كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-30-2024, 01:30 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-04-2005, 08:15 AM

عبد الله إبراهيم الطاهر
<aعبد الله إبراهيم الطاهر
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 616

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ... (Re: عبد الله إبراهيم الطاهر)

    ( الجزء 2 )
    ثانيا: تعطيل عمل العقل خوفا على عمل الوحي وكأنها خصما لدودان، كما يعتقد البعض أن عقولنا أصغر وأعجز من القدرة على التعامل مع نصوص القرآن والسنة مباشرة ، فهي أعلى وأسمى وأكبر من قدرة عقولنا ، أي لابد من وسيط بيننا وبينها ، وهنا يبرز دور إغلاق باب الاجتهاد ، فنحن حسب هذا التصور لسنا أهلا للاجتهاد ، وبالتالي وقفنا بمعنى الاجتهاد عند استنباط أحكام من نص عام باستعمال أدوات الاجتهاد ، مثل تحديد العلة والقياس ، ومثل تحديد دلالات الألفاظ من خاص وعام ومطلق ومفيد وناسخ ومنسوخ ، والجمع بين الأدلة ، وإزالة ما يمكن أن يكون بينها من التعاون الظاهر.
    لقد وقفنا عند الاجتهاد بهذا المعنى دون النظر كلية في الأدلة الشرعية الواضحة والجلية القاطعة الدلالة ؛ أي وضعنا حاجزا بيننا وبين نصوص الكتاب والسنة.
    ثالثا : شيوع أنواع عديدة من مخدرات العقول مثل :
    ـ حشو الذهن بحفظ المتون والشروح واستيعاب الهوامش .
    ـ الضغط على حرية الآخرين (سياسة واجتماعية واقتصادية) بإعطاء الذات حق الوصاية على الجميع ، فضلا عن الإرهاب الفكري من أفراد ومؤسسات تحمل لافتة دينية.
    ـ الحرمان من الغذاء الفكري الصحي ، وتقديم غذاء ضعيف أو فاسد لا يحوي المواد اللازمة لنمو العقل.
    ـ حفظ العلم للامتحان بدلا من فهم العلم للحياة.
    ـ التلقين بدلا من الفهم والاستيعاب .
    ـ الاكتفاء بالكتاب والدراسي بدلا من النظرة للمراجع المختلفة وجمع المادة الممتازة.
    ـ الهيام بالتحليق في النظيرات ، بدلا من الاهتمام بفهم الواقع والسعي لتتغير .
    ـ شيوع سياسة ردود الفعل ، وما تضمن من سوء في التفكير أو في المواقف .
    ومعنى رد الفعل : أن يلابس تفكيرك قدر من الانفعال ـ قليل أو كثير ـ يؤدي إلى ظهور طبقة ضباب رقيقة أو كثيفة على القدرة العقلية ، مما يحجب الرؤية الواضحة ، ويعطل النظرة الشاملة والعميقة لجميع جوانب الموضوع ، فيكون الإسراف في تقدير جانب ما ، مما يجعل النتيجة أو القرار أو الموقف يحمل شططا .
    ومن المؤكد أنه يكون مبررا تبريرا كافيا ، لأن العقل المغشي بالضباب سوف يسعف القرار بكل التبريرات الممكنة ، حتى يسند الانفعال كخادم أمين ، فيظل مستورا غير واضح ..
    ـ ومن المخدرات أيضا ترسب بعض سلبيات التصوف ، ومنها تثبيت الإلحاح على العبادات (الشعائر) والإلحاح على الزهد في الدنيا بدون موازنة ، حتى بدت كأنها تعبير عن : الدين يقابل الدنيا ، والدين ضد الدنيا من يعمل للدين لا يعمل للدنيا ، ومن يعمل للدنيا لا يعمل للدين.
    وهنا نشير إلى أن الفكر المسيحي قريب م الفكر الصوفي أو الفكر الصوفي هو القريب من الفكر المسيحي فالكنيسة حملت لواء الدين، وهي ضد النشاط الدنيوي ، لأنه ـ في رؤيتها ـ صارف عن ملكوت الله "فبع ما لديك وأعط ثمنه للفقراء ثم ابتعني".
    ومن هنا ظهر أيضا الدين مقابل الدنيا ، وهذا أمر ديني وذاك أمر دنيوي ، والحقيقة أن الدنيا ه مزرعة الآخرة ، بل إن ثواب الدنيا أحيانا يكون مكملا لثواب الآخرة ؛ أي أن الثوابين ليسا متضادين إما هذا و إما ذاك.
    وانظر أدلة كثيرة تعبر عن هذا المعنى ، منها قوله تعالى : " فآتهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة".(سورة آل عمران 14
    وكما يقول سيد قطب " لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية ، وعن طريق العبقرية الأوربية في الإبداع المادي ، وتزويد البشرية بقيم جديدة جدة كاملة بالقياس إلى ما عرفته البشرية ، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته ، والإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج ، لقد أدت النهضة العلمية دورها.. هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي ، ووصلت إلى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، ولم تعد تملك رصيدا جديدا ؛ جاء دور الإسلام الذي لا يتنكر للإبداع المادي في الأرض ، لأنه يعده وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عهد إليه بالخلاف في الأرض ، ويعتبره ـ تحت شروط خاصة ـ عبادة لله وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني .
    و جاء دور الأمة المسلمة لتحقيق ما أراده الله للعباد بإخراجهم للناس: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"(سورة آل عمران : 11.).
    ـ وثمة ـ إضافة إلى ما سبق ـ مخدرات روحية سامة من شأن تعاطيها فقدان الإنسان لحريته ، وتقع مخدرات الدعاية الأيديولوجية في المقام الأول من بين كل مخدرات القرن العشرين.
    ويوجه أندريه مارسيد(سويسرا) نقدا إلى عبارة ماركس "الدين أفيون الشعوب" ويرى أن أفيون الشعوب هو الدين المذنب وليس الدين الحقيقي، والدين الذنب هو الدين المشبع بالخرافة ، والخرافة بالنسبة إلى الدين مثل الأيديولوجية بالنسبة إلى الفلسفة ، والقيادات الشريرة تروج للخرافة في مجال الدين وللأيديولوجية في مجال الفلسفة .
    ولهذا فالأيديولوجية مخدر ، ومع ذلك فالجماهير تعشقها ، وهي في هذا العشق تفقد الحرية ، بل تفقد المحبة ، والأيديولوجية الكامنة في الفلسفة الماركسية هي من هذا القبيل ، وقد أعدم سقراط سنة 399 ق.م بدعوى أنه يفسد الشباب وينكر الآلهة(انظر نفس التهمة التي وجهت إلى رسول الله صلى الله علية وسلم في مكة ـ مع الفارق الكبير طبعا) وقد كانت هذه الدعوى هي السبب الظاهر للإعدام أما السبب الحقيقي فقد كان يدور على محاولة سقراط إزالة القناع عن جذور الأوهام الهائمة حول معتقدات زائفة ، ممهدا بذلك إلى نمو الإنسان نموا كاملا.
    رابعا : ومن عيوب التفكير التي تبدو كظواهر في تفكيرنا المعاصر ـ أيضا ـ النظرة الناقصة إلى الأمور ، ومن صورها ما يلي :
    ـ النظر الأحادية الجانب : وكأن كل القضايا والظواهر سطحية ليس لها غير جانب واحد ، بينما تكاد تكون جميع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية و السياسية تتفاعل في تكوينها عناصر عديدة..
    ـ النظرة السطحية الساذجة : تكتفي وتقف عند ما يظهر على السطح دون غوص في الأعماق ، والأعماق قد تكون ممتدة في التاريخ (في الزمان) أو ممتدة في الواقع (في المكان)
    ـ الجهل العام (شبه الأمية) والجهل المركب (نصف العلم) فهناك قراءات مشوشة قاصرة مبتسرة ، تحسب نفسها امتلكت ناصية العلم ، واكتشفت كل المخبأ والمستور ، فتجابه في صلف وغرور الأمور البديهيات التي لا تحتاج إلى دراسات ومماطلات وقعرات..
    ـ فهم الحياة على أنها فقط أبيض وأسود : لا وجود لألوان أخرى ، فقط هناك حق واحد أبيض ، وكل ما عداه أسود ذو مضمون واحد وذو صورة واحدة أيضا ، ولا يمكن أن تختلف الصور مع وحدة المضمون.
