هنا فداسي

الجزء الثالث: الدكتور محمد سيد الشريف بكتب سيرة الشيخ البشير
(9)
استقرار الشيخ البشير بن مالك بفداسي

وصل الشيخ البشير إلى فداسي ، واستقر في منزله الكائن بحوش ود البشير (والبشير هو من أحد الأربع الذين كونوا قرية فداسي الحليماب قادمين إليها من أبو حليمة ـ الأخ / محمد حسن خضر سوف يذكر لنا عن ذلك) وذلك قبل أن يبنى منزلا له بالقرية ، بدأ وبدأت معه نفحات بركة أنفاسه الطاهرة ، ومقامه المبارك الميمون ، لما أحيا فيه كثيراً من السنن ، وقمع فيه كثيراً من البـدع في العبادات وفي الاجتماعيات وفي السلوكيات ..

وقد كان رحمه الله أول من أمر فعله عند قدومه لفداسي أن بدأ بالمسجد ، وهذا الفعل من السنن المهجورة لما ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد *(1) فكان فعله هذا أول دعوة للسنة . ثم من بعد ذلك بدأت رحلته مع العلم بمسجد فداسي زاده الله عمارة ورفعة ، إذ بدأ بإنشاء حلقة علم بعد صلاة العشاء يومياً ما عدا يومي الخميس والجمعة ، وقد كان في أول أمره يتوقف عن التدريس يوم الجمعة فقط وجعله إجازة وراحة له بالإضافة لعبادته الخاصة في هذا اليوم وكذلك راحة للمصلين ، حتى وقف على نص عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رجع إلى المدينة بعد أن غاب عنها شهرين في جولة قام بها ، وطاف بأرجاء مدن الشام ، وفي خروجه من المدينة استوحش طلاب الكتاب وطلاب العلم ، وعندما سمعوا عن قدومه إلى المدينة ، خرجوا لمسافة طويلة خارج المدينة حتى يكونوا في استقباله ـ رضي الله عنه ـ وعندما رآهم ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سر لاستقبالهم له لما في ذلك من استئناس صغار الطلبة بعمر ـ فشرع مع يوم الجمعة يوم الخميس حتى يكون لهم إجازة وقد استمر على هذا الأمر طوال حياته سوى بعض الأحيان يقوم بالتعقيب والخطابة من المنبر بعد صلاة الجمعة .

وله كذلك من السنن المحمودة أنه أشار إلى الشيخ / عوض عبد الرحيم الإمام ـ أمد الله في أيامه ـ تدريس مادة التجويد وتلاوة القرآن بدراسة نظامية عن طريق الحلقات وبدأ هذا الأمر في عام 1976م تقريباً وكان ذلك بعد صلاة العصر يومياً عدا يومي الخميس والجمعة .

وظل الشيخ ملازماً لهذه الحلقة مهما كان عدد الذين يرتادونها حتى لو كانوا أطفالاً وما زالت هذه الحلقة مستمرة إلى يومنا هذا، وقد كانت طريقته في هذه الحلقة التعليمية أن يقرأ الشيخ آيـاتٍ تعدل لوحـاً وهو نصف الثمن ، ثم قراءته قراءة تحقيقيه نموذجية ، ثم يقوم كل أفراد الحلقة بتكرار هذه الآيـات .. وهكذا استمر التدريس بهذه الطريقة حتى تم ختم المصحف الشريف في أكثر من عام . وله في ذلك طريقة فريدة ، إذا ما أخطأ أحد الذين يتلون القرآن فإنه يوقفه بحركة ولا يصلحه حتى يقوم القارئ بتصويب نفسه ، وأما إذا تكرر الخطأ من القارئ أكثر من مرة فإنه يقوم بتصويبه وذكر القاعدة التجويدية النظرية حتى ترسخ في ذهن القارئ حيث أن كل الجالسـين قد أتموا دراسة التجويد نظراً ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر

(10)
دروس الشيخ بمسجد فداسي

بعد أن استقر بالشيخ المقام انتظم في حالة علم يومي من بعد صلاة العشاء يتفاوت زمنها بحسب الموضوع الذي يتناوله الشيخ بالحديث وقد كانت دروسه تتعلق بمواضيع ـ التوحيد ـ الفقه ـ الأخلاق أو السلوك ـ يعرض لعلوم التفسير وعلوم الحديث والسيرة ، إذا ما عرضت لها مناسبة أثناء درسه ، وقد كان الشيخ دقيقاً في عباداته ، بل كان إذا ما ورد لفظ موهم أو له معانٍ متعددة يحرص على ذكر المعنى المراد في النص ، يظل مع مستمعيه حتى يبلغ بهم الغاية التي يريد الوصول إليها ، فقد صدقوا أهل الفاشر حينما يلقبونه (بالسنة المتحركة) ..
وقد كانت دراسته للفقه دراسة تعليمية تطبيقية يكثر فيها من ضرب الأمثلة بل ويأتي ببعض الأشخاص يحسمون ما يريد توضيحه للمستمعين في الطهارة وفي الصلاة وفي الصوم وفي الحج وفي الزكـاة وكان يحرص بأن يأتي بمن يقوم معه بتمثيل ما يريد تبليغه وتعليمه للمستمعين .. وكان كثيراً ما يذكر اسم شخص ما لم يره في الحلقة والتي كانت تدرس بالمايكرفون، فيسمع الشخص اسمه وهو بعيد ويهرع للوصول للمسجد أو يسمع من الحاضرين في اليوم التالي بأن الشيخ ذكر اسمك فلا تتأخر مرة أخرى ..
وأما دروسه في التوحيد فكان دائماً ما يخرج الناس من مناطق الخلاف ويحاول جاهدا أن يعلم الناس ما هو متفق عليه بين طوائف المسلمين ، وقد كانت طريقته في ذلك طريقة غاية في اللطف في إيراد ما يريد قوله بل كان لا يتعرض لشخص أو لهيئة أو لجماعة يذكرها ويخصص الحديث عنها ، وإذا ما تكلم أحد المستمعين بذكر شخص أو هيئة بأنه فعل كذا وكذا حتى ولو كان الذي فعله ذلك الشخص مخالف لما يقول الشيخ . كان يصرف ذلك الشخص ويبين له أن في العلم سعة وأن ذاك الشخص لا بد أن يكون له دليل قد اعتمد عليه في فعله لبيان أن أهل العلم لهم سعة في الاجتهاد ، بل كان لا يخطَئ شخصاً صاحب علم ، بل يلتمس له العذر بين العامة إذا سئل عن ذالك ، ثم يستدعي ذلك الشخص ويسأله ويجادله ويحاوره فيما فعل حتى يرجع عن فعلته إن كان مخالفاً لما عليه جمهور أهل السنة .
وكذلك كان يوجه ويعلم ، وإذا بدر من شخص ما فعل أو قول مخالف للسنة كان يجمع الناس ويعلمهم الصواب ، لأن الفعل إذا ما بدر من شخص ورآه الناس ولم ينكروه عليه ، كان سكوتهم عليه عدم إلمامهم بالحكم المتعلق بذلك الفعل .
وكان يتحرى الدقة في التوجيه ، ومن أمثلة ذلك ما شاع بين الناس أن المشي مع الجنازة يكون من خلفها ، وقد قرأ بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يسير بين يدي الجنازة ، يعني أنه كان يتقدم عليها ، وقد كان تعليل ذلك الفعل ، أن المشيع شافع الشفيع يتقدم بين يدي من يشفع له ، فصار كلما شيع جنازة تقدم عليها مع الحرص على حث كل المشيعين الذين يشيعون الجنازة على الصلاة على الميت لما يريده للناس أن يخرجوا من العادات إلى العبادات ، فبدلاً من أن يكون حضور بعض الناس إلى الجبانة لأجل مجاملة الأحياء ، كان يريد لهم أن ينفعوا ذلك الميت بكثرة المصلين عليه ، وأن يرجع المشيعون بالأجر العظيم لما ورد في ذلك من النصوص والآثار منها : (ما من ميت يقوم على جنازته أربعون لا يشركون بالله إلا شفعهم الله فيه.)*(1) .. هذا ما يعود نفعه على الميت .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه :
(11)
أما بالنسبة للمتابع للجنازة فلما ورد: ( من شهد جنازة وصلى عليها رجع بقيراطين من الأجر كل قيراط يزن جبلاً ، ومن شهدها ولم يصل عليها رجع بقيراط من الأجر .)*(1)
فحرص الشيخ على أن يغتنم الناس هذه الفرصة وكان يحثهم ويعلمهم ويكلمهم بأن يحرصوا على الصلاة على الميت قائلاً : الأجر اغتنموه في الصـلاة .
وعلم الناس كيف يكون قيامهم على القبر بعد دفن صاحبه لما ورد عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ لأصحابه قائلاً : إذا دفنتموني فقوموا على قبري مقدار من ينحر الجزور ويقسم لحمه حتى أستأنس بكم وأرى ما أراجع به رسل ربي .)*(2)
وقد سأل الشيخ في حلقة علمه أحد الذين يعملون بالجزارة وهو الحاج / أحمد عثمان أبو شقه ـ سلمه الله وعافاه ـ عن الزمن بالساعة، فرد ذلك الحاج بقول: هذا العمل وهو نحر البعير وتقسيم لحمه لا يقل عن ثلاث ساعات .. وعلم الناس آداب العزاء لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سألكم شيئاً قبل أن يسلم عليكم فلا تجيبوه)*(3) ..
وكعادة السودانيين فإن الرجل إذا ما قدم لبيت العزاء يرفع يديه يدعوا للميت بعبارة (الفاتحة) يقول ذلك قبل أن يبتدئ بالسلام ، فعلّم الناس أن تكون عبارة (الفاتحة) المقصودة للعزاء بعد لفظ ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

