هنا فداسي

سمعت الخبر الذي أذاعه مذيع البرنامج الثاني:
تستقبل المملكة هذه الأيام ، العالم الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب، السوداني، الذي حضر للملكة عقب استدعاء كريم لتكريمه واستلام جائزة الملك فيصل......
كان يفصلني عن منزل الأخ محمد حسن شارعان فقط. طرقت عليه الباب و زففت إليه الخبر، ابتسم الأستاذ محمد حسن ثم قال:
- كدي خش لي جوه النناقش الموضوع ده.
وكتم علي خبر أنه كان بفندق الخزامي ، يجالس الدكتور عبد الله الطيب. و من الوثائق الهامة أن المرحوم كتب مذكرة بخط يده كانت آخر ما كتبه بالمملكة. وكانت من نصيب صاحبي (بغران ما حاسد). رأيت تلك المذكرة ، وتبركت بالنظر إليها وتقبيلها ولا أدري لماذا أحسست أن تلك المذكرة ستكون وثيقة حقيقة و كانت تنعي لي البروفسور. أحسست بحسرة وكتمت ما في نفسي، واتفقنا لنحضر التكريم.
قدم البروفسور، يسبقه الوقار، يحيطه البهاء وتحفه العظمة، عظمة نحسها، بين جنباتنا و كل العرب يستقبلون ذلك الرجل العلامة. كان إيقاع قلوب الحاضرين الذين اشرأبوا لمشاهدة العلامة، أسرع من خطو البروفسور الذي أثقل الزمان حركة خطوه على الأرض، لتتسارع خطواته نحو السماء. قلت إن الزمان أثر على جسده و ظل عقله بمنجاة منه. وهذا حال الزمان؛ فقد حكى العقاد ما يشابه ذلك عن صعوده درجات سلم بيته، فقال:
كنت أصعد السلم ثلاثا ثلاثا، ثم اثنتين ثم واحدة، كنت أصعده جريا و.....
ولكن الدكتور لما هب لاستلام جائزته، قام بنشاط غريب !
قال الدكتور الضبيب مستهلا حديثه ، في حفل التكريم:
لما ذهب موفد المملكة لمقابلة (الشيخ) ، وجده في قريته (التميراب)، فسأله قائلا:
- ترى في أي شيء يفكر البروفسور عبد الله الطيب الآن وما هي مشاريعه المستقبلية؟
رد الدكتور عليه :
- والله يا ولدي قاعد انتظر الموت وأسأل الله حسن الخاتمة. !!!!!!!!!!!!!
أخبره الموفد إنه الشخص الذي تم اختياره لجائزة الملك فيصل الخيرية .
لم يستطع الشيخ أن يحبس دمعة نزلت على خده... (انتهى كلام الضبيب).
همست لصديقي محمد حسن:
ربما أحس الدكتور بالحسرة أن تكرمه المملكة العربية السعودية قبل أن يكرمه السودانيون. ولم يرد علي صاحبي لأن صوت ألف كمان كان قد بدأ يزغرد ويدغدغ حواسي كلها وحواس الحاضرين لما استهل الشيخ حديثه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... (وآمل أن أحصل على التسجيل لكلمته تلك.)
سحر الشيخ محدثيه ورمى بهم في واد عبقر، ولكني سرحت معه متذكراً كل أحاديثه الماضية وكتبه. كنت معه في قلب الوادي، يحكي لي عن عمرو بن يربوع والسعلات (بكلا التاءين). كنت أسمع أناشيد الجن لما رأوه قادما:
وقالت الجن رابو تربرابو تربرابو
ومعناها بلفظ الإنس نحن الجن أنجاب
وفرسان وشجعان على الأعداء وثابُ
*
وقالت الجن تب تبرا
ومعناها اقتلوا عمرا
وخذوا من لحمه خبزاً
وصبوا دمه خمرا
*
إلى أن أهوى عمرو على السعلات بسيفه:
و أصابها في ثُغرة النحر
فخرت كبنيان هُد من قعر
وسرحت بين (سمير التلميذ) و (من نافذة القطار) و (الأحاجي السودانية) و رتل من المصنفات التي كان أعظمها الكتاب المعجزة (المرشد لفهم أشعار العرب)، ذلك الكتاب الذي قال عنه زعيم الأدب العربي طه حسين:
إنه كتاب لم أعرف له مثيلا، على الأقل في عصرنا هذا.
