|
أجمل ما كتب من الأدب منذ بداية الخلق وحتى الآن ..
|
شفق المغيب ليس دماً ولكنه حناء في قدم المرأة ، والنسيم الذي يلاحقنا من وادي النيل يحمل عطراً لن ينضب في خيالي ما دمت حيا . وكما تحط قافلة رحالها حططنا رحلنا. بقي من الطريق أقله . طعمنا وشربنا . صلى أناس صلاة العشاء ، والسواق ومساعدوه أخرجوا من أضابير السيارة قناني الخمر ، وأنا استلقيت على الرمل وأشعلت سيجارة وتهت في روعة السماء . والسيارة أيضاً سقيت الماء والبنزين والزيت ، وهي الآن ساكنة راضية كمهرة في مراحها . انتهت الحرب بالنصر لنا جميعاً ، الحجارة والأشجار والحيوانات والحديد ، وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة الرحيمة أحس أننا جميعاً أخوة . الذي يسكر والذي يصلي والذي يسرق والذي يزني والذي يقاتل والذي يقتل . الينبوع نفسه . ولا أحد يعلم ماذا يدور في خلد الاله . لعله لا يبالي . لعله ليس غاضباً . في ليلة مثل هذه تحس انك تستطيع أن ترقي إلى السماء على سلم من الحبال . هذه أرض الشعر والممكن والمستحيل . سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لا رادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة . السواق الذي كان صامتا طول اليوم ها قد ارتفعت عقيرته بالغناء . صوت عذب سلسبيل لا تحسب انه صوته . يغني لسيارته كما كان الشعراء في الزمن القديم يغنون لجمالهم :
دركسونك مخرطة و قايم على بولاد وغير ست النفور الليلة ما في رقاد وارتفعت صوت آخر يجاوبه : تأوين السفر من دار كول والكمبو هوزز راسه فرحان بالسفر يقنبه أب دومات غرفن عرقه اتنادن به ضرب الفجة وأصبح ناره تاكل الجنبه ثم نبع صوت ثالث يجاوب الصوتين: واوحيحي ووا وجع قلبي من صيدة القنص الفترت كلبي القاري العلم من دينه بتسلبي والماشي الحجاز من جده بتقلبي
نحن هكذا وكل سيارة تمر بنا طالعة أو نازلة ، تقف ، حتى اجتمعت قافلة عظيمة ، أكثر من مائة رجل طعموا وشربوا وصلوا وسكروا . ثم تحلقنا حلقة كبيرة ، ودخل بعض الفتيان وسط الحلقة ورقصوا كما ترقص البنات وصفقنا وضربنا الأرض بأرجلنا وحمحمنا بحلوقنا ، وأقمنا في قلب الصحراء فرحاً للاشيء . وجاء أحد بمذياعه الترانزستور، وضعناه وسط الدائرة ، وصفقنا ورقصناه على غنائه. وخطرت لأحد فكرة ، فصف السواقون سياراتهم على هيئة دائرة وسلطوا أضوائها على حلقة الرقص ، فاشتعلت شعلة من الضوء لا أحسب تلك البقعة رأت مثلها من قبل . وزغرد الرجال كما تزغرد النساء وانطلقت أبواق السيارات جميعاً في آن واحد . وجذب الضوء والضجة البدو من شعاب الوديان وسفوح التلال المجاورة ، رجال ونساء ، قوم لا تراهم بالنهار كأنهم يذوبون تحت ضوء الشمس . اجتمع خلق عظيم ودخلت الحلقة نساء حقيقيات ، لو رأيتهن نهاراً لما أعرتهن نظرة ، ولكنهن جميلات في هذا الزمان والمكان . وجاء اعرابي بخروف وكأه وذبحه وشوي لحمه على ناء أوقدها . وأخرج أحد المسافرين من السيارة صندوقين من البيرة وزعهما وهو يهتف : " في صحة السودان . في صحة السودان " . ودارت صناديق السجائر وعلب الحلوى ، وغنت الاعرابيات ورقصن ، وردد الليل والصحراء أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجن . عرس بلا معنى ، مجرد عمل يائس نبع ارتجالا ً كالأعاصير الصغيرة التي تنبع في الصحراء ثم تموت . وعند الفجر تفرقنا . عاد الاعراب أدراجهم إلى شعاب الأدوية . تصايح الناس : " مع السلامة . مع السلامة " . وركضوا كل إلى سيارته .أزت المحركات ، وتحولت الأضواء من المكان الذي كان قبل لحظات مسرح أنس ، فعاد إلى سابق عهده ، جزء من الصحراء. واتجهت أضواء السيارات ، بعضها نحو الجنوب صوب النيل ، بعضها نحو الشمال صوب النيل . وثار الغبار واختفي ثم ثار واختفى . وأدركنا الشمس على قمم جبال كررى أعلى أم درمان .
"مقطع من رواية موسم الهجرة إلى الشمال .. الطيب صالح "
|
|
|
|
|
|
|
|
|