بحري طراوة... ويا ناس بحري .. قالوا بتحبوا يلا حبونا..

Quote: المشاركة التالية من عماد عثمان أحمد – شخصيات بحراوية مقال للدكتور حسن أبشر الطيب بعنوان التجاني الماحي سادن المعرفة إن العلم عبادة، لأن تقصينا للحياة على اختلاف جوانبها يعمق فينا الإيمان بقدرة الله سبحانه وتعالي. كلمات مشرقة قالها لي شيخي العالم الجليل التجاني الماحي - عطر الله ثراه- في آخر لقاء لي به. وقد كانت كلماته هذه خلاصة منهجه وأسلوبه في الحياة. حياة قضاها يبحث عن أصول المعرفة في مختلف المعارف الإنسانية مردداً قول ابن الربيع: «الحكمة هي إدراك أفضل المعلومات بأفضل العلوم»، وهو مؤمن أشد ما يكون الإيمان بوحدة العلوم لأنه يرى أن التكامل في المعرفة يعين على اتخاذ الرأي الحكيم. ---------------------------------------------------------------------------- وذلك مذهب يعرف بمذهب فلسفة العلوم المنهجي. ويرى شيخنا التجاني أن العرب أول من راد هذه الفلسفة، فقد عرفوها وشرحوها وطبقوها وحثوا عليها كأداة للفلسفة والفهم الفاضل، وكان أبو نصر الفارابي من أوائل القائلين: «بوحدة العلوم، وأن هذه الوحدة تفرض في حقيقتها صلات مفروضة، وكان يتمسك بالمذهب القائل بشمول الحكمة وفحواها وأن المعرفة الكاملة والإحاطة بالعلوم بقدر ما يتيحه الإمكان الإنساني يسبغ الحكمة التي تفتح أبواب الحياة الفاضلة للعقل الفاضل للوصول الى فهم الحقائق الكلية لأن المعرفة من أي نوع تشمل مبدأ حكيماً». وكان أستاذنا التجاني يؤمن أن الإحاطة العلوم بقد ر ما يتيحه الإمكان الإنساني، يعين من جانب آخر على التخصص العميق. ففي ميدان تخصصه يرى: «أنه من الضروري أن ندرك إدراكاً تاماً أن الصحة العقلية ليست مفهوماً طبياً محضاً، بل إن بعض جوانبها المهمة تمت الى الانطباعات الأولى في الأسرة والى وسائل التربية والى ظروف العمل والكسب، والى الحياة الزوجية والى المجتمع في مبادئه ونظمه وتاريخه وفلسفته وعقائده والى ظروف اقتصادياته والى صحة البدن». وهذا التخصص العميق الذي آمن به، وسعى له، وحققه شيخنا التجاني الماحي يختلف اختلافاً أساسياً عن التخصص الضيق الذي يؤمن به بعض الناس هذه الأيام، والذي يجعلهم ينحصرون في دائرة ضيقة - هي مجال تخصصهم كما يرون- ولكنهم خارج هذه الدائرة المغلقة لايعرفون عن جوانب الحياة شيئاً. أما هذا التخصص العميق الذي آمنه به أستاذنا فهو الشمول والتكامل في المعرفة في دائرة واسعة تشمل المعارف الإنسانية، قديمها وحديثها. وقد سبقنا الى الإشارة لعمق التخصص عند شيخنا التجاني، أستاذنا الفاضل العالم الجليل الدكتور عبد المجيد عباس عابدين عند تقديمه لمؤلف مقدمة في تاريخ الطب العربي.. يقول في المقدمة: «وجدنا صديقنا الدكتور التجاني رجلاً تخصص في علم النفس الطبي تخصصاً عميقاً، إذ جعل من تخصصه هذا محوراً لدائرة واسعة النطاق تشمل معارف متعددة الجوانب، فيها الأدب والتاريخ وهما يظهران جلياً في كل فصل من فصول هذا الكتاب، وفيها