    وكما يسرف الشيوعيون أحيانا فيضخمون الجانب الاقتصادي ، وكأن العامل الوحيد في حياة الإنسان يسرف المتدينون فيضخمون شيئا من الدين (مثل خلق معين أو أدب معين أو أمر معين) فيبدو كأنه هو كل الدين ، مثل علم المرأة المهني ، فتبدو المشكلة الأولى والأخيرة عندهم هي الاختلاط بالرجال ، لذا لا يرحبون أصلا بالعمل النسائي ، وإذا أحرجوا في مجال التعليم والطب يرحبون بالعمل للمرآة كمدرسة للنساء أو طبيبة لهن .
    ـ الالتزام بما لا يلزم (من تراث القرن).
    ـ الإهدار لما يجب (من مقاصد الشريعة).
    ـ عدم وضوح وتحديد المصطلحات.
    ـ عدم التمييز بين أصول الدين وفروعه (الكليات والجزئيات).
    ـ عدم التمييز بين الفرائض وبين السنن والمندوبات.
    ـ عدم التمييز بين أحكام الدين الأصلية وبين اجتهاد الفقهاء.
    ـ عدم التمييز بين قضايا الإجماع (أي المجمع عليه) وبين القضايا الخلافية.
    ـ الخلط بين المفاهيم.
    ـ الخلط بين شمول الدين في توجيه جميع جوانب الحياة ، وبين كون الدين هو المؤثر الوحيد أو العنصر الوحيد في اية ظاهرة.
    خامسا : ومن تجليات أزمة العقل المسلم المعاصر أن نصوص السنة غائبة في بطون الكتب ، وبحاجة إلى تصنيف جديد تيسيرا على أهل الاختصاص ( حيث لابد من الاختصاص) فالعام مثل الطبيب العام ، والطبيب العام مهما بلغ لا يحسن إجراء جراحة دقيقة أو يعالج مرضا دقيقا.
    وهذا يدخلنا في أزمة أخرى ، وهي أزمة غياب روح الشريعة (الفقه العام للشريعة ) وغياب الفقه العام لعلوم العصر وواقعه.
    سادسا : اختلال العلاقة بين الإخلاص والصواب : ليس في الإسلام فصام بين إخلاص العمل لله تعالى وبين صواب هذا العمل وموافقته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبل العمل بغير ذلك ، وهذا الأمر له صلة بخطورة الانحراف الفكري مع الإخلاص غير المبصر ، فهو أخطر من المعصية العملية الصريحة…
    الإخلاص بغير بصيرة فرع من المزج الصوفي الذي لا يتحرى أحكام الشريعة ، وتستهويه الوجدانيات أو الأذواق والمواجيد.
    وهذا الإخلاص يجعلنا نغفل عن تحري الصواب ، سواء تحريه في أفعالنا نحن أو أفعال الغير.
    ويقابل هذا النوع المطلق من الإخلاص : الرفض المطلق لمن يظن فيه عدم الإخلاص ، فيكون موقفنا رفضا لكل الأفعال والأعمال ، ولو كانت صوابا.
    سابعا : التشدد في تحديد اختيارات الدين ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، منذ بني إسرائيل ويوم البقرة شددوا فشدد الله عليهم.
    وهناك أحاديث كثيرة تؤيد هذا ، منها : " وما سكت عنه فهو عفو" وحين لم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس في صلاة القيام قال لهم : " خشيت أن تفرض عليكم .رواه البخاري ومسلم).
    كما أن الدين يحكم الحياة بمكارم الأخلاق : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " (رواه أحمد في مسنده) وليس بالأحكام وحدها.
    فالأحكام حكمتها ظروف الزمان والمكن ن أما ما كان خلقيا صرفا فلا يتغير بتغير الزمان والمكان . مثل تحريم الخمر والميسر والميتة والزنا والسرقة.
    ثامنا : الفصل بين سلامة الاعتقاد ولذة الاعتقاد ؛ أي الفصل بين الجانب الفكري والجانب والوجداني.
    وسلامة الفكرة العقائدية لا تغني شيئا عن عمق الإحساس بمعاني العقيدة واستشعار حلاوتها ، وهو أمر يفتقده قساة القلوب ، سواء فهموا المعنى النظري للعقيدة أم لم يفهموه ، وقد أشار التي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حلاوة الإيمان في أكثر من موضوع من سنته الشريفة ، ون ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام يدنا وبمحمد نبيا ورسولا" (رواه مسلم).
    تاسعا : ومن عوامل تغييب العقل المسلم المعاصر ـ كذلك ـ الإسراف بكل صورة .
    ـ الإسراف في التقدير ويؤدي إلى التقديس في غير موضعه.
    ـ الإسراف في جانب الوجدان ، قد يؤدي إلى خيالات وأحلام غير محكومة يعقل ولا شرع.
    ـ الإسراف في الطاعة ، ويؤدي إلى الخضوع غير العاقل.
    ـ الإسراف في الاحتياط ، ويؤدي إلى تعطيل النشاط والحركة.
    ـ الإسراف في العبادة ن ويؤدي إلى اعتزال الحياة.
    لقد افتقد التوازن بين القيم : فهناك ثنائيات من القيم وقع لدينا خلل فيها ، بحيث افتقد تفكيرنا المعاصر توازنه بسبب هذا الخلل ، ومن ذلك الخلل : افتقاد التوازن : بين التوكل والدعاء وبين الاجتهاد والسعي ، بين الإيمان بالقدر وبين إدراك المسئولية.
    عاشرا : السلبية من الفكر الإنساني :
    من عيوب فكرنا المعاصر سلبيتنا تجاه الفكر الإنساني ـ وسيأتي مزيد تفصيل عليها ـ ومن صور هذه السلبية تصور الفساد الشامل في نظرية ما نتيجة بعض أخطاء فيها ، ثم الرفض الكامل لهذه النظرية.
    والإيجابية تقتضي :
    1 ـ الدراسة الكاملة لتلك النظرية وتبين نقاط الصواب ونقاط الخطأ فيها أو نقاط القوة ونقاط الضعف.
    2 ـ تقديم نظرية علمية محكمة بديلة عن تلك النظرية الخاطئة ، حيث النتائج الخاطئة لبحث علمي (طبعا نتيجة خطأ ما في البحث أو ضعف في البحث) لا تدحضها إلا نتائج صادقة لبحث علمي آخر.
    أما الرد على الأبحاث بمجرد ألفاظ الاستهانة أو التهوين منها أو الشتائم والتنديد فكل ذلك لا ينال من سطوة تلك الأبحاث عند كثيرين ممن درسوها وتتلمذوا عليها.
    بين أزمة العقل وأزمة الخلاق :
    ولا تقف مظاهر أزمة العقل السلم المعاصر عند ما سبق إذ إن معظم أزمات الأخلاق مرجعها ـ في رأيي ـ ليس إلى ضعف الهمة والميل مع الهوى ، وإنما مرجعها إلى الفهم الخاطئ ، أي الخلل العقلي والفكري.
    وفي المقابل نجد أزمة أخلاقية أخرى ، سببها الثقة في أن العقل وحده قادر على أن يقرر ما يشاء في أي مجال من مجالات الحياة ، وهذا الاتجاه هو ردة فعل تاريخية عنيفة لمحاولة الاتجاه الديني والوسيط في أوربا حرمان العقل من لك شيء.
    ولن يفيد هذا التفكير الذي يعطي ولاءه كله للعقل وحده ، وسيفشل مثله مثل اتجاه الفكر الديني التقليدي الوارث لعصور الانحطاط الطويلة ، والذي يرى أن الدين جاء بكل شيء بتفاصيله الدقيقة ، كبيرا كان أو صغيرا ، وزاد السلف الأمر شروحا وحواشي حتى لم يبق مجال لمستزيد ، وليس من عمل لعقولنا سوى الغوص في ثنايا الورق الأصفر لنستخرج الدرر!
    ومن هنا كان منطقيا أن يسود في الاتجاه التقليدي الشعور بعدم الحاجة إلى الأخذ من الحضارة الغربية أو من غيرها فهو في حالة اكتفاء كامل ن بل إنه يرى أن العالم كله هو الذي ينبغي أن يأخذ منا ، حيث إن عندنا الكمال كل الكمال في كل شيء ، وأكثر من ذلك فإن كل تقدم في عالم اليوم يرجع إلى جهود أجدادنا فحسب!!