وقد كان يحرص أشد الحرص على تعاهد مجتمعه بالاهتمام بالآداب الشرعية في التحية والوداع والمقابلة والاستئذان وآدابه ، بل بلغ به الأمر إذا سمع أحداً بمجلسه وهو يعطس كان يحرص أن يحمد الله ذلك العاطس ثم يقوم بتشميته ويعلمه كيف يرد على ذلك التشميت ليكسب الأجر .. إذا عطس شخص في المجلس الذي هو عليه يقول : (الحمد لله ـ يرحمكم الله) وذلك للتذكير والحرص على إحياء السنة ..
وإذا ما بدر من الناس فعل كالنهبة ، والنهبة أن يوضع طعام ثم يتسابق الناس لنيله ، يأخذ هذا أكثر من ذاك وهكذا فيما هو شائع في مجتمعات القرى ، وهو أمر قد يفعله الناس باعتباره باباً من أبواب الترويح .. يوضح لهم الشيخ الأمر الوارد في ذلك وهو النهي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . *(4)
خلاصة القول إن الشيخ يظل مع الناس فيما ينوبهم ويبدر منهم ويحرص كل الحرص أن تكون حياتهم موافقة للشريعة وإذا ما رأى من أحد من الناس استهتارا أو استخفافا بالأحكام الشريعة أو سخرية بالسنة أو بأحكام الدين يغضب الشيخ بل قد يغلبه البكاء أسى وحسرة لمن يفعل مثل هذه الأشياء ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
(2)
(3)
(4)

(12)

ومما يحمد له أنه أحيا سنة الاعتكاف بالمسجد بعد أن ظلت تلك السنة مهجورة فترة طويلة ، وقد كان حريصاً أن يشاهد ويتابع ويعلم المعتكفين ويقف على حالهم ويشجعهم وقت الاعتكاف ويحثهم على الاستفادة من كل وقت ولحظة حتى يخرجوا من اعتكافهم ..

