هنا فداسي

إخوتي الكرام في (هنا فداسي).
الناس دائما في تعب من الناس، بل مصدر تعبهم أنهم يتعبون غيرهم و (الناس ما بتريح). هذا رجل من غير أهل فداسي، سألني مرارا عن علاقتي بفداسي؛ فتجملت في الرد. ولكنه هذه المرة صرح بمقذع و رجاني أن لا أضيع وقتي في (هنا فداسي)، بل إنه كان يقول بصريح العبارة: " هي فداسي دي ذاتها شنو وشن طعمها؟) و كان ردي له عبر البريد، لا في نفس اللحظة؛ حتى لا أقول ما لا يجب أن يقال. أحجمت عن ذكر الواقعة أو الرد، ولكن نزولا على رغبة الأستاذين محمد حسن خضر والأستاذ الطيب عبد الرحيم، فإنني أثبتها ولكنها لا تعني بالنسبة لي شيئا.
الرد
هي رغبة تمتطي صهوة الحس، تحفزني لأنثر كل المفردات في معرض التعبير؛ فأراهن كالعرائس، يفضحهن الجمال؛ فأحتار، وقد ولجت باب القاموس لأختار. تتغنج مفردة عربيدة، سأسميها فيما بعد. يميل معها قلبي أنى مالت و تتثني بنات العواطف ، إثرها، إذ تثنت؛ فيلفحني عطر يفوح من أردانها ويعبق من معاطفها. تقبل المفردة نحوي لا كما قال الشاعر:
أقبلت تسوي بيد الفتنة شَعرا.
فصاحبة الشاعر كانت تتصيد خصلات شعر حركها النسيم؛ فآذتها ، لأن صاحبتها رقيقة لا تحتمل ذلك ؛ فشرعت تسوي شعرها بيدها وتفتن الناس، وهم يراقبون راحة كالهواء ، تتقي الهواء. ولكن صاحبتي ،المفردة الطروبة ، كانت هي الفتنة نفسها. وحتى لا ينصرف التفكير لغير المراد فالفتنة التي قصدها الشاعر، يعني بها الافتتان، ومن افتتن لا شك وقع في الفتنة. و يعيش معركة كاملة ، بين وسيط يدعوه للسهر ويلهبه بالحمى وقد يغري به إلى الموت وبين لائم وعذول. فأي فتنة لم يكن منشؤها افتتانا ، وأي نار لم تكن شَرارا( بالفتح)؟ وأي فتنة لم يكن خلفها شِرارا (بالكسر). بيد أن الذي يجيش بخاطري ويملك إحساسي، كان خلفه الشَرار و نجا من الشِرار.
وحين تقبل تلك الحسناء من أروقة القاموس، يسبقها سجسج االبهاء وثجاج العطر،يستفزني الطرب؛ فأُرَدُّ صبيا، أذكر ما قلت قبل عشرين عاما، مجاريا شعراء التفعيلة(افتُعِلَتْ على رأي شيخي البشير أو فعلت على تقدير من المجذوب – عليهما الرحمة). قلت:
وحين يحضرني أنا
طلق القصيد
وجع القصيد
أتوسد الأفكار ألتحف الرؤى
و أغوص في جوف المعان
لأخطب الحورية الحسناء من جوف المحار
و أصوغها لحنا خرافيا
فليسأل البحار أشرعة الخيال
أين المراسي
مواطن الإبداعِ
مدافن الشعر المحال
***
و لم تجد علي بنت عبقر، ولم يفتح علي شيطان الوادي الضنين ببيت؛ فأُورثت حسرة؛ علها تكون فاتحة شعر، لقصيدة رائعة، وأروع الشعر – عندي – ما لا يقال.
تلكم المفردة التي تنتمي إلى الأعلام، هي ( فداسي). ذكرتها أم أنثتها، هي الشمس والقمر معا، مفردة غير مصنفة، غير منصرفة ومنصرفة – في لغة العشاق- . منصرفة إلى نهضتها الوشيكة، غير منصرفة عن عظمة بنيها ومن بنوها، وهم السَّراةُ الغطاريف. لا تحتمل التأويل في حاشية الكلام إلا للرفعة، وهذا شأن العَلَم. و الاسم يستعلي على الحرف والفعل؛ لذا قالوا: ( إن الجملة الاسمية أتم من الفعلية). وهم في ذلك مصيبون. ألا ترى أن الملائكة لما قدمت على سيدنا إبراهيم عليه السلام، حيوه ؛ فحياهم بأحسن منها؟
(قالوا سلاماً، قال سلامٌ) الآية، ولا يعقل أن يرد النبي الموحى إليه برد أقل درجة، من التحية ؛ ففي ذلك ما ينافي الذوق وينافي كرم المضيف.
و تأويل ذلك أنهم حيوه بجملة فعلية تقديرها (نلقي عليك سلاما؛ فنصبت – سلاما - على المفعولية) ولكنه قال سلام (سلام عليكم) وهي جملة اسمية ، فلم يخالف إبراهيم عليه السلام ربه ورد بأحسن منها.
هذه المفردة الجمال، عليَّ أطلتْ ؛ فعذرا إذا أطلتُ، وشعوري أني لم أقل شيئا وما مطلتُ.
لم أجد مفردة تضاهيها ولم أجد لها كفأ. أأقوم بوأدها في دواخلي أسوة بالشاعر الذي وأد بناته لأنه لم يجد أكفاء لبناته؟ كلا.
إن كان الشعراء قد سموا الجميلة غانية ؛ لأنها استغنت عن الزينة؛ فإن المفردة (فداسي) قد استغنت عن الكفء و الخل وسميتها غَنِيَّةً لا غانيةً، وصغتها أُغنيةً، لن تبلغ مسارب سمعك، يا من صممت عنها القلب قبل السمع.
هل أجبتك يا صاحي؟ وهل شفيتك أيها الملاحي؟
و ما ذا يضير الفَرَاشَ إن أحبت الخنافس القمر، والقمر لا يتنزل لقرن الفراش ولن يبلغ الفراش بجناحه سطح القمر. شقي الثاني بتفنيده و شقي الأول بغرامه، و حظ كل تعب. ولكن تعب الأول المغرم، لا يخلو من المتعة المشوبة بالألم ، حينما يتمنع المحبوب، والثاني ينال موجدة تأكل من عمره و تقتات من صبره؛ فينال الضر، بدل المنفعة....
سأظل ، بإذن الله، أكسب وقتي – لا أضيعه – ، كما زعمت في هنا فداسي.