    الآثار الناجمة عن تعطيل العقل :
    إن هناك آثار سيئة شتى نتجت عن تعطيل العقل في عالمنا الإسلامي ، ومن ذلك :
    أننا بتعطيل العقل انحرفت بنا الأهواء بعيدا عن عقيدة سلق هذه الأمة فنشأت مدارس الكلام.
    ـ كما انحرفت بنا الأهواء عن العبادة الصحيحة ، فحدثت مدارس التصوف .
    ـ وانحرفت بنا الأهواء عن الأخلاق الصحيحة ، ورسخت بدلا منها التقاليد والممارسات المنحرفة ، يغذي تلك التقاليد فقه قاصر جامد مختل وتصوف منحرف.
    ـ وانحرفت بنا الأهواء عن الفقه الصحيح ، وحدث الجمود والانحراف الفقهي.
    حيرة العقل المسلم المعاصر بين القديم والجديد
    إن العقل المسلم المعاصر قد ضاع بين القديم الموروث والغريب المجلوب ، فلا حقق من هذا ولا من ذاك القدر المناسب الذي يضمن له سلامة السير ، وكان النقص في إطلاعه على التراث لا يعادله إلا النقص في اطلاعه على الفكر الحديث...
    وأثمر هذا النقص عجز العقل عن صهر ما تلقاه من القديم والحديث ، وحين لم يتم الصهر كان الإخفاق في مجال الإبداع ، لأن الصهر الثقافي الحضاري (الذي يحفظ التميز لأصحابه ولا يمسخ الهوية) هو الخطوة الأولى الممهدة للإبداع الأصيل.
    إن هناك أهمية كبرى لعملية الصهر هذه عند الاستيعاب ، فهي تعبير عن أصالة الفطرة التي تتماشى مع نفسها ولا يتصادم إنتاجها هنا مع إنتاجها هناك .
    وهنا نقول : إن القرآن يطرح "الحكمة" كمنهج لاقتناص ما يصلح ، فيورد لفظه "الحكمة" وكأنها المنهج الذي يمكن أن نتعامل به مع الكتاب "القرآن" والحكمة نفسها هي السنة التي يمكن أن نستنبط منهجها في التعامل مع القرآن ونستعملها ، مع اعتبار أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان نبيا ، فلقوله من العصمة ما ليس لأقوال غيره من العلماء.
    يقول تعالى {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} سورة النساء 113 .
    قال قتادة عن الحكمة : هي القرآن والسنة.
    والسنة تعني الفهم العميق للقرآن والتطبيق الحكيم لتعاليمه والإدراك الشامل لمقاصده.
    وقال مالك بن أنس : الحكمة طاعة الله والفقه في دين الله.
    وكان لابد أن نعتبر أن الحكمة هنا تعني أمرا آخر غير الكتاب وهو القرآن.
    وإذا أجملنا القول في معنى الحكمة ، فهي حسن التصرف لا في المواقف اليومية ومع الناس فحسب ، ولكن أيضا مع العلم والفكر ، وطبعا حسن التصرف يسبقه حسن إدراك.
    إذن الحكمة هي القوة الماركسية ، هي العقل ، إذن لا يستقيم فهم الكتاب بدون أن يكون معه الحكمة ، أي العقل.
    وكذلك لا تستقيم الحكمة بدون معيار أو دون منار تهتدي به ، حتى تكون الحكمة قائمة على أساس راسخ متين ثابت ، وإلا اعتبر كل إنسان تصرفه حكمة أو مطابقا للحكمة .
    إنها محاولة لكي ندرك الحكمة البشرية الهدي الإلهي ، وهو أساس كلي جامع أبدى ، وهو نابع من الحكمة الكلية الصادرة عن الحكيم ، بينما العقل مهتديا بالهدى الإلهي الأول تصدر عنه الحكمة الجزئية الآتية.
    وأظن أن حيرة العقل المسلم المعاصر بين القديم والجديد تحتاج إلى هذه الحكمة في الأخذ والرد.
    ومن القواعد الفكرية الأصيلة في التراث الإسلامي : جرح الرواة وتعديلهم ، وهو مبدأ مطبق عند كل الأمم للشهود أمام المحاكم ، وذلك أن تعديل الشهود يضمن القبول لشهادتهم ولروايتهم.
    فكيف تطبق مبدأ الجرح والتعديل على أصحاب نظريات وأفكار تطرح أمامنا ؟ ربما يكون ذلك بأن تطرح كاملة وبكل دقائقها أمام عقولنا في مجالها النظري ، وفي محك التجريب في مجالها التطبيقي،
    إن أجدادنا كانوا في غاية التقى والصلاح والإخلاص وفي غاية الذكاء وفي غاية المجد والتحصيل ، حين طبقوا قواعد الجرح والتعديل على الرواة ، وكذلك سائر القواعد المنهجية العظيمة ، ولا ننسى شهادة المعاصرين لهم من ناحية ، ثم شهادة القرون المتطاولة (شهادة المعاصرين أكثر صدقا في الحقيقة لأنها من الآخر ، وإذا تحريناها سنجد أنها معتدلة غير مسرفة) ولابد في هذه الحال من الاستفادة بهذه القاعدة الجليلة في قبول ما نقبله من التراث وما يأتينا من غيرنا ، وكذلك في رد ماترده.
    والقاعدة التي نتحرك عليها في هذا المضمار ( مضمار القديم والجديد) هي أن الانحصار في نطاق علوم الدين يشبه استغراق الصوفي في العبادة ، العبادة عمل صالح وضروري وعلوم الدين أمر صالح وضروري ، ولكن كما ينعزل الصوفي عن الحياة والناس ويكاد يعيش في صومعته ، كذلك المحصور في نطاق علوم الدين أو المنصرف إليها وحدها يعزل نفسه عن علوم الحياة والناس ، وبذلك ينعزل فكريا عن الحياة والناس.
    لا يمكن أن تعتمد مسيرتنا على تعلم علوم الدين وحدها ، بل لابد من أ، تتحرك هذه المسيرة على ساقين ، إحداهما علوم الدين ، والأخرى علوم الحياة ، ونحن في عصور الازدهار والتحضر لم نكن نعتمد على علوم الدين وحدها .
    ثم إننا حينما نكتفي بتعلم علوم الدين وحدها نكون قد أسأنا فهم الدين نفسه ، فكأنه أنزل طلبا للآخر وحدها ، مع أنه نزل للدنيا والآخرة معا.
    وأرجو أن أجلى المسالة في عدة النقاط التالية :
    1ـ ماذا يعني التراث ؟ نقصد بالتراث هنا ما أنشأه الأسلاف بعقولهم ، أما الهدي الإلهي من قرآن وسنة فهو هادي الأسلاف فيما أنشأوا ، وهو هادينا نحن فيما نرجو أن ننشئ.
    ويلحظ القارئ أننا ـ في اكثر ما نتحدث ـ نقصر حديثنا على مجال واحد من مجالات التراث وهو المجال الديني ، رغم شمول التراث لمجالات عديدة ، مثل اللغة والتاريخ والنظم والفنون وغيرها ، ويرجع ذلك إلى أن مجال تراث الدين كان أشد خضوعا للتقديس ، فإذا استطعنا التحرر من التقديس المفضي إلى الجمود هنا كان التحرر في بقية المجالات أيسر .
    وإذا كنا ندعو إلى نبذ التقديس للتراث ، وإخضاعه للدراسة الناقدة ، فالنقد لن ينصب على علاقة التراث بمشكلات عصره العقلية والخلقية ، إنما ينصب على مدى صلاحيته لموقفنا اليوم الذي قد تغير كثيرا ، فالأمور التي جعلت ذلك الجهد العظيم موضع تقدير الناس وإعجابهم في صلاته بظروفه الاجتماعية والثقافية ، هي نفسها تقريبا الأسس التي ينتج عنها تجرده إلى حد كبير من الصلة بالواقع اليوم، والصلاحية في دنيانا تختلف سماتها اختلافا واضحا عن الدنيا التي ظهر فيها ذلك الجهد العظيم ، ويتجلى هذا الاختلاف سواء في المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية وفي نظم الحكم والعلاقات الدولية ، وعلى ذلك فالدعوة لا يمكن أن تعني الخط من التراث ، بل هي دليل التفاعل ومن ثم الإبداع (أو التفاعل الناقد) وفي نفس الوقتهي دليل على التقدير الواجب للواقع ، وما يمليه من اعتبارات ، وهو نفس التقدير الذي أعطاه السلف لواقعهم ن وقد أبدعوا ما أبدعوا في حدود ذلك .
