الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 12:12 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة أ.د.محمد عبدالله الريح(د.محمد عبد الله الريح)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-04-2006, 04:08 AM

أ.د.محمد عبدالله الريح


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟

    الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟

    الوحدة بحرب تعادل الإنفصال بأحقاد
    الإنفصال وسيلة للتعايش وليس غاية
    وحدة بإحسان أو إنفصال بمعروف.. هل يمكن ذلك؟
    صلح الحديبية هو تحقيق المستحيل بفن الممكن
    عندما هدد بولين ألير بإلقاء الرئيس أزهري من شباك البرلمان.
    كيف يمكن الإيفاء بالتطلعات المشروعة لجميع أقاليم السودان؟

    مقدمة:
    ----
    في العام 1958م كنا طلاباً بمدرسة خورطقت الثانوية. أعدت لنا إدارة المدرسة رحلة الى حدائق (البان جديد) بالقرب من مدينة الأبيض. وفي داخل الحديقة لفت إنتباهي أحد أبناء الجنوب وكان مرتدياً زي السجن وهو يعمل بهمة ونشاط يهذب ويشذب أشجار الليمون والمنقة ويفتح جداول الماء تحت الأشجار، فاقتربت منه وحييته فرد على تحيتي دون أن يلتفت ناحيتي. سألته إن كانت تلك (الجنينة) تتبع لإدارة السجن فرد علي بالأيجاب. ودفعني الفضول أن أعرف لماذا هو هنا. ورويداً رويداً أخذنا نتحدث فعلمت منه أنه كان ضمن المشتركين في تمرد توريت وبما أنه لم يقتل أحداً فقد حكم عليه بالسجن ثمانية أعوام وتم ترحيله لمدينة الأبيض فوجد أن أنسب مكان لتمضية الوقت أن يعمل في حديقة السجن.
    لم أتصور أن أقابل أحداً من متمردي توريت لإعتقادي أنهم جميعاً قد أعدموا. وكنت قد سمعت عن روايات مخيفة تحكي عما فعله الجنوبيون بالشماليين. وخاصة موت أحد أساتذتنا عندما كنا بمدرسة الأبيض الأميرية وكان إسمه بلال وقد علمت أنه قتل بواسطة طلبته في رمبيك. ولكن سانتينو هذا كانت تبدو عليه ملامح الطيبة والرزانة ولا يشبه قاتلاً وهو نفسه قال أن المحكمة لم تحاكمه بالإعدام لأنه لم يقتل أحداً.
    مشاعر متضاربة كانت تكتنفني وأنا أتحدث مع سانتينو. فقد جئت مشبعاً بما كنا نردده من أناشيد:
    منقو قل لا عاش من يفصلنا
    ونو سبريشن فور ون نيشن No Seperation for One Nation
    وداون داون كلونايزيشن Down Down Colonization
    وتعلمنا كل ذلك من مظاهرات الجبهة المعادية للإستعمار بقيادة المرحومين حاج الطاهر المحامي وحسن الطاهر زروق ومحمود جاد كريم . فقلت لسانتينو:
    - يا أخي نحنا كلنا أخوان وأولاد بلد واحدة .. ليه إنتو تعملوا كدا؟
    أجاب :
    ليس صحيحاً.. أنت لا تنسى أنني جنوبي وأنت شمالي وأنا لا أنسى إنك شمالي وأنا جنوبي. نحن وأنتم كالماء والزيت.. عندما ترجنا نظهر كأننا شئ واحد ولكن عندما تتركنا يعود كل منا الى وضعه. نعم الماء والزيت ولا تنسى هذا.
