هنا فداسي

لشيء في نفس يعقوب
أقتبس كلمة الأخ هيثم بابكر :
"ورب كلمات قلائل أوقدت ألف شمعة ".هيثم بابكر 25 فبراير 2007م

فمن نعم الله الظاهرة علي أن وهبني محبة الشيخ العلامة البروفيسور عبد الله الطيب، وليتني درست على يديه، ولكنها مشيئة المولى، ولله في خلقه شؤون، ومضى البحر الذاخر عن الأنظار ولكنه في القلوب وفي الآذان باقٍ ما بقينا على وجه البسيطة. وأثناء سني الجامعة – في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي- كانت عيناي لا تخطي مساءٍ كل يوم منظر الطالب إبراهيم القرشي عثمان، يطلّ علينا من داخلية طلاب كلية الآداب التي تواجه داخلية كردفان بالبركس التي قضينا فيها سنة البرلم، وكان القرشي ذا حساسة من نوع خاص و لا يحتمل عبث البرالم، وما كنا نسلم من لذوعياته، يا برالمة يا......, وانقضى ذاك العام ومضت بعده حقب، وصورة ذاك الفتى لم تبرح مخيلتي، وثمّ أحاسيس متباينة نحوه كانت تنبع من أعماق سحيقة وتعتمل في نفسي شداً وجذباً،ولم أكن عن نفسي راضياً، ترى ما شأن هذه القسوة والسخرية؟ وما الداعي إلى أن يتجاسر علينا، ونحن سنصير ....، ومهما يكن من أمره فلن يكون سوى ....، ولما أكملتِ السنونُ دورتها جمعتني به الأيام بمدينة الرياض، وكان فتى الساحة الأوحد وهو يخاطب جمعاً غفيراً على منصة القصر الأبيض في إحدى الاحتفالات الثقافية التي تنظمها الجالية السودانية، وما أن أنهى كلمته قام الأديب الكبير الطيب صالح يصفق له طرباً وزهواً كأن بينه وبين الرجل نسباً أو رحماً ونحن نعلم ما تجمعهما إلا آصرة النسب الفكري والمعرفي، وكان الطيب صالح في كلمته التي ألقاها بعد إبراهيم يطلب التأييد والمدد من ابن القرشي فيما يعرض له من أسانيد أو أشعار بعينها ومستعيناً به على ذاكرته الشخصية، وبصورة المتسائل والمستوثق: وللا مش كده يا دكتور إبراهيم؟ فما أعجب حال تلك الليلة، وحال القوم من حولهم مبتهجين وهم في العباب يمخرون وبالزبد متحدثون.

صار الآن ذاك الفتى الذي أغاظني في أيام الجامعة الأولى: الدكتور إبراهيم القرشي, ثم البروفيسور إبراهيم القرشي بجامعة الرباط بالسودان. ومن الطرائف والمفارقات أن جمعتني به صداقة من نوع يدق وصفه، وكان أن لبيتُ دعوة للإفطار معه في رمضان قبل ثلاث سنوات أيام كان بيننا بالرياض ومحاضراً بجامعة الملك سعود، وأشهد الله أنّ بيتي كان يستقبل بعض الضيوف. وقد عزّ على ألا أزوره أثناء زيارتي الأخيرة للخرطوم ( عاصمة البلد الذي أجيء منه- والعبارة لعبد الله الطيب فتأملها هداك الله)، وأدركت حقيقة أن السفر قطعة من جهنم، وكيف لا تؤدى بنا طرقه إلى إبراهيم القرشي،فلبئس السفر ونواله، وأذكر أني حادثته وأنا في طريقي إلى المطار: "يؤسفني يا أخ إبراهيم ألا أنعم بمقابلتك وأنا الآن في طريق العودة لمدينة الرياض"، وأنشدته البيت الشهير لكثير عزة ، وعفراء – يا فتى – هي عزة كما لا يخفى:

"تمام الحج أن تقف المطايا على عفراء واضعة اللثام " ، فضحك الرجل وأدرك أن شيئاً ما يمكن وراء الأكمة. قلت له: هم بعض أهلك كنت أفاصلهم في خراف نشتريها لمناسبة لنا بسوق مدني، فلم يعدلونا السوم ( الثمن)، وتحرك صاحبي إلى آخرين غيرهما، إلا انه خطر لي أن أسأل الفتيان من أين هم، قالا: "من قنب حاج علي"، قلت لهما: "قنب حاج علي هيلت ناس إبراهيم ود القرشي"، قالا: "نعم، بل هو ابن عمنا. وحرّم : "الخروفين كرامة حلال على معرفتك لود عمنا إبراهيم ود القرشي". بكت عيناي، لما ظلمت ابن القرشي فتى بجامعة الخرطوم، وها هم أهله يفعلون بي من خير لم أقدره وقت كان يسخر منا، وما أدركت أنها مقدمة لمداعبة وتلطف عزيز نظمها الكرم وغدت تضلل عن مخبوئه السنين الطوال حتى حانت اللحظة الرهيبة، والموقف الذي لا تشابهه المواقف ، وقد أخرسوا لساني وعجزت عن شكرهم، وقد حرت جواباً أو خطاباً: الله .. الله .. من كلمات المواقف ولو كن قلائل أو معبرات!! ولم يف الله لي بكلمة في حق الرجلين، وقد تأكد لي أن منابت العز والسؤدد لا تنضب وأن الرجال هم الذين يصنعون الظروف وليست الظروف هي التي تصنع الرجال. فعدلت معروفهم وحسن صنيعهم في صلة رحمهم بحجة تامة أهدياها لابن عمهما، وكانت "عفرائي" يومئذ ذات وجه سافر عذب جميل من خصال وشرف وعز نبيل وضع عنه أبناء الشريف عثمان اللثام بمدنية ود السني البهية، وأنا كالمشوده أو الأخرس: وما حضرني غير: "إن الصمت في محراب الجمال جمال"

وحقيق بي التصديق بما قاله الهيثم: "ورب كلمات قلائل أوقدت ألف شمعة ".وإنها ربما أفضت وكشفت عن كثير والأيام بين الناس دولٌ ، ومهما عزت الكلمات وتأبت فلابّد من قولها حتى لا تقدر لنا حجة في غير مكة، ونظل نلعن الصمت وسوء الفهم والتقدير، ونتنكب الثورة والتصحيح والتعديل .
وما هذا الإبراهيم الذي فتنا به وبأهله خيراً، إلا مداد حبر ما كتبت به دواة العالم الجليل عبد الله الطيب، ولابّد وانه ذات يوم سيصير سطراً من أسطر عبد الله الطيب، ودعونا ننظر السطر في هذه المقابلة التي أجرتها معه جريدة الشرق الأوسط في العام 2003م ، وكيف تحدث عن شيخه عبد الله الطيب. ( وموعدنا صباح الغد إن شاء الله معه)

محمد حسن خضر
الرياض 25/2/2007م

(عدل بواسطة محمد حسن خضر on 03-05-2007, 05:23 PM)