    إن عبقرية التراث مثل عبقرية الفكر الحديث والعلوم الحديثة ، كل في مجاله عبقري ، ولكن حملي التراث ـ في الأغلب ـ لا يعود ما يحملون ، لم يفهموه بعبقرية والمطلوب منا عبقرية في الفهم كعبقريتهم في الإنشاء .
    2 ـ إن التراث وقع بين قاتلين ثلاثة : مبغض يقتله بحقده عليه ، وجاهل يقتله بمسخه له ، ومستسلم يقتله بقلة فهمه . وحديثنا هنا خاص بالفريق الثالث ، فهو أولى الثلاثة ـ في نظرنا ـ حيث إن دوره في المسخ ساعد على تجهيل الفريق الثاني ، أما الفريق الأول فهو أحد اثنين : إما مبغض نتيجة تصور خاطئ للتراث ، فهذا قد يفيده التصحيح ، وإما مبغض حاقد على العلم وأهله ، فهذا لا نملك معه شيئا.
    والخضوع للتراث درجات بعضها فوق بعض كما يلي :
    الدرجة الأولى : من أتاه الله حظا من الجرأة على البحث والنظر ، فإذا هداه الله لرأي توقف وتخوف ، ولا يطمئن له قلب حتى يعرف أن أحدا ما من السابقين قد قال به أو قريبا منه ، وإلا توقف عن إعلان رايه تماما.
    الدرجة الثانية : من آتاه الله حظا من العلم ن وأطلع على رأي للسلف في قضية كبيرة يخالف رأي الجمهور ن فتوقف وتخوف ، ولم يعلن هذا الرأي للناس، وإنما اكتفى بالإسرار به لخواص منهم ، برغم قناعته بوجاهة الراي وأحقيته بالدراسة والتمحيص ، وذلك لا يقصد مزيد من الدراسة والتمحيص في دائرة ضيقة قبل الإعلان على عامة الناس بل خوفا من أن يرمي بالخروج عن الإجماع .
    الدرجة الثالثة: من يقف عند حدود آراء الأئمة المعتبرين (سواء أصحاب المذاهب الأربعة أم غيرهم) وهو يحسب أنه بلغ أقصى درجات التحرر لعدم وقوفه عند حدود الأئمة الأربعة.
    الدرجة الرابعة: من يقف عند حدود المذاهب الأربعة ، ويظل يبذل أقصى الجهد في المقارنة بينها لاختيار أقواها دليلا.
    الدرجة الخامسة : من يقف عند مذهب بعينة ، لكن يتعرف على جميع الأقوال في إطار المذهب ، ويكتفي بالوقوف عند الرأي المفتي به.
    الدرجة السادسة : من يقف عند الرأي المفتي به في المذهب الذي اختاره.
    الدرجة السابعة : من يقف عند رأي المتأخرين ، بل آخر المتأخرين من علماء المذهب ولا يتعداه مخافة التهلكة ؛ أي أنه يقلد المقلدين ، وهذا هو الدرك الأسفل في التقليد ، ويصدق عليه قوله تعالى : {إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون}"سورة الخروف:23" وهذا خطأ ولو كان المتبع هو الحق الذي أنزله الله تعالى .
    وهذه الدرجات جميعا ، حتى الدرجة العليا منها ، لا يمكن لعقيدة حية أو لشريعة سامية أن تتمشى وتعيش في إطارها ... لا يمكن أن تعيش العصر ، أو تواجهه أو توجهه ، ولا يمكن أن يصدر عن رجال لا يتعدون هذه الدرجات اجتهاد حقيقي ، أو إبداع صادق أصيل.
    والدرجة العليا لو أن صاحبها إذا لم يطمئن أعاد النظر والبحث ، ثم أضاف حوارا جادا مع عالم أو أكثر ممن يثق بهم (وسيأتي للحوار موضع في هذا الكتاب) بغية مزيد من التحقيق ، فإذا اطمأن إلى اجتهاده أعلنه للناس ـ لو أنه فعل ذلك لنجا من أسر التقليد وأفاد الأمة باجتهاده.
    ونتساءل هنا : هل المطلوب هو العودة إلى "رأي السلف" والسلفيين ، أم العودة إلى "منهج السلف" نطبقه ؟ (هذا أسلم ولكنه بحاجة إلى اكتشاف ـ وسيأتي حديث عن هذا المنهج ، أم العودة إلى الهدي الإلهي لنسترشد به هذا هو الأصح ومنهج السلف ورأي السلف أو آراؤهم لابد منها كمعينات في دراسة الهدي الإلهي.
    وإذا كانت السلفية هي المسك بما كان عليه السلف ، ولاشك أن أصلح السلف هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فننظر ماذا كان منهجهم ؟ ومنهجهم عموما هو الاعتماد في كل أمر على هدي الكتاب والسنة ، والاستيثاق من صحة دلالة النص الشرعي.
    أبو موسى الأشعري يطرق باب عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلا يؤذن له فينصرف ، فلما لقيه عمر بن الخطاب سأله ، فذكر له حديث الاستئذان ثلاثا ، فما ترك عمر أبا موسى حتى أتاه بمن يؤيد سماع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حتى تزداد الثقة في الدليل.
    وكان إذا طرقهم أمر جديد تشاوروا وتحاوروا وأعلموا عقولهم ، واجتهدوا رأيهم ، ومضوا على بركة الله ، مثل موضوع جمع القرآن وتقسيم أرض السواد (ريف العراق) بعد الفتح.
    3ـ مع أننا سنأتي بكلام كثير عن التقليد فيما بعد ، لكننا نحب أن نشير في هذا السياق إلى أن المقلدين عطلوا عمل عقولهم ، وداروا في الدائرة التي رسمها السلف ، بل داروا في ساقية السلف ، وعصبوا عيونهم عن رؤية العلوم الحديثة والنظم الحديثة والمؤسسات الحديثة والمشكلات الحديثة، ولو رأوها لتوقفوا وما استطاعوا الدوران في الساقية.
    عصبوا أعينهم عن رؤية الحياة والناس والعصر برمته ، فعاشوا في عصر أسلافهم ، وهيهات أن يتم لهم ذلك ، ولو تم لاستقامت أمورهم بوجه من الوجوه ، ولكنهم في حالة انفصام ، عقولهم فقط هناك في عصور ماضية ، وحياتهم كلها هنا في هذا العصر ؛ لهذا سرعان ما ينكمشون ، يفرون بعيدا عن الناس ويعيشون في عزلتهم بائسين أو حالمين ، يسلون أنفسهم ويواسونها بالوهم الكبير بالفرار الفتن.
    فهل المقلدون مجانين ؟؟ .. هناك شبه بينهما :
    ـ المجانين عقولهم معطلة تماما ، والمقلدون يعطلون عقولهم تعطيلا جزئيا .
    ـ المجانين يعيشون في وهم كامل ، والمقلدون يعيشون في وهم جزئي.
    ـ المجانين يعزلهم الناس كليا ن والمقلدون ينعزلون عن الناس جزئيا.
    إذن المقلدون أشباه مجانين ، ينبغي أن نعطف عليهم ، ونبذل الجهد لعلاجهم ، ومن الخطأ أن نعاملهم كأسوياء ، فنضيع أوقاتنا ونفسد أعمالنا ، وينبغي أيضا أن نحصن الشباب من عدوى التقليد.
    وإذا كان الجنون العادي مرضا غير معد فجنون التقليد خطير العدوى .
    إن المنطلقين من أسر التقاليد هم وحدهم القادرون على النقد العلمي الرصين لتلك النظريات التي تأتينا من هنا وهناك ، وهذا النوع من النقد يؤدي إلى إنماء الفكر الإنساني ، ويقتحم على أصحاب تلك النظريات حصونهم بنفس أسلحتهم ، بل بأسلحة أقوى من أسلحتهم (لا مجرد الرمي بقذائف هشة من النعوت المغلظة ، وفي أحسن الأحوال بقذائف سطحية عابرة).