    نظرية الماء والزيت ظلت عالقة بذهني لا أعرف مدى صحتها حتى التحقت بالجامعة. وفي عام 1963م كنت سكرتيراً لجمعية الفنون بالجامعة وكان رئيسها الأخ يونس عبدالله مختار. أقمنا معرضاً لرسوماتنا بنادي إتحاد الطلاب. كل اللوحات كانت من عمل الطلاب. وجاء الأستاذ ابراهيم الصلحي وافتتح المعرض وكان معه عدد من أساتذة كلية الفنون، الأستاذ احمد محمد شبرين، الأستاذ عبدالله محي الدين الجنيد، الأستاذ مجذوب رباح (رحمه الله)الأستاذ شوقي أبوعكر (رحمه الله) والأستاذ بسطاوي بغدادي وغيرهم.
    بعد أن انتهت مراسم الإفتتاح تجمهر عدد من الطلاب الجنوبيين زملاؤنا في قاعات الدراسة والداخليات وقاعات الطعام أمام لوحة رسمها الطالب (آنذاك) علي مصطفى بلال ونزعوها بقوة محتجين أنها تسئ للجنوبيين. لقد رسم الطالب منظراً مألوفاً لباخرة تسير بالقرب من الشاطئ وكان ركاب الباخرة يلقون بعلب فارغة لعدد من النساء الجنوبيات كن يجرين مع الباخرة. هذا المنظر استفز الطلاب الجنوبيين مما دعاهم لنزع تلك اللوحة وحرقها في اليوم التالي في الميدان الشرقي وحمل لي أحدهم رماد اللوحة لأحتفظ به.
    في تلك اللحظات لمحت ذلك الغضب الهائل في عيون زملائنا الطلاب الجنوبيين وعادت الى ذهني مقولة سانتينو التي طلب مني ألا أنساها (الماء والزيت).
    كتبت مقالاً حملته للأستاذ حسن نجيلة الذي كان يحرر صفحة (صور وعبر) بجريدة الرأي العام. قلت فيها لماذا لا نفصل الجنوب الآن بأقل تكلفة حتى لا يفرض علينا يوماً أن ينفصل بأعلى وأغلى تكلفة. ثار الأستاذ حسن نجيلة في وجهي وانهالت علي الشتائم من كل حدب وصوب. ولكني كنت أرى أن تعايشاً من نوع ما يمكن أن يحدث بين بيضة وحجر ولكن من المستحيل أن نجعل الماء يندمج مع الزيت.
    صاحب ذلك الحادث أول هجوم لجيش الأنانيا بقيادة جوزيف لاقو في سبتمبر عام 1963م على حامية بغرب الأستوائية وهوالذي كان في طريقه في بعثة دراسية لبريطانيا. ولكنه قرر أن يكون جيش الأنانيا في يوغندا ويشن حرب أدغال على الجيش السوداني في الجنوب.
    وعندما ناديت بالإنفصال كان ذلك في نظري يمثل أسهل الحلول لأني كنت قد قرأت كثيراً عن حرب الأدغال وأن مثل تلك الحروب لن تكون لها نهاية وفي ذهني كيف دخل فيدل كاسترو العاصمة الكوبية هافانا عام 1958م بجيشه المنتصر على قوات باتستا وكيف بدأ الرئيس الصيني ماو تسي تونج زحفه الذي قطع فيه 9000 ميل من جنوب الصين الى شمالها حتى انتصر على قوات شان كاي شيك عام 1949م. ومنذ أن دخلت الجامعة كنت أعطي قائمة الطلاب الجنوبيين صوتي لأني لم أكن أنتمي لأي حزب من الأحزاب الطلابية وكنت أعتقد أن للطلاب الجنوبيين قضية. ولكن موقفي ذلك جرعلي كثيراً من المتاعب ولازال. فأنا لم أنتم لأي حزب وذلك لطبيعة تكويني الفكري الذي لا يجعلني أنتمي لفئة ما وأدافع عن أرائها خطأً أو صواباً ولهذا عندما كنت أحرر جريدتي (سلامات) وأعلقها على شجرة (المين) كنت أخاطب جميع الطلاب وأنتقد جميع التصرفات وكانوا يقبلون ذلك عن طيب خاطر.