حـرص الشـيخ عـلى وقـتـه
أما إذا ما نظرنا على حياة الشيخ، فإن الذي يلاحظه كل من عايش الشيخ البشير بن مالك ، حرصه على وقته ، إذا استعرضنا يوماً من أيام الشيخ وكيف يقضى ذلك اليوم .. فإنه يبدأ بصلاة الفجر بالمسجد على بعد المسافة بين بيته والمسجد ، وبعد أداء الصلاة يجلس يستمع تلاوة الفجر وهي قراءة جزء من القرآن ثم يبقى في موضعه ذاك حتى تشرق الشمس ويصلي نافلة الضحى لما ورد في فضل ذلك من الحديث : (من صلى الفجر ثم جلس موضعه حتى أشرقت عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامتين تامتين تامتين .)*(1) ثم يرجع إلى منزله بعد ذلك ويقوم بتدبير أمر معاشه ومعاش أسرته ويتابع مذكراته وينغمس في مكتبته ، ,إذا ما فرغ من القراءة والكتابة يداعب مسبحته التي لا تفارقه لحظة ، ويتابع ويحرص أن يتناول الطعام مع أولاده وبناته الصغار ليعلمهم كيف يأكلون ويشربون ، ثم يبدأ الاستعداد لصلاة الظهر في المسجد ويبقى فيه حتى صلاة العصر ، لبعد المنزل وكذلك لطلب الخلوة مع نفسه ، وبعد العصر يحضر حلقة التلاوة ، ويذهب بعدها لمنزله لتناول شيئاً من الطعام (ما شبع في حياته قط) ـ لو جمعت فطوره وغدائه وعشائه في صحن وقدمته لهرة ما شبعت تلك الهرة من ذاك الصحن ـ وقبل الغروب يستعد الشيخ لصلاة المغرب حيث يكون أهل بيته في سكون تام عندما يحين وقت الصلاة أو استعداد الشيخ للصلاة .. يخرج للمسجد ويصلي المغرب والعشاء فيه يؤدي درسه اليومي وبعدها يشهد حلقة التلاوة اليومية ومن بعد ذلك يرجع إلى بيته ، يتناول عشاؤه ويتمشى ويصلي وما شاء الله له من صلاة وذكر حتى الثلث الأخير من الليل وهكذا برنامجه اليومي لا يكاد يخالفه إلا أذا أصابه مرض أو سفر ، ومن المعلوم أن العبد إذا التزم نظاماً للعبادة فإن أجره يظل جارياً لقوله ما من عبد يحبس بمرض أو سفر إلا أعطاه الله تعالي من الأجر مثل ما كان يعطيه له وهو صحيح مقيم . )*(2) وهو تعليم للناس أن يداوموا على العمل ويظلوا عليه كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : ( كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديمة .)*(3) .. ولقوله: (خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.)*(4) .
ولقوله: ( خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قـلّ.)*(5) بل والأمر أكثر من ذلك إذا قبض الله تعالى عبداَ من عباده وهو في حال عبادة تقتضي مفارقته بلده كان يموت وهو غاز في سبيل أو وهو حاج فإن الله تعالى يجري عليه العمل ولا يختم الله تعالي على عمله ويظل أجره وهو جار كما قال تعالي : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون .)*(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6) سورة البقرة 154

(13)

ولقوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .)*(1) وفي الحديث، الرجل الذي وقصـته ناقته في حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم ( كفنوه ولا تحمروا رأسه فإنه يبعث ملبيـاً .) *(2) .

ودلاله هذه النصوص أن العبد إذا داوم على طاعة من الطاعات وظل ملازماً لها حتى عرف بها ، فإن الله تعالى يجري له أجره حال مرضه وسفره بل وبعد مماته وهو الذي نرجوه عند الله لشيخنا أن ينال أجر العبادة وأجر العلم الذي علم به الخلق وانتفع به من بعده ..