وهذا غاية الإطراء من رجل لا يجامل في اللغة ، فهي عرضه الذي يزود عنه بالدم.
تذكرت تلك القصة التي حكاها عنه السيد إسماعيل الوكيل، لما أراد السفر إلى مصر ‘ ليلة إحياء ذكرى شوقي.....
والقصة طويلة ......إلى أن ارتجل قصيدته المشهورة، مستهلا بمطلع شوقي :
بنات الشعر بالنفحات جودي
فهذا يوم شاعرك المجيد
أقول وقد حلقت في الجو عنسٌ
رداحُ الشأو مترزةُ الحديد
يقعقع في الصماخ الرعدُ منها
ويرعش بونها كبد الجليد
........
انتبهت إلى الشيخ وكان أحد الأساتذة من جامعة الملك سعود يسأله عن كلمة (زول) وهل هي عربية؟
لم أصب بالدهشة من شرحه ولا استدلالاته العجيبة، فهي شيء قد ألفته، ولكن الشيخ كان أريحي المزاج ، منشرح الصدر فأستهل الإجابة بطُرفة أعجبت الحاضرين. قال لهم :
أولا ، إن أحمد زويل الذي تدعون أنه مصري (وكان أحمد زويل، أيامها قد حصل على جائزة نوبل في الفيزياء) هو سوداني؛ فزويل تصغير كلمة زول في عاميتنا و المفردة معروفة حتى صارت كلمة زول علما على السوداني دون غيره.......
لم يضحك محمد حسن مع الضاحكين، بل التفت إلى ليقول:
بالله عليك الله شوف الذكاء في الربط بين الأشياء دي بشكل غريب كيفن. عجــــــــــيب!
و حقا إن الدكتورعبد الله الطيب يمتاز بقدرته على المقارنة والربط ولا زال أمر ربطه لسرقات تي اس إليوت لشعراء العربية أمرا محيراُ، والحمد لله أن وفق الله الخالة الأستاذة (قريزلدا) أو الجوهرة عبد الله الطيب لطباعة هذا الكتاب النادر، وفاء لزوجها الراحل كما ذكرت.
من يستطيع أن يربط بين قول الكويتيين (وايد) و أصلها (واجد) ويعنون بها الكثير أو جدا، فهم يقولون (بحبك وايد وايد)، و الذكي وحده والموهوب هو الذي يلاحظ قربها من الكلمة الإنجليزية
( wide ) و هم كذلك ينطقونها والقرب والمشابهة في الكلمة الإنجليزية بمعنى الواسع. و الوسع والكثرة والشدة عكس الضيق والقلة و التكثير هو المقصود من مقالتهم.....
عفوا، إن تزحلجت من ربوة إلى وهدة و صعدت أخرى ، ولكني ربما تقمصت روح الشيخ؛ فقد كان يسرح في وصف شيء ويرده إلى أصله ، ويشبع المستمع من كل فاصلة في الموضوع ولا يهمل شيئا ، غير أنه سريعا ما يرجع إلى صلب الموضوع ويقول:
- كنت قد قلت آنفا كذا وكذا والحديث ذو شجون، والشيء بالشيء يذكر. وهذا ضرب من البلاغة لا يجيده غيره.
الله، الله! كم فقدنا تلك العبارة الحبيبة إلى النفس.


الأخ محمد حسن
إنك لتثير عزيزا من الذكريات. نعم ، كان الأديب الطيب صالح ، كلما ذكر شيئا أو استدل بنص شعري، التفت إلى الدكتور إبراهيم القرشي ، قائلاً:
(ولا شنو يا إبراهيم).
تكررت زيارة الطيب صالح إلى السعودية و في مهرجان الجنادرية 1427 أو 1428 هـ، حضر الطيب صالح والفيتوري، وذكر المذيع الداخلي للمهرجان:
من بريطانيا ، الطيب صالح
تصفيق حاد
من ليبيا، محمد مفتاح الفيتوري
تصفيق حاد ، ابتلع صوت أحد المشاهدين، حز في نفسه أن يقال عن الطيب صالح أنه بريطاني أو عن الفيتوري أنه ليبي الجنسية. وقف ليقول بحماس منقطع النظير، و تكومت عمامته و ملفحته تحت مركوبه:
- ده تلفيق علي بالطلاق تلفيق. القلتهم ديل كلهم سودانيين. قال ليبيا قال، قال بريطانيا.. وظل الرجل يبرطم و ينفل فرض الصمت، في محراب لا يلتفت فيه شخص إلى آخر، ثم أجهش الرجل بالبكاء، لما لم يجد ردا.

