطوم الخميس 11 مارس 1971م حدث له نكهة خاصة داخل نفوس كل من شاركوا فيه او عاشوا احداثه من مختلف المواقع واتمنى ان يجد الاهتمام والدراسة والتحليل خاصة من الذين شاركوا فيه. وهنالك اسماء طلابية عديدة خططت وشاركت في تنفيذه على رأسهم المغفور له بإذن الله تعالى الشهيد عباس برشم سكرتير اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي تخرَّج في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم ضمن دفعة 73/1974م واعدم رمياً بالرصاص بوادي الحمار ضمن شهداء انقلاب المقدم حسن حسين في العام 1975م واذكره اليوم باسم اخوانه ابناء دفعته بكلية الاقتصاد كأخ عزيز وقائد طلابي مناضل له مآثر وافضال عديدة على الحركة الطلابية عامة وبجامعة الخرطوم خاصة، واناشد واتمنى من اخوانه وزملائه الذين كانوا معنا طلاباً بجامعة الخرطوم خلال الفترة 1968 ــ 1974م ويجلسون اليوم في قمم مواقع ومفاصل السلطة كافة ان يذكروا الشهيد عباس برشم ويكرموا ذكراه بتسمية احد المرافق او المواقع بجامعة الخرطوم او بجبال النوبة او بأي موقع بالسودان تخليداً لذكراه الطيبة العطرة رحمة الله عليه اينما دفن رحمة واسعة، وعلى ذكرى الشهيد عباس برشم نترحم على اخواننا من خريجي كلية الاقتصاد او الذين درسوا بها خلال الفترة 1968 ــ 1974م ومن بينهم المغفور له بإذن الله تعالى النذير حمد سراج وعبد الرازق سيد ومحمد يوسف محمد ومحمد ميرغني وعلي عوض الجد ومحمد المجذوب وميري جرفس ياك وعواطف محمد وسيد طه وبقية العقد الفريد من الذين لاقوا وجه ربهم بعد ان تفرقت بالدفعة سبل الحياة وانقطعت اخبار البعض منهم، وفي الذكرى الرابعة والثلاثين لاحتلال الطلاب لجامعة الخرطوم في 11 مارس 1971م نحيى تلك الذكرى الخالدة وابطالها الجنود المجهولون الذين حققوا موقفاً نضالياً سوف يظل خالداً ما بقيت جامعة الخرطوم قلعة نضال الشعب السوداني. ودون شك فإن هذه الذكرى سوف تكون نقطة يتوقف عندها جيل تلك المرحلة من طلاب جامعة الخرطوم الذين يشكلون اليوم مع اخوانهم طلاب جامعة الخرطوم خلال فترة السبعينات ومطلع الثمانينات الاغلبية العظمى من قيادات الانقاذ الوطني في شتى المواقع والوظائف العامة.. فهل يا ترى ادوا امانة الحكم وقيادة السودان بنفس النقاء ونفس الطهارة والامانة التي كانوا يتمشدقون بها عندما كنا نصوِّت لهم ليمثلونا في مجلس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم؟ وهل فعلاً راعوا حقوق الزمالة والإخاء لابناء دفعهم ام احالوهم للصالح العام كما كان يفعل الحكام قبلهم عندما كانوا طلاباً؟!! وهل فعلا ردوا الجميل لاهل السودان الذين رعوهم ووفروا لهم الدراسة في المرحلة الاولية حتى جامعة الخرطوم وأسكنوهم في داخليات بالطعام في الوجبات الثلاث بالمجان بل زيادة فوق ذلك كانوا يدفعون لهم اعانات مادية شهرية اضافة للعلاج والدواء المجاني لكل انواع الامراض!! حقيقة هل ذلك الجيل ردَّ الجميل بأحسن منه ام تنكَّر وركز كل موادر البلاد لراحته ورفاهيته وتحول لجيل جحود وجيل جاحد؟!! هذا ما سوف نواصله في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.