إلمام بلغات قديمة كالهيروغليفية، وهذا يتجلى للقارئ عند قراءة الفصل الأول من هذا الكتاب، وفيها معرفة واسعة بالنزعات الروحية، وقد أعانته هذه المعرفة على دراسة النفس ولاسيما في المجتمعات التي تغص بالنزعات الصوفية والروحية. وفيها فوق هذا كله فهم عميق لعلوم الطبيعيات والرياضيات والفنون الجميلة كالموسيقى وفن الشعر، وهذه كلها تتصل اتصالاً متفاوت النسب بعلم النفس الطبي، ولايستغني عنها عالم الطب النفساني بحال من الأحوال». وقد كان شيخنا، وهو على هذا التخصص العميق والسعة في المعرفة، شديد التواضع، فكثيراً ما كنا نسمع له يردد، وما نقرأ له في بحوثه المتعددة، إعجابه وإيمانه بقول أبقراط: «ليس عندي من فضيلة العلم سوى إدراكي بأنني لست بعالم». وأذكر أنني قد اقترحت عليه ذات أمسية أن نقيم ندوة فكرية يكون هو إمامنا فيها، فتقبل الفكرة في ترحاب شديد ولكنه رفض أن يكون رئيساً لها وقال كلنا طلاب علم. وقد نقلت الفكرة الى بعض الأصدقاء: (د. جعفر بخيت، صلاح أحمد ابراهيم، علي المك، محمد المكي ابراهيم)، فتحمسوا لها كثيراً، ولكن اعتلال صحته والمرض الذي لازمه في أواخر أيامه حال دون تحقيق هذه الأمنية. والمتأمل في مؤلفات أستاذنا التجاني لا شك سيعجب بأسلوبه الرصين، وقدرته الفذة على اختيار الألفاظ المعبرة، وقد قاده البحث عن الكلمة الدقيقة المعرفة والتفهم الأصيل لما يكتب بغير العربية الى دراسة: الانجليزية، الفرنسية، اللاتينية، الفارسية، والهيروغيليفية والهوسا وإلمامه بهذه اللغات يتفاوت طبيعة الحال بدرجات. وإنك تلاحظ إعجابه باللغة العربية في قوله: وقد استطاعت اللغة العربية بما وهبها الله من مرونة في مادتها وثراء في اللفظ والمعنى والقدرة على دقة التعبير أن تكون وسيلة ناجحة لهذا النقل (من اللغات الأخرى) دون ما عناء. ويبدو لك افتتانه بالأدب من كثرة استشهاده بالشعر في مختلف أبحاثه. يقول في بحث له عن مفهوم الصحة العقلية في التاريخ: الصحة لاتعني الخلو المطلق من الهمّ أو القلق في جميع الأحوال، بل يكون الخلو من القلق أو الهم عندما تتوافر دواعيه من العلاقات غير الطبيعية. وقد قال المتنبئ: «وربما صحت الأجسام بالعلل».. ويقول في مؤلفه تاريخ الطب العربي: الأدب العربي بطبعه أدب غني بالتعابير الدقيقة التي يستطيع الكاتب أن يستغلها في وصف أدق الحالات وأعقدها. وقد وصف المتنبئ في شعره حمى غشيته في مصر وصفاً قوياً رائعاً وإظنها من نوع الملاريا الخبيثة، فلم يفته ذكر الرعاش وشدة ارتفاع الحرارة ودوريتها المنتظمة كل ليلة والعرق والهذيان ولكنه لم يذكر شيئاً عن القئء ولا شك أنه عبر عنه بعجز البيت: «فتوسعه بأنواع السقام». قال المتنبئ:- عليلُ الجسم مُمتنع القيام شديدُ السكر من غير المدام وزائرتي كأنَّ بها حياء فليس تزور إلا في الظلام بذلتُ لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي يضيقُ الجلدُ عن نفسي وعنها فتُوسعه بأنواع السقام إذا ما فارقتني غسلتني كأنا عاكفان على حرام