    عدم إنتمائي لحزب بعينه مكنني من قياس الأمور بحرية تامة. ولذلك عندما أعلن حزب مؤتمر البجة مسؤليته عن تفجير ثلاثة كباري بشرق السودان في التسعينيات أدنت ذلك وكتبت مقالاً نارياً في جريدة الخرطوم بعنوان (وإذا الكباري نسفت) قلت فيه أن تلك الكباري أقيمت بأموال الشعب السوداني في أكثر المناطق تخلفاً وإنني لا أفهم كيف يؤدي تفجير ثلاثة كباري في أقصى شرق السودان الى إنهيار الحكم في الخرطوم. ويومها أشبعوني شتماً وتقريعاً ونعتوني بأشنع النعوت لشهور طويلة. فلم اهتم بذلك ولم يحركني عن موقفي سنتمتراً.
    في عام 1971م كنت أشترك في مؤتمر الشباب للإنسان والبيئة في جامعة ماكماستر الكندية بمدينة هاملتون ولاية أونتاريو. وكان معي الأخ عبدالرحمن ابراهيم (صهيوني). في ذلك الزمن كان الطلاب الجنوبيون قد كونوا رابطة لهم تضم كل الطلاب الجنوبيين في أمريكا الشمالية وكانوا يجدون الدعم من جهات عديدة وكانوا يوزعون ملصقات عليها رسم لطائرات تحمل الشعار السوفيتي وهي تقصف قرى الجنوب. وكانوا يكتبون عليها :هكذا يشن العرب المسلمون وحلفاؤهم السوفيت الحرب على الجنوب المغلوب على أمره. فحملت معي عدداً من تلك الملصقات لأدل بها على أننا يجب أن نضع حداً لتلك الحرب حتى لو دعا ذلك الي إنفصال الجنوب عن الشمال.
    وفي العام 1989م وقبل مجئ حكومة الإنقاذ بأربعة أشهر كتبت مقالاً طويلاً في جريدة الخرطوم وكانت البلاد تعاني من ويلات حرب الجنوب وكانت الحاميات تتساقط كقطع الدمينو ولقي صديقي الفارس عثمان الضو مصرعه وقد أصاب طائرته صاروخ (سام) فحزنت حزناً لا حد له ومن بعده مختار محمدين. زينة شباب السودان استشهدوا في تلك الحرب الملعونة . وطيلة هذا الوقت كنت ازداد اقتناعاً أن الزيت والماء لا يمكن أن يندمجا. فكتبت ذلك المقال تحت عنوان (أيهما أسهل وحدة اندماجية مع يوغندا أم مع الجنوب ؟) وبعد مناقشة للكثير من الحيثيات توصلت الى أن وحدة إندماجية مع يوغندة ممكنة ولكنها غير ممكنة مع جنوب السودان لغياب الثقة والشك الذي لازم العلاقة بين الشمال والجنوب من أول يوم غادر فيه أول مفتش انجليزي جنوب السودان وحل محله شمالي قبل بزوغ فجر الإستقلال. والجنوبيون الذين تمردوا في توريت والحاميات الأخرى ما عدا جوبا كانوا يشيعون أن الجنوب قد استبدل استعماراً بريطانياً باستعمار شمالي.
    وانهالت الشتائم على حضرتنا واتهمت بأشياء كثيرة أقلها العمالة والأسترزاق من الإستعمار. ولكن كانت هناك بعض المقالات المتزنة مثل ذلك المقال الذي نشره الأخ الأستاذ يس حسن بشير وهو يرد علي وعلى الأستاذ الطيب صالح والذي كان ينادي بمثل ما ناديت به وسأعيد نشر ذلك المقال الرصين في وقت لاحق بالرغم من اختلاف رؤيتي معه حتى يدرك الناس كيف يكون الحوار ايجابياً دون شتائم واتهامات.
    الحركة السياسية ودورها في تعقيدات الوضع الراهن.
    كل الأنقلابات والتحولات السياسية كانت تتم في الشمال ولم يكن للجنوب يد فيها. وكلما حدث انقلاب تعمقت عناصر عدم الثقة . حتى إن الدكتور جون قرنق لم يعد للسودان بعد الإنتفاضة وكان يسمي حكومة المشير عبدالرحمن سوار الدهب (بمايو تو) وحاول اسقاط طائرة وزير الدفاع الفريق عبد الماجد حامد خليل. ويمكننا أن نختبر تلك الحركة البندولية للتأرجح بين الحكم العسكري والحكم المدني وطبيعة الصراعات كما اختبرناها من قبل في مقال سابق على النحو التالي:

    لقد ظلت تلك الصراعات حتى قبيل فجر الاستقلال والى يومنا هذا تؤدي الى تآكل الهياكل الإنتاجية و تدهور مستمر لمستويات المعيشة والذي انعكس بدوره على النظام البيئي ككل.
    والصراعات في الواقع نتائج و ليست أسبابا، فهي وليدة حالة معقدة لأنظمة الحكم المتعاقبة في السودان وهي تتبع نمطاً فريدا نختبره بشئ من التمحيص و التدقيق، فنزعم أن هناك شهوتين..تتبع احداهما الأخرى، شهوة الإصلاح وشهوة الحكم..ونحسن الظن فنقول أن شهوة الإصلاح تسبق شهوة الحكم و تعلن عن نفسها في البيان الأول لأية جماعة تستولي على الحكم و هي تعدد مساوئ الحكم السابق و تعلن زهدا في الحكم إلا أن ظروف البلاد و مصالحها العليا التي تكون في خطر حتمت عليها أن تستولي على الحكم و إلى حين. وإذا علمنا أنه(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) لعلمنا أن أمد ذلك "الحين" في علم الله.
    تبدأ شهوة الإصلاح تحت وقع دبابات الإنقلاب العسكري و لكن سرعان ما يتخلى الإنقلابيون عن انقلابهم و يتبرأون منه كأنه وليد غير شرعي أو عار دبروه بليل و أنكروه عند الفجر..ولا أحد يذكر ذلك الإنقلاب بل يذكرون أن ما قاموا به ثورة وإن دافعها هو شهوة عارمة للإصلاح ولكن بمجرد أن تبدأ الفئة الحاكمة في التخلي عن الإنقلاب والتحول إلى ثورة تبدأ شهوة الإصلاح في التلاشي والإضمحلال وتنتعش الشهوة الأخرى- شهوة الحكم- تلك التي تتضخم وتنتفخ على حساب الشهوة الأخرى.
    وهذه المعادلة وجدناها صحيحة جدا وتنطبق على كل الجماعات التي استولت على الحكم في جميع أنحاء العالم من جزر فيجي إلى جمهورية اكس الشعبية. فكما أن لكل كلاشنكوف مواصفات واحدة فكذلك لكل الحركات المحمولة على فوهة ذلك الكلاشنكوف نفس الملامح والشبه.
    ولنحسن الظن ونقول أيضا أن دافع كل حركة من تلك الحركات هو إزالة سوء كان يحيق بالمواطنين واستبداله بخير وفير يعم عليهم وأن أحوالهم ستتحسن نحو الأفضل.
    ولكن ماذا بعد أن تتحول الحركة إلى إنقلاب ويتحول الإنقلاب إلى ثورة وتستمر الثورة في خططها ولا يتحسن حال المواطن بل يتردى نحو الأسوأ؟ في هذه الحالة ما الذي يبقي تلك الثورة أو تلك الجماعة في الحكم؟ الإجابة بسيطة جدا.
    المعارضة تسميها شهوة الحكم والذين هم في الحكم إذا واجهوا أنفسهم بشجاعة يعترفون بأن الأحوال فعلا سيئة وأنها لم تتحسن بل تردت ولكنهم يبررون بقاءهم في الحكم بأنها كانت ستكون أكثر سوءً لو أنها كانت في أيدي غيرهم فهم إذا يحققون أحسن الأسوأ ويحافظون عليه بينما غيرهم سيحقق أسوأ الأسوأ. والمواطن المسكين عليه أن يتوجس خيفة من أسوأ الأسوأ وأن يحسن الظن بأحسن الأسوأ.
    ولكن حركة التاريخ لا تقف عند هذا الحد البندولي فعندما يشعر عامة الناس أنه لا فرق بين أحسن الأسوأ وأسوأ الأسوأ تحدث الإنتفاضة ويطيح الناس بالمؤسسة الحاكمة وتنتهي الأمور على النحو المألوف.
    وتبرز التعددية طارحة نفسها الحل الأفضل والأمثل لقضية أسوأ الأسوأ وأحسن الأسوأ..إلى أن يفيق المواطنون ذات يوم على البيان الأول من جديد.
    لقد أحصى الرئيس الغاني الأسبق كوامي نكروما في كتابه"الصراع الطبقي في أفريقيا" عدد الإنقلابات منذ انقلاب توجو عام 1962م والذي أطاح بحكومة الرئيس سلفانوس أليمبوس إلى عام 1970م ووجدها 27 انقلابا. حدث فيها تحلل مؤسسي فظيع سادت فيه مناهج الطغيان والقمع السياسي والبوليسي للمجتمع من جانب الدولة الأمر الذي رسم ملامح العنف المضاد ودوافعه في جميع تلك الدول الإفريقية. ولم تسعف تلك الأنظمة ولا حتى الانظمة المدنية التي كانت تعقبها الايدلوجيات المختلفة فقد إنتهت الرأسمالية والإشتراكية بجميع أشكالها الى فشل مزر إنعكس بدوره على شكل الصراعات بعد أن تردى الأقتصاد الى فقر مدقع ومستويات إنتاجية متدنية في بنية تتسم بنقص خطير في الهياكل المؤسسية. بل إن الإداة القمعية التي صاحبت وتصاحب مثل تلك الأنظمة جعلت من العسير وضع علاقات إجتماعية متوازنة بين الجماعات العرقية وقللت من فرص التنمية الديموقراطية السليمة. فإذا عناصر الصراع كلها قد وضعت فى مواجهة بعضها وفي مواجهة أنظمة الحكم.