    ونسأل الواقفين عند حدود التقليد الجامد لمن سبق ، غير مستعدين لأي تجديد : " أتريدون أن يكذب الله ورسوله " !! بالطبع أنتم لا تريدون ، ولكنكم بموقفكم هذا توقعون الإسلام في صدام مع العصر ، وبالتالي سيبدو أمام الناس دينا لغير إنسان هذا العصر ، ذلك أن التقليد الجامد مطالبة صريحة إلى الناس بإلغاء عقولهم والتسليم بمقولات ومفاهيم واجتهادات العلماء والدعاة الذين لم يعيشوا عصرنا وظروفه ومناخه ، وكأن هذا الإلغاء ممكن ، وكأن هذا الإلغاء ممكن ، وكأن هذا التسليم هو أمر الله وأمر رسول الله ، وكأن هذا وذاك شأن المؤمنين المتقين، وما دري هؤلاء أن السادة العلماء أنفسهم لم يلغوا عقولهم حين قالوا تلك المقولات ، وحين فهموا تلك المفاهيم وحين اجتهدوا تلك الاجتهادات ، فكانت تلك المقالات والمفاهيم والاجتهادات على قدر ما آتاهم الله من عقول ، بل هم قد أعملوا عقولهم قدر طاقتهم .
    لإذن القضية ليست بين إعمال العقل وإلغاء العقل ن ولكن بين عقول سليمة متفتحة يقظة وبين عقول مريضة منغلقة.
    وقد أنتج الانحطاط في عالمنا الإسلامي مجموعة من الظواهر الخطيرة في سياق التقليد ، منها؛
    ـ نبذ و احتقار علماء العصر وعلوم العصر ، بل ومشكلات العصر أيضا ، وكأنها مشكلات قوم آخرين يعيشون في المريخ.
    ـ أننا نظرا لكوننا في مرحلة متأخرة من عصور الانحطاط الطويلة فإننا نحظى بأكبر قدر من الرواسب والشوائب التي تتجمع عادة في اسفل الإناء.
    ـ التقديس غير الواعي للتراث كلف المسلمين ما يقرب من خمسمائة عام من الجمود والانحطاط والتردي والظلام الفكري.
    إن الله تعالى فرض قدسية دينه ، ولا قدسية فيه لاجتهادات البشر ، ولو كان هؤلاء البشر من صحابة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ـ أو من الأئمة التابعين ومن بعدهم من الأتقياء الصالحين أو من الزعماء الملهمين ، مع إجلال كل هؤلاء بقدر اتباعهم الدين واتباعهم للني ـ صلى الله عليه وسلم . وديننا لم يرض للإنسان أن يقف خاشعا إلا أمام جلال الله تعالى ، ومع خشوع القلب فرض الدين على العقل أن يكون يقظا متدبرا متفكرا.
    هكذا الدين وهكذا الإنسان ، لك نحن ورثة الدين قد سجنا الدين ، وسجنا الإنسان ، سجنا الدين بتحميله كل اجتهادات القرون ، فصار عملاقا رهيبا وسيفا مسلطا على عقل الإنسان ، ومسخنا الإنسان بإخضاعه لتراث القرون ، فصار قزما لا يملك بدا من التسليم ، بل وترفع رتبته كلما استمسك بالتقليد.
    قال ابن حزم "المجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب".
    إن متابعة الاجتهاد جيلا بعد جيل كفيل بتصحيح أخطاء السابقين ن وإن بقيت بعض أخطاء نتيجة الاجتهاد ، فهذه سنة الله في خلقه ، حيث خلق الإنسان غير معصوم ولا سبيل للصواب الكامل الدائم إلا للمعصوم.
    أما تقليد فإن أدرك صاحبه الصواب في الأمر فهو إدراك عفوي غير مقصود ، أي أنه مجرد صدفة فهو : يحمل في طياته التخلي عن أمر الله بالنظر والبحث والتحري ، أي الاجتهاد ، وهو نكوص إلى سنن من كان قبلنا : (إنا وجدنا ءاباءنا على أمة...) سورة الزخرف : 23
    وأخيرا لابد أن يفرز المنهج المنحرف (منهج التقليد) أثاره ، وتتسرب الأخطاء إلى عقل المقلد وسلوكه ... خطأ وراء خطأ .
    وهناك فرق بين أن يجتهد إنسان رأيه في أمر الله فيمضي به ويمضي معه ، فهذا اجتهاد بشر ، وبين أن يجتهد إنسان رأيه في أمر الله ، دونما نظر أو اجتهاد ، فهذا تشريع أرباب يدخل من بعض وجهه تحت الشرك ، ويندرج تحت قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله) (سورة التوبة 31) فقد اغتصب الأحبار حق التشريع ، وأطاعهم من أطاعهم ، فصار ذلك عبادة للأحبار من دون الله تعالة.
    ومن وسائل سجن الإنسان في التقليد قسرا إخضاعه لتراث القرون ، بل وإرهابه من المخالفة تحت دعوى الإجماع التي يندد بها الشيخ محمود شلتوت في كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة" فيقول "ولكنهم قصدوا أن يرسلوا كلمة الإجماع ليسجلوا على المخالف لوازمها الشائعة بين الناس ، من مخالفة سبيل المؤمنين ومشاقه الله ورسوله ، إلى غير ذلك مما يتحرجه المسلم ، ويخشى أن يعرف به عند العامة ، وكثيرا ما نراهم يزوقون حكايتهم للإجماع بقولهم : " ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج أو بمخالفة المعتزلة والجهمية " ، ونحو ذلك مما يخيفون به ، وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ، ضنا بسمعتهم الدينية ، وحيل بين الأمة وبين ما ينفعها في حياتهم العملية والعلمية".
    ويقول ابن تيمية : "اشتهرت المذاهب الأربعة وهجر وانحصر الأمر في اتباعها إلا قليلا منهم ، فقلدوا بعد أن كان التقليد لغير الرسل حراما ، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلية ، وذلك معنى قوله تعالى : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}(سورة التوبة : 31).
    فعدم المجتهدون ، وغلب المقلدون ، وكثر التعصب ، وكفروا بالرسل ، حيث قال : يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغاليين وانتحال المبطلين، وحجروا على رب العالمين ـ مثل اليهود ـ أن يبعث بعد أئمتهم وليا مجتهدا ...
    يجب علينا أن نتحرر من قرارات التحريم التي نصدرها على كل جديد كما تحررت أوربا من قرارات الحرمان وإهدار الدم التي كانت تصدرها الكنيسة ، إن آراء موقف التزمت الديني تنبع من مصدر واحد سواء تحريم التليفون والراديو والقول بكروية الأرض أو تحريم تعليم المرأة (أيام قاسم أمين) أو تحريم عمل المرأة خارج البيت ، أو تحريم ممارسة المرأة حق الانتخاب والترشيح ، أو تحريم تنظيم الأسرة بمعناه المستقيم.
    إن المصدر الأساسي لكل هذه الآراء والمواقف الجامدة هو التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأجداد ، وما كان يدعم سلوك الآباء والأجداد من أقوال الرجال بعد الرجال.
    ولم يعد للفكر المتزمت سوى نصوص دينية تدعم آراءه ومواقفه إما عن خطأ ووهم ؛ وإما عن جهل وعدم فهم لمرامي الشرع ، كذلك لم تعد له نصوص تحرم اختلاط المرأة "إياكم والدخول على النساء" (رواه البخاري ومسلم) "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب" (سورة الأحزاب :53) ، وعمل المرأة : "وقرن في بيتكن " تنظيم الأسرة "تروجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " (رواه أبو داود).
    4 ـ المشكلة الصعبة في التقديس المسرف لكل شيء من التراث (وهو الدافع الحقيقي إلى التقليد) وكأنه قرآن أو سنة ـ هي الجانب النفسي، أي التحرر النفسي من التقديس ، وإلا سيظل العقل يعمل دون أن يصل إلى الإبداع ، ولن يعترف أنه غير مبدع أو أن إنتاجه ضعيف واجترار وإضافات هامشية ، بل سيظل يقول إن القديم كما يهو برمته ما زال صالحا تمام الصلاح رائعا غاية الروعة ، فلم تطالبوننا باعتساف التجديد؟! أم أن التجديد (وسيأتي حديث عنه) لحاجة جديدة ، والقديم بحمد الله يوفر هذه الحاجة على أكمل وجه.
    ولا أحد ينكر أن الأئمة العظام القدماء قد توفر لهم ما لم يتوفر لنا الآن ، كانوا قريبين من عهد النبوة ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، (رواه البخاري).