ومن هو (دكتور إبراهيم القرشي؟) ومَن من أمثاله وأنداده صنف المصنفات في الأدب والنحو والقراءات العشر في القرآن الكريم و... و.....؟
دكتور إبراهيم القرشي، شرب من نفس البحر الذي شرب منه العلامة عبد الله الطيب. علم مع تواضع ولا يزين العلم شيء مثل التواضع ولا يرفع هامة العالم إلا أن يخفضه للجهلاء ؛ ليمسوا تلك الرأس فيصيبهم قبس من ذلك الذي أصابه صاحب موسى:
(قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طـه:96)
وظني أن الذي أصابه ابن القرشي (إبراهيم قرشي السامري الجديد (المطهر) هو قبضة من أثر الرسول (قبضة مشروعة)، إلا أنه أحسن استخدامها، ومشى على نفس المنهج، منهج شيخه عليه رحمة الله .
ألا ترى إبداعه في كتابه (عادات وتقاليد سودانية أصلها عربي)، كيف ألبس المعرفة (الجافة) حلة الطرافة؟
ألا ترى كيف أخرج مقارناته لما قاله الحاردلو بما قال أمير شعراء الكون امرؤ القيس، فأجبر الأخير أن يلبس ( الصديري، أو السديري) و يسرح في البطانة ؛ مثل الحاردلو؟
حبيبي الغالي محمد كلا الرجلين لا يعلق عليهم مثلي، فعذرا
رحم الله الشيخ البروفسور عبد الله الطيب و أمد الله في عمر الدكتور إبراهيم و متعه بالعافية.
كسرة :
تكتب الأعراب كلمة (عمرو)؛ مثل عمرو بن العاص، ويلحقون بها الواو لتمييزها عن عُمر ؛ مثل عمر بن الخطاب. ربما كان ذلك لأن العرب في ذلك الوقت لم تعرف تشكيل الكلام ، ولكن هل ترون أن هنالك داعيا لذلك بعد أن عرف الناس (الكسرة ، الضمة والفتحة)؟ وهل هنالك ما يحتاج إلى مراجعة في الإملاء العربي، غير ما ذكرت؟
وأرجو أن لا تحملوا السؤال محمل الجد؛ فإنني دخلت المنبر وكنت أقول لنفسي أن لا جديد؛ حتى رأيت العجب. مثلي مثل رجل صائم كان مسافرا إلى الأبيض (باللواري). حان موعد الإفطار ولكن ليس ثمة قرية قريبة. بعد منتصف الليل ، وصل اللوري إلى قرية، وكان هنالك رجل قد جلس للعشاء وأمامه صحن فيه سلطة طماطم ( حمممممـــــــــــــــــــــــرة) وزيت سمسم (أخخخدر – أخضر) ورغيف (حـــــــــــــــــارررر) فانكب الرجل على الصحن دون أن يسلم على صاحب العشاء ودون أن ينتظر دعوته. لا زال هذا الرجل يقول ، بعد مرور ثلاثين عاما أو يزيد:
غايتو أحلى حاجة في الدنيا دي سلطة الطماطم بزيت السمسم و على شرط رغيفها حـــــــــــار.
محمد حسن سلطتك لكن ما سلطة. وأتمنى أن أنكب على مائدة ود القرشي، ففيها الدسم و ألف حسرة على مائدة الشيخ البروفسور عبد الله الطيب.
ومن غريب الأمر أن آخر حوار دار بيني وبين شخص ، حول البروفسور الراحل ، كان مع الدكتور عبد المنعم الجاك . كنا نتحدث عنه لمدة ساعة من الزمان عبر الهاتف، وقطع الدكتور الاتصال، معتذرا بلطف؛ لما عرف أنني كنت أبكي. فشكرا للدكتور عبد المنعم الجاك، وشكرا لك أخي محمد.
و أعود لباقي حديثك، إن شاء الله.