    أزمة الحكم وطبيعة الدولة كمدخل للصراع:

    الصراع الديموقراطي في أجهزة المجتمع المدني مهما كانت سلبياته لا تنتج عنه زوايا حادة تتقاطع بشكل دموي... فعندما قدم السيد إسماعيل الأزهري إستقالة حكومته الأولى بعد الإستقلال بعد سقوط خطاب الميزانية كان يؤسس لعناصر اللعبة السياسية في تداول سلمي للسلطة ظناً منه أن غيره يؤمن بقوانينها وهو يستمع الى العضو الجنوبي بولين ألير يهدد بإلقائه من شباك البرلمان. ولكن غيره كان له رأى آخر عندما أحس بأن حكومته على شفا حفرة من السقوط فسلمها للعسكر وبذات الطريقة سلم ذوالفقار علي بوتو الحكم للجنرال ضياء الحق.. صانعاً بذلك الفرانكشتاين الخاص به وانتهى الأمر بتلك الدراما الشكسبيرية عندما أعدم الجنرال ضياء الحق السيد ذو الفقار علي بوتو. ( اصنع البعاتي الخاص بك .. وسيأكلك).
    في المثالين السابقين لم تلعب اللعبة الديموقراطية على أصولها فليس في عناصر خطابها السياسي مجال لعمل عسكري... والصراع الذي يحدث يحرسه نظام قضائي مستقل وجيش وطني لا يتدخل وخدمة مدنية محايدة وصحافة أو أجهزة إعلام حرة تراقب. إن الإنحراف الذي زعم أنه حدث في قضية السفنجات في الستينيات من القرن الماضي لصفقة لا يزيد ثمنها على خمسين ألف جنيه سوداني أثارت من الممارسة الرقابية ما لم يثره أي إنحراف بحجم الأفيال تحت ظل الأنظمة العسكرية.
    إن إستدعاء العسكر لحسم أزمة الحكم بواسطة قوى مدنية عقائدية لا تؤمن بالتداول السلمي للسلطة يدخل حلبة الصراع عنصراً يمتاز بتنظيم دقيق ويحتكر القوة المادية السلطوية وإحكام السيطرة الفعلية على مقاليد الأمور ويقف على بوابة العمل الإعلامي الأمر الذي لا يتوفر للأنساق الإجتماعية الأخرى التي ليس لها من سبيل الى السيطرة إلا من خلال نظام ديموقراطي تعددي مكشوف الظهر.
    ولكن الأليجاركية العسكرية عندما تطرح نفسها كبديل للفراغ السياسي ولهزال مؤسسات الحكم المدني فإنها تسعى لعسكرة المجتمع ولفرض رؤيتها الخاصة بالتنمية الإجتماعية والإقتصادية. وسرعان ما تكتشف أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا تحت حماية جهاز أمني متعسف يتعقب الذين يعارضون تلك السياسات.
    وإذا كانت طبيعة الدولة ونشأتها بعد الأستقلال تعد نتاجاً لفكر المستعمر وأنها نشأت كإحتمال برجوازي سعى المستعمر لأستخدام كوادره الوسيطة التي دربها لإدارة الحكم وربطه بها فإن ذلك الإحتمال لا يلبث أن ينهار إما مدنياً أو عسكرياً وخاصة تحت ظل تنامي الوعي الجماهيري ورفضه لحركة التبعية. والسودان قد إختار الإستقلال وانضم الى كتلة عدم الإنحياز ورفض الإنصمام الى منظومة دول الكومنويلث مدلاً بذلك على رفضه للتبعية الإستعمارية.
    ومن المهم جداً أن نضع بداية لبروز الدولة والأنظمة المسيطرة على الحكم وذلك لتحديد هوية الصراع والذى بدأ في شكله كحكومة منتخبة تمارس سلطاتها ضد مجموعة متمردة خارجة على القانون وذلك الى ما أصبح يشار اليه بتمرد 1955م مروراً بكل المراحل المختلفة الى أن إنتهى الصراع الى مجموعة صراعات بين السلطة الحاكمة حالياً وبين الفصائل العديدة التي إتحدت في مواجهتها وحملها للسلاح في أكثر من موقع . وقد جاء خطاب النخبة الحاكمة بعد إستيلائها على الحكم في أربعة محاور:

    معالجة الانفلات الأمني.
    السياسة الخارجية وتحسين علاقات الجوار
    حل المشكلة الإقتصادية
    حل مشكلة الجنوب

    وكان لا بد للنظام في تصديه لتلك المحاور أن يذكر أنه يحتاج الى استراتيجية أمنية تمكنه من بسط سيطرته على الأمور حتى ينفذ البرنامج الذي خرج من أجله. وإنه يدخل مرحلة صراع تحديث القيم أو الرجوع الى الأصول.
    وأول مظاهر الصراع أخذت تتبلور عندما طرحت السلطة الحاكمة مفهومها لنظام الحكم الذي لخصته في مشروعها الحضاري والذي يكون رابطة عقائدية تنظيرية تفسر حركة المجتمع تاريخياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً ومن ثم اعادة صياغة الإتسان السوداني ومن بعده المجتمع. فاختفت ملامح الدولة المدنية لتحل محلها دولة ثيوقراطية. وقد وجدت تلك المرجعية التاريخية التي ينطلق منها الفكر المهيمن في السودان نفسها في خصام مع الأيدولوجيات المعاصرة طارحة وجودها أو وجود الآخرين .. في حين فشلت أن تقدم تفسيراً موضوعياً لمشروعها خارج إطار العنف والمصادمة والتشنج الأنفعالي ومصادرة حق الآخرين في الإختلاف.. مما لفت إنتباه قوى خارج حلبة الصراع المحلي فأخذت تعطي المعارضة أذناً صاغية تحت ظل نظام عالمي جديد. ولا يظن أحد أن الخطاب الإعلامي للسلطة الحاكمة ومن منطلقات عقائدية عندما يصرح بأعلى صوته بأننا سنضرب المصالح الأمريكية أن الحكومة الأمريكية لن تأخذ ذلك مأخذ الجد. فربما تعي الأدارة الأمريكية أن قدرة السودان على ضرب مصالحها محدودة ولكن إطلاق تلك الصيحة ربما كان حافزاً للمنظمات المتعاطفة مع السلطة الحاكمة والموجودة في المنطقة لتقوم بهذا العمل نيابة عنها. وهذا بالضبط ما أدخل عنصراً جديداً في الصراع وجد فرصته ليقول أنه ليس ضد الإسلام بل إنه يحترمه ولكنه ضد ذلك السلوك الذي يلبس عباءة الإسلام ومن ثم أطلق عليه مصطلح (الأسلام السياسي) وهذا سهل مهمة من يقفون جهرة ضد النظام لألتقاط القفاز طالما أن هناك فصلاً كبيراً بين الإسلام كنظام مؤسسي قائم بذاته ينال كل الإحترام والتقديس وبين سلوك سياسي يلبس عباءة الإسلام. ولذلك فإن دخول أمريكا كشريك حقيقي وقوة ضاغطة في كل المفاوضات داعمة قوى المعارضة جنوبية ، تجمعية، دارفورية ..الخ يخدم مصالح أمريكا.