    إن تنزيه الله ـ عز وجل ـ وتقديسه واجب إسلامي ، لكن الخطأ أن يتحول ـ كما حدث عند البعض ـ إلى تقديس كل ما له صلة بالدين ، فأي أمر وأي إنسان منسوب إلى الدين ( قيادة الجماع الدينية ـ رجل صالح ـ عابد ـ رجل عالم ـ رجل مجاهد ـ شيخ الطريقة ، مرشد الجماعة) كل هؤلاء يلحق بهم التقديس والتقدير المبالغ فيه من أتباعهم ، فتختفي الأخطاء ، بل تتحول إلى كرمات وعبقرية ، وتضخم قيمة الصواب.
    ومن عيوب العقلية المتدينة غير الراشدة استعداه الكبير لتقديس بغير حساب ، ومع التقديس يكون التسليم المطلق ، فلا تفكير ولا مناقشة ولا تمحيص ولا بحث.
    كذلك من عيوب هذه العقلية المتدنية ـ نتيجة لما سبق ـ استعدادها الكبير للتشدد في أمور الدين ولسان حالها يقول : (زيادة الخير خيرين) وكأن كل زيادة في الدين خير ، بينما كل نقص مهما صغر فهو أكبر الشرور ... وبهذا يختل الميزان الذي وضعه الشارع لحدود الخير وحدود الشر .
    والاستعداد للتشدد والاستعداد للتسليم بلا مناقشة يفرز ضعف البحث والنظر والتمحيص ووزن الأمور ، والتشدد في جانب ما يؤدي إلى التقصير غالبا في جانب آخر ، أي إلى عدم المحافظة على الأولويات الشرعية والغفلة عن بعضها والتقصير في بعضها والتهوين من بعضها.
    إن تقدير التراث حين يكون شهادة من عقل واع يقظ ومنصف فهي شهادة حق ، أما التقديس بلا تمحيص ولا تمييز فهو شهادة من عقل ممسوخ مصاب بعمى الألوان ، لا يميز بين كلام الله وكلام البشر ، فهو أشبه بشهادة الزور سواء كانت عن عمد أم عن جهل .
    5 ـ نحن في حاجة إلى فتح باب كبير وخطير بالنسبة للتراث ، وليس هو باب الاجتهاد ، فقد عالج كثير من العلماء هذا الموضع بما فيه الكفاية ، ولم يبق غير تتابع الممارسة العملية للاجتهاد من أخل الاجتهاد.
    أما الباب الجديد المقصود فهو باب فهم النصوص ، نصوص الكتاب ونصوص السنة ، باب التعرف المباشر على النصوص ، باب التعامل المباشر مع النصوص ، باب الاعتداء بالنصوص.
    وكل هذه الأبواب يمكن أن يقال إنها مفتوحة ويلج العلماء منها ولكن النقص الخطير ليس في مبدأ التعرف على النصوص ، ولا التعامل المباشر معها والاهتداء بها ، ولكن في استقصائها واستقرائها وفي استيعابها ، استيعابا كاملا إننا في حاجة إلى أن نضع ذلك بأنفسنا كما فعله أسلافنا بأنفسهم ، على شرط أن تكون لدينا الإمكانات المناسبة لذلك.
    افتحوا نوافذ العقل يدخل هواء الإسلام النقي ، وهو الإسلام الذي يستقي من مصادره الأولى من قرآن وسنة دون اختلاط باجتهادات البشر ، روائعها وإبداعها صوابها وخطئها ، وبالأولى إسرافها وغلوها و أوهامها ، مع اعتبار التراث هو سجل الجهد البشري والخبرة افنسانية في التعامل مع الدين والحياة ، وهذا التراث هو إنتاج العقل المسلم على مدى العصور ، والعقل المسلم لم يكن منزها عن الخطأ ولا مقدسا يوما.
    6 ـ إن التراث الإسلامي ثمرة عقول مسلمة مستنيرة عبر قرون طويلة ، عقول عملت في دأب وإخلاص لفهم وتطبيق كتاب الله وسنة رسوله..
    والتراث لذلك هو بعض أدوات فهم الكتاب والسنة ، ولكن ليس كل الأدوات ، حيث تبقى هناك الحصيلة النهائية الناتجة عن مراجعة التراث والمقارنة بين الآراء والاجتهاد المتعددة ، وهناك أيضا علوم العصر وقضايا العصر ، وهناك قبل ذلك وبعده عمل عقولنا وقد استوعبت كل تلك الأدوات في محاولة فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام الشرعية منهما ، وهذا هو كمال الاتباع ، أي الاتباع المبدع.
    وهذا الاتباع المبدع المبشر أسلم الحلول لمشكلاتهم ، والمخرج لهم من الظلومات إلى النور ، وعن طريق يجد العقل في الشرع إجابة عن كل أسئلته ، وبهذه الإجابات كان الدين سكنا للعقل ومصباحا ينير له .
    وإذا كان الإنسان لا يمكنه أن يستغني عن عقله فإن العقل لا يمكنه أن يستغني عن سكنه وعن مصباحه ، فبدون السكن يضطرب وبدون المصباح يضل . ثم إن الدين سكن وملحا للإنسان دائما وأبدا ، حين قوته وحين ضعفه ، سكن له حين قوته فلا يقتله ولا العجب ، وسكن له حين ضعفه فلا تغلبه الحاجة ولا تسحقه الأزمة ، إنما هو التواضع مع حمد الله على فضله ، وهو العزم والتصميم على المضي لتحقيق الحاجة وتجاوز الأزمة مع سؤال الله التسديد والعون :{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتكم والله لا يحب كل مختال فخور}(سورة الحديد22 ـ 23).
    7 ـ هل الروح النقدية أي النظرة الفاحصة المتأملة التي يحض عليها الدين يمكن أن تتحلى وتظهر أكثر مما ظهرت عليه في آيات القرآن الداعية إلى التفكر والنظر ، في مثل قوله تعالى {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} (سورة يونس1.1 ) وقوله سبحانه {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} (سورة سبأ46).
    فهل الدين انتهاز حتى يطالب بالنظر والفحص والنقد للقديم الموروث ليأخذ مكانه ، فإذا تم له ذلك واحتل الدين مكان الموروثات ، وجب أن يتغير المنهج فستبعد النظر والنقد ، ويتحول المنهج النقدي إلى منهج التسليم بدون فهم ، ويكف العقل عن النظر والفحص والتأمل ، اللهم إلا في محاسن الدين ، حتى لو كان قد دخل على الدين مدخولات خاطئة ومفهومات مسرفة باطلة؟!
    هل يمكن أن يطالب الدين العقل الإنساني باليقظة والعمل بكل ما أتاه الله من طاقة ، ثم يطالبه بعد ذلك بالسكوت والكمون والنوم العميق؟!
    لو فعل الدين ذلك لكان شأنه شأن تلك الجماعات العقائدية التي تطالب الحكومات القائمة بالحريات ، حتى تتمكن من الدعوة لمبادئها وتجمع الجموع حولها دون ضغوط أو تطيق وتقول إنها من حقوق الإنسان ، فإذا وصلت إلى السلطة بطريقة ما ( وغالبا ما تكون بانقلاب عسكري) تنكرت لحقوق الإنسان المزعومة ، وصادرت الحريات ، وكأنها تريد الحريات لها ولجماعتها لا للناس ، وكأنها من حقوق الجماعة العقائدية لا من حقوق الإنسان.
    8 ـ إن إحياء التراث ـ على أهميته ـ مثله مثل إحياء الأرض الموات أو الأرض المهجورة ، فكما لا تحيا الأرض بمجرد رفع الأحجار والنفايات منها أو بناء سور جميل حولها ، فهذه كلها مجرد تمهيد وتهيئة للإحياء ، فإن العقول لا تحيا بمجرد إزالة ما سيطر عليها من الأوهام والخرافات.
    إن الإحياء الحقيقي للأرض يقوم على : بذل العرق والجهد الدائب في الحرث والتسوية والبذر وفي التسميد ... وشق المصارف ... الخ.
    وكذلك التراث ، ليس الإحياء فيه فقط بتحقيق النصوص من عدة مخطوطات ، وإعادة الطبع بحروف جميلة ، وعلى ورق أبيض مصقول وأحيانا مع بعض الشرح والتعليق ـ فهذا كله تمهيد للإحياء.
    أما الإحياء فيكون بالدراسة الواعية الناقدة ، مع الانتفاع بذلك المجهود الرائع الذي بذله سلفنا في معرفة الدين واستخراج كنوزه ، وننفي أثناء ذلك كل غث ، ونجدد مسيرتنا.