كأنَّ الصبح يطردُها فتجري مدامعُها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوقٍ مراقبة المشوق المستهام ويصدق وعدها والصدق شرٌّ إذا ألقاك في الكُرب العظام وقوله: وكانت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك كثيراً ما تتغنى بهذا البيت الرقيق الذي يصف موضع غصة المحبين وصفاً تشريحياً دقيقاً فهي تقول: بين التراقي واللهاة حرارةً لاتطمئن ولاتسوغُ فتبردُ وقد كان يرى أن تفسير الأحلام الذي يساعد على فهم المريض ومشكلته لما لها من أثر نفسي عميق في النفس، لا يدرك إلا على أساس معرفة قويمة لعلم البلاغة. يقول في بحثه عن مفهوم الصحة العقلية في التاريخ: «الحقيقة أن سر تعبير الأحلام لا يدرك إلا على أساس معرفة قويمة لعلم البلاغة لأن الخواطر الأولى التي تبعث الأحلام والتي تتجسم في رؤى الحالم، تقوم على أساليب الإدماج والكناية والمطابقة، والمبالغة والاستعارة وغيرها من أساليب البلاغة. ولذا فإن كتب البديع ككتاب ان المعتز، وكتاب الكناية والتعريض للثعالبي، وكنايات الأدباء وإشارت البلغاء للجرجاني، ومفتاح العلوم للسكاكي، والبديعية للصفدي، من أهم الكتب التي لا يستغنى اليوم عن معرفتها، وربما نستطيع أن ندرك قيمة كتاب النابلسي في تفسير الأحلام عندما نحس بقدرته البديعية في قصيدته التي مدح بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسماة بنفحات الأزهار على نسمات الأشعار». إن تمكنه من اللغة العربية والانجليزية ومعرفته بعض اللغات الأخرى التي أشرنا إليها، قد أتاح له التعبير الدقيق والترجمة الأمينة لما يرد في اللغات الأخرى، وهو مثبت دائماً لنص الكلمة كما وردت في لغتها ثم يوافيك بعدها بالمقابل لها في اللغة العربية كما اصطلح عليه الناس إن وجد، أو كما يراه هو في الحالات التي لا يوجد فيها مصطلح شائع. ونلاحظ دائماً أنه حريص كل الحرص على تحديد أبعاد كل المصطلحات التي يستعملها في بحوثه، بل أنك لتجد في بعض الأحيان توضيحه لمعاني بعض الكلمات التي ربما يتبادر إليك أنك على علم واضح بها، ولكنه عندما يوضح لك معانيها كما يراها هو تدرك أن شرحه قد أضاف إليك جديداً، كقوله مثلاً في الفرق بين الطموح والطمع: «الطموح عاطفه إنسانية إيجابية اجتماعية بناءة مشروعة تعمل عن طريق المنافسة الشريفة والوسائل المشروعة الواضحة واقعية في إمكانياتها، أي في حدود قدرات صاحبها وأهدافه. والطموح له الحوافز الفاعلية والقابلية والإدراك العاطفي ومعرفة الوسائل والطاقة والسير قدماً. والطمع عكس الطموح يريد الغرض ولا يمكن الوسائل ولا يريد اعتمالها. عاطفة غير اجتماعية هدامة تولد مشاعر وتثير أعمالاً هدامة». ونلاحظ أيضاً عنايته بالمصادر، فجل أبحاثه إن لم تكن كلها معتمدة اعتماداً أساسياً على المصادر الأساسية، وهو أمر نادر في جل البحوث التي نقرأها في هذه الأيام، فكثيراً ما يعتمد الباحثون على المراجع السهلة لأنهم يدركون أن دراسة المصادر والمخطوطات الأثرية تحتاج الى صبر طويل