    على جوهر هذه الحقائق كان الصراع يدور في قضية الجنوب طارحاً جملة من القضايا:

    فصل الدين عن الدولة
    حقوق الإنسان
    التعددية
    حق الإختلاف العلني
    تقسيم الثروة
    المناطق المهمشة وقضاياها

    وهذا يعني تطور الصراع في منظوره التاريخي من دولة ضد متمردين الى دولة عليها أن تواجه قضايا عديدة وتحارب في جبهات متعددة.
    وعندما طرح الدكتور جون قرنق في مباحثات أبوجا الأولى وأبوجا الثانية الكونفدرالية كحل مقبول لديه كنت أرى أن ذلك أحسن حل يقدم للحكومة. في ذلك الزمان لم تكن مشكلة دارفور قد أطلت ولا جبال النوبة ولا الأنقسنا ولا الشرق ظهرت بمثل هذه الحدة ولذلك كتبت مقالاً في جريدة الخرطوم عنوانه (ياهو دي الأولى وياهو دي الثانية) أنبه فيه الى خطورة تجاهل ذلك الإقتراح.
    لقد إنعكس ذلك الصراع في شكل أزمة سياسية وإجتماعية عميقة لم ينتبه الناس فيها الى قضية الفقر والتي تواجه المجتمع التنموي الحالي بجميع إخفاقاته بحسبانها من أكثر القضايا البيئية الحاحاً. فلم تتحدد استراتيجية للإقلال من الفقر أو حد تفاقمه وكيف يمكن خلق نمو عريض القاعدة يولد للفقراء فرصا لكسب الدخل .. وهل يتمكن الفقراء من استغلال تلك الفرص وذلك بتحسين إمكاناتهم في الحصول على التعليم والرعاية الصحية والخدمات الإجتماعية الأخرى.
    إن الإستنزاف اليومي الذي يحدث للموارد المادية والبشرية على قلتها من جراء الحرب أدى الى نزوح الملايين من المجموعات البشرية من مواطنها الأصلية وقذف بها الى تجمعات بائسة فقدت قدراتها الإنتاجية وتحولت الى أفواه جائعة تحصل على الطعام من المنظمات الدولية أو تكدست في المدن في شكل عطالة مسلوبة العمل والإرادة وما يترتب على ذلك من أورام إجتماعية تصعب معالجتها.
    إن اجتثاث البشر من مواطنهم ودفعهم في حركة نزوح هائلة يلقي بتبعاته على النظم البيئية بكل مكوناتها. فإزالة الأشجار لتحل محلها تجمعات سكنية والتنافس على الموارد الطبيعية الشحيحة وإزالة الغطاء النباتي وخلق أوضاع صحية متردية نتيجة لإنعدام الماء النظيف والعيش وسط أكوام النفايات كل ذلك يؤدي الىتصدع النظم البيئية وخلق ظروف مأسوية يصعب التغلب عليها.
    وكان هذا كافياً. فالجميع التقطوا قفاز التهميش وتسربلوا به فمن داخل عباءة التهميش ظهرت مشكلة دارفور ومشكلة الشرق ومشكلة الشمال بتعقيدات تفرض إعادة الحسابات والكف عن عد المغانم. إن تقسيم الثروة والسلطة على النحو الذي جاء في وثائق نيفاشا لا يمكن تعميمه على جميع أقاليم السودان لأنه لا السلطة ولا الثروة تكفي مطالب الجميع وأبسط مثال هو رفض عبدالواحد في حركة العدل والمساواة ومن معه التوقيع على ميثاق أبوجا. لأنه وفقاً لحساباته لا يفي بتطلعات أبناء دارفور.