    9 ـ إن خروج العقل المسلم من أزمته المعاصرة يجعل من الضرورة قراءة ومعرفة ما عند الآخرين ـ كل الآخرين ـ وإذا كانت معرفة من حولك والعالم و محيطك (والعالم هو محيط الإنسان المعاصر حيث أصبح كقرية صغيرة) ـ مسألة ضرورية للتكيف الاجتماعي ، فهي أكثر ضرورة للإصلاح والتغيير الاجتماعي والدعوة للخير بالمعروف والنهي عن المنكر.
    طبعا هذا إلى جانب معرفة تعاليم الدين وأحكام الدين وآداب الدين ، فلكي تنكر المنكر لابد أن تعرف أحوال مرتكب المنكر ، بجانب معرفتك بحدود المنكر وأحكامه في الشرع.
    إن الرفض المطلق للحضارة الحديثة يعني عدم التعمق في دراسة تلك الحضارة وعدم فهمها ، وإذا نحن لم نفهم الحضارة الغربية جيدا ـ وهي السائدة في عالمنا المعاصر ـ فلن نعي عصرنا جيدا ـ هذه واحدة.
    وما دمنا لم نع عصرنا فلن نفهم الدين الفهم المطلق المنبثق عن عقل هذا العصر ، ولن نجتهد الاجتهاد المطابق لظروف العصر ـ هذه الثانية ـ بل سننعزل ونتقوقع لنعيش سعداء حالمين أو تعساء بعقلية أجدادنا الأقربين ـ هذه الثالثة ، وهي ثالثة الأسافى.
    إننا حين نأخذ عن الغرب ونتجاوز مشاعر الرفض ، لن نقف عند العلوم الطبيعية وما نتج عنها من صناعة وتكنولوجيا ، بل نأخذ ـ وفي يدنا ميزان الحق ـ كل جهد عظيم في مجال العلوم الإنسانية ، ولنحذر التطور الساذج الذي لا يرى الحضارة الإلهية .
    (انظر كتابات وتحليلات أمثال أبي حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري ، وابن تيمية في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن ، ومحمد رشيد رضا وحسن ألبنا وسيد قطب في أواسط القرن الرابع عشر الهجري).
    وإذا جاز لآبائنا الرفض يوم كان الغزو ضاريا وشاملا (عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا) ؛ لأنه لم يكن هناك سبيل للدراسة والتمحيص والخيار ، فإما رفض يساعد على الصمود ، وإما قبول يساعد على الاستسلام ـ فإن الرفض لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع الدراسة والتمحيص والاختيار ؛ أي نستطيع أن نأخذ وندع.
    وإذا جاز لآبائنا أن يقفوا الدفاع عن الإسلام يوم كان الغزو فتيا وضاريا وهم محصورون في حصونهم الثقافية ـ فإن الدفاع لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع أن نقدم الإسلام في وسط حصون الغزاة السابقين.
    وإذا جاز لآبائنا أن يقفوا موقف الدفاع ذاك ، يوم كان الغزو وهم محصورون في حصونهم الثقافية المهددة ، فإن الدفاع لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع أن نقف موقف الدارس الناقد المستفيد من التراث من ناحية ، كما نستطيع أن نقدم الإسلام كقيم رفيعة في وسط حصون الغزاة السابقين من ناحية ثانية.
    حتى تعبير الفكر المستورد لا أرى فيه ما يكفي لإدانة كل فكر يأتي من الخارج ، والصحيح أن نصف الفكر بمضمونه الصالح أو الفاسد ، فكم من فكر مستورد وصالح ، وكم من فكر محلي وفاسد.
    هل ما عندنا وما ننتجه صالح ، وكل ما عند الغير شرقا وغربا فاسد ؟
    ألم يكن الفكر الإسلامي فكرا مستوردا بالنسبة لشعوب سوريا ومصر والمغرب في القرن الأول الهجري؟
    وأليس الفكر الإسلامي اليوم فكرا مستوردا بالنسبة لشعوب آسيا وأفريقيا بل وشعوب أوروبا وأمريكا؟
    إن الحضارة الحديثة ، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين ، أضحت حضارة العالم لا حضارة أمه بعينها ، وإن أمم العالم بأسرها تسهم في إمداد هذه الحضارة وتطويرها ، ولا ينفي هذه العالمية كون بعض الأمم لها فضل سبق أو فضل عطاء على غيرها ، فإذا سجلنا التيارات القوية العاملة فوق السطح فلن تعدم ملاحظة القوى الجديدة التي تسهم في الحضارة ، مثل اليابان والصين ، وإذا تأملنا الحركات البطيئة في القاع أو على الأطراف فلن نعدم أيضا ملاحقة القوى الناشئة من أقطار العالم الثالث ، وما تعززه من إشعاعات خافتة ذات أثر في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الفكري ، وهذا يعني أن الرجل الأبيض لم يصبح وحده صاحب هذه الحضارة ، وأنه قد مضى زمن انتساب هذه الحضارة إلى الرجل الأبيض وحده.
    وأخيرا إذا كان غيرنا من الشعوب لا يستطيع أن يعزز من القيم الروحية في صورتها الوضيئة ، ولا يملك القدرة الكافية على تصحيح اتجاه الحضارة الحديثة ن فهل نكون نحن المسلمين من اليقظة والوعي بحيث نؤدي هذا الدور؟
    1. ـ المعاناة المزدوجة ضرورة ، أي العي في معاناة تعلم معارفنا التراثية ومعاناة التعرف على معطيات الثقافة الحديثة.
    أولا : لماذا هي ضرورة ؟
    المعاناة بجناح واحد لا تمكن الطائرة من الطيران ؛ لابد من جناحين يعملان معا..
    من عاش الحضارة الغربية وحدها فلن يكون غير مجرد أمريكي أو إنجليزي أو فرنسي (مسخ) ؛ لأنه منقطع إلى الجذور الأمريكية أو الإنجليزية أو الفرنسية ، الجذور المتأصلة عند الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والتي وضعها مع حليب أمه ، وتشربها مع لعب الطفولة ، ومع ممارسة الحياة الأمريكية بجميع مجالاتها وإشعاعاتها.
    ومن عاش التراث الإسلامي وحده فلن يكون غير مجرد شبح لمسلم القرن الماضي ، لأنه منقطع ‘ن أرض الواقع المعاصر.
    ثانيا اتجاهات المعاناة (أو توجهاتها) :
    أ ـ الاتجاه إلى الأصول مع الفروع ، سواء أصول التراث من قرآن وسنة و لغة تحملها) مع علوم التراث ، أم أصول الحضارة الغربية وجذورها عوامل التكوين ) مع آثارها وثمارها وظواهرها.
    ب ـ الاتجاه إلى مناهج العلوم مع العلوم ، سواء أصول الفقه مع الفقه ومناهج التفسير مع التفسير ، ومناهج البحث العلمي العامة ، ومناهج البحث الخاصة لكل علم ، مع دراسة العلوم الحديثة.
    ج ـ الاتجاه إلى الحياة مع الدراسة ومخالطة صور الحياة الإسلامية ؛ أي ممارسة العادات والآداب والمعاملات الإسلامية قدر الإمكان ، ومخالطة ما ينفعها من صور الحياة الغربية في بيئتها أو صورها المقتبسة في مجتمعنا من رياضه وفنون وإنشاء منظمات اجتماعية.
    والمهم الحذر من الاستغراق في توجيه واحد ، أو الإهمال الكامل لأحد التخصصات.
    لابد من الانفتاح الفكري لعقل يعاني من علل وأزمات جعلته مقطوعا ، عن الإيجابية بين قيمنا وبين العلوم الفكر الغربي الحديث ... ويزيد القدرة على تحمل الشك والقلق ، ويعطي الحافز على مزيد من النظر والبحث دون الهرب لهثاء وراء منظومة عقائدية (فكر جاهز معلب) تريح العقول من عناء البحث.
    ويضاعف هذا الانفتاح كذلك القدرة على التفكير والاجتهاد ، وأخيرا يدفع الآراء والاتجاهات المختلفة إلى الحوار الجاد فيما بينها.