وزمن أطول، وهو في الموضوع الواحد لايعتمد على مصدر واحد بل يبحث في جميع اللغات التي يجيدها عن المصادر التي تساعده على التحقق من أبعاد الموضوع على اختلافها. والدارس لمؤلفه مقدمة في تاريخ الطب العربي يدرك كيف استفاد أستاذنا من إجادته للغة الهيروغليفية في تقصي بعض الوثائق التي تبين عن مهنة الطب عند الفراعنة، بل يكفيك أن تعرف أن هذا الكتاب يضم فهرساً قيماً عن أهم المخطوطات والكتب التي تتصل بتاريخ الطب العربي، وتربو المصادر العربية فيه على مائة وثلاثين، بينما تربو الكتب اللغة الانجليزية على عشرين. وهذه الظاهرة لم ينفرد بها هذا الكتاب دون سواه بل هي السمة الواضحة لكل أبحاثه، وكثيراً ما تلاحظ أنه في صلب البحث يرشدك إلى بعض المصادر التي يمكن الرجوع إليها إذا اردت زيادة في المعرفة، وهو ايضا لا يرشدك الى مصدر واحد بل يعدد لك الكثير منها كقوله مثلاً عن تفسير المتصوفة للصحة: «ونجد في كتب المتصوفة تفسيراً للصحة باعتبار أنها فضيلة تابعة لأخلاق النفس تنبعث أصولها من الدين. وقد حدا هذا ببعضهم الى إدعاء الطب والى تأليف الكناشات الطبية ومن ضمن الكتب المهمة في التصوف والأخلاق التي توضح هذا المنهج إحياء علوم الدين للغزالي، والفتوحات المكية لابن عربي، وكشف المحجوب للهجويري والذريعة في مكارم الأخلاق والشريعة للراغب الأصفهاني والأخلاق لابن مسكويه والرسالة القشيرية والطبقات الكبرى والصغرى للشعراني». وقد كان إلمامه بجميع مصادر بحثه دافعاً له في بعض الأحيان الى الاستطراد وهو استطراد يدل على سعة في العلم وصلة متصلة في المعرفة، غير أنه في كثير من الأحيان يستعيض عن الاستطراد في طلب البحث بالحواشي والهوامش في آخر كل صفحة. ومؤلفه مقدمة في «تاريخ الطب العربي» يقدم في العديد من صفحاته أمثلة لذلك. وأستاذنا التجاني ينهج منهجاً متكاملاً في البحث، يبين لك في أسلوب منطقي متسلسل أصول الأمر، مسبباته وظواهره الحالية ثم يقدم لك على ضوء هذا كله طرق علاجه والتفاعلات التي يمكن أن تنتج منه مستقبلاً. وهو يميل في جل أبحاثه الى النظرة التاريخية لأنه يرى أن دراستنا للماضي تعطينا العلل لما يحدث في الحاضر: إسمحوا لي أيها السادة أن أقول بكل صراحة ودون قيد أو شرط إن أسباب الحاضرلا توجد في الحاضر بل في الماضي. إن الماضي علل بالنسبة للحاضر. والحاضر معلولاته بالنسبة للماضي توشك أن تصير عللاً للمستقبل. إن ما قد نراه من أسباب الحاضر في الحاضر في محيط المشكلات الإنسانية قد تكون أعراضاً للمشكلة لا أساساً لها. وبعد لم تكن كلماتي هذه أكثر من لمحات موجزة عن أسلوب ومنهج أستاذنا التجاني في البحث، رأيت أن أقدم بها حديثي عن دوره كمؤرخ وكعالم بشئون الإدارة وفنونها، وله في كليهما من الآراء ما يقف شاهداً على مقدرته الفذة على استكشاف الحقيقة، ورصد المدلولات وتحليلها واستنتاج ما يدفعنا الى الإصلاح والإبداع. ( منقول من صحيفة الراي العام )

(عدل بواسطة Kamal Karrar on 07-23-2009, 07:18 PM)