    والحال هكذا
    ـــــ
    كل الدلائل تشير إلى أن الوحدة بحرب لم تعد خيار أحد. وأن الشك وعدم الثقة والإتهامات التي توجه يوماً بعد يوم ومشاكسات مشاكوس لن تمهد الطريق لوحدة جاذبة لجميع الأطراف.
    كما أن كل الدلائل تشير الى أن دخول دارفور والشرق والشمال كعناصر صراع متجددة جعلت آليات الإنفصال بسلام مستحيلة. ولو تحقق الإنفصال فإنه سيتحقق وهو يجر خلفه أحقاداً وضغائن تولد وضعاً شبيهاً بالوضع بين أريتريا وأثيوبيا. فالحرب بين الدولتين المذكورتين لازالت قائمة ولم يحل مشاكلها الإنفصال الذي تم والإستقلال الذي نالته ارتريا. فماذا إذن؟
    لقد طرح الجنوبيون الفدريشن كحل يلبي مطالبهم في بداية الإستقلال وقبلت به كل القوى السياسية الموقعة على وثيقة الإٌستقلال وضمنته في ذلك القرار التاريخي (وسوف تعطى مطالب الأعضاء الجنوبيين الإعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية). ولو التزم صناع الإستقلال بذلك القرار فربما أغنانا عن كل تلك الحروب التي خضناها وربما تحققت وحدة حقيقية راسخة الآن بين الشمال والجنوب ولكن صناع الإستقلال رفضوا الإلتزام بمبدأ الفدريشن وجاءت حكومة نميري وقبلت به في اتفاقية أديس أبابا بثمن باهظ ثم عادت وخرجت عليه بثمن أبهظ . وجاءت حكومة الديموقراطية الثالثة وحاول رئيس وزرائها السيد الصادق المهدي أن يلتف على إتفاقية المرغني وقرنق (بتحفظاتها وبملاحظاتها) وبشئ من التلاعب باللغة الديماجوجية Semantics فغرقت مركب الحكم وجاءت حكومة الإنقاذ وحاولت حل المسألة عسكرياً وجهادياً بعد أن رفضت مقترح قرنق الكونفدرالي في أبوجا الأولى والثانية ولكنها عادت أخيراً لتقبل صيغة أبهظ ثمناً من الكونفدرالية مما أغرى بقية المناطق المهمشة في المطالبة بالمثل. وأرهق ذلك الحكومة بمفاوضات مضنية مما جعل قاطرة التفاوض تفقد كثيراً من بخارها Ran out of Steam.


    فماذا إذن؟
    الخروج من عنق الزجاجة:
    ــــــــــــــ
    في نظري يتم عن طريق الإرتهان لوضع مماثل للوضع في الأمارات العربية المتحدة. فهذا هو الوضع الذي يضع مصلحة السودان فوق كل اعتبار لأنه يتيح للتكوينات الإقليمية أن تحقق تطلعاتها في حكم ذاتي فاعل: Viable Regional Autonomy فيمكن تقسيم السودان الى الجنوب ودارفور وكردفان والشرق والشمال والوسط والخرطوم وأن يتمتع كل إقليم بحكم ذاتي وأن يمثل بممثلين في أجهزة الدولة العليا كنواب لرئيس جمهورية منتخب وأن يوضع دستور يرضي تطلعات الجميع ويمكن لرئيس الجمهورية أن يختار نائباً من هؤلاء ويعينه رئيساً للوزراء. وفي ماليزيا خير مثال لتعايش مثمر. فهناك مجلس دولة يتكون من ملك يتم اختياره من بين عدد من السلاطين ويحكم لمدة خمس سنوات في تداول بناء للسلطة. هذا إذا علمنا أن ماليزيا نالت استقلالها بعد عام من استقلال السودان أي عام 1957.

    ومشكلتنا ومشكلة العالم العربي أننا نرفضها (مملحة) ثم ننادي بقبولها – بعد حين- (قروض). وذلك لأننا نشأنا في ثقافة تحاول أن تحقق المستحيل بفن المستحيل في حين أن صلح الحديبية حقق المستحيل بفن الممكن.

    (عدل بواسطة بكرى ابوبكر on 06-05-2006, 05:34 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ أ.د.محمد عبدالله الريح 06-04-06, 04:08 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ مهيرة06-04-06, 06:04 AM
    Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ Zoal Wahid06-04-06, 06:37 AM
    Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ Abureesh06-04-06, 07:13 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ omer abdelsalam06-04-06, 07:23 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ willeim andrea06-04-06, 07:36 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ Adrob abubakr06-04-06, 08:56 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ banadieha06-04-06, 09:15 AM
    Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ hamid brgo06-04-06, 12:31 PM
      Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ Noon306-05-06, 01:41 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ maia06-05-06, 02:03 AM
  Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ Hisham Amin06-05-06, 04:18 AM
    Re: الخروج من عنق الزجاجة... كيف؟ Hisham Amin06-05-06, 05:17 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de