    ونرجو من وراء كل هذا النشاط العقلي ميلادا جديدا لعقول قادرة على الإبداع ـ بعد أن رمت بمراحل القدرة على اليقظة بالتفاعل الإيجابي وبسعة صدر للرأي المخالف ، بل وتقدير هذا الرأي من حولهم ـ وشخصيات سوية تعتز بتراثها وتقدر تراث وعلوم الإنسانية ، وتعي حاضرها والعالم من حولها ، ومن ثم نأمل منها الإبداع.
    يقول بريفولت في كتابه (Making of humanity) : " إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على معلمين من العرب في الأندلس ، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده (بقصد فرنسيس بيكون) الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي ، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم الأدب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة (انظر محمد إقبال : تجديد التفكير الديني : طبعة لجنة التاليف والترجمة).
    ولكن دارت الدائرة ، تغيرت الأوضاع ، وينبغي أن نسعى إلى تعلم الخير الذي لدى غيرنا ، وصدق الله العظيم إذ يقول {وتلك الأيام نداولها بين الناس} سورة آل عمران14.
    جاء دورنا نحن المسلمين ، فينبغي ألا نمل قط من التصريح بأن تعلم معاصرينا للغات الغرب وعلوم أمر لازم لنهضتنا في علوم الحياة.
    وإذا كنا نحرص دائما على بحث فضل المسلمين على الحضارة الغربية ، وإذا بدرت من أحد الغربيين كلمة تقدير لفضل المسلمين فرحنا ، ثم رحنا ندندن حولها ونقول : الفضل ما شهدت له الأعداء .. إذا كان هذا قد صدر من أعدائنا ـ وهم من هم قلة تقي وقلة ورع ـ فما لنا نحن الأتقياء الورعين لا تذكر الفضل لأهله ولو كانوا أعدائنا؟!!
    لذا سأحاول بدافع من تقوى المسلم وورعه أن أذكر بعض فضل أعدائنا علينا أو بمعنى أصح ، فضل حضارة أعدائنا ؛ إذ إنهم لم يقصدوا إلى خيرنا قصدا ، بل حاول كثير الإضرار بنا ..
    فمن نواحي الفضل :
    1 ـ ممارسة أنماط مختلفة لنظم الحكم وتفصيلاتها.
    2 ـ وكذلك أنماط مختلفة الاقتصادية.
    3 ـ منهج البحث العلمي في صورته التفصيلية.
    4 ـ الإنتاج العلمي في مختلف الميادين.
    أما مجال الدين والقيم والأخلاق ، فقد حفظها الله لنا خالصة نقية في كتابه وسنة رسوله ، كما خدمها الأسلاف خدمات كبرى ، قدمت الكثير ، وتدعونا في الوقت نفسه إلى المزيد من الجهد لاستئناف الخدمات التي تعطلت مع الأسف قرونا طويلة.
    وهنا نقول : ماذا يمنع المسلم من السعي للفوز بخير الدنيا وخير الآخرة ، وقد عرفت الطريق إلى كل منها ، وإذا كان الإيمان هو المهمة الكبرى للعباد، فالعقل هو السبيل إلى أداء تلك المهمة ، كما أنه السبيل إلى كل نهوض وتقدم ، ولكن ما هي عوامل الموقف السلبي من الفكر الإنساني الذي ينتجه غيرنا ؟ هناك من يفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية فيري أن نأخذ الأولى وندع الثانية ، والواجب أن نأخذ النافع من هذه وتلك سواء بسواء والفيصل هو مدى علميتها ، وإن كان هناك نقص علمية الثانية فهذا لا يعني إهمالها ، بل نأخذها ونفيد منها ، أو القدر العلمي فيها ، ونسعى للإسهام في تنميته.
    وإذا كان هناك من يتعرض بالتجريح لبعض النظريات (سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية مثل نظرية دارون ونظرية فرويد) فإن النقد والتمحيص من المختصين المتمكنين لا ممن قرأ بضع كلمات أو سطور أو كتب منقولة عن ناقل ـ هذا التمحيص هو الذي يرجى من خلاله تمييز النافع لنا من غيره.
    إن هناك من يرمي من الفكر الإنساني كله بالكفر وبالجاهلية ، والحق أن الفكر الإنساني فيه بقية هدى أنتجتها الفطرة الكامنة في الإنسان وفيه جهد العقل الإنساني الذكي المتراكب على مدى عمر الإنسانية وفيه مع هذا وذاك قدر من الخطأ والانحراف يزيد وينقص.
    وقد ترتب على هذه السلبية من الفكر الإنساني موقف غير صحيح يخفي وراءه روح الانعزالية ، ويخفي وراءه روحا مغالية في التعالي ، والشعور بالتعالي يؤدي إلى إخفاء ما عند الغير من أشياء نافعة ، والتهوين من أمره ، مما يقطع الطريق إلى معرفة إلى معرفة الحق والخير ، ويخفي
    هذا الموقف السلبي من الفكر الإنساني روحا يملؤها الشعور بالنقص (الشعور بالنقص كما قد يؤدي أحيانا إلى الانبهار بكل ما عند الأقوى فهو يؤدي أحيانا أخرى إلى الخوف والحذر إزاء كل ما عند الأقوى).
    إن الصراع ليس هو جوهر العلاقة بين الحضارات ن بل الجوهر هو التفاعل والتبادل ، والأخذ والعطاء على أن التفاعل قد يظلله أحيانا بعض مظاهر الصراع ، يسبقه أو يصحبه أو يبعه حرب أو حروب لمحاولة بعض الحضارات أن تفرض سلطانها على الآخرين.
    11 ـ خلق الإنسان ليعمر هذه الأرض ، وقد بذل العقل الإنساني جهودا هائلة في سبيل هذا التعمير ، واهتدى بهدي الله حينا ، وانحرف بالفعل ، واختلف مجالات الانحراف ودرجات الانحراف ، فهل يا ترى نهدر هذا الجهد البشري كله على مدى القرون؟
    والاطلاع على المستقيم من الجهد البشري والإفادة منه مطلوب لا جدال فيه ، حتى لو اعتراه انحراف جزئي ، مادام قد اختلطت الجهود المستقيمة بالجهود المنحرفة ولا سبيل لتمييز هذا من ذاك ، فلا يدفعنا هذا إلى التضحية بنفع كبير مخافة من لحاق ضرر قليل.
    ثم إن القسم المنحرف يجب أن نسعى دائما لاجتناب مواطنه التي قد نقع فيها نحن وغيرنا من بني البشر...
    هذا وقد ساعدنا الأسلوب العلمي الحديث على تجنب كثير من مواطن الزلل في التفكير الإنساني ، لا كل المواطن ، وبقدر تجنب الزلل يكثر الخير في هذا الإنتاج العلمي الحديث.
    ثم إن هذا الإنتاج العلمي هو الذي يتكيف مع حياة العصر الحديث الذي نعيشه ، فهل سيدفعنا كل ذلك إلى دراسة هذا الإنتاج العلمي دراسة عميقة؟
    12 ـ يجب أن نصحح النظرة إلى أصالتنا ، وبعد هذا التصحيح ينبغي إقرار أمرين : أولهما : المحافظة على القيم.
    ثانيهما : الاقتباس من الحضارات الأخرى في جميع المجالات والإفادة من التجارب التي لديها ، وذلك يقتضي دراسة هذه التجارب دراسة جادة وعميق.
    وإذا لم نحافظ على القيم ضاعت شخصيتنا ، وإذا لم يتم الاقتباس حدث الانعزال ، ولابد أن نلاحظ أن الانعزال يصبح أكثر سوءا وضررا ، بل يكاد يكون مستحيلا في عالم أضحى أكثر اتصالا وترابطا وتشابكا في مصالحة وقضاياه الاقتصادية والسياسية والفكرية.
    إن المقوم الأساسي لأصالتنا هو الدين ، وماذا يعني الدين؟ الدين يعني فلسفة معينة للحياة ، وهو ما يسمى بالمصطلح القديم العقيدة ، ويتبع العقيدة مجموعة من شعائر العبادات تنمي هذه العقيدة ، ثم مجموعة من القيم الخلقية هي الأخرى تنمي العقيدة ، كما تقوم العقيدة أيضا بتدعيم الأخلاق .
                  

العنوان الكاتب Date
كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ... عبد الله إبراهيم الطاهر05-29-05, 05:01 AM
  Re: كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ... عبد الله إبراهيم الطاهر05-29-05, 05:19 AM
  Re: كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ... عبد الله إبراهيم الطاهر06-04-05, 08:15 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de